الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من سوء الفهم، وإنني أنشر الآن جواب الأستاذ كاشف الغطاء، وأقفي عليه بما يزيد الحقيقة كشفًا.
جواب العلامة آل كاشف الغطاء
(عقيدة الشيعة في الاتفاق)
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد في السموات والأرض
لما جمعني المؤتمر الإسلامي العام المنعقد ليلة الإسراء في القدس الشريف بالعلامة الشهير، إمام السنة والحديث، الأستاذ الهمام، صاحب منار الإسلام، السيد محمد رشيد رضا نفع الله المسلمين بمنار علومه - دفع إليَّ كتابًا بخطه يتضمن السؤال عن عقيدة الشيعة في إخوانهم من أهل السنة، وأنه هل صحيح ما ربما يقال من أنه لا يمكن اتفاق الشيعة الإمامية معهم على شيء ولو كان لصالح الفريقين، إلا إذا رجعوا إلى رأي الشيعة فيما يخالفونه فيه؟ إلى أن قال دام تأييده:
((فأنت أيها الأستاذ أكبر مجتهدي الإمامية فيما قد اشتهر في بلادنا، وعلى
قولك نعتمد
…
)) إلخ ما كتب.
ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي:
إن إجماع الشيعة الإمامية من سلف إلى خلف - ولعله من ضروريات مذهبهم لا يخالف فيه أحد من فضلائهم فضلاً عن علمائهم - أن من دان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم ينصب العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم - فهو مسلم وسبيله سبيل المؤمنين، يحرم دمه وماله وعرضه، وتحل مسادرته (1) ، ومصاهرته، ولا تحل غيبته ولا أذيته، وتلزم أخوته ومودته، أخوة جعلها الله في محكم كتابه، وعقدها في أعناق المسلمة من عباده، فأصبحتم بنعمته إخوانًا والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وقد استفاض في السنة النبوية من طرق الفريقين أن المسلم أخو المسلم شاء أو أبى، والمسلم من المسلم كالعضو من الجسد إلى كثير من أمثال هذا.
وما سُعد الإسلام وصعد إلى أعلى ذروات العز والمجد إلا
(1) كذا في الأصل ولعل أصله مصحف أو محرف. (ر)
يوم كان محافظًا على تلك الأخوة، وما انحط إلى أسفل دركات السقوط والذلة إلا بعد أن أضاع تلك القوة، ويشهد الله سبحانه أن ما ذكرته من عقيدة الشيعة الإمامية في إخوانهم المسلمين هو الحقيقة الراهنة التي لا محاباة فيها ولا تقية، وإن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، ومن شاء الزيادة في اليقين فدونه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين سلام الله عليه وهي زبور آل محمد صلى الله عليه وسلم، فلينظر في دعائه لأهل الثغور الذي يقول في أوله:
((اللهم صل على محمد وآل محمد، وحَصّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيد حماتها بقوتك، وأسبغ عطاياهم من جدتك
…
)) إلخ الدعاء على طوله. (1)
وهل يشك أحد أن حماة الثغور في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام أعني عصر بني أمية - كانوا من جمهور المسلمين وأكثرهم بل كلهم من السنة، والصحيفة السجادية تالية القرآن عند الإمامية في الاعتبار وصحة السند. (2)
والقصارى أني أعلن عني وعن جميع مجتهدي الشيعة
(1) وقد ورد كلام آخر منافٍ - بحسب الظاهر - لهذا الدعاء عن حفيد علي بن الحسين وهو جعفر بن محمد كما ورد عن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله: جعلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ قال: فقال: الويل يتعجلون قتلة في الدنيا وقتله في الآخرة والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم)) انظر: الوافي للفيض الكاشاني (9/15) ، وسائل الشيعة للحر العاملي (11/21) ، جواهر الكلام لمحمد حسن النجفي (21/40) .
ولا توجد أي منافاة بين دعاء الجد وبين جواب الحفيد عند دعاة الفُرقة والبغضاء؛ إذ أن دعاء الجد متعلق بأمر دنيوي يتحقق معه الأمن في تلك الأرض، وأما دعاء الحفيد فهو يتعلق بمصير أولئك المجاهدين في الآخرة! هذا مع العلم بأن نفس هذه الصحيفة قد احتوت طعوناً على بني أمية بالعموم. انظر: الصحيفة السجادية الكاملة ص 15 - 16
(2)
جاء في كتبٍ شيعيةٍ تسميةُ هذه الصحيفة بـ (أخت!) القرآن، و (إنجيل أهل البيت) ، و (زبور آل محمد) ، وقد نُشرت هذه الصحيفة في هذا العصر بطبعات أنيقة تضاهي في شكلها طبعات القرآن الكريم، بل إن لها شروجاً سلكت في أسلوب شرحها للصحيفة طريقة بعض المفسرين، ومن هذا النوع -شرح الصحيفة- للشيخ الشيعي المعروف بالشيخ علي الصغير؛ حيث قال عنه صاحب كتاب -الذريعة-: -وهو شرح مبسوط، يشبه تفسير مجمع البيان في أسلوبه. وانظر: الذريعة للطهراني 15/18، معالم العلماء لشيخهم بان شهر آشوب ص (125، 131) .
وقد قال الخميني في كتابه "المكاسب المحرمة ج1، ص 320" عن هذه الصحيفة: ((سندها ضعيف)) .
الإمامية في النجف الأشرف وغيرها، أن اتفاق المسلمين واشتراكهم في السعي لصالح الإسلام والمحافظة عليه من كيد الأغيار، لم يزل ولا يزال من أهم أركان الإسلام وأعظم فرائضه وأهم وظائفه، أما النزاعات المذهبية، والنزعات الجدلية فهي عقيمة الفائدة في الدين، عظيمة الضرر على الإسلام والمسلمين، وهي أكبر آلات المستعمرين.
فرجائي إلى الأستاذ صاحب المنار أن لا يعود إلى ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة، ونشر الأبحاث والمجادلات مع بعض علماء الإمامية، والطعن المر على مذهبهم الذي لا يثمر سوى تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين الأخوين، ولا يعود إلا ببلاء الضعف والتفرقة بين الفريقين، ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى جمع الكلمة، وتوحيد إرادة الأمة، وإصلاح ذات البين.
والأستاذ الرشيد - أرشد الله أمره - ممن يعد في طليعة المصلحين، وكبار رجال الدين، فبالحري أن يقصر (مناره
الإسلامي) على الدعوة إلى الوفاق والوئام، وجمع كلمة الإسلام، ويتجافى في كل مؤلفاته - سيما في تفسيره الخطير- عن كل ما يمس كرامة، أو يثير عصبية أو حمية، أو يهيج عاطفة، وأن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن ذلك أنجع وأنفع، وأعلى درجة عند الله وأرفع، وعلى هذه خطاي وخطتي، وهي ديني وديدني، عليه أحيا وعليه أموت إن شاء الله.
وإليه تعالى أرغب وأبتهل في أن يجمع كلمتنا على الحق والهدى حتى نكون يدًا واحدة في نصرة هذا الدين الحنيف، إنه أرحم الراحمين.
حرره في زاوية النجف الأشرف المقدسة
…
...
…
...
…
... يوم النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1350
محمد الحسين آل كاشف الغطاء
(المنار)
هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر، وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة، ودون ما كنت أتوقع من الصراحة، جاء مجملاً ليس حزًّا في المفاصل، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء؛ وإنما أشار إليها
(بربما يقال) وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في (إخوانهم المسلمين) .
وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره، وإنه إن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان. فتضمن قوله هذا الاعتذار عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن مذهبهم وعدم وفاء البيان به، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته، وهو يرى أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن، وكذلك الأمة العربية في جملتها كما يُعلم من كلمته الأولى من كلماته الثلاث، وحجته الكبرى على ذلك تقديم غيره عليه بالخلافة ويليها من الحجج مخالفة أهل السنة لما يفهمه هو بوجدانه من الروايات الصحيحة في مناقبه ولما يذكره من الروايات الباطلة فيها، ويطعن في حفاظ السنة حتى البخاري ومسلم لعدم روايتها، فهو يعدهم كلهم
من النواصب المتبعين لغير سبيل المؤمنين - فهو يسلم ما قاله العلامة كاشف الغطاء من أن عدم نصب العداء لأهل البيت شرط لصحة الإسلام وولاية أهله - ولا يراه ردًّا عليه أو تخطئة له، وكذلك السيد محسن العاملي لا يعده ردًّا على كتابه الذي يعدني فيه مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين؛ لأننا ننكر الحج إلى المشاهد وعبادة قبور أهل البيت أو عبادتهم بالدعاء والطواف بقبورهم؛ ولكننا نعبد الله تعالى بالصلاة على نبيه وعلى آل بيته في الصلاة وغيرها، ونتقرب إليهم بحبهم وولايتهم، وبالحكم على من ينصب لهم العداوة والبغضاء بأنه عدو الله ورسوله، وبهذا القول يقول جميع أهل السنة من الوهابية وغيرهم، ولا يرون القول بصحة خلافة الراشدين كما وقعت ووجوب حبهم وحب سائر الصحابة منافيًا لذلك، فما قاله الأستاذ في ناحية الشيعة مجمل غير كافٍ ولا شافٍ.
بيد أنه عندما توجه إلى ناحية السنة وأهلها تفضل على صاحب المنار بالنصيحة إلى (ما فرط منه كثيرًا من
التحريش بالشيعة)
…
إلخ إلخ، وهو يعلم أن صاحب المنار كان مبدوءًا لا بادئًا، ومدافعًا لا مهاجمًا، ولم يكن محرشًا ولا متحرشًا.
ولم يكن يخفى على ذكاء الأستاذ ما يكون لهذا الجواب عندنا من كلتي ناحيتيه، وما ضمه بين قطريه، وهو ما رأينا من حسن الذوق الاكتفاء بالإشارة إليه، فشفعه بكتاب شخصي، يتضمن الاعتذار عما توقعه من تأثير الجواب السلبي، قال فيه بعد الاعتذار عن تأخيره بما هو مقبول:
ما قاله العلامة في كتابه الشخصي:
((نأمل من ألطافه تعالى أنكم لا تزالون متمتعين بالصحة والعافية، والعز والكرامة، مستمرين على منهاجكم الدائب في خدمة العلم والدين، وكونوا على ثقة من أننا لا نزال ندعو لكم بالتأييد والتسديد، وأن يجعل الحق مناركم عاليًا، ونور معارفكم لظلمات الجهل ماحيًا، ولا تزال ذكرى أخلاقكم الطيبة وعوارفكم الذكية ماثلة في نفوسنا، شاخصة أمامنا.
وتجدون مع هذا الكتاب جواب الرقيم الذي تفضلتم به وأرجو أن تجدوه كافيًا شافيًا، وتنشروه على صفحات مناركم الزاهر ليعم النفع به، ويكون إحدى همزات الوصل بين المسلمين وتمزيق ما نسجته عناكب الأوهام على ذلك الصرح المشيد، وهي الغاية التي نتوخاها في جميع جهودنا ومساعينا، ولعلكم أحرص عليها منا، وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقد تجافيت عن ذكر القائل بتلك المقالة الغريبة والتي لا يوافقه عليها أحد نظرًا لبعد الملاحظات التي لا تخفى عليكم: إن تجد عيبًا فسد الخللا)) . اهـ المراد منه.
(المنار)
إن عبارة هذا الكتاب، تكشف لنا الغطاء عما خفي في ذلك الجواب، مما تنطوي عليه جوانح كاتبهما من أريحية إسلامية، تأتلف بها معارفه العقلية وعوارفه القلبية، وعما رأى أنه مضطر إليه في مقامه من الرياسة في علماء المذهب من مداراة المدارك المتفاوتة، والوجدانات الموروثة، واكتفائه من صدق لقبه (كاشف الغطاء) أن يبلغ غاياته في الدروس الفقهية،
والفنون العقلية واللغوية، ويقف دونها من مهاب الأهواء الطائفية والمذهبية، التي تختلف فيها الأفهام وتتزاحم الأوهام، موقف مراعاة الجامدين ومداراة المتعصبين، اهتداء بما روي في الصحيح [صحيح البخاري (127) ] عن أمير المؤمنين علي عليه السلام:(حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله) .
وروي عنه أنه كان يقول: (إن هنا لعلمًا جمًّا لا أجد له حملة) وأشار إلى صدره، نقله صاحب نهج البلاغة [18 / 346 شرح ابن أبي الحديد] . (1)
فهذا ما أشرحه من عذر صديقي في إجماله في الجواب على ما فيه من موضع النظر، ووصفه إياي بالتحريش والطعن المر بالشيعة، ومطالبتي بالكف عن العودة إلى ذلك معبرًا عنه بلفظ الرجاء واجتنابه الإنكار على هؤلاء المهاجمين، وما هو بالعذر الذي يرضاه منه جميع القارئين.
سيجدني صديقي العلامة المصلح عند رجائه إن شاء الله تعالى، بيد أنني أرى أن ما نسعى إليه من جمع الكلمة، ووحدة الأمة، لا يرجى نجاحه من طريق الدين إلا بسعي علماء الطائفتين له على القاعدتين اللتين رفعنا بنيانهما في المنار:
(الأولى) : (نتعاون
(1) روي بألفاظ متقاربة وأسانيد مختلفة، وقد أخرحه الآجري في الشريعة (برقم: 1192، 1825 ط: دار الوطن) ، والطبراني في المعجم الكبير (6 / 213) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (27 / 199، 50 / 252) .
على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) .
(والثانية) : من اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتابة فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته، وإذا لم يكن صديقنا الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء هو الإمام القدوة لمن ينهضون بهذا الإصلاح وهو هو في رياسته العلمية وثقة الطائفة بإخلاصه ونصحه، فمن ذا الذي يتصدى له من دونه؟
إن المبالغة في مداراة القاصرين (1)
، تقف بصاحبها دون ما هو أهل له من زعامة المصلحين، كان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر نسيج وحده في علماء سورية الجامعين بين علوم الشرع والوقوف على حالة هذا العصر، ولولا مبالغته في مداراة الجامدين من المعممين وكذا العوام أيضًا لكان ثالث السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في زعامة الإصلاح، وإنني قد صارحته باستنكار هذه المبالغة في المداراة مشافهة له وهو ما انتقدته على كتاب الرسالة الحميدية له من إيراد المسائل العلمية التي لا شك فيها بعبارات تدل على الشك فيها
(1) هذا الكلام من الشيخ المؤلف رحمه الله لعله صادر عن حسن الظن الذي لم يلق موضعاً مناسباً؛ فإن علماء الشيعة حتى لو نص أحدهم قائلاً: (لا فرق بين شيعي وسني) وأمثالها من العبارات، فإن هذا ليس له تأثير في الوسط الشيعي لسببين:
الأول: هو مبدأ (التقية) الذي به يعرف الشيعي أن مرجعه لا يعني ما يقول، وأن هذا الكلام التقريبي خرج مخرج (التقية المداراتية) لا أكثر.
والثاني: هو التعبئة النفسية لدى الشيعي، التي تقف حاجزاً بين هذه العبارات وبين حصول أثرها في نفسه.
هذا بالإضافة إلى أسلوب يستخدمونه وهو: (تعدد الأدوار.. ووحدة الهدف) فإن من السياسة أن لا يوضع العنب كله في سلة واحدة. فكلما تلفت سلة حولوا العنب إلى سلة أخرى، فينتج عن ذلك ما يظهرونه من (الاعتدال) ودعوى (التقريب) ونحوها من الدعاوى التي يخادعون بها عوام الأمة ونخبها غير المطلعة على تلك العقليات وطرق أصحابها وحيلهم بحيث يصدرون أنفسهم وأفكارهم إلى داخل الصف السني غير المحصن عن طريق فريقين من متصدري العلم وهما: المتسايسون من الذين يعرفون، والمسيسون ممن لا يعرفون، ولا يعرفون أنهم لا يعرفون!
واحتمال صحتها بالفرض والتسليم الجدلي، ثم قلت له وقد اعتذر بمداراة الجامدين: إذا لم يكن مثل مولاي الأستاذ في مكانته من سعة العلم والصلاح يجرئ المسلمين على الجزم بالمسائل العلمية التي يستنكرها أو يجهلها الجمهور، فمن ذا الذي يجرئهم على هذا ولا يخشى اعتراض الجاهلين؟
فأرجو من الأستاذ الكبير كاشف الغطاء أن يتأمل ما ذكرته من توقف التوفيق والتأليف على بنائه على القاعدتين المناريتين عسى أن يجد عنده قبولاً.
ولا يخفى عليه أن علماء الدين إذا لم يجمعوا كلمة المسلمين بهدايته على القيام بمصالحهم المشتركة فقد يغلبهم الملاحدة المتفرنجون على أكثرهم، ويقنعونهم بأن الدين أكبر المصائب عليهم!
أصل الشيعة وأصولها
من تأليف علامتهم الكبير ومجتهدهم الشهير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، وهي مطبوعة في مطبعة مجلة العرفان بصيدا وقد جعلها الأستاذ صاحب هذه المجلة هدية للذين وَفَّوْهُ اشتراك المجلة وهي تباع لغيرهم بقيمة عشر فرنكات على صغرها، فإن صفحاتها مع مقدمتها 138 صفحة من القطع الصغير، ولكنها وصلت إلينا رسالة من بغداد فيها كتاب اسمه (الشيعة) تأليف (السيد محمد صادق السيد محمد حسين الصدر) . فأما (كتاب الشيعة) فلا نتكلم فيه؛ لأنه صدع جديد لبناء وحدة الإسلام، بالطعن على أهل السنة والجماعة من الصحابة الكرام، وحُفَّاظها ومدونيها من الأئمة الأعلام، كاد يضرم نار الثورة في العراق، فأنا أغضي عن هذا الكتاب المُبَارز للسنة وأهلها بالعداء وإعلان الحرب، وهو فيه كالصعو الذي يهاجم الصقر.
وأما الرسالة فهي دعاية فرقة في دعوى وحدة، لهذا أخصها
بكلمات من النقد والعتب، أو التذكير والوعظ، يظهر بها لمؤلفها الأجل أنه جدير فيها بضرب المثل:
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
هي مُصَدَّرَة بمقدمة وجيزة بإمضاء (عبد الرزاق الحسيني) كتبها ببغداد في غرة ذي الحجة سنة 1350 خلاصتها أنه تجول في معظم القصبات والقرى الريفية في العراق، وأنه صادف أن زار في العام الماضي مصر وفلسطين وسورية، واتصل بالطبقة المثقفة في هذه الأقطار العربية كلها، فسمع منها ما كان يسمعه من أهل الدليم في العراق من الطعن الغريب في طائفة الشيعة (قال) :(وخلاصة ما كنت أسمعه أن للشيعي ذَنَبًا لا يختلف عن أذناب البهائم، وأن لهم أرواحًا تتقمص أجساد بعض الحيوانات بعد أن تفارق أجسادهم، وأنهم لا يعرفون الأكل مثلما تعرفه بقية الطوائف) وأنهم وأنهم وأنهم (إلى آخر ما هنالك من عجائب وغرائب) اهـ بنصه، مع حذف أكثره.
ثم ذكر أنه كان ولا يزال يقرأ في كتب من يدعون البحث
والتحقيق العلمي من أهل السنة، ما هو أغرب مما سمعه عن الشيعة، وأنه كان يكاتب الإمام العلامة المؤلف بذلك كله فيدله على أكثر مما قرأ ومما سمع، وأنه في أثناء هذه المكاتبة (كان سماحته يبث الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ويدعو المسلمين إلى سحق التقاطع من أجل الفوارق المذهبية، فكان بحق أول من شق هذا الطريق المؤدي إلى فلاح الإسلام) ! ! !
ثم استدل على هذه الدعوى بما تجشمه سماحته من عناء السفر ووعثائه لحضور المؤتمر الإسلامي العام في القدس وعبر عنها الكاتب الحَسَنِي (بأرض الميعاد) لأجل أن يخطب لدعوة المسلمين إلى هذه الوحدة التي لم يعن بها غيره.
هذه المقدمة أول شاهد في هذا الكتاب على دعاوي القوم وغلوهم فيما لهم وما عليهم، وقد أقرها المؤلف عليها، وبنى تأليفه هذا على صحتها وصحة ما هو شر منها، فكانت داعية شقاق، وإن قُنِّعَتْ بقناع صلب الوفاق؛ لأنها تقنع كل من قرأها من الشيعة أن جميع أهل السنة عاميهم وخاصيهم أعداء لهم قد أخرجهم الشنآن
من حظيرة العقل والفهم، فلا علاج لهم بما يبذله المؤلف من علاجهم بالعلم، ومحاولة إقناعهم بأن مذهب الشيعة هو الحق بل هو الإسلام دون ما خالفه.
إننا لم نسمع في عمرنا الطويل كلمة واحدة مما نقله عن المثقفين في مصر وسورية وفلسطين، لا من المثقفين الذين يجلون عن هذه الجهالات أن تصدقها عقولهم، أو ترويها ألسنتهم، ولا عن العوام الخرافيين منهم، ونحن أعلم بهذه البلاد وأهلها منه، ولم نر في كتب أحد ما هو أغرب منها كما ادعى، وأي شيء أغرب من جعل خلقة الشيعي مخالفة لخلقة سائر البشر، فإن فرض أنه سمع كلمة سخيفة كهذه جديرة بالسخرية من بعض أعراب الدليم الأميين في العراق، أفلم يكن له من عقله ما يزع تعصبه أن يلصقها بالطبقات المثقفة في مصر وفلسطين والشام؟ وإننا قد سمعنا من أخبار الشيعة في العراق وإيران وجبل عامل من الأقوال والأعمال في عشر المحرم وغيره حتى في البيوت ما لم يخطر في بالنا أن نكتبه تمهيدًا للاتفاق؛ إذ من الضروري أنه مثار للشقاق.
يلي هذا الشاهد على غلوه في هجو أهل السنة في أرقى البلاد العربية والإسلامية غلوه في إمامه المؤلف بجعله هو العالم المسلم الفذ الذي عني بدعوة أهل السنة إلى الاتحاد ونبذ عصبية المذاهب المفرقة بالسعي العظيم الذي انفرد به، وقاسى الأهوال والشدائد في سبيله، وهو قبوله دعوة المؤتمر الإسلامي العام ومجيئه من أرض العراق إلى أرض جارته فلسطين ليلقي خطبة فيه!!
بخ بخ، أليس لأحد من علماء أهل السنة وفضلائهم شيء من مشاركة علامة الشيعة في هذا الفضل، وقد جاء بعضهم من أقطار أوربة وبعضهم من أقطار الشرق، وكانوا كلهم متفقين على جمع كلمة المسلمين، ونبذ التفريق الذي دعا إليه بعض علماء الشيعة كالسيد عبد الحسين نور الدين، ولم يسمع بمثله في العالمين؟ ولا يزالون يسعون إليه كما فعله صاحب كتاب الشيعة في هذا العام؟
إن أول صوت سمعه العالم الإسلامي كله في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية العامة، والاتفاق بين أهل السنة والشيعة خاصة، هو صوت الحكيمين الإمامين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ
محمد عبده المصري، ومقالات العروة الوثقى في ذلك محفوظة أعيد طبعها، وتاريخ (الأستاذ الإمام) مفصل لها وقد نشرنا دعوتهما وأيدناها بمقالاتنا وسعينا العملي منذ 36 سنة، ولكننا نغضي النظر عن ذلك، وننظر إلى عمل المؤتمر الإسلامي وحده. (1)
ألم يكن لرئيس المؤتمر الإسلامي الداعي إليه وأعضاء اللجنة التحضيرية التي وضعت نظامه من الفضل ما يفوق فضل علامة الشيعة بإجابة الدعوة؟ ألم يكن للرئيس من فضل السبق إلى التأليف والاتحاد تقديمه إياه على جميع من حضر المؤتمر من علماء السنة وسادتهم بإمامة الصلاة في الاجتماع العام للمؤتمر في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج؟ وقد علمت باليقين أن السيد أمينًا الحسيني شاور في هذا التقديم له غير أعضاء اللجنة من كبار علماء السنة، فوافقوه على ذلك؛ لأن الغرض منه التأليف والوحدة لا لسبب آخر، ولم يكن أحد منهم سمع في هذا الغرض من سماحة كاشف الغطاء كلمة، فلأهل السنة السبق إلى هذه الدعوة، ثم في تكريمه وتقديمه لأجل الوحدة.
(1) لقد أثبتت الوقائع، والأحداث والواقع، أن جميع محاولات التقريب - منذ ذلك الحين الذي يتحدث عنه الشيخ المؤلف رحمه الله لم تُجْدِ مع الشيعة شيئاً، وأن الأفكار التقريبية والدعوات اللينة أو (الهادئة) وكلمات المدح والتزلف تنقلب عندهم - لفساد مزاجهم - إلى سلاح متفجر يحاربوننا به ويفجرونه في وجوهنا كل حين. إن هذا لا يزيدهم إلا عتواً وخبالاً، ولا نكسب منه إلا مزيداً من الأدلة أو الأسلحة التي تستعمل ضدنا بوقاحة وصلف! وما يتحدث عنه الشيخ المؤلف رحمه الله في هذه الأسطر هو شيء ملموس عاصره الشيخ رحمه الله مما ينطبق عليه ما تقدم
ومما انتقده جمهور أعضاء المؤتمر على الأستاذ الشيخ محمد آل كاشف الغطاء أنه اتخذ هذا التقديم في تلك الليلة الحافلة حقًّا له شرعيًّا، ومنصبًا رسميًّا، فكان يتقدم من تلقاء نفسه الجميع في كل صلاة جماعة يحضرها، ولم يزاحمه أحد من أهل السنة فيها، ولم يتواضع هو مرة فيدعو غيره من العلماء أو السادة الشرفاء إلى مشاركته أو النيابة عنه على فرض أنه هو صاحب الحق، ولكنه يقدم غيره من باب التواضع وحسن الذوق.
أو لم تكن هذه المنة للمثقفين من أهل السنة كافية لإبطال تلك التهمة، فتمنع السيد عبد الرزاق الحسني وأستاذه علامة الشيعة ومجتهدهم من تشهير مثقفي أهل السنة كلهم بها وجعلها سبب تأليف هذه الرسالة وإنما هي دعوة لأهل السنة إلى مذهب الشيعة.
نعم إنه قد ذكر كل من مؤلفها ومؤلف كتاب (الشيعة) أن الداعي أو الدافع الداعّ لهما إلى ما كتبا هو ما جاء في كتاب (فجر الإسلام) في الطعن على الشيعة لمؤلفه الأستاذ أحمد أمين ومساعده الدكتور طه حسين المصريين، ولم أكن رأيت هذا
الطعن ولا طالعت هذا الكتاب، ولكني أعلم كما يعلم العالمان الشيعيان وغيرهما أن مؤلفي كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام ليسا من دعاة مذهب السنة والرد على مخالفيه في ورد ولا صدر، وقد ذكر مؤلفها فيها أن الأستاذ أحمد أمين صاحبه اعتذر عما كتبه في الشيعة بأنه نقله عن بعض كتب التاريخ المشهورة التي اطلع عليها ولم يطلع على ما يخالفها (1)
، ثم أشار إلى ما يبرئهما من كل تعصب مذهبي أو غرض ديني، بل إلى ما هو شر من ذلك، وهو ما اشتهر عن أحدهما من الطعن في أصل الدين؛ إذ قال:((ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفاء أن لا تتعكر، ونيران البغضاء أن تتسعر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله، لعرفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الإلحاد والزندقة، ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة)) . اهـ
وجملة القول: أنه ما كان ينبغي للعلامة كاشف الغطاء أن يوافق تلميذه السيد الحسني على ما رمى به أهل السنة مثقفيهم وعامتهم
(1) إن كتب أحمد أمين موجودة ومتداولة، وهو ينقل عن الكتب الشيعة فتراه ينقل كلام الكليني من الكافي، ويرجع إلى نهج البلاغة، وكتاب أعيان الشيعة، وكتاب حياة القلوب، وكتاب بحار الأنوار وكتاب وقفة الزائرين وجميعها للمجلسي، وغيرها من كتب الشيعة، فمن قرأ في هذه الكتب وعزا إليها يًستبعد جداً أن يبني كلامه على بعض كتب التاريخ المشهورة فقط!
وعلى كلٍ فأحمد أمين هو شخص متأثر بالمستشرقين كما ذكر الشيخ الذي ناقش شبههم وهو د. مصطفى السباعى رحمه الله وقال إن الدكتور على حسن عبد القادر عندما ألف كتاباً، وذكر فيه شبه المستشرقين، وطعنهم فى الإمام الزهرى، فثار عليه الأزهر، قال له الأستاذ أحمد أمين:" إن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لبث ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك، وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها، كما فعلت أنا فى فجر الإسلام وضحى الإسلام "!
من هذا الطعن غير المعقول، وأن يزيد عليه بما يوهم أنه قليل مما يعلمه هو، وأن يجعله هو وما كتب في " فجر الإسلام " داعيًا أو دافعًا إلى كتابة هذه الرسالة وما فيها مما يسوء أهل السنة من الدعوى العريضة لنفسه وهضم حق غيره من أهل السنة على الإطلاق، ثم أن يجعل ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها ردًّا عليه وإقناعًا للفريقين بالاتفاق مع إقرار كل منهما للآخر على مذهبه، فإن الرسالة صريحة في ضد ذلك. وأما ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها فإننا نخصه بمقال ننشره بعد.
***
أصل الشيعة وأصولها
قَرَّظْنا في الجزء السابق هذه الرسالة التي ألفها علامة الشيعة ومجتهدها الشيخ محمد آل كاشف الغطاء الشهير؛ لدعوة أهل السنة إلى مذهبه ونشرها الأستاذ اللبيب الأريب زميلنا صاحب مجلة العرفان، ورأينا من الواجب علينا أن نكتب مقالاً آخر نبين به بعض ما انتقدناه عليها من جهة الغلو الذي اعتاده علماء الشيعة حتى صارت العادة عندهم عبادة، ومن ناحية ضعفهم في علم الحديث ولا سيما روايته وما يصح منه وما لا يصح بحسب أصول العلم وقد نشير إلى ناحية ثانية هي ناحية التاريخ، ولا نعرض للخوض في مسألة الإمامة ولا مسألة عصمة الاثني عشر التي هي أساس المذهب؛ لأنها مفروغ منها في المؤلفات القديمة وليست عملية في هذا الزمان، وما كان الجدال في أصول المذاهب إلا ضررًا لأهله في دينهم ودنياهم في كل زمان، وشر ضرره تفريق الكلمة وتمزيق نسيج الوحدة؛ لأنه مبني على عصبية المذاهب،
ولن تكون إلا تقليدية وما أضيع البرهان عند المقلد، وأبدأ بكلمة في الغلو فأقول:
من هذا الغلو إطراء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه المتضمن لاحتقار الإسلام وما يستلزمه مما لا يحسن التصريح به، بما أنكرناه على السيد عبد الحسين نور الدين العاملي من قبل فلم يمنع ذلك الأستاذ كاشف الغطاء أن يعيده مُقِرًّا له من بعد؛ إذ قال في أول ص 21 بعد ذكر من سمى من الصحابة في الشيعة ما نصه:
(ولكن ما أدري أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم إمام الشيعة علي بن أبي طالب الذي يشهد الثقلان أنه لولا سيفه ومواقفه في بدر وأحد وحنين والأحزاب ونظائرها لما اخضر للإسلام عود وما قام له عمود حتى كان أقل ما قيل في ذلك عنه المعتزلي أحد علماء السنة (! !) :
ألا إنما الإسلام لولا سهامه
…
كعفطة عنز أو قلامة ظفر
هذا ما كتبه مجتهد النجف الأكبر وعلامته الأشهر ثم فسره بمختصر مما فسره به عبد الحسين نور الدين العاملي
وضرب له هذا المثل الشعري الإلحادي.
الله أكبر ودينه الإسلام أعلى وأظهر وأذكى وأطهر وأعز وأقهر من تشبيه هذا المعتزلي الرافضي - لا السني (1) - له بضرطة أنثى المعز وقلامة الظفر.
نعم إن دينًا سماه الله دينه وأتمه وأكمله ووصفه بما وصفه ووعد بإظهاره على الدين كله وإتمام نوره بقدرته وفضله، وبعث به خير خلقه محمدًا رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وجعل ملته هي الباقية إلى يوم الدين وأيده بملائكته فوق تأييده بالمؤمنين، وإن دينًا هذا شأنه يجب على كل مؤمن به أن يوقن أنه أجل وأكبر وأعظم وأعلى وأسمى وأرفع وأمنع من أن يتوقف ظهوره ونوره ونصره وبقاؤه على جهاد أي فرد من أفراد المؤمنين، وأن يكون من امتهنه بأنه لولا فلان من أتباعه لكان كضرطة أنثى المعز أو قلامة الظفر التي تلقى وتداس بالنعال جديرًا بأن يكون من أجهل الناس به وأبعدهم عن الإيمان به واتباعه (2) ، وإن وَصَفَهُ مجتهدُ الشيعة بأنه من المعتزلة علماء السنة، ومتى
(1) قائل هذه الأبيات هو عبد الحميد بن أبي الحسين المعروف بابن أبي الحديد المعتزلي، وهو رافضي أورده القمي في كتابه الكنى والألقاب 1/185 قائلاً:((ولد في المدائن وكان الغالب على أهل المدائن التشيع والتطرف والمغالاة فسار في دربهم وتقيل مذهبهم ونظم العقائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم وفيها غالي وتشيع وذهب الإسراف في كثير من الأبيات كل مذهب. . . ثم خف الى بغداد وجنح إلى الاعتزال)) .
وقال الخوانساري في روضات الجنات 5/19: ((هو من أكابر الفضلاء المتتبعين، وأعاظم النبلاء المتبحرين، مواليا لأهل بيت العصمة والطهارة، وإن كان في (زي!) أهل السنة والجماعة)) . وانظر: الذريعة لآغا بزرك الطهراني41/158
ومن أبياته المذكورة في مصادر ترجمته قوله في مدح علي رضي الله عنه:
علم الغيوب إليه غير مدافع
…
والصبح أبيض مسفر لا يدفع
وإليه في يوم المعاد حسابنا
…
... وهو الملاذ لنا غداً والمفزع
ورأيت دين الاعتزال وإنني
…
... أهوى لأجلك كل من يتشيع
ولقد علمت بأنه لا بد من
…
... مهديكم وليومه أتوقع
(2)
هل يرضى الشيعة أن تُعكَس العبارة فيقال: لولا الإسلام لكان علي كعطة عنز أو قلامة ظفر؟!
لا شك أنهم سيرون ذلك طعناً في علي رضي الله عنه وحده، كما أن بقية المسلمين يرون في كلام الشيعة السابق - والذي استشهد به عالمهم آل كاشف الغطاء - طعناً في دين الإسلام كله وليس مقتصراً على شخصية من شخصيات الإسلامية كعلي رضي الله عنه، والذي لولا الإسلام لما كان له بل ولا لعرب الحجاز ذكر.
{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} ، {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} ، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز} .
كان المعتزلة من علماء السنة ، فأين علم هذا المجتهد الكبير بالمذهب والتاريخ؟
لو كنا نريد أن نتكلم في أصول المذاهب لبينا للقارئ أي الفريقين تبعت المعتزلة فيما خالفوا فيه السنة من تحكيم عقولهم في تأويل كلام الله وكلام رسوله وغير ذلك.
وشر من قول هذا المعتزلي بل الزنديق المحتقر للإسلام قول من جعل ذمه
وإهانته له أقل ما يقال فيه ، فأي شيء أقل من ضرطة العنز وقلامة الظفر؟ ! أهذا هو مذهب الشيعة الذي يدعي العلامة كاشف الغطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواضع له فهذا مثل من غلو القوم اللاشعوري.
نعم إنه ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أصل مذهب الشيعة وأن خيار أصحابه تلقوه عنه، ثم كان أئمة الإسلام من مدوني كتب السنة حفاظ الحديث والمفسرين وسائر علماء الملة منهم إلخ.
من الغريب أن يحتج على هذا الأصل بروايات يعزوها إلى
الكتب المعتمدة عند أهل السنة، وما أدري أعلمه بالروايات المعتمدة عند أهل السنة كعلمه بكون المعتزلة منهم؟ أم هو يتعمد التدليس والإيهام؟ كل ذلك جائز، وهو ما تراه في أول ص 41 وما بعدها جوابًا عن سؤال أورده:
قال: (إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية - يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبًا إلى جنب وسواء بسواء (1) ، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته. (2)
وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة لا من طريق الشيعة ورواة الإمامية حتى يقال: إنهم ساقطون؛ لأنهم يقولون بالرجعة أو أن راويهم (يجر إلى قرصه) بل من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع. (3)
وأنا أذكر جملة ما علق بذهني من المراجعات الغابرة، والتي عثرت عليها عفوًا من غير قصد ولا عناية:
(1) انظر - أخي القارئ الكريم - كيف ينص عالمهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع بذرتين واحدة للتشيع وأخرى للإسلام، ولا معنى لهذا الكلام إلا أن بذرة التشيع هي غير بذرة الإسلام، وأن صاحب الشريعة - وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وضع بنفسه أساس التفرقة بين أمته، حين بذر بذور دينين اثنين لا دين واحد!
(2)
وقد كان من تلك الثمرات المزعومة: سنابل اللعن والتكفير للصحابة وخيار الأمة، ومنها سنابل الاعتقاد بأن القرآن محرف بأيدي منافقي الصحابة، وغيرها من الثمرات التي نراها حتى يومنا هذا! انظر: الوشيعة للشيخ موسى جار الله ص 5
(3)
بل ما رويت إلا من طرق غير وثيقة من رواية شيعي مجهول أو شيعي متروك متهم أو شيعي كذاب ووضاع، فرجع الحديث إلى أنه من طريق الشيعة.
(فمنها ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور، في تفسير كتاب الله بالمأثور) في تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) قال: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) . (1)
أخرج ابن عدي (2) عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البينة: 7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين)(؟)
وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرًّا محجلين) . (3) انتهى حديث السيوطي.
وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في
(1) حديث موضوع وإسناده مُظلم لا يُعرف رجاله. انظر: السلسلة الضعيفة والموضوعة 10/ 598
(2)
في كتابه الخاص في الرواة الضعفاء والكذابين وهو (الكامل في ضعفاء الرجال 2/803) ، فمجرد عزوه لهذا الكتاب فيه إشارة إلى ضعفه، وطريقة كاشف الغطاء في العزو إليه هي طريقة عامة أصحابه؛ حيث يأتون بالحديث ويقولون رواه الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وكلا الكتابين يورد الضعفاء والكذابين ويعطون نماذج من رواياتهم الضعيفة كدليل على سوء حالهم.
(3)
لم أقف على أي إسناد لهذا الحديث عن علي رضي الله عنه.
ولكن الناظر في متون هذا الحديث يأخذه العجب، ولكن لا عجب!
فهذا كما صار أحب الخلق إلى الله هو علي في ما يسمى بحديث الطائر!
وكما صار الله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بصوت علي في الإسراء والمعراج كي يطمئن قلبه!
وكما صار النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك مثل شجاعة علي!
فلا تستبعد إذن أن يصير علي رضي الله عنه وشيعته هم خير البرية، وإياك أن تسأل أين صار النبي صلى الله عليه وسلم، فلعله قد صار هو أيضاً من شيعة علي الذين {هم خير البرية} كي تشمله الآية أيضاً؟!
وقد تقدم توثيق الأحاديث المشار إليها - كالمخاطبة في المعراج وحديث الشجاعة - ما عدا حديث الطائر فانظر حوله: "الإمامة والنص "للشيخ فيصل نور حفظه الله
صواعقه عن الدارقطني وحدَّث أيضًا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في الجنة) . (1)
(وفي نهاية ابن الأثير ما نصه في قمح: وفي حديث علي عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابًا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح) انتهى. (2)
وببالي أن هذا الحديث أيضًا رواه ابن حجر في صواعقه وجماعة آخرون من طرق أخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث.
(والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم فترى أين يؤمر بنا) . (3)
ولو أراد المتتبع كتب الحديث مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل وخصائص النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر
(1) حديث موضوع، في إسناده الفضل بن غانم ضعيف، وسوار بن مصعب وهو متهم، بل قال الحاكم:((روى عن الأعمش وابن خالد المناكير، وعن عطية الموضوعات)) وهذا من روايته، فهو من موضوعاته، على ضعف عطية. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (12 / 186 - 187)
(2)
حديث موضوع، فيه جابر الجعفي وهو رافضي ضعيف، وأبو يعفور الجعفي وهو مجهول الحال، وفد خرَّج الشيخ الألباني رحمه الله الحديث وتعقب كلام كاشف الغطاء مبيناً بعض ما فيه من جهل وتدليس في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (12 / 181 - 185)
(3)
حديث موضوع، ورد ضمن نسخة عبد الله بن أحمد عن العلويان الموضوعة. انظر: تذكرة الموضوعات للفتني ص 98.
ولا أدري ما يقول القراء الكرام في هذا الشيعي (كاشف الغطاء) إذا علموا أنه عزا هذا الحديث للزمخشري في ربيع الأبرار فقط، وهو لا يروي فيه الأحاديث بالأسانيد، وإنما يعلقها فقط تعليقاً ليشرح منها لفظاً غريباً مثل (حجزة) في هذا الحديث؟!
فهو كما لو عزا الحديث لـ " القاموس " أو " لسان العرب " وغيرها من كتب اللغة! فهل يفعل ذلك عالم مخلص مهما كان مذهبه؟! فكيف وهو يوهم القراء أنه عند الزمخشري بطريق من الطرق الوثيقة! (اقتباس من "السلسلة الضعيفة 12 / 185 ") .