الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحيفة. يعني كرم الله وجهه صحيفة كان ربطها بسيفه فيها أحكام عقل الدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة وعدم قتل المؤمن بالكافر.
والحديث صحيح رواه أحمد والبخاري في مواضع متعددة من المسند (1)[1 / 79، 118، 152] ، والجامع الصحيح [ (111) ، (1870) ، (3047) ، (3172) ، (3179) ، (6755) ، (6903) ، (6915) ، (7300) ]
ورواه غيرهما أيضًا، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغ عشيرته في الشِّعب شيئًا من التشريع ولا أن عليًّا أو غيره قال ذلك، بل من المعلوم الذي لا خلاف فيه أن أكثر الأحكام التشريعية كانت بعد الهجرة.
2 -
الإنسان كما يقول الأطباء لا يكتمل نموه الجسدي والعقلي الطبيعي إلا باكتمال 25 سنة التي هي ربع العمر الطبيعي المعتدل، ومن المعلوم بالتجارب في المدارس وغيرها أن ابن 26 سنة أقوى فهمًا للمسائل العقلية من اعتقادية وتشريعية من الطفل المميز واليافع الذي لم يكتمل نموه، وأن أكثر الذين يطيلون المكث في مدار
س ال
تعليم أقلهم نبوغًا، فأشهر الحكماء والنابغين لم يمكثوا في المدارس إلا قليلاً، وقد سمعت أستاذنا الشيخ حسينًا الجسر يقول للسيد علي الثمين نقيب الأشراف بطرابلس في تلميذ له:
(1) من رواية أبي جحيفة ورواية أبي الطفيل.
إنه ساوى في السنة الأولى الأذكياء الذين سبقوه في طلب العلم بسبع سنين.
3 -
من المعلوم عند علماء النفس، وعلماء التاريخ أن من كان قوي الاستعداد للحفظ يزداد في الشباب قوة باستعمال استعداده، كما يُعلم من تراجم حفاظ الحديث، ولما حفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة من سماعها مرة واحدة كان كهلاً لا شابًّا ولا طفلاً (1)، وعَجِب ممن عَجِبَ مِن ذلك فقال:(وهل يسمع الإنسان شيئًا ولا يحفظه؟) وأملى الحافظ ابن حجر ألف درس من حفظه وكان كهلاً (2) ، ومن المعلوم أيضًا أن ملكة الحفظ في العرب كانت قوية جدًّا لاعتمادهم عليها، وكذلك كانت عند غيرهم من الأمم قبل تعلم الكتابة والاعتماد عليها في حفظ العلم، ففي تاريخ اليونان القديم أن عقلاءهم اعترضوا على اقتباسهم فن الكتابة من المصريين بأن الاعتماد عليها يضعف ملكة الحفظ.
4 -
ما جعل الله لرجل من قلبين، وزيادة بعض القوى يقابلها نقض غيرها فمن كان أكثر حفظًا للنصوص الشرعية كالقرآن
(1) أخرجه المعافي بن زكريا في الجليس الصالح الكافي (4 / 184 وما بعدها) ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (45 / 93) .
(2)
انظر: الضوء اللامع للسخاوي (ج2 ص 39 ط: الجيل) .
والحديث أو اللغة قلما يساوي في فهمها والتفقه فيها من يعنى بفهمها دون حفظها، وقد علم بالتجربة أن قوة الاستعداد للحفظ قلما تتفق مع قوة الاستعداد للفهم والحكم في المعاني، فأكثر حفاظ الحديث غير فقهاء فيه، وأكثر الفقهاء غير حفاظ له، وكذا علماء المعقول فقلما تجد في كبارهم حافظًا للحديث والآثار أو من يسمى محدثًا، وقد كان أبو حنيفة يعد أفقه أئمة المذاهب المشهورة وهو أقلهم حفظًا، وكان أحمد بن حنبل أحفظهم، وقد قال فيه الإمام ابن جرير: إنه محدِّث لا فقيه. (1)
بل يُروى أن الشافعي قال لأحمد على ما اشتهر من إجلاله له: ((إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا به، فأنتم أعلم بروايته ونحن أعلم بفقهه)) ، أو ما هذا معناه. (2)
5 -
إن فائدة حفظ النصوص تبليغها للناس، وإننا نرى المروي عن عمر من الحديث في البخاري (3) ، وفي مسند أحمد أكثر من المروي عن علي (4) ، وهو لم يرو إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وأبي بن كعب، وعلي قد روى عنه وعن أبي بكر والمقداد بن
(1) ذكر بعض من تكلم في هذه العبارة - على فرض ثبوتها - عن ابن جرير أنه لا يريد نفي كون الإمام أحمد فقيهاً وإنما يريد نفي كونه فقهياً متبوعاً ، فابن جرير ولد سنة (224 هـ) في حياة الإمام أحمد المتوفى سنة (241 هـ) ثم توفي ابن جرير سنة (310 هـ) ومذهب الإمام أحمد لم يتكون إقراء فروعه في هذه الفترة ، فكان في طور رواية تلامذته له ، وجمع الخلال له ، المتوفى سنة (311 هـ) أي بعد ابن جرير بعام واحد ، وأول مختصر في فقهه كان من تأليفه الخرقي المتوفى سنة (334 هـ) فصار بدءُ إقرائه في الكتاتيب كما في تلقن القاضي أبي يعلى له ، وعلى يد أبي يعلى المتوفى سنة 458 هـ) الذي تولى القضاء وشيخه الحسن بن حامد المتفى سنة (403 هـ) بدأ ظهور المذهب ، وتكونه ، وتكاثر أتباعه ، والاشتغال في تهذيبه ، وتدوين المتون والأصول ، وكل هذا بعد وفاة ابن جرير بزمن كما هو ظاهر. انظر: المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل للعلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله 1/361-368.
(2)
لم أقف على ما معناه أن الشافعي قال عن نفسه: ((ونحن أعلم بفقهه)) وإنما المشهور عنه الجزء الأول من العبارة التي نقلها المؤلف وهي: ((إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا به)) انظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي (2 / 454 رقم: 3436) ، سير أعلام النبلاء (11 / 213) ، تاريخ دمشق (51 / 385) .
(3)
هذا الإطلاق فيه نظر؛ فإن روايات علي بن أبي طالب رضي الله عنه في البخاري مع المكرر 98 حديثاً، وغير المكرر 34 حديثاً تقريباً.
(4)
هذا الإطلاق فيه نظر أيضاً؛ فإن مجموع المروي عن علي رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد - حسب إحصاء شخصي قمت به - يبلغ 818 حديثاً تقريباً بالمكرر والضعيف، وتبدأ من (1 / 75 إلى 1 / 160 ط: الميمنية) ، وأما مجموع أحاديث عمر رضي الله عنه بالمكرر والضعيف أيضاً - فإنها تبلغ 317 حديثاً تقريباً وتبدأ من (1 / 14 وإلى 1 / 56 ط: الميمنية)
الأسود رضي الله عنهم، وكذا عن فاطمة عليها السلام، والمروي عن أبي هريرة الذي أسلم في السنة السادسة من الهجرة أكثر مما روي عن الخلفاء الأربعة، وعن العبادلة الذين هم أكثر رواية من الخلفاء؛ ولكنهم يلونهم في فقه الدين وحكمه، وكان أبو هريرة دون كل واحد منهم في علوم الإسلام الإلهية والشرعية.
فقول هذا السيد في براهينه القطعية عنده: (فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم حافظة (1)) غير صحيح وإلا لكان أبو هريرة أعلم الصحابة على الإطلاق، ثم إنه معارض ببرهانه القطعي الآخر أن المتأخر في الزمن في التلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ شأو المتقدم، ثم إن كون علي أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة لا دليل عليه من عقل ولا من نقل؛ لأن مثله لا يثبت إلا بامتحان استقرائي تام، وهو لم يقع تامًّا ولا ناقصًا، وإن كان في نفسه غير كثير عليه.
ومن غرائب براهينه القطعية الخاصة بمنطقه: استدلاله بذاكرته
(1) هذا مع الأخذ بالاعتبار أن الشيعة الإثنا عشرية غير قادرين على الإتيان برواية واحدة صحيحة متصلة الإسناد إلى علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغ مجموع الأحاديث المروية عن علي رضي الله عنه في الكتب الأربعة عند الشيعة (690) حديثاً فقط.
وذاكرة بعض معارفه؛ إذ قال: إنه لم يكن ينسى في شبيبته شيئًا مما سمعه أو قرأه، وكان يتعجب ممن ينسى، وبعد بلوغه الثلاثين انقلب الأمر وانعكس، وأصبح يتعجب ممن يحفظ ولا ينسى، وأنه ما شكا هذا الداء لأحد إلا وشكا له مثله!!
فكأنه هو وأصحابه الذين شكا لهم حاله حجة الله القطعية على البشرية والمعيار لنابغي العلماء والحفاظ، ومثل عمر بن الخطاب.
وأنا أقول له: إنني بعد بلوغي الستين لم أنس شيئًا مما سمعته وقرأته، إلا الأمور التافهة التي لا ألقي لها بالاً، ولا أحب أن أحفظها، ولا أن أعيدها إذا ذكرتها؛ ولكنني منذ الصغر قليل الحفظ لأسماء الأعلام والأرقام واستحضار ما لم يتكرر على ذهني منها، وقوي الحفظ سريع الاستحضار للمسائل العلمية ولا سيما المعقولة منها، ومن عادتي أنني إذا ألقيت خطبة أو محاضرة أو سمعتها من غيري ونويت أن أعيدها أو أكتبها فإنني أعيدها بما يقرب من ألفاظها وبتحديد معانيها، وإذا لم أنو ذلك فإنني أتذكرها بعد ذلك بالإجمال لا بالتفصيل.
مثال ذلك بعض الخطب التي ألقيتها في سورية سنة
الدستور، وبعض الخطب التي ألقيتها في الهند؛ فإنني كتبتها للمنار بعد إلقائها في مدد قصيرة أو طويلة، ورأيت الذين سمعوها يقولون إنني لم أترك مما قلته شيئًا، ومنها الخطبة التي ارتجلتها في مدرسة عليكرة الإسلامية الجامعة في الهند وموضوعها التربية وأنواعها وفلسفتها، اقتُرحتْ عليَّ عند عقد الحفلة التي أقامها طلاب المدرسة لي، ثم اقتُرح علي بعد الاحتفال أن أكتبها فلم أجد فرصة لذلك مدة مكثي في الهند؛ ولكنني كتبتها في مسقط وأرسلتها إلى عمدة المدرسة، وكانوا قد كتبوا كل ما وعوه منها بطريقة الاختزال فلما وصل إليهم ما كتبته وجدوه أوفى وأضبط مما كتبوا، ولقد رويت عن شيخنا الأستاذ الإمام في تاريخي له أمورًا كثيرة سمعتها أو حضرتها بعد الثلاثين ودونتها بعد الستين، ونشرت له خطبًا ارتجالية في عهده لم يستدرك علي منها كلمة.
6 -
لو كان التفاضل في العلم عند الصحابة بالرواية لتنافسوا فيها ولكتب الكاتبون منهم ما سمعوه ووعوه، ولم ينقل عنهم هذا بل المنقول خلافه.
7 -
من المقرر عند العلماء أن العلوم والأعمال التي يتعدى نفعها أفضل وأكثر ثوابًا من القاصرة على صاحبها، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه بين المحدثين والمؤرخين للإسلام ودوله أن علوم عمر وأعماله كانت أنفع من علوم سائر الخلفاء في نشر الإسلام واهتداء الشعوب به وفتوحه وما اشتهر به من العدل والفضائل.
8 -
من المعلوم الذي لا مرية فيه بين الواقفين على تواريخ الأمم وسنن الاجتماع البشري أن أرقى البشر عقلاً وعلمًا نفسيًّا هم أقدرهم على سياسة الشعوب وإقامة الدول، وأن هؤلاء مفضلون على الحفَّاظ والعلماء الفنيين الذين يقومون ببعض الأعمال الجزئية في الدولة، وهذا هو العلم الذي يرجح صاحبه على من دونه فيه لتولي الحكم العام كالخلافة والملك، ومن دعائم هذا العلم معرفة استعداد الأفراد الذين يصلحون للسياسة والإدارة والقضاء وقيادة الجيوش، ومن المعلوم من التاريخ بالتواتر والعمل أن عمر رضي الله عنه كان في الذروة العليا من نابغي البشر وأفذاذ
الأمم في هذا الأمر علمًا وعملاً، يشهد له بهذا علماء هذا الشأن من جميع الشعوب، ولبعض علماء أوربة وفلاسفتهم أقوال في ذلك مشهورة ومدونة. (1)
فلو كان العلم الذي يفضل صاحبه على غيره في الخلافة وإدارة سياسة الأمة هو كثرة الحفظ للأحاديث وضبط الروايات لكان أبو هريرة وأنس بن مالك أول من ولاهم الخلفاء الراشدون ولا سيما عمر على الأمصار، ولو كان الذي يصلح لذلك أصحاب المبالغة في الزهد والعبادة لكان أبو ذر وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري مقدمين على غيرهم للولاية والسياسة وإدارة أمور الشعوب.
وجملة القول في براهين السيد عبد الحسين نور الدين العقلية: إنها ليس فيها قياس منطقي مؤلف من مقدمات يقينية تصلح لتأليف برهان عقلي؛ وإنما جاء بروايات نقلية لا يمكنه إثباتها كلها؛ وإنما بعضها صحيح كتقدم إسلام علي على إسلام عمر، وهو لا يدل على ما استدل به عليه، وبعضها لا يصح، وهو على فرض صحته لا ينتج مع غيره ما فهمه منه بطريقة القياس البرهاني لما بيناه من
(1) تقول دائرة المعارف البريطانية: ((كان عمر حاكماً عاقلاً، بعيد النظر، وقد أدى للإسلام خدمة عظيمة)) ، ويقول الأستاذ واشنجتون إيرفنج في كتابه "محمد وخلفاؤه" ص 65:((إن حياة عمر من أولها إلى أخرها تدل على أنه كان رجلاً ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الإمبراطورية الإسلامية، ونفَّذ رغبات النبيِّ صلى الله عليه وسلم وثبتها بنصائحه أثناء خلافته القصيرة. ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلاد التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم لأظهر دليل على كفاءته الخارقة للحكم، وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأُبَّهة والترف مقتدياً بالنبي وأبي بكر، وقد سار على أثرهما في كتبه للقواد)) .
كما أن مايكل هارت - وهو عالم فلكي شهير - ذكر عمر رضي الله عنه ضمن أعظم مائة شخصية في التاريخ وكان من أقواله عنه رضي الله عنه " ص 209 - 211 ": ((وقد كان عمر خليفة حكيماً وسياسياً بارعاً. . وما أنجزه عمر بن الخطاب شيء باهر ، فبعد وفاة الرسول كان عمر هو الشخصية التي نشرت الإسلام)) ، ومما قاله الأستاذ مويرفي كتابه "تاريخ الخلافة الإسلامية " ص 62 ما ترجمته: ((كانت البساطة والقيام بالواجب من أَهَمِّ مبادئِ عمر، وأظهرُ ما اتصفت به إداراته عدمُ التحيُّز، والتعبدُ، وكان يقدر المسؤولية حق قدرها
…
وكان شعوره بالعدل قوياً، وكانت له أعمال سجلت له شفقة، من ذلك شفقته على الأرامل والأيتام)) .
وقد أُفْرِدَ هذا الموضوع المهم بمؤلَّفٍ بعنوان: "مناهج المستشرقين في كتاباتهم عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في دائرة المعارف الإسلامية، دراسة تحليلية نقدية " وهي من إعداد: محمد عامر عبد الحميد مظاهري، وهي عبارة عن رسالة دكتوراه في كلية الدعوة بالمدينة النبوية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً والتابعة لجامعة طيبة حالياً، ولم أقف عليها مطبوعة إلا ن لها نسخة في مكتبة الملك فهد الوطنية.
الحقائق الفلسفية والتاريخية.
على أننا نقول: إن كلاًّ من عمر وعلي رضي الله عنهما من أفراد البشر الممتازين بالعبقرية العليا، فعمر جدير بأن يفهم في الزمن القصير من القرآن والسنة ما لم يفهمه غيره في الزمن الطويل، وهو الذي شهد له الرسول بأنه من المحدَّثين (بفتح الدال المشددة) أي الملهمين المفهَّمين من الله تعالى (1) ، وبأن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وهو هو الذي نزل القرآن مرارًا موافقًا لرأيه وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:(لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه أحمد [4 / 154] ، والترمذي [3686] وحسنه، والحاكم وصححه [3 / 85] وأقره الذهبي (2)
، وكان في شبابه صاحب سفارة قريش وعمدتهم في المفاخرة والمنافرة (3) ، فلولا أنه من أحفظهم وأفصحهم وأقواهم حجة لما ولّوه ذلك، فإذا كان قد سبقه أربعون رجلاً إلى الإسلام فلا يمكن لمن يفضل عليًّا وأبا بكر عليه في علمهما أن يفضل عليه باقي الأربعين، والتفاضل بين الثلاثة أنفسهم لا يسهل أن يثبت بقياس برهاني؛ وإنما الدلائل القطعية في فضائل عمر وعلي هي ما ثبت بالتواتر من سيرتهما العملية التي لا تحتمل التأويل.
(1) ومع هذا فالصِّدِّيق أكمل منه؛ فإن الصديق رضي الله عنه لا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم والمحدث كعمر يأخذ أحيانا عن قلبه ما يلهمه ويحدث به، لكن قلبه ليس معصوما فعليه أن يعرض ما ألقي عليه على ما جاء به الرسول، فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده؛ ولهذا قد رجع عمر عن أشياء وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه، والصديق إنما يتلقى عن الرسول لا عن قلبه فهو أكمل من المحدث، وليس بعد أبي بكر صديق أفضل منه ولا بعد عمر محدث أفضل منه. انظر: الرد على المنطقيين (ص 514 ط: المعرفة) .
(2)
والظاهر أن الصواب ضعف الحديث؛ ففيه مشرح بن هاعان وقد قال عنه ابن حبان في " المجروحين "(3/28) : ((يروي عن عقبة بن عامر أحاديث مناكير، لا يتابع عليها، والصواب في أمره: ترك ما انفرد من الروايات، والاعتبار بما وافق الثقات)) ، وهذا الحديث مما انفرد به مشرح عن عقبة رضي الله عنه، وأما متابعة يحيى بن كثير الناجي، عن ابن لهيعة، عن أبي عشانة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه فإنها متابعة ضعيفة وقد اضطرب فيها راويها حيث رواها تارةً عن مشرح وتارة عن أبي عشانة، كما أن الإمام أحمد قد سئل عن هذا الحديث، فقال كما في منتخب العلل:((اضرب عليه؛ فإنه عندي منكر)) .
(3)
انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3 / 1145) ، تاريخ ابن عساكر (44 / 258 - 259) ، تهذيب الكمال للمزي (21 / 322)
دلائل مُناظرنا النقلية:
إن ما ذكره السيد عبد الحسين نور الدين من الروايات النقلية التي بنى عليها استدلاله تدل على أنه لا يوثق بنقله وإن عين مواضعه بالأرقام، ولا بتمييزه بين ما يصح من الروايات وما لا يصح، ولا بفهمه لما ينقله، وهاك البيان مختصرًا:
1 -
ما نقله عن مختصر كنز العمال من هامش ص 43 من مسند الإمام أحمد وقد أنكره عليه السائح العربي؛ وإنما هو في ص 46 منه ج 5 وهو روايتان:
إحداهما عن علي ولم ينقلها ولفظها: (كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وإذا سكتُّ ابتدأني) وهذه أخرجها ابن أبي شيبة والترمذي من طريق عبد الله بن هند وهو المرادي الجملي الكوفي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأقول: إن عبد الله بن هند لم يثبت سماعه عن علي وهو صدوق.
والثانية التي نقلها وهي: عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب أنه قيل لعلي: ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا؟ فقال: (إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ
ابتدأني) رواه ابن سعد اهـ.
ومحمد بن عمر هذا لم يسمع من جده علي ولم يذكر من حدَّثه عنه، وفي روايته من جهة المتن أنه لم يثبت أن عليًّا كرم الله وجهه كان أكثر الصحابة حديثًا أيضًا.
2 -
ما نقله عن ص273 ج 3 من طبقات ابن سعد وهو رواية قدوم أبي هريرة من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم، وقد أنكره عليه السائح العربي أيضًا، وهو في ص 616 ج 3 (طبعة أوربة) (1) وهذا لفظه: أخبرنا يزيد بن هارون نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قدم على عمر من البحرين (قال أبو هريرة: فلقيته في صلاة العشاء الآخرة فسلمت عليه فسألني عن الناس ثم قال لي: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: هل تدري ما تقول؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، قال: إنك ناعس فارجع إلى أهلك فنم فإذا أصبحت فائتني، فقال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت:
جئت بخمسمائة ألف درهم، قال عمر: أطيب؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك، فقال للناس: إنه قدم
(1) ما يورده الشيخ المؤلف رحمه الله هنا مختلف لفظاً ومعنىً عما أورده عبد الحسين فيما سبق.
عليكم مال كثير، فإن شئتم أن نعد لكم عددًا وإن شئتم أن نكيله لكم كيلاً؟ ثم ذكر مسألة إنشائه الديوان) .
أقول: أولاً: إن السيد نور الدين لعدم وقوفه على علوم الحديث ومصطلحات أهلها، يقول إذا نقل شيئًا عن كتاب: إن صاحبه موثق عند إخواننا، كما قال في ابن سعد، وإذا كان ابن سعد ثقة فلا يقتضي أن يكون كل ما يرويه صحيحًا، فهو يروي غير الصحيح كغيره من المحدثين، وعذره أنه يذكر السند الذي هو العمدة في تمييز الصحيح من غيره، وقد قال هو نفسه في محمد بن عمرو (1) راوي هذا الحديث:
كان كثير الحديث يستضعف، وقال فيه يحيى بن معين: ما زال الناس يتقون حديثه، قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته، ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة. (2) اهـ. أي مثل هذه الرواية.
ثانياً: إن هذه الرواية ليس فيها أدنى مطعن على علم عمر رضي الله عنه، ولا على فهمه، بل كل ما فيها أنه استكثر هذا المال أن يجيء من البحرين، فظن أن أبا هريرة مخطئ في بيانه لنعاس أو
(1) هو محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي قال عنه الحافظ في التقريب: ((صدوق له أوهام)) .
(2)
انظر: (تهذيب الكمال 26 / 216)
تعب طرأ عليه، وهو معذور في استكثاره لما كانوا عليه من الضيق والعسر.
3 -
قوله: وروى أحمد في مسنده أن عمر لم يعرف حكم الشك في الصلاة، وهذا من غرائب عدم فهمه إذا كان قد رواه بالمعنى، وإلا كان افتراء على المسند؛ فإنه ليس فيه أن عمر لم يعرف حكم الشك؛ وإنما فيه [مسند أحمد: 1 / 190 ط: الميمنية] عن محمد بن إسحاق عن مكحول عن كريب عن ابن عباس أنه قال له عمر: يا غلام، هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما؟ فقال عمر: سألت هذا الغلام.. . إلخ، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين، وإذا لم يدر صلى ثلاثًا أم أربعًا فليجعلها ثلاثًا ثم يسجدْ إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن يسلم) .
وأقول أولاً: إن السؤال لا يكون دائمًا عن جهل بالمسئول
عنه، بل قد يكون امتحانًا، وقد يكون للتثبت في رواية مختلف فيها أو متهم راويها، وفي سجود السهو عدة روايات مختلفة.
وثانيًا: إن هذا الحديث غير صحيح؛ فإنه رواية ابن إسحاق عن كريب وهو مدلس، وقد عنعن فلا تُقبل روايته، ومكحول رواه له مرسلاً، قال ابن إسحاق: فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا؛ لكنه حدثني أن كريبًا حدَّثه به. وحسين ضعيف جدًّا (1)، وقال ابن أبي خيثمة: سمعت هارون بن معروف يقول: إن مكحولاً لم يسمع من كريب اهـ. ولكن ذكر في التهذيب (2) أنه سمع منه، والله أعلم.
فهذه أمثلة للروايات التي يعتمد عليها هذا المناظر في الطعن في علم عمر بن الخطاب مما ينقله عن المحدثين، فما قولك بما ينقله عن كتاب الأغاني وابن أبي الحديد؟
وإني لأراه وأمثاله ممن يبحثون في الكتب عن شيء فيه طعن ما على من لهم هوى في نقل الطعن فيه من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه كدعاة النصرانية (المبشرين) إذ ينظرون في
(1) انظر: تهذيب الكمال (6 / 384)
(2)
عبارة هارون بن معروف في تهذيب التهذيب (10 / 360) ولم أقف في المصدر على من ذكر أن مكحولاً سمع من كريب.
القرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير يتلمسون كلمة يمكن الطعن فيها أو اتخاذها حجة على الإسلام والمسلمين ولو بالتحريف، فينقلونها ويعتمدون عليها في تشكيك عوام المسلمين في دينهم، وإلا فما باله يختار من مسند أحمد ما نقله كما فهمه لا كما وجده، ولم يعتبر بما رواه أحمد فيه من طرق كثيرة عن علي أنه قال:(خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) ومنها أنه قال ذلك وهو على المنبر، ومنها أنه قاله لمن سأله ومنهم أبو جحيفة من جماعته ومفضليه على غيره.
هذا ومناظرنا يوجه هذا إلى صاحب المنار المشهور بالاشتغال بعلوم الحديث ونقد الروايات؛ وإنما يوجهه إليه لأجل المناظرة فيه، فلولا أنه مصدق لهذه الروايات وواثق بفهمه لها مع إقراره بضعف ذاكرته، لما جعلها من موضوع مناظرته معه.
أكتفي بهذه المباحث في تفنيد براهين الأستاذ عبد الحسين العقلية والنقلية ليعتبر به هو ومن يغره كلامه، ويعلم أن مثل هذا الذي جاء به لا يوصِّل إلى الغاية التي طلب المناظرة لأجلها،
لعله يحاسب نفسه، ولا يجعل شعوره الخيالي وغلوه الوجداني حججًا علمية وبراهين عقلية يحاول بها تحويل أهل السنة كلهم عن مذهبهم إلى مذهبه، فيجمع به كلمة المسلمين بوهمه، أما المناظرة العلمية في مسائل الخلاف فطريقها الوحيد أن تحرر مسائل الخلاف الأساسية تحريرًا يمضيه أشهر علماء الشيعة في سورية والنجف، وأما الاتفاق بدون مناظرة فهو ما سنبينه في جزء آخر، لعله الذي يلي هذا.