الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مجذوم فوضعها معه في القصعة، فقال: " كل ثقة بالله وتوكلا عليه» .
كل كلمة تدل على الجهل بالله وإساءة الأدب معه لا يحل السكوت عليها:
وقد علمنا من هذا الحديث شدة استنكار النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي قال: إنا نستشفع بك على اللَّه، ونستشفع بالله عليك، وكيف فزع لذلك، واستشعر الخشية وهيبة اللَّه، وجعل يسبح اللَّه، ويكثر من التسبيح والتنزيه، وتغيرت وجوه الناس من الهيبة والدهشة، وأوضح أن من يستشفع به على أحد يكون عادة أحط شأنا من الذي يشفع عنده، وتعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا، فلا يستشفع به عند أحد، وقد جرت
العادة أن يستشفع عند من يملك الأمر، ببعض خاصته، وأهل المنزلة عنده، فيحقق الرغبة ويعطى السؤال إرضاء لهذا الشفيع، وتشريفا لقدره، والله هو الذي يملك زمام الأمور، وغيره ضعيف عاجز، مفتقر إلى اللَّه، فكيف يستشفع به على أحد من خلقه، فجميع الأنبياء والأولياء إذا قيسوا بعظمة اللَّه وجبروته، كانوا أقل من ذرة، وإن العرش الذي أحاط بالسماوات والأرضين كالقبة، ليئط به أطيط الرحل بالراكب، فليس في طاقة مخلوق أن يشرح عظمته أو أن يتخيلها، فمن يجرؤ على أن يتدخل في مملكته، وينفذ فيها أمره، إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في ذلك إلى وزير أو مشير، يصرف أمورا لا يأتي عليها الإحصاء، ولا
يبلغها الاستقصاء، في أقل من طرفة عين، فكيف يشفع عند غيره، ومن الذي يستبد بالأمور دونه؟ .
يا للعجب إن محمدا صلى الله عليه وسلم الذي شرفه اللَّه على جميع خلقه لا يكاد يسمع من أعرابي جلف كلمة تدل على جهله بالله، وقصور عقله، أن يملأه الخوف أو المهابة، فيفيض في بيان عظمة اللَّه التي ملأت العالم من العرش إلى الفرش، وما بال أقوام طالت ألسنتهم، وحملهم الطيش والجرأة، فتشدقوا بكلام تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، وبدأوا يتكلمون عن اللَّه جلت عظمته، كأن بينه وبينهم دالة أو قرابة، فقال بعضهم: إني اشتريت ربي بدانق، ومنهم من يقول: أنا أكبر من ربي بسنتين، ويقول الثالث: إذا تجلى ربي في صورة غير صورة شيخي، لم أرفع إليه بصري، ويقول شاعر: إني أحمل قلبا قد جرح بحب محمد صلى الله عليه وسلم وعطفه، فأنا منافس لله تعالى أغار
منه على حبيبي، وقال بعضهم: قل عن اللَّه ما شئت متفننا، واذهب في الجنون مذاهب، ولكن إياك إياك أن تدخل في حمى محمد، وأن تغلب فيه على أمرك (1)، ويقول بعضهم: إن الحقيقة المحمدية أفضل من الحقيقة الإلهية، أعاذنا اللَّه عن أمثال هذه الشطحات، والافتراءات، وقد أحسن شاعر فارسي إذ قال: نسأل اللَّه التوفيق للأدب، فإن قليل الأدب بعيد
عن فضل اللَّه.
وقد اعتاد بعض الناس إذا عرضت لهم حاجة، أو ألمت بهم ملمة، أن يقرأوا ورد " يا شيخ عبد القادر جيلاني شيئا لله "(2)
(1) الأقاويل التي نقلها المؤلف، مقتبسة عن كلام الغلاة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، والتعبير عن عواطفهم، وقد اشتهر بعضها كالأمثال السائرة في الأدب الهندي والفارسي.
(2)
ذهب أكثر فقهاء المذهب ومحققو الصوفية إلى عدم إباحة هذا الورد، ولهم في ذلك مقالات وفتاوى، نقتصر هنا على ما كتبه فخر المتأخرين العلامة الشيخ عبد الحي بن عبد الحليم اللكنوي (متوفى 1304 هـ) صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة، جوابا على استفتاء ورده عن هذا الورد، يقول رحمه الله:«إن الاحتراز عن مثل هذا الورد لازم، أولا لأن هذا الورد متضمن كلمة» شيئا لله وقد حكم بعض الفقهاء بكفر من قاله، وثانيا: لأن هذا الورد يتضمن نداء الأموات من أمكنة بعيدة، لم يثبت شرعا أن الأولياء لهم قدرة على سماع النداء من أمكنة بعيدة، إنما ثبت سماع الأموات لتحية من يزور قبورهم، ومن اعتقد أن غير اللَّه سبحانه وتعالى حاضر وناظر، وعالم للخفي والجلي في كل وقت وفي كل آن، فقد أشرك، والشيخ عبد القادر وإن كانت مناقبه وفضائله قد جاوزت العد والإحصاء، إلا أنه لم يثبت أنه كان قادرا على سماع الاستغاثة والنداء من أمكنة بعيدة، وعلى إغاثة هؤلاء المستغيثين، واعتقاد أنه رحمه الله كان يعلم أحوال مريديه في كل وقت، ويسمع نداءهم، من عقائد الشرك، والله أعلم، انتهى مختصرا. (مجموع فتاوى العلامة عبد الحي اللكنوي ج 1، ص 264) وليت شعري ما ألجأ الناس إلى ذلك، والله أقرب من كل قريب، وأرحم من كل رحيم، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. والقائل: أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ. وقد جاء في وصية الإمام الشيخ عبد القادر الكيلاني نفسه، لابنه الشيخ عبد الوهاب «وكل الحوائج كلها إلى اللَّه عز وجل واطلبها منه، ولا تثق بأحد سوى اللَّه عز وجل، ولا تعتمد إلا عليه سبحانه، التوحيد، التوحيد، التوحيد. (مجالس الفتح الرباني، ص 665) . وخطبه في فتوح الغيب وفي الفتح الرباني، مليئة بهذه الوصايا والزجر والتوبيخ على الاستعانة بغير اللَّه كما مر بعض النقول.
في عدد مخصوص، ومدة مخصوصة، ودل هذا الحديث على كراهة هذا التعبير وشناعته، فإنه سؤال للشيخ عبد القادر الجيلاني، وتوسل بالله تعالى إليه، والعكس أصح، فيجوز التوسل بدعاء الشيخ إلى اللَّه، لا التوسل بالله إليه.
والحاصل أنه لا يجوز التلفظ بكلمة تشم منها رائحة الشرك، أو إساءة أدب مع اللَّه فإن اللَّه هو المتعالى، الغني، القادر، الملك الجبار، لا يبالي بأحد، إذا شاء بطش على شيء دق وصغر، وإذا شاء عفا عن كبير ولو كان مثل جبل، ولا يصح أن يتكلم الإنسان بلفظ ظاهره إساءة الأدب، وباطنه الإجلال والتعظيم، ويقول المتكلم تكلمت بالكلمة الفلانية وإنما أقصد غيرها، فإن الألغاز والمعميات لها مجالات كثيرة، وهي لا تليق بالله تعالى، ولا نعرف عاقلا يهزأ بملكه أو بأبيه، أو يستعمل معهما الصنائع البديعية، والكنايات الأدبية، التي اخترعها الأدباء، بل يكون كلامه واضحا يصدر عن وعي ويدل على أدب، إن مجال هذه الأساليب الأدبية هي مجالس الإخوان والنوادي الأدبية.