الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الجزائر وبناء القدرة الذاتية
أصبحت الدولة الجزائرية مكتملة البنيان، لها حدودها المعترف بها من قبل جوارها، ولها جهاز حكمها المستقل والتابع إسميا للإمبراطررية العثمانية الإسلامية، ولها جيشها المنظم وأسطولها القوي، والأهم من ذلك كله هو توافر الإدارة الصلبة لدى الشعب المجاهد في الجزائر للاضطلاع بدوره الكبير في بناء مستقبله ودعم قدراته الذاتية وممارسة دور أساسي وحاسم في قيادة الجهاد في سبيل الله ومجابهة الحملات الصليبية الشرسة، وقد استطاع (عروج وخير الدين وابنه حسان) تجسيد طموحات شعب الجزائر وأهدافه، ومن هنا كان الدعم الكبير الذي لقيه (ذوي اللحى الشقراء) من أبناء الجزائر للمضي قدما على طريق الجهاد. وقد تم استدعاء (حسان خير الدين) إلى عاصمة الإمبراطورية العثمانية، في سنة 1552م، نتيجة مناهضته للسياسة الإفرنسية التي كانت تستثمر الصراع الإسلامي - الإسباني، لتدعم نفوذها في العالم الإسلامي، ولتمضي في تحقيق هدف الصليبية ذاته ولكن بطريقة متطورة. ومن داخل العالم الإسلامي لا من خارجه، وتم تعيين (المجاهد صالح رايس) لولاية الجزائر برتبة حاكم عام (باي لرباي) أثناء فترة غياب (حسان خير الدين) التي امتدت أربع سنوات (1552 - 1056).
مدفع جزائري ذو تسع فوهات (متحف الانفاليد)
لقد عرف الشعب الجزائرى (المجاهد صالح رايس) من خلال جهاده الصبور في البحر، برفقة أصحاب (اللحى الشقراء). وعرف فيه الكفاءة القيادية العالية، والشجاعة في مواجهة مواطن الخطر في البر والبحر، وقدرته غير المحدودة على العمل، وإخلاصه الكبير لقضية (الجهاد وبناء القدرة الذاتية) ولهذا لم يكن من الغريب أن يبادل الشعب الجزائري هذا القائد إخلاصا بإخلاص ووفاء بوفاء. فمضى صالح رايس بعزيمة صادقه لتحقيق أهداف شعبه والتي تمثلت بطموحين أساسيين أولها: تحقيق الوحدة الكاملة بين مختلف أقاليم الدولة الجزائرية، وتوثيق عرى وحدة شعبها. وثانيها: إدخال بقية أجزاء الصحراء الجزائرية (فيما يلي الزيبان) ضمن إطار هذه الوحدة. ولم تكن أهداف (بناء القدرة الذاتية) من خلال وحدة التراب والشعب، عند الجزائريين وحكامهم إلا الوسيلة لتحقيق طموح أكبر، وهون طرد الإسبانيين وإخراجهم من مواقعهم التي احتلوها فوق الأرض الجزائرية ووضع حد نهائي وحاسم لعمليات الصراع الداخلي والذي يجد محرضا له في (الدولة المغربية السعدية). والانطلاق بعد ذلك للجهاد في مجابهة العدوان الخارجي الممثل بصورة خاصة بالعدوان الإسباني الذي أخذ على عاتقه قيادة الصراع ضد المسلمين. وبدأ (صالح رايس) بالعمل قبل كل شيء لتحقيق الوحدة الداخلية، وكانت في الجنوب الجزائري إمارتان مستقلتان (إمارة توقرت) التي كان يتولى أمرها ملوك بني جلاب يتوارثونها كابرا عن كابر، وإمارة (بني وارجلان) - أو (ورقله) ويتولى أمرها الشيوخ الأباضيون ورثة دولة بني رستم، ويمتد سلطانها إلى قرى وادي ميزاب غربا وإلى المنيعة جنوبا. وكانت الإمارتان قد دخلتا أيام (خير الدين باشا) ضمن الوحدة الجزائرية، وتعهدتا بدفع مقدار معين لخزانة
الدولة بمدينة الجزائر. لكن ابتعاد خير الدين عن إدارة المملكة فعليا أواخر أيام حياته، وانصراف الدولة الجزائرية إلى معالجة أحداث (تلمسان) وأحداث (المغرب) جعل الإمارتين تقلعان عن دفع ما يترتب عليها، وتعلنان استقلالها عن إدارة الجزائر. وحاول (صالح رايس) إعادة الإمارتين بالطرائق الديبلوماسية غير أن الاتصالات والمراسلات فشلت في الوصول إلى التسوية المطلوبة، فتقرر اللجوء إلى السلاح إذا ما تطلب الأمر. وتحرك الجيش الجزائري من مدينة الجزائر تحت قيادة (صالح رايس) وذلك في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1552م. متوجها إلى الجنوب، وانضم له في (مجانة) سلطان قلعة بني عباس (عبد العزيز) ومعه نحوا من ثمانية آلاف مقاتل من رجال القبائل الجبلية، وسار الجميع نحو (توقرت)، حيث تمت مهاجمة (واحات توقرت) وكانت قوة الصدمة أكبر من أن يحتملها ملك توقرت وجيشه، وبعد معركة قصيرة وحاسمة - أزهقت فيها أرواح كثيرة من الطرفين المسلمين - أمكن تصفية المقاومة في (توقرت) والقضاء على حكم (بني جلاب) وضم توقرت نهائيا إلى السلطة المركزية وتوجه جيش الجزائر بعدها إلى (بني وارجلان) واجتمع هنا شيوخ (ورقله) وأعلنوا رفضهم لقتال إخوتهم المسلمين، وانضمامهم للدولة الجزائرية وأصبحوا منذ تلك الفترة جزءا لا ينفصل - وإلى الأبد - عن دولتهم الجزائرية، وتعهدت لهم الدولة بالمقابل، احترام مذهبهم (الإباضي) وحرية ممارستهم له، والاحتكام بمقتضاه بالنسبة لكل من يعتنقونه. غير أنه ما لبث أن ظهر الخلاف بين (صالح رايس) وبين سلطان قلعة بني عباس ومجانة (عبد العزيز). فبينما كان (صالح رايس) يرى توحيد البلاد في إدارة مركزية قوية، كان (عبد العزيز) يرى ضرورة الاستقلال بإدارة مملكته على أن يمد الدعم لحكومة الجزائر باعتباره
حليفا لها. وأن يقدم هذا الدعم عندما يرى ذلك ضروريا، بدون أي خضوع من قبله للإدارة المركزية. فكان لا بد من الصدام الذي أدى إلى صراعات مسلحة دموية، قتل أثناءها (الفاضل) أخو عبد العزيز ودارت الدائرة على جيش الجزائر في (بوغني) وذلك في شهر كانون الأول - ديسمبر - 1552م (959 هـ) وتلقى جيش الجزائر هزيمة أخرى بعد ذلك، على الرغم من انضمام بلاد كوكو إلى الجزائريين (باعتبار كوكو من الأعداء التقليديين لقبائل قلعة بني عباس).
واضطر (صالح رايس) إلى التخلي عن الصراع مع (عبد العزيز) لفرصة أخرى. وعاد من جديد إلى غزو الإسبان في البحر تمهيدا للأمر العظيم الذي كان هدفه الأسمى وهو غزو الإسبان في البر. فألقى بأسطوله الضخم على جزائر الباليئار، وعلم (صالح رايس) بخروج سفن برتغالية تحمل رجالا وعتادا، وأنها تجتاز مضيق جبل طارق، فأسرع للتصدي لها، وداهمها واستولى عليها. وعند ذلك تبين أن الأسطول الذي يشمل ستا من سفن النقل، كان يحمل سلطان فاس السابق (أبا الحسن علي بن محمد الوطاسي - المعروف بأبي حسون) والذي كان قد نجا من قبضة الشريف السعدي عندما بطش بالوطاسيين في فاس، وكان هذا الأسطول متوجها إلى فرصة باريس على ساحل الريف المغربي، والتي يدعوها الإسبان (فاليس) من أجل محاربة السعديين، وإعادة حكم الوطاسيين تحت إشراف البرتغاليين وحمايتهم. واتفق (صالح رايس) بسرعة مع (أبي حسون) على أن يدعمه لاستعادة ملكه مقابل اعتراف (أبو حسون) بالتبعية للسلطان العثماني (سليمان القانوني) والدعاء له على المنابر. والاستعداد لتجهيز الجيوش لمباشرة غزو إسبانيا مع (صالح رايس). وجهز هذا قوة بحرية تضم (22) سفينة تحمل الرجال ووسائط القتال
في شهر أيلول (سبتمبر) 1553م. وسيرها بحرا نحو مليلة، بينما خرج هو بنفسه على رأس جيش جزائري يضم (8) آلاف مقاتل فمر
بتلسان، وعزز جنده بالحامية التي كانت فيها، ودخل حدود المغرب الأقصى، بينما كان (أبو حسون) يجمع حوله الأنصار من بني مرين وأعداء الأشراف المديين. ثم اجتمع الجيشان ودخل صالح رايس مدينة (فاس) في يوم 8 كانون الثاني (يناير) 1554م (الموافق 3 صفر 961 هـ) ونصب بها السلطان أبا حسون، تحت حماية الدولة العثمانية، وذلك بعد مصادمات وعدة معارك دارت بين أنصار الدولتين (المرينية والسعدية) سالت فيها الدماء الغزيرة.
ومكث (صالح رايس) بمدينة (فاس) لمدة أربعة أشهر، ضمن خلالها استقرار الأمر لأبي حسون، وإخلاص الدولة المرينية الجديدة للخلافة العثمانية. وخلال ذلك، لم يتوقف (صالح رايس) عن متابعة الجهاد ضد الإسبانيين، فأرسل قوة من جيشه إلى (بلاد الريف) فاسترجع من الإسبانيين (معقل باديس الكبير) - أو صخرة فاليس - ثم رجع إلى الجزائر تاركا لأبي حسون حامية تركية، لدعمه من جهة، وضمان وفائه بالتزاماته من جهة ثانية. لكن الأمر لم يستقر طويلا لأبي حسون. فما كاد صالح رايس يرجع إلى الجزائر، حتى جمع الشريف السعدي جيشا كثيفا، وهاجم فاس، والتحم في معركة قاسية مع أبي حسون الذي قتل أثناءها، ودخل الشريف فاس من جديد، لكنه وجد أن معظم سكانها يميلون إلى (بني مرين) فكان من الصعب عليه الاعتماد عليها وجعلها عاصمة لملكه، فقرر الانتقال إلى (مراكش) وجعلها عاصمة لمملكته الجديدة (1).
(1) ورد في كتاب (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني ص 341. ما حدث في لقاء (صالح رايس) مع (أبي حسون) وتقد سلوك صالح رايس. بما يلي: (قص أبي حسون =
اغتنم (صالح رايس) فرصة وجوده بتلمسان، فجمع مجلس العلماء فيها بعدما بلغه من كثرة تذمر أهل المدينة وشكواهم من (الملك حسن) الذي اشتهر بالانحراف عن الدين - الخلاعة والمجون - وأفتى العلماء بخلع (الملك حسن) فتم ذلك - وضمت تلمسان نهائيا للإدارة المركزية في الجزائر سنة (1554م) على نحوما سبق عرضه.
آ - تحرير بجاية (1555م)
كان (صالح رايس) يتابع خلال ذلك كله جمع المعلومات عن موقف الحاميات الإسبانية، وعما يقوم به المواطنون الجزائريون من مقاطعة لها وتضييق عليها، حتى وصل بها الأمر إلى حالة كبيرة من الضعف وعندها قرر توجيه ضربته الحاسمة إلى (بجاية). فحشد جيشا من (30) ألف مقاتل وتولى قيادته، وسار به من الجزائر إلى بجاية في شهر حزيران (يونيو 1555م. وانضمت إليه أثناء التقدم
قوات المجاهدين من (زواوة) من (إمارة كوكو). ووصلت الجيوش الجزائرية، فضربت حصارا على المدينة، ووصل الأسطول الجزائري وهو يحمل المدفعية ووسائط القتال الثقيلة. ووجه المجاهدون نيران
= على (صالح رايس) قصته، فقال: أنه ذهب أول الأمر إلى شرلكان، يطلب منه أن يعينه على استرجاع عرشه. لكن شرلكان لم يستجب لدعوته، ولم تكن حالته تسمح له بالتورط - تلك الساعة على الأقل - في حرب مع المغاربة. وأن الأمر يهم البرتغاليين أكثر منه. يومئذ سار أبو حسون (الذي لم يكن يهمه شخص من يعينه على الرجوع إلى العرش وهويته، إنما يهمه الرجوع إلى عرش فاس على أي حال) إلى ملك البرتغال سنة 1553م. وكان هذا الملك موقورا من الأشراف السعديين الذين أخذوا يسترجعون من البرتغاليين ما يحتلونه من أرض المغرب الأقصى ومن سواحله، فقرر إعانته، وأمده بالسفن والمال والرجال، وكانت تلك هي العمارة التي أسرها صالح رايس. وهنا أخطأ التوفيق في نظري صالح رايس الذي كان عليه أن يكتفي بأخذ العمارة، وأسر رجالها، وإبقاء أبي حسون عنده، وأن يتخذ بذلك يدا عند السعديين، ويستميلهم إليه، أو يضغط عليهم بواسطته).
مدافعهم إلى القلعة بعد أن تم تشديد الحصار عليها.
كان حاكم بجاية الإسباني (دون الونزو كاديلو) قد عرف مسبقا بتحرك القوات الجزائرية، فأرسل إلى إسبانيا يطلب الدعم، وعمل في الوقت ذاته على (تخزين) المواد التموينية بكميات تكفي لحصار طويل.
وأثناء ذلك، هطلت أمطار الخريف المبكرة بكميات وفيرة، فارتفع مستوى المياه في (وادي الصومام) وأصبح باستطاعة السفن الجزائرية الإفادة منه واستخدامه من أجل اجتياز المصب والوصول إلى ما وراء المدينة بمسافة خمسة كيلومترات تقريبا. وأمكن بذلك الوصول إلى المرتفعات المواجهة للقلعة والتحصينات الدفاعية، واحتلت المدفعية مرابضها في المواقع المناسة للرمي المباشر. وبدأت المعركة بتبادل القذف المدفعي. ثم هاجم الجزائريون حصن (القصر الإمبراطوري) واستولوا عليه عنوة. وكانت المدفعية قد دمرته تدميرا كاملا وحولته إلى أنقاض. ولهذا بدأت القوات الجزائرية على الفور بإقامة التحصينات من جديد وإعادة بناء الجدران. والإفادة من موقع الحصن لتأمين مرابض جديدة للمدفعية، مع تأمين مراقبة أفضل للحامية الإسبانية التي شرعت في إعادة تنظيم قواتها لدعم مواقعها الدفاعية في المعقل (القلعة). ورأى القائد الإسباني صعوبة الاستمرار في المقاومة بدون دعم خارجي، فأرسل رسالة إلى ملكة إسانيا (خوانة)(1) يستنجد فيها، ويشرح موقف الحامية المدافعة عن (بجاية).
(1) كان نص الرسالة التي وجهها قائد الحامية الإسبانية إلى ملكة إسبانيا - كما وردت في (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني. ص 345 - 346 ما يلي: (بجاية - 17 أيلول - سبتمبر - 1555 - أرسلت من قبل رسالة لسموكم أبلغكم فيها الحالة التعسة التي وصلت إليها مدينة بجاية، وحاجة هذا المعقل للنجدة السريعة. لا توجد أبدا أية جدران حصينة =
غير أن القوات الجزائرية لم تمهل الحامية الإسبانية فوجهت نيران مدافعها إلى معقل (باب البحر) واستمر قصفها له خمسة أيام متوالية، ودافعت الحامية عن مواقعها بثبات وعناد، ونجح المجاهدون في تحديد مكان (مخزن البارود) ووجهوا إليه نيرانهم المحكمة، مما أدى إلى انفجار المخزن بقوة دمرت جدران الحصن، فاندفع المجاهدون بعنف وقوة، وتحولت المعركة إلى اشتباك دموي - بالسلاح الأبيض - وأمكن إبادة القسم الأكبر من الحامية الإسبانية وأسر الباقين منها. وبقيت هناك عقبة كبرى، دون فتح المدينة، هي قلعة (القصر الكبير) الذي كانت تدافع عنه حامية قوية، وكان (القصر الكبير) يشكل في حد ذاته معقلا هائلا مميزا بجدرانه القوية مما جعله المركز الأساسي للمقاومة الإسبانية. وانصرف رجال الحامية الإسبانية ونساؤها وحتى أطفالها وما فيها من عبيد للعمل في الليل والنهار من أجل إقامة جدار دفاعي جديد، لحماية (القصر الكبير) الذي بلغ ارتفاعه (15) قدما. وكان
= تستطيع الصمود أمام هذه المدفعية المرعبة التي نصبها (الكلب) ملك الجزائر أمام بجاية، فخلال يومين اثنين، حطم الأتراك بصفة تامة الحصن الإمبراطوري، وسدوا الخنادق، وأصبح من المحال الاستمرار في المقاومة. وصرت أتلقى من رجال الحامية رسائل تسألنا - أنا والمراقب - أن نعمل على إنقاذهم باسم الرب. وقد جمعت مجلسا حربيا مؤلفا من كبار الضباط - ذكر أسماءهم - واتفقوا بأنه لا يمكن المقاومة أكثر من هذا الحد. فكل شيء قد تحطم حتى الأساس، ودمرت الجدران،
…
ومن أجل ذلك اتفقنا على تسليم الحصن، وتدمير الأقواس والركائز التي لا تزال قائمة
…
ونحن ننتظر مصيرنا، فالأتراك فد صوبوا مدافعهم الآن نحو المدينة ذاتها وهم كثيرون ومسلحون بالبنادق النارية
…
نرجوكم رجاء حارا أن تفكروا في أهمية (بجاية) وفي حصونها، فإذا ما تمكن هؤلاء الأتراك الاشقياء دمرهم الله من احتلالها، فإن كل قوى جلالة الملكة لن تستطيع مجتمعة إخراجها منها. وألتمس من سموكم إصدار الأوامر لكي نتلقى من إسبانيا المدد اللازم بأقصى سرعة ممكنه، ولتعتقد سموكم أنني مستعد للموت - كوالدي - في سبيل الله وفي سبيل صاحب الجلالة) ..
أفراد الحامية، يرممون بالليل كل ثلمة تحدثها مدفعية الجزائريين في النهار.
أراد (صالح رايس) الاقتصاد في الجهد، فأرسل رسالة إلى حاكم (بجاية) يطلب إليه الاستسلام (1)، غير أن هذا رفض الإنذار الجزائري. واستمرت المقاومة خمسة أيام أخرى، أخذ بعدها المجاهدون الجزائريون في تسلق جدران الحصن بعد أن ردموا الخنادق المحفورة حوله، وحاولوا اقتحامه بينما كانت المدفعية الجزائرية تتابع قصف الأهداف المعادية. وعندها جمع حاكم (بجاية) وقائد حاميتها الرجال حوله، وتشاور معهم، فأشاروا كلهم بوجوب الاستسلام، ولم يكن عددهم عندئذ يزيد على مائة وعشرين مقاتلا. فأرسلوا إلى (صالح رايس) يعلمونه بقرارهم، فقبل استسلامهم، وبر لهم بوعده السالف رغم أنهم استمروا في القتال ورفضوا الإنذار. وسمح لهم جميعا بالعودة إلى إبسانيا. ودخل الجزائريون المدينة، وقد ارتفع فيها التهليل والتكبير، وأخذوا على الفور بتطهير المساجد وإزالة ما وضعه فيها
(1) أرسل (صالح رايس) رسالة إلى حاكم مدينة بجاية الإسباني، يطلب إليه الاستسلام، وفيها:(أنا ملك الجزائر، أكتب إليك يا حاكم مدينة بجاية - لقد رأيت كيف أن رجالي قد استطاعوا احتلال معقلين من معاقل دفاعكم، ثم إنك ولا ريب تعلم أني قد عقدت العزم بصفة حاسمة على أخذ هذه القلعة التي تدافعون عنها أيضا. ولتعلم أنك لن تتلقى أبدا أدنى إعانة من إسبانيا، لأنني قد أخذت السفينة التي بعثت على متنا من يطلب النجدة، وبما أنه قد اقتربت ساعة سقوط المدينة، وأنك لن تستطيع أصلا النجاة والإفلات من قبضة يدي، فأنا أطلب إليك أن تستسلم، وأن تسلم المدينة لي. وأنا أتعهد لك مقابل ذلك بأنني لن أمسك أنت ولا أي رجل من الرجال الملتفين حولك بسوء. أما إذا استمر بك العناد فلن يكون مصيركم جميعا غير الموت - عليك برد الجواب حالا، مع حامله حسن -) وقد كتبت هذه الرسالة باللغة البرتغالية - المرجع (حرب الثلاثمائة سنة) أحمد توفيق المدني ص 347.
الغزاة من الصلبان، وأعادوها إلى سابق عهدها، مساجد لعبادة الله وحده الذي صدق وعده ونصر عبده. وأخذ النازحون عن (بجاية) بالعودة إليها. وشرعوا في إعادة بناء مدينتهم وترميمها وتضميد جراحها، ولم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى زال كل أثر للاسعمار الصليبي الذي جثم على صدر بجاية لمدة نصف قرن.
ما أن ترددت أصداء انتصار المسلمين في بجاية، حتى اجتاحت إسبانيا بصورة خاصة موجة من الهياج والثورة التي وجدت أصداء قوية لها في وسط الأمم الأوروبية الصليبية ودوائر البابا في روما، وكان لا بد من تهدئة هذه الجائحة الثائرة بضحية يتم تحميلها المسؤولية، ووقع اختيار الحكومة الإسبانية على قائد حامية بجاية، الذي لم يكن باستطاعته، أو باستطاعة غيره - الصمود والمقاومة بأكثر مما تم بذله. وشكلت محكمة عسكرية أصدرت حكمها بإعدامه. واقتيد إلى ساحة عامة بعد أن تم تعذيبه وتجريده، وأقبل الجلاد فهوى بفأسه على الضحية، وفصل الرأس عن الجسد، ثم رفع الرأس ليردد ما تم تلقينه له، حيث أطلقت المقولة المشهورة:(أيها الشعب، هذا رأس رجل نذل فقده صاحبه، بعدما فقد شرفه).
انطلقت القوات الجزائرية لاستثمار هذا الظفر الرائع. فمضت لتحرير الساحل الشرقي للجزائر، من كل آثار الاحتلال الإسباني، ومنها مدينة القل (التي يعود تاريخ استعمارها إلى سنة 1282م). والتي كانت قصة احتلالها مأساة في جملة المآسي التي تعرض لها المغرب العربي الإسلامي خلال تلك الحقبة التاريخية.
أصبح باستطاعة (صالح رايس) التفرغ لتطهير غرب الجزائر
مدفع هاون جزائري (متحف الانفاليد)
من الاحتلال الإسباني، والتركيز على وهران بصورة خاصة، غير أن مجموعة من العوائق اعترضت سبيل التحرير. واستشهد صالح رايس
(بمرض الطاعون في رجب 963 هـ - 1556) ثم استشهد بعد ذلك حسان قورصو، فأصدر (الباب العالي) قراره بإعادة (حسان خير الدين) واليا على الجزائر، لتبدأ صفحة جديدة من الجهاد.
ب - انتصار المسلمين في مستغانم - (1558م).
تعرضت الجزائر لمجموعة من الانتكاسات بعد انتصارها الكبير في (بجاية). وتوافقت ظروف بعضها طبيعي وبعضها غير طبيعي، لتشكل ما يمكن تسميته بالإصطلاح الحديث (الهجمة المضادة) والتي كان من أبرز أحداثها قيام قوات الأشراف السعديين في المغرب باحتلال (تلمسان) وإخضاعها لهم.
وفي هذه الفترة، وصل حسان خير الدين إلى الجزائر (في شهر شعبان 964 هـ = حزيران - يونيو - 1507 م).فكان لذلك أصداء قوية فرح لها أهل الجزائر على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم، وعادت الثقة للمجاهدين. ومضى حسان لإصلاح جهاز الإدارة قبل كل شيء، وإلى إعادة تنظيم القوات المقاتلة. ومضى بعد ذلك بجيشه إلى الغرب الجزائري، لإرجاع جماعة (الشريف السعدي) إلى ما وراء حدوده المتفق عليها، ولإنقاذ الحامية الجزائرية التي بقيت صامدة تحت قيادة الأمير صفطه (في المشور) وهي تقاوم قوات السعديين. وعندما وصل الجيش الجزائري (تلمسان) انسحبت قوات السعديين إلى ما وراء نهر الملوية، ولم تحدث سوى بعض الاشتباكات الثانوية. ولكن حسان أراد الإفادة من هذه الفرصة للقضاء على دولة السعديين المستقلة (لا سيما بعد مقتل الشريف وقيام ابنه عبد الله الغالب بالله
مقامه). فمضى بجيشه حتى وصل إلى قرب مدينة (فاس).
والتقى الجيشان على (وادي اللبن) ودارت معركة قاسية وغير حاسمة، وهنا وصلت معلومات إلى حسان تفيد بتحرك القوات الإسبانية من وهران، وخشي أن يوثر هذا التحرك على خطوط مواصلاته، وأن يعزله عن قاعدته في الجزائر، فقرر فك الاشتباك، وعاد بجيشه إلى مرفأ (قصاصة) في الشمال. وأركب قواته ومدفعيته وعتاده السفن. وفي الوقت ذاته عاد القائد (صفطه) القائم باسمه على مدينة تلمسان، ومعه حاميته إلى قاعدته. وما أن وصل حسان بجيشه إلى الجزائر، حتى حشد أكبر قوة متوافرة له بهدف مهاجمة الإسبانيين في وهران وأرسل إلى جموع المجاهدين في النواحي يطلب إليهم الانضمام إلى قوته عند مجرى (نهر الشلف).
كان حاكم وهران (د. الكوديت) يتحرك في الوقت ذاته على رأس القوى التي أمكن له حشدها نحو الشرق قاصدا مدينة (مستغانم). وقد ضم جيشه (12) ألف مقاتل إسباني بالإضافة إلى جماعات كبيرة من الأعراب المرتزقة (القائد المنصور بن بوغانم) ومن معه من بني عامر وبني راشد وسواهم بالإصافة إلى مدفعية ضخمة وكميات وافرة من الذخائر وعدة سفن محاذية للجيش تحمل المؤن ووسائط القتال الثقيلة.
كان (حسان خير الدين) يتابع تحرك القوات الإسبانية بيقظة وحذر، وكان الأسطول الجزائري مستعدا لمجابهة كافة الاحتمالات الخطرة. فما كادت السفن الإسبانية تغادر مياه (أرزيو) وهي مثقلة بحمولتها حتى انقضت عليها السفن الجزائرية، واستولت عليها جميعا، وانتقل كل ما كانت تحمله إلى قبضة المسلمين، فتقووا به على
أعدادهم. وكان الكونت (د. الكوديت) وجنوده يتابعون المعركة البحرية، دون أن يكون باستطاعتهم التدخل فيها أو دعم قواتهم، فلما شهدوا انتقالها إلى قبضة المسلمين أصيبوا بخيبة أمل مريرة، وفت ذلك من روحهم المعنوية.
كان مخطط تحرك قوات المسلمين يقضي بتوجه جيش المجاهدين من الجزائر إلى مستغانم. وفي الوقت ذاته تخرج حامية تلمسان ومن ينضم إليها من جموع المجاهدين بقيادة (الحاج علي - أو قلش علي) لتسير في الاتجاه المعاكس - على الطرق الداخلية - وهي متجهة من الغرب إلى الشرق بهدف منع القوات الإسبانية من أي محاولة للتسلل نحو الداخل، أو القيام بمهاجة القرى (الدواوير) للاستيلاء على ما فيها من المواد التموينية.
ودخلت القوات الإسبانية مدينة (مازغران) بدون مقاومة، وحطمت بوابتها الضخمة - الأثرية - لتنحت من حجارتها مقذوفات لمدفعيتها. ثم أسرعت في تحركها للوصول إلى (مستغانم) والتحصن فيها قبل وصول جيش الجزائر. ووصلت فعلا وهي بكامل قوتها إلى أبواب المدينة يوم 22 آب - أغطس - 1558م. فاشبكت على الفور في معركة ضارية مع قوات المجاهدين من عرب الضاحية الذين وصلوا دعما للمدينة قبل وصول الجيش الجزائري، وتمكنوا من دخول منطقة الدفاع على الرغم من الحصار الإسباني.
أعلن الكونت (د. الكوديت) النفير العام عند مطلع فجر يوم 23 آب - أغطس -. وتقدم بكل قواته والقوات الموالية له من الأسوار التي لم تصمد لثقل هذه الهجمة، فتحطمت الأبواب، غير أن المقاومة في الداخل لم تتأثر فمضت تلتحم مع الإسبانيين وحلفائهم، وتحولت
المدينة كلها ميدانا للحرب، وأصبح كل حي وكل طريق وكل منزل معقلا يدافع عنه رجال الحامية وأهل المدينة والمتطوعون. ولم تتمكن القوات الإسبانية من فرض سيطرتها، على الرغم من تفوقها الساحق، على أية منطقة أو موقع وتكبدت القوات المشتبكة خسائر فادحة في الأرواح. ووصل القتال إلى مرحلة حرجة بالنسبة للمجاهدين عندما ترددت أصداء وصول جيش الجزائر بقيادة (حسان خير الدين) إلى شرقي المدينة وجنوبها (وكان جيش حسان يضم (5) آلاف من المشاة رماة البنادق وألف فارس) وقد انضم إليه من المجاهدين الجزائريين أثناء التحرك (15) ألف مجاهد تقريبا وهم يحملون أسلحة مختلفة. واقتحم جيش الجزائر بمجرد وصوله المعركة، ودخل المدينة فورا، وكان الصدام عنيفا وقاسيا، غير أن كفة النصر رجحت لمصلحة المسلمين، فما غربت شمس ذلك اليوم حتى تم إبعاد الإسبانيين وقذفهم إلى ما وراء أسوار المدينة تاركين بين جدرانها عددا ضخما من القتلى والجرحى. وقضى الجانبان المتصارعان تلك الليلة وهما يضمدان جراحاتها ويعيدان تنظيم قواتهما. حتى إذا ما أشرقت شمس يوم 24 آب أغسطس - وجدت القوات الإسبانية والقوات المتحالفة معها من المسلمين أنها تقف أمام مأزق صعب جدا. حيث أحاطت قوات المسلمين بميدان المعركة من كل جهاته، فقد وقف جيش الجزائر ومعه مقاتلي مستغانم والمجاهدين من العرب المسلمين في مواجهة القوات الإسبانية. في حين وقف إلى يمين القوات الإسبانية جيش تلمسان بقيادة (الحاج علي). أما على يسار القوات الإسبانية فقد انتشر رجال البحر الذين غادروا سفنهم ونظموا قواتهم للاشتراك في حسم الصراع. في حين كانت مدفعية الأسطول الجزائري ترمي القوات الإسبانية بقذائفها المحكمة. وشدد المجاهدون قبضتهم على الإسبانيين وكانت أصوات التهليل والتكبير (صيحة الحرب) تثير فزع
الإسبانيين بمثل ما تثيره سيوف المجاهدين في سبيل الله. وهزت الحماسة نفوس المسلمين الذين كانوا يقاتلون إلى جانب الإسبانيين فتخلوا عن مواقعهم وانضموا إلى إخوانهم في الدين، في حين بقيت هناك فئة رفضت التخلي عن الإسبانيين، غير أنها رفضت في الوقت ذاته إشهار سيوفها في وجه إخوان الدين، فمضت إلى خيامها واعتزلت القتال ولم تبق أكثر من فئة قليلة صممت على مساندة الإسبانيين حتى النهاية. غير أن هذه الفئة لم تعد قادرة على دعم الإسبانيين الذين لم يبق لهم من أمل إلا التخلص من المعركة، وتأمين طريق للانسحاب، ولكن قوات المسلمين أمسكت بكل محاور التحرك، وأحدقت بميدان المعركة، وشددت قبضتها على العدو، وبات من المحال تأمين الانسحاب المنظم وحاول الجنود الإسبانيون عندئذ الفرار بصورة افرادية، غير أن قوات المجاهدين لم تترك لهم الفرصة، فمضت في مطاردتهم حتى بلدة (مازغران) وقتل القائد الإسباني (د. الكوديت) تحت أقدام جنوده وهم يتدافعون للوصول إلى أبواب مازغران. أما ابنه فكان في عداد الأسرى. واحتل المسلمون (مازغران) وأمروا كل من التجأ إليها. فكان عدد القتلى والأسرى من الإسبانيين يزيد على (12) ألف. وانتهت المعركة مع غروب شمس يوم الجمعة (12 ذي القاعدة 965 هـ الموافق 26 آب - أغسطس - 1558).
ج - معركة المرسى الكبير (1563م)
لم يبق للإسبانيين فوق أرض الجزائر غير قاعدتين أساسيتين هما (وهران والمرسى الكبير) ولهذا فقد عملت الإدارة الإسبانية على دعم القاعدتين بقوة ونظمتها دفاعيا. وضمنت لهما القدرة على الصمود
والمقاومة. وفي الوقت ذاته مضت الإدارة الجزائرية (بقيادة حسان خير الدين) لإكمال استعدادها من أجل تحرير القاعدتين المذكورتين واغتنام كل فرصة للتضييق على الحاميتين الإسبانيتين المدافعتين عنهما، حتى إذا ما كان يوم الخامس من شباط (فبراير) سنة 1563 خرج من مدينة الجزائر جيش كبير يضم (15) ألفا من رماة البنادق وألف فارس من الصباحية يقودهم أحمد أمقران الزواوي و (12) ألفا من المشاة من قبائل (زواوة وبني عباس) وقام الأسطول الجزائري بنقل الأعتدة الثقيلة والمواد التموينية من الجزائر إلى (مستغانم) التي أعدت لتكون قاعدة للعمليات.
وصل (حسان خير الدين) على رأس جيش الجزائر إلى أمام مدينة (وهران) ومرساها الكبير يوم 3 نيسان (أبريل) وأقام معسكره قريبا منها، واتخذ مقر قيادته في (راس العين) واختار مرابض مدفعيته لتكون في مواجهة (حصن القديسين). وكان الإسبانيون في (وهران) قد أنهوا استعداداتهم الدفاعية ودعموا تحصيناتهم وقلاعهم. وتولى قيادة الحامية (دون الونزو دي قرطبة). ولم تكن الاستعدادات الإسبانية في (المرسى الكبير) أقل مما كانت عليه في وهران وقد تولى قيادة الحامية المدافعة عن (المرسى الكبير) شقيق قائد وهران (المركيز دون مارتان) وهو ابن الكونت (د. الكوديت). وقد عمل القائدان بمجرد علمها بتحرك المسلمين على طلب الدعم من إسبانيا التي أمدتهما على الفور بأربعة آلاف مقاتل تحت قيادة (دون خوان دي ماندوزا) لكن عاصفة بحرية قوية أعاقت تحرك هذا الدعم، وأغرقت ثلاثة أرباع الأسطول فلم يصل إلى وهران أكثر من ألف مقاتل (وكان قائد الأسطول الإسباني ذاته بين الغرقى). وأثناء ذلك، كان (حسان خير الدين) قد انتهى من تنظيم قواته للمعركة. وبدأت المدفعية الجزائرية
بقصف القلاع والتحصينات دونما هوادة. ثم قامت قوات المسلمين بهجومها على (حصن القديسين) وتمكنت من احتلاله يوم (15) شباط - فبراير - بعد معركة حاسمة تم فيها تدمير جدران التحصينات. وأفادت قوات المسلمين من الموقع الجديد، فجعلته مربضا لمدفعيتها، وأخذت في توجيه القصف من هذا الموقع، ومن المواقع الأخرى، نحو تحصينات (المرسى الكبير) وقلاعه. وطلب (حسان خير الدين) إلى قائد حصن (القديس ميشال) الاستسلام فرفض ذلك. وعندها تولى (حسان) بنفسه قيادة مجموعة قتالية، وقام بالهجوم على الحصن، وتمكن من وضع السلالم مرتين على جدران الحصن، غير أنه أخفق في احتلاله. ودامت المعركة يوما كاملا، كان فيها الهجوم الجزائري عنيفا بمقدار ما كان الدفاع عنيدا، فلم يتم حسم الصراع، وتكبد الطرفان خسائر فادحة، غير أن خسائر المسلمين كانت أكبر بحيث فقد (حسان) خيرة ضباطه ونحوا من خمسمائة من مجاهديه. وفي هذه المعركة، افتقد (حسان) أسلحته الثقيلة، إذ أن العاصفة البحرية التي دمرت الأسطول الإسباني قد أعاقت في الوقت ذاته وصول الإمدادات والأسلحة الثقيلة إلى جيش الجزائر. وحاول (حسان) من جديد الإفادة من علاقته بابن الكونت د. الكوديت (دون مارتان)(1) وذلك لإقناعه بتسليم المدينة، غير أن قائد حامية المدينة اعتذر عن ذلك.
(1) يذكر هنا أن (دون مارتان) وقع أسيرا في معركة (مستغانم) التي قتل فيها أبوه أيضا، فقام (حسان) بتسليم جثة الكونت د. الكويت لابنه، وإطلاق سراحه حيث عاد إلى وهران وتسلم قيادة حاميتها. وعندما كتب إليه حسان خير الدين طالبا إليه تسليم المدينة أجابه بما يلي:(إنني مستعد لأن أفعل من أجلك كل شيء، وأطيع أوامرك مهما كانت، اعترافا، بجميلك علي، وتسليم جثة أبي إلي بعد أداء التحية العسكرية لها، أما أن أسلم إليك المدينة التي هي أمانة جلالة ملك إسبانيا في عنقي. فذلك أمر لا سبيل إليه). حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - 381.
ووصل الأسطول الجزائري يوم 4 أيار (مايو) وهو يحمل المدفعية والمواد التموينية، ونصب الجزائريون مدافعهم في مرابض مناسبة، وشرعوا بقصف تحصينات (المرسى الكبير) وقلاعه من البر والبحر. وقام المسلمون بالهجوم على القلاع خمس مرات متتالية يومي 5 و6 أيار (مايو) غير أن الحامية الإسبانية التي تلقت دعما من حامية وهران استطاعت الصمود لهذه الهجمات وتمكنت من إحباطها. وفي يوم 8 أيار (مايو) قاد حسان خير الدين الهجوم بنفسه ضد قلاع المرسى الكبير، وتمكن من رفع العلم الجزائري فوق ثغرة في مراكز الدفاع. واندفع منها إلى الداخل، لكنه أصيب بجرح في رأسه، ولم يتمكن الجيش من اجتياز الثغرة، فاضطر حسان ورجاله إلى الانسحاب. ووجه المسلمون بعد ذلك هجومهم إلى (حصن سان ميشال) الذي دافعت عنه الحامية الإسبانية بعناد وضراوة. غير أن نيران القوات الجزائرية أرغمتها على الانسحاب من تحصيناتها والانضمام إلى الحامية المدافعة عن القلعة. ووجه المجاهدون نيران مدفعيتهم نحو جدران القلعة الرئيسية، واستمر قصفها طوال (24) ساعة، وأمكن تدمير الكثير منها، غير أن رجال الحامية الإسبانية كانوا يرممون بالليل ما تحدثه مدافع المسلمين من تدمير في النهار.
وفي يوم 9 أيار (مايو) كانت المدفعية الجزائرية قد دمرت حصون الناحية الغربية تدميرا تاما تقريبا، فأرسل (حسان) من جديد طلبا إلى (المركيز مارتان) بتسليم المدينة، فأجابه:(بما أن الحصون قد تحطمت فما الذي يمنعك عن اقتحام المدينة؟). وعندها أمر حسان بالهجوم العام، واستبسل الإسبان في الدفاع عن بقايا الحصون والجدران والخرائب، وتمكن الجزائريون خلال ذلك من احتلال حصن جنوة، ورفع أعلامهم فوق السور، لكنهم لم يستطيعوا الثبات
أمام الهجوم الإسباني المضاد فتراجعوا إلى مواقعهم الأولى، بعد أن تركوا فوق أرض المعركة عددا كبيرا من الشهداء ، وتمكنت في هذا اليوم سفينة إسبانية صغيرة من اختراق صفوف الأسطول الجزائري، ونقلت إلى قائد حامية وهران معلومات عن اقتراب الدعم الإسباني الذي كانت تحمله (55) سفينة يتولى قيادتها (الأميرال دوريا) وأدى ذلك إلى زيادة تصميم الحامية الإسبانية على الدفاع حتى النهاية. وأرسل قائد وهران مراسلا اخترق ما بين البلدتين سباحة - يعلم أخاه (قائد المرسى الكبير) باقتراب وصول الدعم، ويطلب إليه المضي في المقاومة حتى وصول هذا الدعم. وعلى هذا استمرت المعركة بكل قسوتها وضراوتها طوال الفترة ما بين يوم 11 أيار - مايو - وحتى يوم 5 حزيران - يونيو -. حيث علم (حسان خير الدين) باقتراب وصول الدعم الإسباني، فقرر القيام بمعركة حاسمة، وحشد قواته، واستثار حماستها؛ وقذف بنفسه أمام صفوف الأعداء واندفع المجاهدون، غير أنهم اصطدموا من جديد بجدار المقاومة الضارية للإسبانيين وفشل الهجوم في الوصول إلى أهدافه، وطلعت شمس يوم 7 حزيران (يونيو) لتلقي أضواءها على الأسطول الإسباني الذي يحمل الدعم وهو يقترب من وهران. وأدرك (حسان خير الدين) أن قواته التي استنزفت المعارك المستمرة قدرتها لم تعد قادرة على تطوير الأعمال القتالية، فقرر الانسحاب من المعركة. غير أن الأسطول الجزائري لم يتمكن من تجنب الاشتباك مع الأسطول الإسباني، فخاض معركة ضارية خسر فيها (9) قطع (سفن). وانسحب بعدها إلى موانئه في الجزائر.
انتهت معركة (المرسى الكبير) بدون حسم، غير أنها أكدت تصميم الجزائر على تحرير ترابها وتطهير أرضها من الغزاة. وما أن
عادت القوات إلى الجزائر حتى وجدت نفسها أمام موقف جديد يفرض عليها العودة إلى الجهاد في البحر.
كان السلطان سليمان القانوني قد اتخذ قراره بالهجوم على جزيرة (مالطه) واحتلالها، لأنها تحولت لتكون أكبر معقل صليبي في شرق البحر الأبيض المتوسط وذلك منذ اتخذ (فرسان القديس يوحنا) منها قاعدة لهم منذ سنة (1530م). ولهذا أرسل أسطوله بقيادة (بيالي باشا) قائد البحرية العثمانية العام (قبودان باشا) كما طلب إلى (الرايس طورغود) حاكم طرابلس وجربه الانضمام بأسطوله لتنفيذ العملية، وكذلك الأمر بالنسبة لوالي الجزائر (حسان خير الدين) الذي أسرع فقاد قوة بحرية تضم (25) سفينة و (3) آلاف من أفضل المقاتلين. ووصل الأسطول الإسلامي بكامله إلى الجزيرة يوم 18 أيار (مايو) سنة 1565م، وحاصرها، ثم نزلت قوات المجاهدين، فاحتلت معقل (القديس ايلم) بعد أن أصيب بخسائر فادحة وبعد معركة ضارية استشهد فيها عدد من المسلمين كان في مقدمتهم (الرايس طورغود) الذي وصفته المصادر الإفرنجية - الغربية - (بأنه كان قائدا فذا لا مثيل له، لأنه كان يتحلى بفضائل إنسانية غير معهودة في القراصنة) - وكان ذلك يوم 23 أيار - مايو - وتوالت المعارك البطولية بين الجانبين كان من أبرزها هجوم المسلمين بقيادة حسان خير الدين يوم 15 تموز - يوليو - على حصن (القديس ميخائيل) وهو الهجوم الذي نجحت حامية الحصن في إحباطه بعد أن تكبد الطرفان خسائر فادحة. وتبع ذلك تطور على جبهة الصليبيين حيث جهزت صقليا جيشا تولى قيادته نائب الملك، ودعم بأسطول يضم (28) سفينة حربية تحمل (12) ألف مقاتل. وأدى وصول هذا الدعم إلى تصعيد الصراع المسلح من جديد واستمرت الأعمال القتالية بدون هوادة،
رئيس بحري جزائري
وفقد الجيش الإسلامي أكثر من نصف قوته واضطرت بقية قوات الحملة للانسحاب يوم 8 أيلول - سبتمبر - 1565م.
بقيت الجزائر المجاهدة مصدر قلق دائم لحكام إسبانيا، الذين لم يجدوا وسيلة إلا اتبعوها ولا طريقة إلا مارسوها لقهر تطلعات الشعب المسلم، غير أن التحديات لم تزد المقاومة إلا ضراوة وعنادا. وقد يكون من المناسب الإشارة إلى تلك العملية التي أخذت شكل (إغارة مباغتة) على الجزائر بهدف النيل منها، وتعود قصة هذه الإغارة إلى شهر تشرين الأول أكتوبر - سنة (1567م) عندما تقدم أحد قراصنة البحر الإسبانيين الشهيرين (واسمه خوان قاسكون من بلسية) وقابل الملك الإسباني. وعرض عليه مشروع (إغارة) مباغتة بواسطة سفينتين فقط يتم بهما احتلال الجزائر. واعتمد مخطط الإغارة على الإفادة من ظلمة الليل للتسلل إلى داخل مرسى مدينة الجزائر، ثم القيام بإشعال النيران في الأسطول الجزائري، والإفادة من حالة الهياج التي تعقب ذلك لاقتحام المدينة وإطلاق سراح الأسرى المسيحيين فيها وتسليحهم والإفادة من قوتهم للاستيلاء على مدينة الجزائر وتدمير المقاومات فيها والسيطرة عليها حتى يتم وصول الأسطول الإسباني الذي يحمل الجيش والإمداد. ورأى الملك الإسباني أن هذه المغامرة لن تكلفه كثيرا، فإذا ما هي نجحت، أمكن لها أن تحقق ما عجز شارلكان عن تحقيقه، وإن هي فشلت، فإنما هي خسارة قلية لا تقارن بما يتوافر لها من فرص النجاح، وبالإضافة إلى ذلك فإنها قد تسبب إزعاجا وخسارة للجزائر تزيد في قيمتها على الثمن أو الجهد المبذول. وهكذا خرج (خوان) من إسبانيا يوم الأول من تشرين الأول - أكتوبر - ووصل إلى (مرسى الجزائر) ليلا بعد أربعة أيام، وكانت ظلمة الليل حالكة، فاستطاعت السفينتان التسلل إلى
منظر من الحياة العامة بالعاصمة الجزائرية
المرسى بدون أن يشعر بوصولها أحد. وكان الأسطول الجزائري مجمعا في مرسى الجزائر الضيق، وقد تقاربت سفنه بعضها من بعض، بحيث كان إشعال النار في سفينتين أو ثلاث منه كافيا لإحراق الأسطول بمجموعه. وأعطى (خوان) أوامره إلى ستة من رجاله بإحراق السفن، بينما مضى هو وبقية الرجال إلى (باب البحر) فباغت رجل الحرس الجزائري وقتله، ثم توجهت قوة الإغارة إلى مكان الأسرى النصارى، يحملون معهم الأسلحة من أجل تنفيذ العملية. لكن عناصر الإغارة لم تر ألسنة اللهب المتصاعدة من سفن الأسطول الجزائري - كما كان متوقعا. فتوقفت عن مهاجمة دار الأسرى، وعلمت أن زمرة إحراق السفن لم تتمكن من تنفيذ واجبها.
فاكتفت بتحرير نحوا من عشرين أسيرا نصرانيا، وانسحبت إلى السفينتين، رغم معارضة قائد العملية خوان - وغادرت السفينتان المرسى وهما تستخدمان المجاذيف. وتبين عندئذ أن رجال الحرس في المرسى قد تنبهوا منذ اللحظة الأولى لحركة قوة الإغارة، فقتلوا أفراد الزمرة الستة المكلفين بإحراق السفن، ثم ركب الجزائريون بعض السفن، وتتبعوا رجال العصابة حتى لحقوا بهم غير بعيد عن الساحل، وأرمغموهم على العودة إلى الجزائر ومعهم الأسرى الذين عملوا على تحريرهم. وأعيد البحارة إلى سجن الأسرى أما (خوان قاسكون) فقد اقتيد إلى المحاكمة، التي قررت تسليمه للشعب الهائج فتم إعدامه وعلقت جثته أيامأ فوق سور المدينة، على الرغم من احتجاج رجال البحر ودفاعهم عنه باعتباره (محاربا) يجوز أسره ولا يجوز إعدامه.
…
حدثت خلال هذه الفترة تطورات من المناسب الإشارة إليها، فغد توفي السلطان سليمان القانوني يوم 5 أيلول - سبتمبر - 1566 (20
صفر - 974هـ) وخلفه ابنه السلطان سليم الثاني، الذي أسند إلى حسان باشا خير الدين منصب القائد العام للأسطول الإسباني (قبودان باشا). فتوجه هذا إلى إستامبول خلال شهر كانون الثاني (يناير) 1567م (974هـ) وعين السلطان مكانه في منصب (باي لرباي) الجزائر الأمير محمد بن صالح رايس. وبقي حسان خير الدين في منصبه حتى توفي سنة 1570 عن 53 عاما. ودفن إلى جانب والده في مسجد (باكداش) في حي (بويوك) دارة بإسانبول، وفي الجزائر، توفي محمد بن صالح رايس سنة 1568، فتم تعيين قلج علي حاكما عاما (باي لرباي). وقد بذل (قلج علي) جهده - منذ اضطلاعه بالمسؤولية، على متابعة الجهاد ضد الإسبانيين، فكان أول عمل له تركيز الجهد لدعم ثوار المسلمين في الأندلس، ثم إنقاذهم وإعادتهم إلى الجزائر، مع متابعة الجهاد في البحر على نحو ما سبقت الإشارة إليه.
د - تحرير تونس - 1573م
لم تكن الجزائر المجاهدة وهي تمضي في بناء قدرتها الذاتية، وتخوض معاركها جهادا في سبيل الله، إنما تريد العزة لنفسها، وإنما تريده للمسلمين كل المسلمين.
ولم تكن الإمبراطورية العثمانية وهي تخوض حروبها المتواصلة تبغي العزة لنفسها وقد أصبحت تمتلك من العزة بالله ما ساعدها على نشر ألويتها وبنودها فوق الشرق والغرب. ولم تكن بقية الأقطار الإسلامية وهي تقذف بنفسها في ميادين الجهاد، تبتغي العزة لنفسها أو القدرة لذاتها وإنما كانت لتدعيم الإسلام والمسلمين في كل بقعة ترتفع فوقها رايات الإسلام والمسلمين.
وعلى صعيد الجهاد في سبيل الله، التقت القوات العثمانية
بالقوات الجزائرية، وبقوات المغرب العربي الإسلامي لخوض حرواب الإيمان.
وكان المغرب العربي الإسلامي هو الميدان الأول للجهاد. وكانت (تونس) هي الهدف المرحلي في تلك الحروب والحملات المتواصلة، التي لا تكاد تتوقف على مسرح من مسارح العمليات حتى تتفجر على مسرح آخر.
وفي تلك الفترة، كان البابا بيوس الخامس (1566 - 1572م) قد انطلق على سيرة أسلافه في تأجيج نار الحراب الصليبية، فعمل على جمع شمل البلاد الأوروبية المختلفة، وحشد قواتها في البر والبحر تحت راية البابوية للوقوف في وجه الإسلام. وتم عقد حلف كاثوليكي مقدس في كاتدرائية سان بيير (القديس بطرس) يوم 25 أيار - مايو - 1570م ليضم هذا الحلف الدويلات الإيطالية والألمانية، وقوات البابا وأسطوله. وأخذت هذه القوى مجتمعة في الإعداد للهجوم والإستعداد له. وكان من نتيجة ذلك وقوع معركة ليبانت البحرية والتي سبق التعرض لها.
أراد الأمير (جون - اويوحنا) النمساوي. استثمار النصر الذي أحرزته القوات الصليبية المتحالفه في (ليبانت - أو - ليبانتي) لغزو المغرب العربي الإسلامي، والبدء في ذلك بمدية تونس (1). لانتزاعها من
(1) كان والي الجزائر (قلج علي) قد هاجم الملك الحفصي بباجه ودمر قواته، وتقدم إلى تونس ففتحت له أبوابها. ويذكر مؤرخ هذا الحدث بقوله:(وفتح أهل الحاضرة - تونس - أبوابها لعلي باشا فدخلها بمن معه، وقصد القصبة سنة 977 هـ (1569 م) ونادى في الناس بالأمان، فاجتمع إليه وجوه البلد وأخذ عليهم البيعة للسلطان سليم العثماني، وجهر الخطباء بالدعاء له على المنابر، وضربت السكة باسمه، ولما استقرت قدمه جاءه =
قبضة العثمانيين، للانتقال منها بعد ذلك إلى الجزائر. وغادر الأسطول الصليبي جزيرة صقليا في شهر تشرين الأول - أكتوبر - من سنة (1573م) وقد ضم الأسطول (138) سفينة تحمل (25) ألفا من المقاتلين. ونزل بقلعة (حلق الوادي)، وجاء الأمير النمساوي بالملك الحفصي (أبي العباس أحمد) الذي التجأ إلى الإسبان من أجل مساعدته على إسترداد ملكه، بشرط أن يكون الحكم مناصفة بين الإسبان وبين (أحمد الحفصي). غير أن هذا رفض مشاركة الصليبيين في حكم بلاده، وتنازل عن حقه في الملك لأخيه (محمد بن الحسن) ودخل الإسبان مدينة تونس التي لم يكن بها يومئذ حامية كافية للدفاع عنها، وخرج أهلها للنجاة بأنفسهم وبدينهم، ويصف مؤرخ عربي الموقف في ترنس بما يلي: (ولاذ - أهل تنس - بالبوادي ونالهم من الجوع
والعطش وكشف الستر وتشتيت الشمل ما هو مبسوط في كتب التاريخ، مما تقشعر منه الجلود
…
ودخل محمد بن الحسن إلى القصبة. وشاطره قائد الجيش الصبنيول في الحكم. وعاش عسكره في البلاد، وربطوا خيولهم بجامع الزيتونة، واستباحوا ما به، وما بالمدارس العلمية من الكتب، وألقوا بها في الطرقات يدوسها العسكر بخيولهم، وهذا هو السبب في قلة تآليف الفحول من هذا القطر، فإنها ضاعت شذر مذر في هذه الواقعة).
= فرسان الزمامرة (من جيش السلطان الحفصي) وقالوا له: نحن خدام سلطاننا، دافعنا عنه بقدر استطاعتنا، ولا مرد لحكم الله، فإن شئتم أبقيتمونا في بلادنا، وإن شئتم ننصرف، وأرض الله واسعة، فقال لهم علي باشا: لقد فعلتم ما وجب عليكم من النصح والمدافعة عن سلطانكم، فأنتم الآن من جماعتنا) ثم ترك علي باشا جماعة من جيشه لحماية مدينة تونس. ومحاصرة قلعة حلق الوادي التي كانت لا تزال بيد الإسبان. ورجع توا إلى الجزائر ليجهز أسطوله للاشتراك في معركة ليبانت. (حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 397).
وبينما كانت (تونس) تعيش أقسى ظروف محنتها، ظهرت طلائع الأسطول العثماني بقيادة حاكم الجزائر (باي لرباي) والذي كان يمارس في الوقت ذاته قيادة الأسطول (قبودان باشا). وقام (قلج علي) بإنزال قوات المجاهدين على مقربة من أطلال (قرطاجنة) تحت قيادة (سنان باشا) وأصدر أوامره في الوقت ذاته إلى جيش الجزائر بالتحرك فورا تحت قيادة (عرب أحمد). كما أرسل إلى جيش طرابلس يستدعيه بقيادة (مصطفى باشا) وجيش القيروان بقيادة (حيدر باشا) وكان أول عمل قامت به قوات المسلمين بقيادة (قلج على باشا) هو تضييق الحصار على (حلق الوادي) وتركيز الأعمال القتالية حتى أمكن اقتحام مواقعه وإبادة الحامية الإسبانية والاستيلاء على كل ما كانت تحتويه من الأسلحة والذخائر والمواد التموينية (وذلك لست خلون من جمادي الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة - 1573 م). ونقل المسلمون بعد ذلك ثقل عملياتهم القتالية لحصار تونس، ففر من بها من الإسبانيين ومعهم محمد بن الحسن الحفصي إلى (البستيون)(وهي قلعة بناها الإسبانيون إلى جانب تونس) واستولى المجاهدون على الحاضرة وقصبتها، ثم نقلوا ثقل الهجوم إلى حصن (البستيون) وأحكموا الحصار على حاميته. وتولى الوزير سنان باشا قيادة الحصار بنفسه، وشارك المجاهدين في أعمال ردم الخنادق وبناء أبراج الحصار (فكان ينقل التراب والحجارة، مثله كمثل كل المجاهدين، وعندما قال له أحد أمراء الجند: (أيها الوزير! نحن إلى رأيك أحوج منا إلى جسمك) أجابه الوزير: (لا تحرمني من الثواب.). وأمر ببناء (ترس) يشرف منه على قتال الإسبانيين في (البستيون). ولم يزل ملحا على حصار هذا الحصن حتى تم اقتحامه عنوة يوم الخميس (لخمس بقين من جمادي الأولى سنة إحدى وثمانين وتسعمائة - 1573 م) ومضت جموع المجاهدين لخوض المعركة الحاسمة، فأبادت الحامية الإسبانية
والقوات التي انضمت إليها من الصليبيين، ومات من الفريقين المتصارعين ما يزيد على العشرين ألفا. وسقط محمد بن الحسن الحفصي أسيرا. فأرسله سنان باشا إلى إستانبول حيث قضى نحبه. وانقرضت بهذه الموقعة دولة (بني حفص) بعد أن حكمت البلاد التونسية والكثير من بلاد الجزائر الشرقية لمدة تزيد على الثلاثمائة والسبعين سنة، كانت في أولها وفي وسطها منار علم وحضارة أضاءت لها سماء المغرب العربي الإسلامي ، وأسدل بذلك الستار نهائيا على المطامع الإسبانية في مشرق المغرب العربي - الإسلامى، ولم يبق لها بالمغرب الأوسط إلا مدينة وهران ومرساها الكبير. أما في المغرب الأقصى، فكانت الأحداث تتمخض عن صراع مرير انتهى (بمعركة الملوك الثلاثة، أو معركة القصر الكبير) والتي أدت بدورها إلى انهيار المطامع البرتغالية إلى الأبد.
يذكر هنا أن الانتصارات التي أحرزها المجاهدون في المغرب العربي الإسلامي، قد حملت الحكم الإسباني على البحث عن وسيلة تضمن لها الاحتفاظ بمواقعها في (وهران والمرسى الكبير) وذلك عن طريق صلح تعقده مع السلطان (مراد الثالث). غير أن حاكم الجزائر والقائد العام للأسطول الإسلامي (قبودان باشا قلج علي) تصدى لهذه المحاولة، وتمكن من إقناع السلطان العثماني بنظريته القائلة:(بأنه ما من صلح مع إسبانيا حتى يتم إجلاء الإسبانيين عن المواقع التي تحتلها في المغرب العربي - الإسلامي) وفشلت محاولة إسبانيا. وأكدت الجزائر المجاهدة أنها مصممة على متابعة الجهاد حتى يتم لها النصر الكامل على الأعداء.
هـ - انتصار المجاهدين في أصيلا (المغرب)(1575 م)
كان الملك السعدي (الشريف الغالب بالله) قد سلم (حجر
باديس - أو قلعة فاليس) للإسبانيين، وذلك (وفقا لما ذكره المؤرخون العرب):(لأن السلطان الغالب بالله لما رأى عمارة - أسطول - الأتراك والجزائريين لا ينقطع ترددها عن حجر باديس ومرسى طنجة - يعني البوغاز - وتخوف منهم، اتفق مع الطاغية الإسباني، على أن يعطيه حجر باديس، ويخليها لهم من المسلمين). فتنقطع بذلك مادة الترك عن المغرب، ولا يجدوا سبيلا إليه، فنزل النصارى على حجر باديس، وأخرجوا المسلمين منها، ونبشوا قبور الأموات وحرقوها، وأهانوا المسلمين كل إهانة ولما بلغ خبر نزولهم عليها لولده محمد. وكان خليفته على فاس، خرج بجيوشه لإغاثة المسلمين، فلما كان بوادي اللبن، بلغه استيلاؤهم عليها، فرجع وتركها لهم).
وتوفي الملك السعدي الغاب بمدينة مراكش سنة (982 هـ = 1574 م) وخلفه ابنه محمد المتوكل، غير أن الشيخ (عبد الملك ابن الشيخ السعدي - أخا الغالب) لم يعترف بالملك لابن أخيه (محمد) وطالب بالعرش لنفسه، وغادر البلاد إلى استانبول يستنجد السلطان العثماني (مراد الثالث) ويعترف له بالخلافة، ويلتزم بالدعاء له فوق المنابر، إذا ما هو استقر على عرش السعديين. ولم يكتف الشريف عبد الملك بهذا الوعد، بل انضم إلى الجيش العثماني الذي ذهب مجاهدا لإنقاذ تونس على رأس جماعة من أنصاره. وعلى إثر ذلك طلب السلطان (مراد الثالث) إلى والي الجزائر (القائد رمضان الذي خلف قلج علي) تجهيز جيش الدولة الجزائرية، واقتحام حدود الدولة المغربية، ودعم الشريف عبد الملك الذي كان قد دخل البلاد - بصورة سرية - وأخذ في استثارة أنصاره، واستنفار القبائل من أجل دعم دعوته.
ما أن انتهى القائد رمضان من تجهيز جيش الجزائر حتى توجه
إلى مدينة (فاس) في سنة 983 هـ = 1575 م. وضم جيشه البالغ عدده خمسة آلاف رجل إلى قوى (الشريف عبد الملك) ثم صادموا معا جيش السلطان محمد السعدي في مكان يقال له (الركن - ببلاد بني وارتين) فاندحر أمامهم ولحقت به هزيمة منكرة، لأن جماعة الأندلسيين الذين كانوا معه، قد انقلبوا عليه عندما رأوا جماعة الأندلسيين والأتراك يقاتلون مع خصمه، فانضموا إليهم. ودخل الشريف عبد الملك مدينة (فاس) وبويع بها سلطانا على المغرب. ثم إنه دفع للقائد (رمضان) مصاريف الحملة التي كان قد اقترضها من حكومة الجزائر (وهي 50 ألف أوقية من الذهب) وأفاض على جيش الجزائر وقادته بالتحف والهدايا الثمينة ومدافع كثيرة. ثم أعادهم إلى الجزائر وخرج لوداعهم بنفسه.
مضى السلطان المعزول (محمد المتوكل) إلى مراكش، واستقر بها، وما لبث بها إلا قليلا حتى تتبعه خصمه، وهزمه من جديد، واستولى على مراكش، فأمكن له توحيد المغرب الأقصى تحت حكمه. ونفذ ما وعد به السلطان العثماني. وأكد اعترافه بخلافته، ودعا له فوق منابر المغرب. وبذلك امتدت حدود الخلافة العثمانية (في سنة 1574) من دجلة شرقا وعدن واليمن جنوبا إلى المحيط الأطلسي. علاوة على بلاد الترك والبلاد الأوروبية التي أخضعت لحكم الإمبراطورية الإسلامية.
لم يقنع السلطان المعزول (محمد المتوكل) بما نزل من الهزائم، فمضى يستثير الأعداء، وتوجه بحرا إلى إسبانيا يطلب إلى ملكها الدعم والإمداد لاستعادة عرشه المفقود، ولإخراج المغرب الأقصى من دائرة نفوذ الأتراك العثمانيين. غير أن إسبانيا لم تكن يومئذ على استعداد للقيام بمغامرة جديدة، لا سيما وأن المغرب الأقصى كان
منطقة نفوذ لاستعمار البرتغال وفقا للإتفاقات بين البرتغال وإسبانيا، فمضى (محمد المتوكل) إلى عاصمة البرتغال (لشبونه) حيث اجتمع بالملك (سباستيان)(1) وعقد معه معاهدة تقضي بتنازله للبرتغاليين عن سواحل المغرب الغربية، وأن يحكم بقية البلاد الداخلية معترفا بسلطانهم وذلك مقابل إمدادهم له بقوة عسكرية، تبعد عمه عن العرش وتعيده إليه. وجهز (سباستيان) حملة قوية تضم (42) ألف مقاتل (ولم يكن جيش محمد المتوكل حليف سباستيان يزيد على ثلاثمائة رجل).
علم السلطان عبد الملك بتحرك البرتغاليين، وأعلم العلماء والشيوخ الذين استنفروا المقاتلين للجهاد فأقبلت جموعهم من كل أنحاء المغرب الأقصى، واتجهت إلى نواحي مدينة (أصيلا) على المحيط الأطلسي. حيث أنزل البرتغاليون قواتهم في شهر حزيران (يونيو) 1578م وتمكنوا من الأرض وتحصنوا بها، واستعدوا للقتال على مقربة من (القصر الكبير). واستطاع (السلطان عبد الملك) تنظيم جموع المجاهدين الذين بلغ عددهم (40) ألف مجاهد. والتقى الجمعان يوم الاثنين 30 جمادي الأولى سنة 986 هـ (الموافق 4 آب أغطس - 1578 م) على (وادي المخازن) ودارت رحى معركة طاحنة، أظهر فيها الطرفان المتصارعان قدرا غير قليل من التصميم على انتزاع النصر. غير أن تصميم المجاهدين في سبيل الله كان أكبر، فأمكن لهم سحق البرتغاليين، ولم تغرب الشمس حتى كان جيش الغزو قد أبيد إبادة شبه كاملة بحيث كان عدد الأسرى قليلا جدا،
(1) سباستيان: (SEBASTIEN)(ملك البرتغال في الفترة 1557 - 1578م) وهو من مواليد لشبونه 1554م وقتل في معركة القصر الكبير: ALCAZARQUIVIR أو KASR EL KEBIR أثناء قتاله لأبناء المغرب.
من ضباط الجيش العثماني بالجزائر
ولقي الملوك الثلاثة قادة المعركة حتفهم، فكان السلطان عبد الملك أول شهيد فيها، غير أن حاجبه المملوك (رضوان العلج) أخفى خبر وفاته وقاد المعركة باسمه إلى أن تم النصر وعندئذ أعلن على الناس الخبر المحزن. وقتل الملك (سباستيان) غرقا وهو منهزم في وادي المخازن. وحاول (محمد المتوكل) النجاة بنفسه بعد أن شهد الدائرة وهي تدور على حلفائه، فخاض نهر المخازن في محاولة للفرار بعيدا عن المعركة، فابتلعته مياه النهر.
وبايع الناس يومئذ في إجماع رائع، شقيق عبد الملك (الأمير أحمد) والذي لقب فيما بعد بالمنصور، وكان أكبر معين لشقيقه الشهيد، فبادر بمراسلة ملوك المسلمين وعظمائهم وأعلمهم بالنصر العظيم. وتلقى منهم التهاني، وكان أول من وفد عليه رسول صاحب الجزائر، وأرسل له (السلطان مراد) هدية، فاستقلها ولم يعبأ بها، وقطع الخطبة للخليفة العثماني، ثم توالت الرسائل بين السلطانين فتصالحا واستقر الأمر للخلافة السعدية على أرض المغرب الأقصى.
تمخضت هذه الأحداث التي انتهت بانتهاء القرن السادس عشر، عن مجموعة من المتحولات أبرزها:
1 -
فشلت الصليبية الإسبانية فشلا تاما في تحقيق أهدافها على أرض المغرب العربي الإسلامي ولم يبق لها بعد توسعها الكبير إلا (قاعدة وهران ومرساها الكبير).
2 -
استقرار سلطنة الأشراف السعديين في المغرب الأقصى بصورة ثابتة ووطيدة. وظهور كيان دولة الجزائر كدولة مستقلة خاضعة اسميا للإمبراطورية العثمانية، شأنها في ذلك شأن تونس وطرابلس ومصر وبقية بلاد العرب والترك، ولو أن الجزائر تمتعت
بدور ريادي في الجهاد أتاح لها قدرا كبيرا من حرية العمل السياسي والعسكري.
3 -
فقد المسلمون كل قدرة على استرداد الفردوس المفقود في الأندلس. وتوقفت تقريبا الفتوح الإسلامية في أوروبا بسبب تعاظم المقاومة وتنظيمها ضد سلطان المسلمين.
4 -
انصرفت الدول الأوروية لمعالجة مشكلاتها الخاصة في حروب أهلية لم تتوقف، مما أتاح لدول المسلمين نوعا من الهدوء النسبي. غير أن الصراع لم يتوقف.
من قادة الجيش العثماني بالجزائر