الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، أن من اتخذ وليا من دون اللَّه، وإن كان ذلك على أساس أن عبادته تقربه عند اللَّه كان مشركا بالله، كاذبا، كافرا بنعمة اللَّه.
وقال اللَّه تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 88 - 89] .
وقد تبين من هذه الآية، أن اللَّه سبحانه وتعالى لم يمنح أحدا من خلقه قدرة التصرف في العالم، وأنه لا طاقة لأحد أن يدافع عن أحد.
حقيقة شرك أهل الجاهلية وضلالهم:
وكذلك تبين أن الكفار الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا يعدلون آلهتهم بالله، ويرونهم مع اللَّه بمنزلة سواء، بل كانوا يقرون بأنهم مخلوقون وعبيد، ولم يكونوا يعتقدون أبدا أن آلهتهم لا يقلون عن اللَّه قدرة وقوة، وهم، والله في كفة واحدة، فما كان كفرهم وشركهم إلا نداءهم لألهتهم، والنذور التي كانوا ينذرون لها، والقرابين التي كانوا يقربونها بأسمائهم، واتخاذهم لهم شفعاء، ووكلاء، فمن عامل أحدا بما عامل به الكفار آلهتهم، وإن كان يقر بأنه مخلوق وعبد، كان هو وأبو جهل في الشرك بمنزلة سواء.
خلال الشرك وأعماله:
فاعلم أن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدا بالله، ويساوي بينهما، فلا فرق، بل إن حقيقة الشرك أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال (خصها اللَّه بذاته العلية، وجعلها شعارا للعبودية) ، لأحد من
الناس، كالسجود لأحد، والذبح باسمه، والنذر له، والاستغاثة به في الشدة، واعتقاد أنه حاضر ناظر في كل مكان، وإثبات قدرة التصرف له، وكل ذلك يثبت به الشرك، ويصبح الإنسان به مشركا، وإن كان يعتقد أن هذا الإنسان، أو الملك أو الجني الذي يسجد له، أو يذبح، أو ينذر له، أو يستغيث به، أقل من اللَّه شأنا، وأصغر منه مكانا، وأن اللَّه هو الخالق، وهذا عبده وخلقه، لا فرق في ذلك بين الأولياء والأنبياء، والجن والشياطين، والعفاريت، والجنيات، فمن عاملها هذه المعاملة كان مشركا، لذلك وصف اللَّه اليهود والنصارى، الذين غلوا في أحبارهم ورهبانهم، مثل ما غلا المشركون في آلهتهم بما وصف به عباد الأوثان والمشركين، وغضب على هؤلاء الغلاة المنحرفين، كما غضب على غلاة المشركين، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .
وقد ذكر أن جميع الخلق سواء كانوا علماء أو عبادا، حكاما أو ملوكا، كلهم عبيد خاضعون، عاجزون ضعفاء، لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا يملكون إذا بعثهم اللَّه وطلبهم إلا أن يقفوا أمام ربهم خاضعين مستسلمين، طائعين منقادين، يقول اللَّه تعالى في سورة مريم:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95] ، فظهر أنه هو المتصرف وحده، وأنه لا يملك أحدا غيره في ملكه،
ولا يمكنه فيه، وأن الناس يأتون ربهم فرادى لا يمنع أحد آخر، وقد تظافرت الآيات على ذلك وكثرت.
ومن تأمل في آيتين، أو ثلاث من الآيات الكثيرة التي سردناها، والتي لم يتسع المجال لذكرها، عرف الفرق بين الشرك والتوحيد، وتجلت له حقيقتهما، وقد آن الأوان لأن نذكر الخلال والأعمال التي خصصها اللَّه بذاته العلية، ولم يأذن لغيره أن يكون له نصيب منها، وهي كثيرة يطول ذكرها، ولكن لا بد أن نخص بالذكر منها ما يستطيع القارئ الفَهِمُ الذكي أن يقيس عليها، ويميز بين الحق والباطل، والهدى والضلال.
1 -
العلم المحيط الشامل من خصائص اللَّه تعالى:
وفي مقدمة هذه الأمور: أنه من شأن اللَّه وحده أن يكون ناظرا في كل مكان، يعلم ما دق وجل، وبعد أو دنا، أو خفي أو ظهر، لا تخفى عليه خافية في أي وقت، لا فرق في ذلك بين نور وظلمة، وبين سماوات وأرضين، وبين قمم الجبال، وأغوار البحار، هذا العلم المحيط الشامل لكل زمان ومكان، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة، صفة خاصة بالله تعالى، لا يشاركه فيها أحد، فمن كان يلهج باسم أحد من الخلق، ويناديه قائما وقاعدا، وعن قرب وبعد، ويستصرخه ويستغيث به عند نزول البلاء، ودفع الأعداء أو يختم ختمة باسمه، أو يراقبه، ويركز فكره عليه، ويصرف همته إليه، متمثلا صورته كأنه يشاهده، ويعتقد أنه إذا ذكر اسمه باللسان أو القلب، أو تمثل صورته، أو قبره، واستحضرهما، علم بذلك وعرفه، وأنه لا يخفى عليه من
أمره شيء، وأنه مطلع على ما ينتابه من مرض وصحة، وعسر ويسر، وموت وحياة، وحزن وسرور، ولا يتفوه بشيء من كلام، وتنطق به شفتاه، ولا يساوره هم من الهموم، ولا يجول بخاطره معنى، إلا وعلم ذلك، واطلع عليه، كان بذلك مشركا، وكل ذلك يدخل في الشرك.
ويسمى هذا النوع " الإشراك في العلم "، وهو إثبات صفة العلم المحيط لغير اللَّه، وإن كان هذا الإثبات لنبي أو ولي، أو شيخ أو شهيد، أو إمام (1) ، أو سليل إمام، أو عفريت أو جنية (سواء اعتقد أنه يعلم من ذاته، أو أن علمه منحة من اللَّه، وعطاء منه) وقد استقل بهذا العلم، وأصبح له صفة لا تنفك عنه، كل ذلك شرك.
2 -
التصرف المطلق من خصائص اللَّه تعالى:
والأمر الثاني: يجب أن يعتقد الإنسان، أن التصرف في العالم بالإرادة، وإصدار الأمر والنهي، والإماتة والإحياء كما يشاء، والبسط والقبض في الرزق، والإفاضة بالصحة والمرض، والفتح والهزيمة، وتسخير القضاء والقدر، وإنجاح المطالب وتحقيق الأماني، ودفع البلايا، والإغاثة في الشدائد، وإلهاف الملهوف، وإنهاض العاثر، هذه كلها من خصائص اللَّه تعالى، لا يشاركه فيها أحد من الأنبياء والأولياء، والشهداء والصالحين، والعفاريت والجنيات، فمن أثبت هذا التصرف المطلق لأحد منهم، وطلب منه حاجاته، وقرب القرابين والنذر لأجل ذلك، أو استصرخه في نازلة، كان مشركا، ويقال لهذا النوع " الإشراك في التصرف " سواء
(1) يعني أئمة أهل البيت.
اعتقد أنهم يقدرون على ذلك بأنفسهم، أو اعتقد أن اللَّه سبحانه وتعالى وهبهم هذه القدرة، وخلع عليهم هذه الكرامة.
3 -
أعمال العبادة وشعائرها، خاصة بالله تعالى:
والأمر الثالث: أن اللَّه سبحانه وتعالى خصص بعض أعمال التعظيم لنفسه، وهي التي تسمى " عبادة " كالسجود والركوع، والوقوف بخشوع، وتواضع (مثلا يضع يده اليمنى على اليسرى (1) وإنفاق المال باسم من يعتقد فيه الصلاح أو العظمة، والصوم له، وقصد قبره من أنحاء بعيدة، وشد الرحل إليه بوجه يعرف كل من رآه أنه يؤم قبره حاجا زائرا، والهتاف باسمه في الطريق كالتلبية، والتجنب من الرفث والفسوق، والقنص وصيد الحيوانات، ويمضي بهذه الآداب والقيود، ويطوف بالقبر ويسجد إليه، ويسوق الهدي إليه، وينذر النذور هناك، ويكسو ذلك القبر، كما تكسى الكعبة، والوقوف على عتبته، والإقبال على الدعاء والاستغاثة، والسؤال لتحقيق مطالب الدنيا والآخرة، وبلوغ الأماني، وتقبيل حجر من أحجار هذا القبر والالتزام بجداره، والتمسك بأستاره، وإنارة السرج والمصابيح حوله تعظيما وتعبدا، والاشتغال بسدانته، والقيام بجميع الأعمال التي يقوم بها السدنة من كنس وإنارة، وفرش وسقاية، وتهيئة أسباب الوضوء والغسل، وشرب ماء بئره تبركا، وصبه على الجسم، وتوزيعه على الناس، وحمله إلى من لم يحضر، واحترام الغابة التي تحيط به، والتأدب معها،
فلا يقتل صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها، ولا يرعى ماشية في حماها.
(1) كما كان يقف العبيد بين يدي سادتهم في مجالس الملوك في بلاد العجم.
كل هذه الأعمال علمها رب العالمين عباده، وأفردها لنفسه، فمن أتى بها لشيخ طريقة، أو نبي، أو جني، أو لقبر فحقق، أو مزور، أو لنصب، أو لمكان عبادة، وعكف فيها أحد الصالحين على العبادة والذكر والرياضة، أو لبيت أو لقبر، أو لأثر من آثار أحد الصالحين، يتبرك به، أو شعار يعرف به، أو يسجد لتابوت أو يركع له، أو يصوم باسمه (1) أو يقف أمامه خاشعا متواضعا، واضعا إحدى يديه على الأخرى، أو يقرب له حيوانا، أو يؤم بيتا [أو قبرا] ، من هذه البيوت [أو القبور] من بعيد، فيشد إليه الرحل، أو يوقد السرج فيه تعظيما وتعبدا، أو يكسوه بكسوة (كما تكسى الكعبة) أو يضع على ضريح ستورا (2) ، أو يغرز علما، أو عودا باسمه (3) ، وإذا رجع رجع على
(1) يظهر أن بدعة الصوم بأسماء الصالحين والصالحات من الأمة، قد ظهرت في العصر القديم في الهند، وقد يكون الصوم لشخصيات خيالية لا وجود لها، ولهذا الصوم أحكام وآداب في النية والإفطار؟ وأيام محدودة، ويطلب قضاء الحاجات من أولئك الذين يصام باسمهم، والاستعانة بهم، وقد شنع على ذلك الإمام الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي (المتوفى 1034 هـ) في رسالة له إلى إحدى الصالحات من أتباعه، وعده إشراكا في العبادة. (رسالة رقم 3 / 41 رسائل الإمام أحمد بن عبد الأحد) .
(2)
اعتاد الغلاة في تعظيم الأموات والقبور أن يكسوا ضرائح الأولياء والصالحين بالستور والثياب، ويعاملونها معاملة الأحياء من المشايخ والعظماء. وقد ظهرت هذه البدعة في بعض البلاد العربية، يقول الشيخ علي محفوظ في كتابه «الإبداع في مضار الابتداع» :«ومن البدع الستور التي توضع على الأضرحة ويتنافس فيها» ، إلى أن قال:«ولكن خدمة الأضرحة سول لهم الشيطان ذلك، ليفتح لهم بابا من الارتزاق الخبيث، فتراهم إذا احتاجوا لتجديد ثوب التابوت لكل عام، أو إذا بلي، يوهمون العوام أن بها من البركة ما لا يحاط به، وإنها نافعة في الشفاء من الأمراض، ودفع الحساد وجلب الأرزاق والسلامة من كل المكاره، والأمن عن جميع المخاوف، فتهافت عليها البسطاء، وهان عليهم بذل الأموال في الحصول على اليسير منها» . (الإبداع ص 97 - 97) .
(3)
وهي من عادات الغلاة والجهال في الهند.