الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رضي الله عنه كأهم مسألة دينية، والعالم السني ينظر إلى التفاضل بينهما كمسألة تاريخية، وحيث كان البحث في التفاضل من الوجهة الدينية يحتاج إلى البحث في أصل الإمامة (1) ، وهي مسألة ضافية الذيل، فسيحة الأرجاء لا تسعها هذه العجالة - فلنبحث الآن عنها من الوجهة التاريخية، ونعرض ما عندنا في ذلك على أهل الفضل والإنصاف.
إنني وأيم الحق لم يكن يختلج في صدري أن أحدًا من أهل الفضل يقدم أحدًا من الصحابة على علي عليه السلام في العلم أو يساويه فيه، وكنت أرى أن هاتين الصفتين - أعني الشجاعة والعلم - قد كملتا فيه وامتاز بهما عند أوليائه وأعدائه، وأن صفة العلم فيه أظهر من صفة الشجاعة لسبقه فيها سبقًا بعيدًا.
هذا كتابه قرآن العارفين (2) وفرقان السالكين تتجلى آياته وتتلألأ أسراره، وما أخال حضرة الأستاذ يرتاب فيه كغيره بعدما أورده أستاذه - ذلك الحبر الكبير النمير - العذب من
مشاربه
، وأوقفه على تلك الإلهيات عن عجائبه.
إننا لعمر الحق أبعد المسلمين عن العصبية وأقربهم
(1) النقاش في المفاضلة قد يكون مُجدِيا لو كان الحديث بين فئتين متفقتين على فضل وصلاح من تتم المفاضلة بينهما، بينما يعتقد الشيعة الإثنا عشرية أنّ الإمام علياً معصوم وأنه منصوب من الله تعالى إماماً على خلقه أما عمر فناصبي ومرتد ومنقلب على عقبيه أو في أحسن أحواله ضال مغتصب للخلافة، فما فائدة الحديث عن المفاضلة بين عمر وعليّ حينئذ؟!
فالخلاف بين أهل السنة والشيعة الإثني عشرية أكبر من أن يُحصر في المفاضلة بين عمر وعلي، والأولى أن يُبدأ بجوهر الخلاف الذي أعرض عنه عبد الحسين بدل الانهماك في مثل هذه المسائل، فليس من المهم من كان أفضل ومن كان أقل فضلاً إذا كنا نعترف بفضل الاثنين، فكلاهما قد مات، والخلافة قد انتهت، ومن غير المعقول أن نبقى بعدهم مئات السنين ونحن ندندن حول مسألة من الأحق بالخلافة أو من الأفضل بينهما ما دام الذين نتكلم عنهما قد فارقوا الدنيا ولاقوا ربهما عز وجل منذ أكثر من ألف وثلثمائة سنة!!
(2)
يعني كتاب " نهج البلاغة " وما فيه من خطب وأقوال منسوبة إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهذا الكتاب لا يمكن بحال أن ينسب لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه انطلاقاً من واقع علي رضي الله عنه، ومن ضوابط العلم المتبعة عادة في إثبات المنقولات إلى قائلها، حيث يفتقد إلى إسناد متصل إليه، فجامعه (الشريف الرضّي) من القرن الرابع الهجري، وبينه وبين علي رضي الله عنه قرون. انظر للاستزادة: أسطورة الخطبة الشقشقية للشيخ علاء الدين البصير ص 47 - 82
للاتفاق، وأحبهم للإنصاف، وما الحيلة في ترك ولاء هذا الرجل - أعني أمير المؤمنين عليًّا - وقد تجلى لنا تقدمه في الفضل على كافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقه لهم فيه سبقًا بعيدًا، وإننا لنعجب لبعض العلماء من إخواننا السنيين كيف لا ينصفوننا في علي عليه السلام ولا يرون رأينا فيه، وما لنا لا نعجب، وإنما هذا الفضل له أخذناه منهم، ورويناه عنهم. (1)
فمن عدم إنصافهم ما ذكره هذا البعض من أن عمر أعلم الصحابة ومنهم علي عليه السلام، وهنا موقف الحيرة، فإن سكتنا كان ذلك إقرارًا منا بالخطأ وفساد المذهب، وإن أوضحنا الحق في المسألة ونصرنا رأينا قامت القيامة علينا ورُمينا بالرفض والغلو والتعصب على أكابر الصحابة.
لكننا نؤثر إحقاق الحق ونحتمل في سبيله كل مكروه، ولعلنا لا نعدم من أهل الفضل والإنصاف أنصارًا ومحكِّمين.
اعلم أيها الأخ المنصف أن لنا على تفضيل علي على عمر رضي الله عنه وعلى كافة الصحابة رضي الله عنهم براهين قاطعة من طريق العقل ومن
(1) إن مما أكرم الله به أهل السنة حفظ فضائل أهل البيت وضبطها، حتى صار أهل التشيع عالة على مصنفاتهم، وإن مذهبا يعجز أتباعه عن أن يثبتوا حديثا واحدا - ولو في فضائل من يزعمون أنهم أئمتهم - بسند صحيح إلى نبي هذه الأمة أحق أن يجتنب، ولاشك أيضاً بأن المذهب يعجز أتباعه أن يثبتوا دينهم إلا من خلال أحاديث خصومهم أحق أن يجتنب.
طريق الرواية.
أما من طريق العقل فيحتاج ذلك إلى معرفة الزمان الذي تلقيا فيه ذانك التلميذان العظيمان - أعني عليًّا عليه السلام وعمر رضي الله عنه العلم عن معلمهما أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقداره، ومنزلة كل واحد منهما من الفطنة والذكاء، وعندها تصدر الحكم غير مرتاب:
زمن إسلام عمر رضي الله عنه:
أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة من بعثته صلى الله عليه وسلم وعمره ست وعشرون سنة، فعليه يكون قد قطع مرحلة من عمره في غير طلب العلم لا يُستهان بها، فإذا أضفت إليها ثلاث سنوات لم يلق عمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وذلك عند حصار قريش لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب رضي الله عنه، تراه قد خسر أكثر رأس ماله الذي يتجر به الإنسان في كسب العلوم والمعارف وذلك ظاهر.
لأن الزمان الذي يستفيد منه المرء ويتعلم به هو زمان الصبا
والشبيبة، وبها تكون القوة الذاكرة والحافظة في منتهى النمو والنشاط والاستعداد لتلقي العلوم والمعارف.
وما سمعنا بمن طلب العلم عند بلوغ هذا السن - أعني تسعًا وعشرين سنة - وبرع فيه، وإن كان ثمة أحد فهو من شواذ الطبيعة، ومنكر ذلك مكابر وحائد عن طريق الإنصاف.
خصوصًا في الصدر الأول أعني زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقد كان الاعتماد على الحفظ والذاكرة، ولم تكن يومئذ المعلومات تُدوَّن ليؤمَن تفلتها وضياعها، فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة، ولولا حرص التابعين على حفظ الحديث وتدوينه لما وصل إلينا من علمهم شيء.
ولقد كنت زمن شبيبتي أتعجب من كل من يقول: نسيت، فإني لم أكن لأنسى شيئًا سمعته أو قرأته، وبعد بلوغي الثلاثين انقلب الأمر وأصبحت أعجب ممن يحفظ ولا ينسى، ولم يبق في ذاكرتي غير ما استُودع بها زمن الصبا والشبيبة، وما شكوت هذا الداء لأحد من أبناء جيلي إلا وشكا لي نفس ذلك الداء الذي أشتكيه.
ويؤيد ذلك ما روي في سيرة عمر رضي الله عنه أنه لبث في حفظ سورة البقرة وتعلمها اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورًا (1) .
ولم يكن عمر رضي الله عنه يُعرف بالصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاتصال به قبل إسلامه ليستفيد من علومه.
زمن تعلم علي عليه السلام:
لا يرتاب أحد ممن راجع أحوال الصحابة وقرأ تاريخ حياتهم في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم عليًّا إليه وأخذه من أبيه وهو ابن
(1) قال عبد الحسين في حاشية هذه المقالة: ((روى ذلك العلامة المتبحر عز الدين بن أبي الحديد في شرح النهج جزء 3 صفحة 111، وهذا الكتاب جليل القدر جم الفوائد يدل على غزارة علم صاحبه وتقدمه في كثير من فنون الفضل، ولا سيما الحكمة والكلام والتاريخ والحديث والأدب، وهو شديد الولاء لعمر رضي الله عنه، طُبع هذا الكتاب في مصر سنة 1329)) . اهـ
أقول: الأثر أخرجه البيهقي في شُعب الإيمان (3 / 346 ط: الرشد) بإسناد ضعيف فيه مرداس بن محمد أبو بلال الأشعري ضعفه الدارقطني في سننه.
ولو سلمنا جدلاً بمدلول هذا الأثر وبأن الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة كعمر رضي الله عنه كان لا يحفظ من القرآن بسهولة ويُسر، إلا أنهم رزقوا العمل بالقرآن، فالحفظ ما هو إلا سبب من أسباب العلم وليس هو كل العلم، وقد جاء في الأثر: إن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به، وفي هذا المعنى قال ابن مسعود:((إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به)) وسيأتي رد قيم للمصنف على كلام عبد الحسين في حينه، والله المستعان.
أربع سنوات. (1)
وهذا هو أول الزمن الذي يتأهل الغلام فيه لتعلم مبادئ العلوم وتلقي بذور الأخلاق الطيبة والطباع الفاضلة، ويا ما أسعد ذلك الغلام الذي يظفر بمثل ذلك المعلم في مثل ذلك الزمان، وينقطع
(1) قال عبد الحسين في الحاشية: ((ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة صفحة 504 أن عليًّا رُبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه، وكذلك كافة المؤرخين ممن عرفناهم كالطبري وابن الأثير وأبي الفداء، وقد أشار عليه السلام إلى ذلك بخطبته التي تسمى بالقاصعة بقوله: (وقد تعلمون موضعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه، وكان يمضغ شيئًا ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، وكنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه عَلَمًا ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري إلخ) وقد أشبعنا ذلك بيانًا في الجزء الأول من كتاب (الكلمات، ص 41) فمن شاء فليراجعه، ويُطلب من إدارة العرفان من صيدا بقيمة زهيدة)) .
إليه عن أبيه وأمه وإخوته وكل أبناء جيله، ثم لا يفارقه مدة حياته بخ بخ لهذا الغلام.
ومن يستطيع تحديد ما استفاده ووعاه قلبه وطبعت عليه نفسه من العلوم والأخلاق؟
وقف القلم ههنا بعد نخوته معترفًا بالعجز عن هذه المهمة من التحديد، فأين ربانيو هذه الأمة والراسخون في العلم منهم عن تحديدها وبيان مقدارها؟
مِل بنا نحو تلك الخلوات التي كان يكون بها مع معلمه صلى الله عليه وسلم قبل بعثته.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته قد تيمه الوجد وأورثه ذلك وحشة من الناس وأنسًا بالخلوات والانقطاع عن هذا الخلق المتعوس المتردد في دياميم الجهل والشقاء، النائي عن الخير والسعادة، فكان يجاور في كل سنة بحراء ومعه هذا الغلام الشهرين والثلاثة، يريض تلك النفس الزكية ويؤهلها لوصل ذلك الحبيب الذي هام به.
وكان علي عليه السلام يهيم بذلك الحبيب كهيام معلمه،
ويشاركه في خلواته به وأنسه بقربه وتلقي فيوضاته وألطافه لا ثالث لهما. (1)
فأين الأصحاب رضي الله عنهم عن تلك المراتب السامية من هذه المكاشفات والمشاهدات لخالقهما التي كانت تتجلى في قلبيهما وتتلألأ على (طور سينا نفسيهما) ولا نعجب بعدها من أمر هذا الغلام كيف فارق أهله وإخوته وأترابه وانقطع إلى معلمه ولم تمل به الحداثة إلى الأخذ بنصيبه من اللعب واللهو وهو منتهى لذة الأحداث وقصارى رغبتهم.
فلقد ملئ قلبه بحب خالقه ولم يبق فيه فراغ لسواه، فسبحان واهب العطاء يختص بكرامته من يشاء، أتظن رعاك الله أن ساعة من الزمن كانت تمر على هذا التلميذ بغير فائدة من ذلك المعلم الحريص (2) على التعليم.
فلو ادَّعى مدعٍ كهذا التلميذ بعد وفاة معلمه أنه وارث علمه،
(1) لم أقف على رواية بهذا المعنى في كتب السير والتراجم المتداولة عند أهل السنة، إلا أنني قد وقفت على ما تضمنته - وأشار إليه عبد الحسين في الحاشية السابقة - في كتاب نهج البلاغة ج2 ص 157-158 خطبة 234وهذا نصها:((ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله، فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: ((هذا الشيطان أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير)) .
أقول: وهذه الرواية من كتب الشيعة تؤكد أن مفهوم النبوة والوحي متحقق في علي رضي الله عنه حيث إنه قد وصل كما يقول ميثم البحراني: ((إلى مقام سماع الوحي وكلام الملك وسائر ما يراه صلى الله عليه وسلم ويسمعه)) ، ولم ينفَ عنه إلا اسمها، وقد نص على ذلك أيضاً من شرح نهج البلاغة من علماء الإمامية مثل: المصباح (الشرح الكبير) لميثم البحراني (4/318) ، حبيب الله الخوئي في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (12/42) ، وعباس علي الموسوي شرح نهج البلاغة (3/348) ، ومحمد الحسيني الشيرازي في توضيح نهج البلاغة (3/244) .
(2)
قال عبد الحسين في الحاشية: ((روي في كنز الأعمال على هامش مسند أحمد ص 43 أن عليًّا سُئل عن كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني")) . اهـ
أقول: ورد هذا الأثر في كنز العمال في عدة مواضع أوعبها ما ورد عن أبي البختري، قال: ((أتينا عليا، فسألناه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: عن أيهم تسألوني؟ قلنا: عن ابن مسعود.
قال: علم القرآن والسنة، ثم انتهى، وكفى به علما.
قلنا: أبو موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه.
قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين.
قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول، والعلم الآخر ; بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت.
قالوا: أبو ذر؟ قال: وعى علما عجز عنه.
فسئل عن نفسه؟ قال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت)) .
أخرجه ابن سعد في الطبقات (4 / 85 - 86) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7 / 536) ، وأبو نعيم في الحلية (1 / 187) وهو أثر صحيح ثابت.
أتكون دعوى غلو ومجازفة أم دعوى حق وإنصاف؟
وقد تبين مما ذكرنا أن عليًّا عليه السلام تعلم العلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الصبا والشبيبة بخلاف عمر رضي الله عنه، وأن عمر ابتدأ بالتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي بعد أن سبقه وتعلم قبله بخمس عشرة سنة على أقل ما روي من عمره يوم بعثته وهو عشر سنين، وأما على ما روي من أن عمره يوم البعثة كان خمس عشرة (1) سنة فيكون قد سبقه بعشرين سنة، فما يقال لهذا التلميذ الذي دخل المدرسة وابتدأ بالتعلم وهو ابن تسع وعشرين سنة، ولم يكن (2)
معروفًا بحدة الذهن وتوقد
(1) اختلفت الروايات وتعددت في تحديد عمر علي رضي الله عنه وقت إسلامه بناء على الاختلاف في سنة ولادته رضي الله عنه، والقول الذي أشار إليه عبد الحسين مذكور عن الحسن البصري كما في المعجم الكبير للطبراني (1/54) ، وذكر ابن إسحاق أن ولادته قبل البعثة بعشر سنين ، ورجح ابن حجر قوله ، وورد عن محمد الباقر رحمه الله قولان: الأول: كالذي ذكره بن إسحاق وهو عشر سنين كما المعجم الكبير اللطبراني (1/53) بإسناد حسنٍ إليه، ورجحه ابن حجر، وأما الثاني: فيذكر أنه ولد قبل البعثة بخمس سنين كما في المصدر السابق، والأقرب هو ما اتفق عليه قولٌ لأبي جعفر الباقر رحمه الله مع قول ابن إسحاق واختيار الحافظ ابن حجر فيكون مولد علي رضي الله عنه قبل البعثة بعشر سنين.
(2)
قال عبد الحسين في الحاشية: ((روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو محمد بن سعد في الطبقات جزء 3 صفحة 273 بإسناده عن أبي هريرة قال: (قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: بما قدمت؟ قلت: بثمانمائة ألف درهم، فقال لي: ألم أقل لك: إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانية)
وروى أيضًا أنه قرأ قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا)(عبس: 31) فقال: ما الأب؟ هو التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب؟ وروى أحمد في مسنده أن عمر رضي الله عنه لم يعرف حكم الشك في الصلاة صفحة 190 وروي فيه أيضًا أنه أمر برجم مجنونة زنت فانتزعها منه علي عليه السلام وأخبر عمر بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رُفع القلم عن الصبي حتى يكبر، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يعقل) فرجع إلى قوله، وروى أبو الفرج في الجزء الثاني من كتابه (الأغاني صفحة 53) أن الزبرقان بن بدر شكا إلى عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر حين هجاه فقال: ما قال؟ فأنشده:
دع المكارم لا تنهض لبغيتها
…
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال: ما أراه هجاء، فقال: بل هجاني يا أمير المؤمنين، فسأل حسان فقال: بل سلح عليه)) . اهـ
أقول: سيأتي الجواب على ما نقله عبد الحسين عن طبقات ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه في موضع لاحق، وأما الأثر الوارد حول قوله تعالى {وفاكهة وأبا} فقد ذكره ابن كثير 8/348 بسند الطبري ثم قال:((فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به، وهو محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} )) .
وذكر الطاهر ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير 30 / 138 إن ذلك القول من عمر رضي الله عنه قد يرجع لأحد سببين:
1 -
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها مثل اسم السِّكين عندَ الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك:(ما كُنَّا نَقول إلا المُدْية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال: ((ائيتوني بالسكين أقْسِمْ الطفْلَ بينهما نصفين)) ، وكما في كلمة {فاطر} وعدم علم ابن عباس رضي الله عنهما حتى سمع استعمال أعرابي لها في سياق أوضح معناها.
2 -
وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله {متاعاً لكم} أو إلى قوله {ولأنعامكم} في جمْع ما قُسِّم قبله)) . اهـ بتصرف
وأما الأثران اللذان يليان هذا الأثر وهما: رجم المجنونة التي زنت، وأثر هجاء الحطيئة للزبرقان، فإنهما لا يثبتان سنداً.
القريحة، ثم صحب تلميذًا شابًّا قد تعلم قبله
بخمس عشرة سنة وداما يتعلمان مدة حياة معلمهما، فهل يجوز في أحكام العقول عند أهل الفضل والإنصاف أن يلحق الكهل بذلك الشاب ويفوقه بالعلم والمعرفة، خصوصًا إذا كان الشاب أقوى فطنة وأكثر ملازمة وانقطاعًا إلى المعلم؟ كلا ثم كلا،
وهذا لعمري من البديهيات الأولية.
واعلم - رعاك الله أيها الأخ المنصف - أننا هنا لا نعتمد في تفضيل علي عليه السلام على كافة الصحابة رضي الله عنهم إلا على أمثال هذه البراهين القاطعة والأمور المحسوسة، التي سجلها التاريخ وأوضحها البحث والتنقيب والتدبر، أما الأحاديث التي وردت في فضله عليه السلام فإنما تذكر تأييدًا واستظهارًا قبالة الخصم، وهذه طريقتنا في الأصحاب رضوان الله عليهم، لا نعتمد في فضلهم وصلاحهم على ما روي فيهم حتى نرى ما دُوِّن لهم في التاريخ من الأعمال، فإن كان ثمة عمل يؤيد ما روي فيهم آمنا وصدقنا، وإلا اتَّهَمْنا الراوي ولم نؤمن بحديثه.
ولسنا بحمد الله ممن يبخس الناس أشياءهم، بل نعطي كل ذي حق حقه، وننعت المرء بما هو فيه، إن لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجهة كان يؤمها، وغاية كان يسعى إليها هي من أشرف الغايات وأعلى المقاصد. (1)
ألا وهي إعزاز الإسلام وإظهار أبهته وعظمته وتفخيم سلطانه،
(1) بما أن طبيعة ملتوية تغلب على مشاعر القوم؛ لذا فستجد أنهم يتسللون خفية لينالوا من عمر، ولو عن طريق الإيحاء، فترى الواحد فيهم كيف أنه محترف يتقن استعمال الألفاظ الموهمة للوصول إلى ما يريد عن طريق الكناية والإيحاء، واستخدام ظلال العبارات والألفاظ، دون أن يترك أثراً مادياً يمكِّن الباحث في (كشف الدلالة) من تجريمه دون قيام شبهة معترضة! وعبد الحسين نور الدين له كتاب بعنوان " عمر والإسلام " قائم على هذا بل مقاله هنا قائم على ذلك! وقد أورد وسيورد بعض الروايات التي يعلم أن قومه لا يوردونها إلا طعناً في عمر بن الخطاب، وتشكيكاً في علمه وكفاءته.
فمن ذلك يوم أسلم قال: (لا يُعبد الله بعد اليوم سرًّا) فكان المسلمون بعدها يصلون ظاهرين.
ومنها: أنه أشار بأن يتخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مكانًا يمتاز به عن أصحابه ليعرفه الغريب والوافد، ولا يحتاج إلى أن يسأل عنه؛ فإن في السؤال عن العظيم ما لا يخفى.
ومنها: أنه أشار بأن تحجب نساؤه صلى الله عليه وسلم ليكون لها الميزة عن سائر النساء، ولقد قال لبعض نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى شخصها في ملأ من الناس:(لو أُطَعْتُ فيكن ما رأتكن عين) .
ومنها: أنه أشار بقتل الأسرى يوم بدر حتى لا تقوم لقريش بعدها قائمة؛ فإن الأسرى كانوا هم الرؤساء والقادة، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتل كل من يداهن في دين الله، وكان شديد الحرص على قتل أبي سفيان لما رآه من شدة كيده للإسلام، وكان يوم الحديبية شديد الإنكار للصلح قال: يا رسول الله، ألسنا بالمؤمنين؟ فقال: نعم، فقال: أليسوا بالمشركين؟ فقال: نعم، فقال: كيف نعطي الدنية في ديننا؟ حتى سكَّن أبو بكر من
هيجانه فقال له: (والله إنه لرسول الله) فقال عمر: وأنا أعلم والله أنه لرسول الله، فقال له: إذن فالزم غرزه.
وهذه الأعمال ما نشأت إلا عن نية صالحة، وحرص شديد على إعزاز الإسلام وتشييد سلطانه، ولو أردنا ذكر الأعمال التي قام بها أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه وأيام خلافته التي أعزت الإسلام وأرست قواعده ونشرت على البسيطة أعلامه، وطبقتها بسلطانه - لضاقت عنها بطون الصحف واستغرقت زمنًا طويلاً، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرًا.
النبطية (سوريا)
…
... صاحب الكلمات
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الحسين نور الدين الحسيني
(المنار)
يؤخذ من هذه الرسالة الفصيحة الصريحة المجردة من لباس الرياء والتقية أن كاتبها يعتقد ما يأتي:
1-
أن توحيد كلمة المسلمين واتفاقهم على الدفاع عن دينهم المشترك وعن أنفسهم، وعلى حقوقهم السياسية والوطنية وغيرها - يتوقف على زوال الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة،
برجوع أحدهما إلى مذهب الآخر الذي هو سبيل المؤمنين عنده، ومن لم يتبعه يكون غير متبع لسبيل المؤمنين، وأنه يجب على الآخر حينئذ عداوته في الدين، وعدم الاتفاق معه على شيء ولو كان دفع عدو لهما كليهما، بل إن شأنهما أن يعين كل منهما عدو الآخر عليه، وكذا عدوهما كليهما، أي أن مظاهرة عدو الدين والوطن والاتفاق معه، أولى من مظاهرة عدو المذهب والاتفاق معه.
2-
أن الوسيلة الموصلة إلى هذه هي سعي علماء الدين من الفريقين إلى إزالة أسباب هذا الخلاف بالبرهان، وإصغاء كل منهما إلى حجة الآخر في المناظرة، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف بينهما فيما لا يتناصفان فيه.
فأنا قبل الدخول في هذه المناظرة، أقول: إن أهل السنة ينكرون توقف الاتفاق على ما ذكر، وإن العقلاء من جميع الأمم ينكرون إفضاء المناظرات الدينية والمذهبية إلى رجوع أهل المذهب الذي يغلب عالمه في المناظرة إلى مذهب الغالب كما يعلم
بالاختبار في جميع العالم، ويؤيده فينا أن المناظرات بين الفريقين قد كثرت وتعددت في الأجيال الماضية وفي جيلنا مرارًا لا يحصيها إلا الله تعالى، وقد أُلِّف فيها كتب كثيرة من بسيط ووسيط ووجيز، فلم تزد السواد الأعظم من الفريقين إلا تعصبًا لمذهبه وصدودًا عن مذهب الآخر، فكانت مفرقة لا جامعة ومبعدة لا مقربة؛ وإنما تفيد المناظرات أفرادًا من مستقلي الفكر في طلب الحق، غير المقيدي الفكر والوجدان بالإذعان لمذهب معين لا ينظر إلى غيره إلا بعين العداوة والبحث عما يفنده به ولو بالتأويل والتحريف وترجيح مذهبه عليه بمثل ذلك، وبالأقيسة المؤلفة من الخطابيات والشعريات المبنية على الظني وما دون الظني من الروايات، ووصفها بالبراهين العقلية، كما يراه قارئ هذه الرسالة في تصوير مناظرنا لتلقي علي عليه السلام للعلم من النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها بأنه كان كتلقي تلاميذ المدارس الفنية الدنيوية للفنون فيها بحفظ المتون والقواعد الرياضية من حساب وهندسة ومساحة وفلك، واللغوية والعقلية
والتشريعية، ثم حكمه بأن السابق إلى هذا التلقي يجب بحكم العقل أن لا يدرك شأوه اللاحق، وفي هذا البحث من الأغلاط الدينية والتاريخية والعقلية والمنطقية والطبيعية ما لا يمكن بسطه وإيضاحه إلا في صفحات كثيرة أو رسالة مستقلة، وسأشير إلى المهم منه بعد.
وإنما غرضي الآن أن أحتج على صحة ما اشترطته عليَّ السيد المقترح للمناظرة من وجوب الاقتصار في المناظرة على مسائل الخلاف الأساسية، وهي ثلاث:
1 -
موالاة أهل البيت النبوي، وأهل السنة يوجبون هذه الموالاة بما يفهمونه ويرونه موافقًا لهدي الشريعة.
2 -
موالاة أصحاب الرسول، وأهل السنة يوجبونه على غير الوجه الذي ذكره كما سنبينه.
3 -
الخلافة، فيجب تحرير موضع الخلاف فيها أولاً، وتحديد طريقة الاستدلال عليها ثانيًا، والاتفاق على طريقة التحكيم في الخلاف والمحكمين ثالثًا.
بيد أنني أحب أن أعلم قبل هذا هل يوافق كبار علماء
الشيعة في سورية والعراق والهند وإيران مناظري الفاضل على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية السياسية والوطنية والأدبية المشتركة المنفعة إلا إذا اتفقا قبل ذلك على رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر فيما اختلفا فيه من المسائل الأساسية، وإلا كان دين كل منهما يقضي عليه بعداوة الآخر على الوجه الذي قاله هذا العلامة الشجاع منهم والتعليل الذي علله به؟!
إن هذا رأي لم نسمعه من غيره؛ ولكن سيرة الشيعة وتاريخها قد يؤيده ويدل عليه، وإنه لأصرح رجل عرفته فيهم؛ ولذلك كبرت منزلته في نفسي على ما أعتقد من خطئه وأغلاطه، وإن ما قرأته من كتابه (الكلمة الأولى) يدل على أنه رجل شعور ووجدان، لا رجل تجربة وبرهان، ولولا ذلك لم يعقد أوكد الأيمان، أنه لولا علي بن أبي طالب عليه السلام، لقُتل رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، ولما بقي في الأرض إسلام، ثم إنه يسمي في رسالته هذه كتاب " نهج البلاغة " بالقرآن والفرقان، ويقول
ما يراه القراء في شرط الاتفاق وزوال الشنآن.
فأقترح على مناظري العلامة، وعلى زميلي الأستاذ صاحب مجلة العرفان أن يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في جبل عامل وغيره من سورية والعراق في رسالة السيد عبد الحسين ولا سيما شرطه هذا، بل أكتفي برأي علماء جبل عامل وحدهم في ذلك، ونشر ذلك عنهم في مجلتي المنار والعرفان، وسأرد في الجزء الآتي على هذه الرسالة على كل حال.