الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* * *
كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب
في الإنكار على السيد عبد الحسين نور الدين
سيدي الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا المبجل:
بعد التحية: لا شك أن حضرتكم تعرفون ما يوجبه الدين، ويُحتِّمه الوجدان، والحق على كل منا في مثل هذا اليوم العصيب، وقد أثر المقال الذي نشرتموه في مجلتكم الغراء بإمضاء السيد عبد الحسين نور الدين العاملي فيَّ تأثيرًا اضطرني إلى تحرير كلمة حول الموضوع رغم العناء ومشقات السفر، وإني لأنتظر أن يسارع إخواني وأساتذتي إلى نشر حقيقة هذا الرجل وصده فيما بعد عن الخوض في مثل موضوعه ذاك المتطرف، وأملي الوحيد أن تسارعوا في نشر ما تجدونه طيبًا، وأشكركم من صميم قلبي، وأقدر أعمالكم ودعاياتكم الإصلاحية بكل عواطفي، وتقبلوا مزيد تقدير مخلصكم واحترامه.
…
...
…
...
…
...
…
... المخلص السائح العربي
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الهادي آل الجواهري
* * *
نظرة حول مناظرة:
لقد كان من الصعب عليَّ وأنا بين عوامل لا تسمح لي أن أخوض في بحث كهذا لكثرة انشغالي وتشويش بالي من كثرة الأسفار وفراق الأوطان وتعدد المصائب والأحزان.
تكاثرت الظباء على خراش
…
فما يدري خراش ما يصيد
نعم والله، تكاثرت وتعدد المؤثرات المحزنة المشجية، وقد كان الأجدر والأليق بإخواني الذين أعهد فيهم الغيرة والحمية من أبناء العروبة والإسلام، والأساتذة الذين وقفوا أقلامهم لمكافحة الحشرات التي نخرت عظامنا وأنهكت قوانا، ومقاومة تلك الدعايات التي يقوم بها بعض أولئك المأجورين باسم الدين والمذهب، وأن يتصدوا للطم أولئك الأوغاد الذين ينتهزون الفرص لوصمنا بوحدتنا في الصميم وليتصيدوا بالماء العكر، أولئك الذين لم يجدوا لهم موردًا شريفًا في هذا المجتمع يسدون به طمعهم ويملؤون به جيوبهم وعيابهم إلا إثارة العواطف المذهبية والنزعات الطائفية
يغرون بها البسطاء الجهلة ممن لم يعرفوا للدين معنى وللشريعة قيمة.
من الأسف - وليس يجدي نفعًا - أن نجد بعض أولئك المتزعمين باسم الدين يستغلون - ومن دون غيرهم - التهويش باسم الدين، ويحتكرون سمعته لأغراضهم وأطماعهم، فإذا ما وجدوا مجالاً ليمثلوا دورهم على مرسح المذهبية أخذوا يعرضون (فلم) روايتهم المشؤومة المحزنة على رؤوس بعض السذاج البسطاء والسوقة.
باسم الدين تزعم بعضهم ويا حبذا لو قام ببعض ما تقتضيه هذه المهمة (ولو كانت مدعاة) من عظيم الأعمال، فينتهز الفرصة ويبرهن على أهليته وكفاءته لهذا المنصب الجليل المهم فيؤلفوا بين النزعات ويوحدوا القلوب والغايات، ويظهروا مزايا الدين وينشروا محاسنه ليجلبوا إليه الأنظار ويحببوه في عين الأجنبي، لا أن يجعلوه واسطة للتنافر والتعادي ويظهروه بأسوأ مظهر وأخزى منظر، كي ينفر منه البعيد الأجنبي الذي يمسي، وهو لا يعرف منه إلا أنه دين أحزاب وخراب، وتنافر
وبغضاء وشقاء، على لسان من يدعون الزعامة الدينية في الجرائد والمجلات؟
أليس كذلك أيها القارئ؟ أليس أن مجلاتنا وصحفنا نراها طافحة بالسباب وشتم بعضنا بعضًا؟ وما كفانا ذلك حتى أخذنا نتحرش ونتجاسر حتى على أولئك المقبورين المدفونين منذ ألف وثلاثمائة سنة (1)
، ألسنا وقد خصصنا أوقاتنا وأوقفنا أقلامنا، وبذلنا دراهمنا، وأشغلنا مطابعنا، وأنهكنا أفكارنا وأدمغتنا، وسهرنا الليالي والأيام، لنخلق لنا هذه المشاكل المذهبية ولنجعل لنا عقبة لن تذلل؟ ألسنا ونحن أصبحنا بفضل هذه كلها في مؤخرة العالم والمجتمع وعبيدًا للأجانب يفترس بعضنا الآخر، وكل ذلك في مصلحة الأجنبي الغربي.
أليس نظرة واحدة إلى ماضينا المجيد حين كنا تحت راية واحدة، وقد ملكنا زمام أكثر العالم، وركزنا تلك الراية في قلب الغرب - تكفينا وتدلنا على الفرق بين ذلك الزمن والزمن الذي ابتدأت فيه نار الفتن الطائفية والنزعات المذهبية، وما وصلنا إليه
(1) من الطرائف المضحكة المبكية في هذا الباب ما ذكره الدكتور الشيعي علي الوردي في كتابه مهزلة العقل البشري ص246 يقول: (كنت أزور ذات مرة معامل فورد في مدينة ديترويت، ثم عَرَّجتُ بعد ذلك على زيارة الحي العربي الذي كان قريباً منها. وقد اندهشت حين وجدت نزاعاً عنيفاً ينشب بين المسلمين هناك حول عليّ وعمر، وكانت الأعصاب متوترة والضغائن منبوشة.
وكنت أتحدث مع أحد الأمريكيين حول هذا النزاع الرقيع، فسألني الأمريكي عن علي وعمر: هل هما يتنافسان الآن على رئاسة الحكومة عندكم كما تنافس ترومن وديوي عندنا؟ فقلت له: إنّ علياً وعمر كانا يعيشان في الحجاز قبل ألف وثلاث مئة سنة. وهذا النزاع الحالي يدور حول أيهما أحق بالخلافة!
فضحك الأمريكي من هذا الجواب حتى كاد يستلقي على قفاه، وضحكت معه ضحكاً فيه معنى البكاء، وشر البلية ما يُضحك!)
اليوم من حالة لا يرجى لها خير؟ أليس السبب في ذاك كله هو التخاذل والتباغض باسم السلف الصالح والإسلام، وحاشا للإسلام أن تكون هذه مبادئه، بل حاشا للسلف الصالح أن يرضى هذه الأساليب والمبتكرات، حاشا ثم حاشا، أوليس دين الإسلام هو دين التآخي والتآلف؟ دين الوحدة والوئام.
أباسم عمر وعلي نطعن هذا الدين في الصميم؟ أباسمهما نمزق أوصال هذا الدين ونشتت شمله؟ ونثلم وحدته ونضيمه؟ حاشاهما أن يعذراكم يا قوم، وأن يرضيا هذه الأفعال والأعمال، وباسمهما تتفرقون وتتشتتون؟ فاتقوا الله يا قوم فيهما.
هلموا يا قوم وأمعنوا نظركم، وتتبعوا التواريخ؛ فإنكم تجدون السبب كله في هذا التطاحن المذهبي هو تداخل الأجانب في أمورنا الدينية، وتشبثهم باسم الدين في تفريقنا وتباغضنا، والعار كل العار أن نكون وفق مشيئتهم وتحت إرادتهم، وأن نستسلم مذعنين لما يفرضونه علينا من التنابذ والتعادي.
والأسف كل الأسف أن تلعب بنا الأهواء والنزعات،
وتقودنا فئة ذات أطماع وأغراض باسم الدين والإسلام إلى المهاوي والهلكات، وهم بعيدون كل البعد - لو تحققنا - عن الإسلام ومبادئه، مأجورون بدعايتهم هذه ومستخدَمون بمبادئهم تلك.
في هذا اليوم وقد أخذ الكل يشعر بالحاجة إلى التآلف وتوحيد الصفوف أمام الاستعمار وسيله الجارف - في هذا اليوم الذي نئن فيه من انشقاقنا وانخذالنا - في هذا اليوم الذي سهل على العدو أن يمص آخر قطرة من دمائنا وينخر عظامنا، يظهر لنا حضرة السيد عبد الحسين نور الدين العاملي في النبطية بمقاله المشهور في المنار الجزء الأول من المجلد الثاني والثلاثين سنة 1350 مناظرًا فيه حضرة الأستاذ صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا يمثل الشيعة ويعبر عنهم في ذلك المقال المزيف المملوء خطأ وركة، والذي ينكره عليه الشيعة أنفسهم، والذي اعتبره حضرته أساسًا للصلح، وفاتحة لعقد التفاهم والمودة ما بين أهل السنة والشيعة.
وقد كنت أنتظر من إخواني الشيعة في العراق وسورية أن يسارعوا في احتجاجهم واستنكارهم على هذا الرجل المدعي، وأن
يعجلوا في كم فمه والضرب على يده، كي لا يعود لمثله أبدًا، ولا زلت أنتظر من الشيعة في القطرين الشقيقين أن يعلنوا استنكارهم من هذه الفئة المتعجرفة وبراءتهم من هذا الحزب المتعصب المأجور، الذي جرهم إلى الهلاك والتدهور، وأن لا يتماهل المصلحون الذين أعهد فيهم الحرص على سمعة الإسلام في تدارك ما جاء على لسان هذا الرجل، وينشروا حقيقة روح المسالمة والمودة الأكيدتين بين إخوانهم السنيين والشيعيين، ويدعوا بعضهم البعض إلى حسم هذا الخلاف وإتمام فصول هذه الرواية المحزنة، وليجعلونا نسير والكل منا ينشد:
ما مذهب السني إلا مذهب الز
…
يدي والشيعي والوهابي
الدين يبرأ من تطاحن أهله
…
والأخذ بالتهويل والإرهاب
إن الشقاء وإن تطاول عهده
…
آبت به الأيام شر مآب
ألمذهبٍ يتقاتلون وحولهم
…
إلب العداة تهم بالأسلاب
وأعود فأقول: بالرغم من شذوذ حضرة السيد عبد الحسين نور الدين عن الموضوع المتفق عليه في المناظرة، وخروجه عن الخطة
المرسومة فقد جاء في المقال ما لفظه:
((روي في كنز العمال على هامش مسند أحمد ص43 أن عليًّا سئل عن كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني)) وقد راجعنا هامش الستة مجلدات من مسند أحمد فلم نجد لذلك أثرًا. (1)
وجاء أيضًا في المقال نفسه:
((روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو محمد بن سعد في الطبقات جزء 3 صفحة 273 بإسناده عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: ألم أقل لك إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟ فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانمائة)) .
وقد راجعنا أيضًا في طبقات ابن سعد فلم نجد لذلك أثرًا. (2)
وهكذا قد لفَّق حضرته مقاله وادَّعى فيه أنه جاء يريد بذلك الاتفاق والتآخي، وهو أبعد ما يكون من روح الوفاق والوئام، لما ضمنه
(1) تقدمت الإشارة إلى هذا الأثر.
(2)
لم أقف على هذا الأثر في طبقات ابن سعد مطلقاً، وقد أورده ابن الجوزي في تاريخ عمر بن الخطاب ص 122 دون إسناد.
من جمل وكلمات لا يوافقه عليها الشيعة أنفسهم (طبعًا) وكان الأحرى بصاحب (كذا) أن ينتخب لو أراد التفاهم وإزالة الخلاف أن يختار من أولئك المصلحين القادرين الذين لا أخال حضرته يجهلهم من إخوانه الشيعة في العراق وسورية.
أما أن يتصدى السيد عبد الحسين نور الدين ويتزعم باسم الفرقة الشيعية، والذي أعرفه منه أنه لا يملك حريته الشخصية فضلاً عن الملايين، وأنه مأجور لبعض العلماء الإيرانيين في النجف، ثم يجيء حضرة الأستاذ صاحب المنار ويفتح له مجلته للنشر، فذاك أمر يزيد الطين بلة، ويوسع شُقة الخلاف، وحينئذ يتعذر على المصلحين الحقيقيين تلافي الخطر (1) .
وإني أعلم بصفتي أحد الشيعة، ومن بيت له مكانته الدينية عند الشيعة مطمئن من أن كلمتي هذه سوف ينكرها علي حضرة
(1) المنار: إنما فتحنا الباب لمناظرة علمية يقصد بها جمع الكلمة، فلما رأينا الرسالة الأولى على خلاف الشرط والقصد فوضنا أمر الحكم فيها إلى علماء الشيعة. (ر)
السيد عبد الحسين وأتباعه المأجورون؛ ولكني أعتقد أيضًا أنها سوف تلاقي استحسانًا من حضرات العلماء، والأساتذة المصلحين، ومن إخواني الشيعيين جميعًا الذين أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى التعاون والتفاهم مع إخوانهم، وأنهم ينفرون من أعمال هذه الفئة المتعصبة المعدودة، التي لا زالت تشوه سمعتنا وتسيء إلينا في الخارج، وهم غير مؤيدين من عشر الشيعة، ولم يوافقهم أحد على ما يقولون ويدعون، وأملي الأكيد أن سوف يعرف رجال الإصلاح وزعماؤه غايات أمثال السيد عبد الحسين فلا يدعوا لهم مجالاً بعد هذا لبث سمومهم القتالة، وأن يعرفوا العالم هويات هؤلاء ومرامهم، وأن بعد هذا لنا عليهم حساب {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) .
الحجاز 14 رجب سنة 1350
…
...
…
...
…
...
…
...
…
السائح العربي
…
...
…
...
…
...
…
... عبد الهادي آل الجواهري
(المنار)
إننا نشكر لهذا السائح الكريم من هذا البيت العريق غيرته الإسلامية التي لا شك في أن فوائد السياحة وعبرها تزيد في إذكاء نارها، وتألق أنوارها، وإني لأوافقه على أن دعاة
التفريق بين المسلمين بعصبية المذاهب أصحاب أهواء وطلاب مال وجاه، وأن دسائس الأجانب والمتعصبين تعبث بهم من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، وهذا مما لا يشك فيه أحد من المختبرين الواقفين على الحقائق.
وإنني على هذا العلم لأجرأ على تبرئة السيد عبد الحسين نور الدين من سوء النية، أو خدمة دسائس بعض الإيرانيين أو المستعمرين الذين يستفيدون من غلوه، ولا زال على رأيي السابق فيه وهو أنه ذو وجدان خيالي ديني مستحوذ عليه فهو يعتقد ما يقول.
* * *
الرد على السيد عبد الحسين نور الدين
لا على الشيعة في المفاضلة بين الخليفتين
لا مندوحة لي وقد نشرت هذه الرسالة على منكراتها من الرد عليها، ليرى صاحبها قيمة حججه في مسألة التفاضل بين عمر وعلي رضوان الله عليهما، وأن بعض ما سماه براهين قطعية، لا يعدو أن يكون شبهات خطابية، وتخيلات شعرية، لا يصح
في الشرع ولا العقل أن تُجعل من عقائد الدين، ويجعل الخلاف فيها سببًا للشقاق بين المسلمين، وأن من أكبر الخذلان، واتباع خطوات الشيطان، أن يجعل الخلف الطالح مسألة المفاضلة بين الخليفتين من أصول الدين (1) ، التي يُقذَف فيها المخالف بأنه (غير متبع سبيل المؤمنين) مع العلم القطعي بأن عليًّا كان وليًّا ونصيرًا وظهيرًا وقاضيًا ووزيرًا لعمر، وأنه فضله هو وأبو بكر على نفسه وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد [1/ 106، 110، 114، 127] والبخاري [3468] وغيره بالأسانيد الصحيحة.
يقابله ما علم واشتهر من تقديم عمر له في التعظيم والشورى والقضاء، ومن تفضيله على نفسه ما قاله عمر لابنه عبد الله حين عاتبه على تفضيل الحسن والحسين عليهما السلام عليه في العطاء فقال له:(ألك أب كأبيهما أو جد كجدهما؟) كما نقله الرضي في نهج البلاغة. (2)
أليس أمير المؤمنين علي عليه السلام هو القدوة الأكبر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم عند إخواننا الشيعة، فلماذا لا يتبعونه في إجلال أبي بكر وعمر وكذا عثمان لأجل جمع كلمة المسلمين، وإعلاء
(1) قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (14/241) : ((وقد أجمع علماء المسلمين أنّ الله تعالى لا يسأل عباده يوم الحساب: من أفضل عبادي؟ ولا هل فلانٌ أفضل مَنْ فلان؟ ولا ذلك مما يُسأل عنه أحدٌ في القبر، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مدح خصالاً وحمد أوصافاً، من اهتدى إليها حاز الفضائل، وبقدر ما فيه منها كان فضله في ظاهر أمرِه على من لم يَنَلها، ومن قصر عنها لم يبلغ في الفضل منزلة من ناله)) ، ولم يكن هاجس الصحابة رضي الله عنهم في زمانهم إثبات من الأفضل على الآخر.
(2)
ومن المواقف المروية عن عمر رضي الله عنه في هذا الباب أنه: عندما أراد أن يفرض للناس بعدما فتح الله عليه، وجمع الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في كتاب الخراج لأبي يوسف (ص 44 ط: المعرفة) وتاريخ ابن عساكر (14/86) فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابدأ بنفسك. فقال: لا والله، بالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بني هاشم رهطِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وألحق الحسن والحسين بفريضة أبيهما مع أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين لقرابتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في سير أعلام النبلاء للذهبي (3/285) أنّ عمر رضي الله عنه كسا أبناء الصحابة، ولم يكن في ذلك مايصلح للحسن والحسين، فبعث إلى اليمن، فأُتي بكسوة لهما فقال:((الآن طابت نفسي)) .
وهكذا كل رجل منهم كان يدفع الفضل عن نفسه، وينسبه إلى صاحبه؛ إذ كان هاجسهم العمل وخدمة هذا الدين لا المفاضلة والافتخار على بعضهم البعض، وإني أقول هذا وأنا أعلم أنّ من الناس من سيقرأ كلام المؤلف هذا غير آبه به، فالقضايا الهامشية التي ننتقد التركيز عليها وإثارتها هي أكبر قضايا الإسلام عنده!
كلمة الدين؟ وإن كان أحق بالخلافة منه عندهم، أو ليس هو وعمر عند أهل السنة في درجة واحدة من الخلافة الراشدة؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)(1) فما لنا في هذا العصر لا نقتدي بهما في الولاية والتعاون على مصلحة المسلمين، ونتسلق إلى ما لا نبلغه من التفاضل بين علميهما؟ ألا إننا سنفعل ذلك رغم أنوف المتعصبين الخياليين والمأجورين.
تفنيد ما سمَّاه البراهين القاطعة على تفضيل علي:
خلاصة براهينه أن عمر أسلم في السنة السادسة من البعثة وعمره ست وعشرون سنة، ومكث مدة ثلاث سنين لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وهي مدة حصاره في بني هاشم وبني عبد المطلب في الشِّعب.
ونتيجة هذا أنه طلب العلم في سن لم يسمع المعترض أن أحدًا طلب العلم فيها وبرع فيه، فهذا برهان عقلي على أن عمر لم يبرع في علم الإسلام اهـ (ص 66) .
وأما علي فقد ضمَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنوات، ولم
(1) أخرجه أحمد وأبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (42) وصححه الألباني.
يفارقه في طول حياته إلا في أوقات قليلة، فقد تلقى العلوم من سن الطفولة التي هي سن التحصيل، وفي الزمن الطويل، فهذا برهان عقلي على أنه فاق عمر وسائر الصحابة في علوم الإسلام كلها مع ذكائه النادر اهـ (ص 67 - 69) .
أقول:
1 -
إن العلم الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه شيء من الفنون الخاصة بالأطفال التي تؤخذ بحفظ العبارات أولاً، ثم تفهم بالتدريج البطيء الذي يراعى فيه سن الطفل ونمو مداركه؛ وإنما دعا إلى علم لا يوجه إلا إلى العقلاء المكلفين، وأوله توحيد الله تعالى والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجزاء، ثم بأصول الفضائل وعبادة الله تعالى بالصلاة والذكر والفكر، وينبوع هذا العلم كله القرآن وقد بلغ كله للجميع (1) ؛ وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم مبينًا له بسنته العملية والقولية، وكانوا يتفاضلون في العلم بفهم القرآن.
وقد سأل أبو جحيفة عليًّا عليه السلام: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن وما في هذه
(1) كما أن القرآن لم يكتمل نزوله حتى صار لعلي رضي الله عنه نحوا من ثلاثين سنة، فيكون هو أيضاً قد حفظ أكثر القرآن في كبره لا في صغره، والأنبياء - وهم أعلم الخلق - لم يبعث الله نبيا منهم إلا بعد الأربعين إلا عيسى صلى الله عليه وسلم. انظر: منهاج السنة