الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
440 هـ). والظاهر أنه في هذه الفترة عكف على تأليف كتابه "تاريخ بغداد" وما يحتاجه من تفرغ وانقطاع عن الحياة العامّة بقدر.
ولا تَذْكُرُ المصادر التي ترجمت له عن هذه الفترة إلَّا النَّزْرَ اليسير. وممَّا ذَكَرَتْهُ: أنّه التقى بـ (إسماعيل بن أحمد الضَّرِير الحِيْري النَّيْسَابُوري) عندما ورد بغداد قاصدًا مكَّة المكرّمة للحجِّ والمُجَاوَرَة سنة (423 هـ)، فطلب إليه الخطيب أن يقرأ عليه صحيح الإمام البخاري، وكان إسناده فيه عاليًا، فأجابه إلى ذلك، فقرأه عليه جميعه في ثلاثة مجالس، اثنان منها في ليلتين من وقت صلاة المغرب إلى صلاة الفجر، والثالث: من ضحوة النهار إلى المغرب
(1)
.
وممّا ذَكَرَتْهُ أَنَّه في عام (428 هـ) أَمَّ النَّاس في الصَّلاة على القاضي محمد بن أحمد الهاشمي -وكان أحد فقهاء الحنابلة المصفِّين الثقات- وكان الجمع وافرًا جدًّا
(2)
.
وهذا يدلُّ على مكانة الحافظ الخطيب ومنزلته في المجتمع في عاصمة الخلافة وهو ابن (36) عامًا.
رحلته إلى الشَّام والحجِّ:
" زار الخطيب دمشق مرارًا، وقد سَجَّلَ وجوده فيها سنة (440 هـ)، ومرَّ بها ثانيةً عند سفره إلى الحجّ سنة (444 هـ)، حيث ذكر وجوده في برية السماوة قاصدًا دمشق في طريقه إلى الحجِّ في شهر رمضان سنة (445 هـ) "
(3)
.
قال الإِمام السُّبْكي
(4)
: "وقَدِمَ دمشق سنة خمس وأربعين حَاجًّا، فسمع خَلْقًا كثيرًا، وتوجه إلى الحجّ".
(1)
"تاريخ بغداد"(6/ 314). وقد علَّق الحافظ الذَّهبِيّ على ذلك في "سِيَر أعلام النبلاء"(18/ 280) فقال: "هذه واللَّه القراءة التي لم يُسْمَعْ قَطُّ بأسرع منها".
(2)
"تاريخ بغداد"(1/ 354).
(3)
"موارد الخطيب البغدادي" ص 43.
(4)
في "طبقات الشافعية الكبرى"(4/ 29).
وكان في مكّة المكرمة في ذي الحجّة عام (445 هـ)
(1)
والتقى في رحلته هذه إلى مكة بعدد من الشيوخ، منهم: أبو عبد اللَّه محمد بن سلامة القُضَاعي، كما أنَّه سمع "صحيح البخاري" من (كريمة بنت أحمد المَرْوَزِيَّة) في خمسة أيام، وذلك لعلو إسنادها وقِدَمِ سماعها
(2)
.
قال الحافظ ابن عساكر
(3)
: "سمعت أبا عبد اللَّه الحسين بن محمد البَلْخي يحكي عن بعض شيوخه -وأظنه أبا الفضل بن خَيْزُون-: أنَّ أبا بكر الخطيب كان يذكر أنه لما حَجَّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل اللَّه عز وجل ثلاث حاجات، أخذًا بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ماءُ زَمْزَمَ لما شُرِبَ له"
(4)
.
فالحاجة الأولى: أن يحدِّث بـ (تاريخ بغداد) ببغداد.
والثانية: أن يُمْلي الحديث بجامع المنصور.
والثالثة: أن يُدْقَنَ إذا مات عند قبر بِشْر الحَافي.
(1)
"تاريخ بغداد"(6/ 139).
(2)
انظر: "المُنْتَظَم" لابن الجَوْزي (8/ 265)، و"المستفاد من ذيل تاريخ بغداد" ص 152، و"الحافظ الخطيب البغدادي" ص 43.
(3)
في "تاريخ دمشق"(2/ 14 - 15 - مخطوط-).
(4)
رواه أحمد في "المسند"(3/ 357 و 372)، وابن ماجه في المناسك، باب الشرب من زمزم (2/ 1018) رقم (3062)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 148)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(3/ 179) و (10/ 166)، عن جابر بن عبد اللَّه مرفوعًا. ورواه مطوَّلًا "الحاكم في المستدرك"(1/ 473)، والدارقطني في "سننه"(2/ 289)، عن عبد اللَّه بن عباس مرفوعًا. والحديث صحيح، وقد صحَّحه ابن عُيَيْنَة والحاكم والمُنْذري والدِّمْيَاطي والسُّيُوطي، وحَسَّنه ابن القَيِّم وابن حَجَر، وضعَّفه النووي. انظر:"المتجر الرابح" للحافظ الدِّمْيَاطي ص 317 - 318، و"زاد المَعَاد" لابن القَيِّم (4/ 392 - 393)، و"فتح الباري" في كتاب الحج باب ما جاء في زمزم (3/ 493)، و"الترغيب والترهيب"(2/ 210 - 211)، و"المقاصد الحسنة" للسَّخَاوي ص 357 - 358، و"الدُّرر المنتثرة" للسُّيُوطي ص 156 رقم (357)، و"مصباح الزجاجة" للبُوصيري (3/ 208 - 209) ـ
فلما عاد إلى بغداد، حدَّث بـ (التاريخ) بها. ووقع إليه جزء من سماع الخليفة القائم بأمر اللَّه، فحمل الجزء ومضى إلى باب حُجْرَةِ الخليفة وسأل أن يُؤْذَنَ له في قراءة الجزء. فقال الخليفة: هذا رجل كبير في الحديث، وليس له إلى السماع مني حاجة، ولعل له حاجة أراد أن يتوصل إليها بذلك، فسلوه ما حاجته؟ فَسُئل، فقال: حاجتي أن يُؤْذَنَ لي أن أُمْلِي بجامع المنصور. فتقدَّم الخليفةُ إلى نقيب النقباء بأن يؤذن له في ذلك. فحضر النقيب، وأَمْلَى الخطيب في جامع المنصور. ولمَّا مات أرادوا دفنه عند قبر بِشْر. -يجري في ذلك ما ذكر شيخنا أبو البركات إسماعيل بن أبي سعد الصوفي المعروف بـ (شيخ الشيوخ) - قال:"لمَّا توفي أبو بكر الخطيب الحافظ، أوصى أَنْ يُدْفَنَ إلى جانب بِشْرِ بن الحارث رحمه الله، وكان الموضع الذي بجانب (بِشْر) قد حَفَرَ فيه أبو بكر أحمد بن عليّ الطُّرَيْثِيثيّ قبرًا لنفسه، وكان يمضي إلى ذلك الموضع، ويختم فيه القرآن ويدعو. ومضى على ذلك عِدَّة سنين، فلمَّا مات الخطيب سألوه أن يدفنوه فامتنع. وقال: هذا قبر حفرته وختمت فيه عدَّة ختمات، لا أُمَكِّنُ أحدًا من الدَّفْنٍ فيه، وهذا ممَّا لا يتصور. فانتهى الخبر إلى والدي رحمه الله فقال له: يا شيخ، لو كان بِشْر الحافي في الأحياء ودخلت أنت والخطيب عليه أيكما كان يقعد إلى جانبه أنت أو الخطيب؟ قال: لا بل الخطيب. فقال: كذا ينبغي أن يكون في حالة الممات فإنَّه أحق به منك. فطاب قلبه، ورضي بأن يُدْفَنَ الخطيب في ذلك الموضع فَدُفِنَ فيه".
وكان الحافظ الخطيب رحمه الله على أَتَمِّ الحرص في طريقه إلى الحجِّ أن يعمر وقته بالطاعة والذكر والتلاوة والعلم؛ حيث يروي الحافظ ابن عساكر
(1)
عن أبي الفرج الإِسْفَرَايِيني قوله: "كان الشيخ أبو بكر الخطيب معنا في طريق الحجِّ، فكان يختم كل يوم ختمة إلى قرب الغياب قراءةً بترتيل، ثم يجتمع عليه النَّاس وهو راكب يقولون: حَدِّثْنَا، فيحدِّثهم".
(1)
في "تبيين كذب المفتري" ص 268.
ثم قَفَلَ راجعًا إلى بغداد سالكًا طريق الشام، مارًّا ببيت المقدس وصُور، وكان فيها (446 هـ)، والتقى فيهما ببعض الشيوخ وتحمَّل عنهم
(1)
.
ثم دخل بغداد ومكث فيها خمس سنوات، أمضاها في التصنيف والإِفادة، وصار له قُرْبٌ من رفيقه في الطلب: رئيس الرؤساء الوزير أبي القاسم عليّ بن الحسن بن المُسْلِمَة، وكان وزيرًا للخليفة العبَّاسي: القائم بأمر اللَّه.
وفي عام (447 هـ) وقعت له حادثة مهمة مع رئيس الرؤساء هذا، أخبرنا عنها ابن الجَوْزي في كتابه "المُنْتَظَم"
(2)
فقال: "ورجع -يعني الخطيب- إلى بغداد، فقرب من أبي القاسم بن المُسْلِمَة الوزير، وكان قد أظهر بعض اليهود كتابًا، وادَّعى أنَّه كتاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجِزْيَة عن أهل خَيْبَر، وفيه شهادات الصحابة، وأنَّ خَطَّ عليّ بن أبي طالب فيه. فعرضه رئيس الرؤساء ابن المُسْلِمَة على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مُزَوَّرٌ. قيل من أين لك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح، وخَيْبَر كانت في سنة سبع. وفيه شهادة سعد بن معاذ، وكان قد مات يوم الخندق
(3)
، فاستحسن ذلك منه".
وبعد هذه الواقعة، ارتفعت منزلة الحافظ الخطيب كثيرًا عند الوزير أبي القاسم بن المُسْلِمَة، وبلغت ثقته به وبعلمه واطلاعه أن "تقدَّم إلى القُصَّاص والوعَّاظ، ألّا يورد أحد منهم حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى
(1)
انظر "تاريخ بغداد"(13/ 221) و (11/ 34).
(2)
(8/ 265 - 266).
(3)
في "السِّيَر" للذَّهَبِيّ (18/ 280): "وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات يوم بني قُرَيْظَة قبل خيبر بسنتين". وهو الصواب. لأنّ سعدًا أصيب بسهم في أُكحله يوم الخَنْدَق وحُمِلَ منها جريحًا، ثم حكَّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بني قُرَيْظَة، وبعدها توفي رضي الله عنه. انظر خبر ذلك في ترجمته من "السِّيَر"(1/ 282) وما بعد.
يعرضه على أبي بكر الخطيب، فما أمرهم بإيراده أوردوه، وما منعهم منه ألغوه"
(1)
.
وهذا يدلُّ على عظيم ما بلغه الحافظ أبو بكر الخطيب من المنزلة والشهرة والتمكن والوثوق به، كما يدث في الوقت نفسه على اهتمام أُولي الأمر بالحفاظ على الدِّين والسُّنَّةِ نقيين من كل شائبةٍ ودَخِيلٍ.
إلّا أنَّ الاستقرار وطيب المقام لم يدم لحافظنا أبي بكر، حيث حدثت فتنة (أرسلان البساسيري)، وهو أحد القوَّاد الأتراك الذين عظم أمرهم، ولم يكن الخليفة القائم باللَّه يقطع أمرًا دونه، وكان يسعى إلى تقويض الخلافة الإِسلامية الشرعية، لِيُحِلَّ مَحَلَّها خلافةً باطنيةً فاطميةً بالاتفاق مع صاحب مِصْر الفاطمي. وجرت في هذه الفتنة أحداث ووقائع انتهت بقتل صديقه الوزير ابن المُسْلِمَة وصَلْبه، وبنفي الخليفة وحبسه
(2)
.
فما كان من الحافظ الخطيب رحمه الله في هذه الأجواء الموحشة، والفتنة الدَّاهمة، وتَمَكُّنِ الباطنيين من الحكم، وفتكهم بالنَّاس، إلَّا أَنْ عزم على الخروج مستترًا إلى الشَّام، حاملًا معه كتبه ومصنفاته. وقد ذكر الخطيب أَنَّه خرج من بغداد يوم النصف من صفر سنة (451 هـ)، وأنّه كان بدمشق في يوم الأضحى من نفس السنة
(3)
.
وطاب له المقام في دمشق، واتخذ المنارة الشرقية للمسجد الأُمَوي مسكنًا، وشَرَعَ يُحَدِّثُ فيه بمصنَّفاته ومصنَّفات غيره من مسموعاته، فأفاد رحمه الله واستفاد
(4)
.
(1)
"معجم الأدباء"(4/ 19).
(2)
انظر خبر هذه الفتنة وتفاصيلها في: "تاريخ بغداد"(9/ 399 - 404)، و"البداية والنهاية" لابن كثير (12/ 76 - 79 و 80 - 84).
(3)
"تاريخ بغداد"(9/ 403) و (14/ 447).
(4)
انظر: "البداية والنهاية"(12/ 102)، و"الحافظ الخطيب البغدادي" ص 50.