الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية
أظهر العرض الوجيز لمسيرة الأحداث - الفصل الثاني - ذلك الدور الرائع الذي اضطلعت به جماهمير الشعب العربي المسلم في رفع راية الجهاد في سبيل الله، في البر والبحر، بصورة عامة، وما قام به المجاهدون فوق أرض الجزائر الحرة بصورة خاصة، في ظروف الدفاع عن أرض الإسلام والمسلمين، وفي إحباط أعمال العدوان ودحرها. فقد كانت حشود المجاهدين هي القوة الحقيقية التي تحسم الصراع في كل مرة تتعاظم فيها قوى العدوان، فتتسارع إلى ميادين الجهاد في كل مرة يرتفع فيها صوت حاكم الجزائر معلنا (الجهاد في سبيل الله). وقد سجلت المصادر التاريخية في مناسبات كثيرة العبارات التالية:(وما كاد المجاهدون يسمعون باقتراب الأعداء - الكفار - حتى يندفعون إلى ميادين الجهاد حتى تضيق بهم الأرض).
و (كان المجاهدون يقبلون ومعهم نساءهم وأولادهم، الذين يشتركون معهم في إنقاذ الجرحى ودفن الموتى وفي المشاركة بأعمال تحصين الأرض).
تلك هي الصورة الرائعة والخالدة لمفهوم (الجهاد في سبيل الله) منذ ظهر الإسلام على الأرض، والتي تكررت بأوضح معانيها وأسمى
أشكالها في مجابهة ما تعرضت له الجزائر أيام البلوى القاسية والصعبة. وهذه النفرة الإجماعية هي التي تأخذ في الحروب الحديثة اسم (الحرواب الشعبية) والتي حدد المسلمون أشكالها ومضامينها من قبل أن يعرف العالم اسم (الحروب الشعبية) بقرون طويلة.
وتجدر الإشارة إلى أن العالم قد عزف منذ أيام الحروب البدائية، وحتى في العصر الحديث بعض أشكال هذه (النفرة الإجماعية) فقد اشتهرت الفتيات الأمازونيات باشتراكهن في الحروب وسبقهن في مجالات حمل السلام، كما أبرز عرض الأعمال القتالية قيام النسوة الإسبانيات وحتى الأولاد بمشاركة القتاليين في أعمال الحصار وترميم الحصون والثغرات. غير أن هناك ثمة فارق كبير بين هذه النماذج وبين مفهوم (النفرة الإجماعية في الجهاد) والتي تعتمد على مجموعة من الخصائص أبرزها: 1 - الطوعية في الإقبال على القتال. 2 - الاستعداد الدائم للقتال. 3 - الاستجابة الإجماعية والموحدة لنداء الجهاد. 4 - ربط مفهوم الجهاد بهدف نبيل (الشهادة أو النصر) والذي يرتبط بالعقيدة الدينية الإسلامية.
ولقد استطاعت الكنيسة في الحقيقة - عبر الحروب الصليبية - تكوين مفاهيم مشابهة كمفاهيم المسلمين في الجهاد، بل إنها عممت استخدام ذات العبارات التي كان يستخدمها المسلمون ويطلقونها على أعدائهم (الكفار) و (أعداء الدين) و (الجهاد) و (الغفران) و (الجنة) و (الخلود). غير أنه كان من المحال الاحتفاظ (بدفء هذه المفاهيم) و (حرارتها) في استثارة الهمم والتحريض على الجهاد والحض على القتال. وهذا ما أكدته وأبرزته أعمال المجاهدين عند الاندفاع لدعم المسلمين المجاهدين في الأندلس، ثم في الدفاع عن أرض الإسلام
عند انتقال العدو للهجوم على أرض المغرب العربي - الإسلامي - وتبرز عند هذه النقطة مجموعة من النقاط التي يجدر التوقف عندها من جديد، وأهمها:
1 -
الموقف من أعداء الداخل - أعداء الدين -.
2 -
قوة تيار الجهاد وعمق مفاهيمه.
ولقد ظهرت فوق سطح عالم الفتوحات الإسلامية بعض الانتكاسات التي تعود في جذورها إلى مفاهيم (القبلية - الجاهلية). غير أن هذه الانتكاسات بقيت محدودة الخطورة، محدودة التأثير، محدودة النتائج. غير أن هذه الظاهرة أخذت في رسم أبعاد خطيرة على ساحة الصراع في الأندلس، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط طليطلة، وتعاظم قدرة حكام الأندلس واستنصار المسلمين بهم على إخوانهم في الدين. الأمر الذي ضاعف من خطورة التمزق الداخلي، والذي استطاع المعتمد بن عباد علاجه بانتصاره (بابن تاشفين). وعرف الصليبيون من خلال ذلك أن قوة المسلمين تكمن في وحدتهم فانطلقوا للإسهام بتمزيق هذه الوحدة، وكان لهم دور كبير فيها. حتى إذا ما نقلوا صراعهم إلى أرض المسلمين في المغرب العربي - الإسلامي. انطلقوا إلى اعتماد هذه الوسيلة للتفريق بين المسلمين وضرب بعضهم ببعض ثم ضربهم جميعا. وكانت الجزائر المجاهدة قد أدركت هذه الحقيقة واستوعبتها فلم تعد تقبل مهادنة أعداء الداخل، وكانت في بعض الأحيان أكثر قسوة في القضاء عليهم وإبادتهم من قسوتها على الأعداء ذاتهم إدراكا منها بأن أعداء الداخل هم أشد خطرا من أعداء الخارج على الدين وعلى قضية الجهاد. وقد عالج أئمة المسلمين هذا التطرف ونجحوا في كبحه غير أنهم لم يتساهلوا أبدا في معالجة
(المتعاونين مع العدو). ولقد ظهرت نتائج ذلك بسرعة مذهلة فقد أمكن توحيد الجبهة الداخلية للمسلمين، والانطلاق منها بحزم لمجابهة الأعداء الخارجيين وأدى ذلك بدوره إلى ضعف أعداء الداخل وانهيارهم. حتى أنه في كثير من المعارك كان المقاتلون تحت راية المتعاونين مع الإسبانيين، ينفصلون عنهم بمجرد الاشتباك في المعركة، أو يعتزلون القتال ضد المسلمين في أضعف الحالات.
ولقد كان الولاء لزعيم العشيرة أو الملك، وهو أمر مرتبط بجوهر الدين، هو العامل الأساسي في الانتكاسات وهو نزوع جاهلي، جاء المبدأ الحالد (لا ولاية لكافر على مسلم) فعمل على إلغائه. وقد برز هذا المبدأ بكل وضوحه وبأعمق معانيه في جهاد الجزائر ضد أعداء الدين فكان في ذلك بعض عدة الجزائر المجاهدة فيما حققته من انتصارات. وأما المبدأ الثاني فهو (عدم الانتصار بكافر على كافر) وهو المبدأ الذي أدى أحيانا إلى اصطدام الجزائر بالخلافة، والذي أرغم دار الخلافة على الخضوع للجزائر في النهاية. فكان في ذلك أيضا بعض عدة المسلمين في انتصارهم على أعدائهم.
كانت أعمال الجهاد في الجزائر (مبدئية وثابتة) وهو ما تؤكده جميع المواقف وكان الفضل في ذلك لعمق مفهوم تيار الجهاد من جهة، وللتجارب التي أكدت صحة هذا المفهوم في كل المناسبات، وفي كل الحروب التي خاضها المجاهدون في سبيل الله.
وظاهرة وجود (فئة من الخارجين على الإجماع) هي أمر طبيعي عرفته كل المجتمعات في القديم والحديث، وعرفت المجتمعات في القديم والحديث أيضا أن خطورة (أعداء الداخل) تتزايد في مرحلة ضعف المجتمع وتضعف بزيادة قوته. ومن هنا فإن ظهور قوة (أعداء
الداخل) وزيادة حجمهم وقدرتهم هو المؤشر الثابت على ما يتعرض له المجتمع من الانهيارات. والعلاقة بين قوة المجتمع وقوة أعداء الداخل علاقة جدلية ثابتة، ومن هنا فإن تصفية أعداء الداخل كمرحلة لها الأفضلية الأولى في بناء القدرة الذاتية هو أمر أساسي وحاسم (عبرت عنه الثورة الإفرنسية بوضورح عندما عملت على تصفية أعداء الداخل قبل الانطلاق لمجابهة أعداء الخارج) وسبقتها الجزائر عندما دمرت أعداء الداخل ووحدت الجبهة الداخلية قبل أن تنطلق للجهاد ضد أعداء الدين. وهنا ظهرت العلاقة الجدلية والثابتة من جديد فقد كان كل انتصار خارجي للمسلمين يضعف من أعداء الداخل المتعاونين مع الأعداء الخارجيين، وكان ضعف هؤلاء الأعداء الداخليين يؤدي بالتالي إلى زيادة القدرة لقتال الأعداء الخارجيين، وفي الواقع، فإن متابعة مسيرة الأحداث على جبهة الصراع بين الجزائر المجاهدة وأعداء الدين تؤكد هذه الحقيقة الجدلية وتبرزها بشكل واضح على امتداد صفحة الجهاد.
وكان عمق تيار الجهاد هو العامل الأساسي في بروز هذه الظواهر وتأكيد فاعليتها وأهمية دورها، وهو ما تؤكده أيضا المقولات الشعرية والنثرية التي حفظتها الأوابد المغربية الإسلامية في الحض على الجهاد وتحرير الأرض المغتصبة من ديار المسلمين، فقد بقيت وهران والمرسى الكبير تحت احتلال الإسبانيين طوال قرنين من الزمن في المرحلة الأولى وعلى امتداد خمسين سنة في المرحلة الثانية، كان أئمة المسلمين ومشايخهم وكتابهم وشعراءهم لا يتوقفون عن التذكير بمأساة (وهران) واستثارة الهمم، ولم يكن باستطاعة حكام المسلمين في الجزائر تجاهل هذا التيار المحرض القوي، وهكذا كان تيار الجهاد هو الذي يدفع الحكام ويقودهم ويوجه خطاهم، ولا ينتقص ذلك من
دور هؤلاء الحكام الذين عملوا على التتابع من أجل تنظيم تيار الجهاد وإذكاء شعلته وتوجيه فعالياته وقدراته، وإطلاق شعلته العالية لإضاءة ظلمات دنيا المسلمين خلال تلك الحقبة التاريخية التي تناوبت فيها المحن والنوائب على كل ديار المسلمين، فكان للجزائر المجاهدة دورها الأساسي والحاسم في رفع قيم الجهاد في سبيل الله، وتأكيد فضائلها في حماية مجتمع الإسلام والمسلمين.
ولقد كان للمسجد (الجامع) دوره في تكوين هذا التيار، وأظهرت الأوابد أيضا، وفي مناسات كبيرة (اندفاع طلبة العلم والمشايخ إلى مقدمات الصفوف) وإعطاء الأمثولات في (طلب الشهادة أو النصر) وفي (الحض على الجهاد والتحريض على القتال). فليس من الغريب بعد ذلك أن يبقى (القضاء على المسجد) هو الهدف الأول لكل الحملات الصليبية في المشرق كما في المغرب. وإذا كان هدف المسلمين من إقامة المساجد هو (الهداية) ورفع (راية الإسلام) فقد بات من المتوقع أن تعمل الحملات الصليبية، وعلى كل الجبهات، من أجل تدمير المسجد وتحويله إلى كنيسة لحرمان المسلمين من عامل صمودهم. وعرفت الجزائر المجاهدة، كما عرف المسلمون ذلك في كل ديارهم، فكان أول عمل لهم بعد كل فتح، هو ترميم المساجد وإصلاحها وإقامة المساجد الجديدة حتى تتمكن من الاضطلاع بدورها في توحيد كلمة المسلمين، والمحافظة على قدرتهم الذاتية التي يكمن فيها وجودهم.
وهنا لا بد من القول أيضا، أن دويلات المسلمين في مختلف العصور والعهود، وعلى امتداد المغرب العربي الإسلامي قد عنيت أشد العناية بإقامة المساجد والاهتمام بها، وإذا كانت هذه الدول قد جنحت في فترة انحطاطها إلى التعاون مع أعداء الدين، فقد بقي هذا
التعاون ظاهرة مرضية تعبر عن جنوح مرحلي لم تلبث جماهير (المسجد) أن عملت على تقويمه وتصحيحه.
لقد تعاقب على حكم الجزائر عدد كبير من (البايات والدايات) بداية من الإخوة ذوي اللحى الشقراء، وحتى نهاية الحكم العثماني، بعضهم تألق في سماء قيادة الجهاد، وبعضهم قصرت همته عن بلوغ مرتبة قيادة الجهاد. غير أن تيار الجهاد بقي قويا وثابتا، لم يتأثر بتغير الحكام ولم يتحول بتأثير الصراعات الداخلية، ولم يضعف بتأثير الانتكاسات. وبقي (تيار المسجد الجامع) هو التيار المهيمن على الجمهور المسلم، وهو الموجه للحكام على اختلاف قدراتهم وتباين إمكاناتهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن (تيار المسجد) هو الذي أزال كل التناقضات الداخلية وصهرها جميعها في تيار واحد (هو تيار الجهاد في سبيل الله) لا فارق في ذلك بين تركي وعربي؛ ومغربي وغير مغربي، فكان في ذلك بعض عدة المجاهدين فيما حققوه من انتصارات متتالية. وقد يكون من غير الضروري بعد ذلك البحث في فضائل (تيار المسجد - الجامع) بالمحافظة على تقاليد الجهاد، فالصبر على المكاره، واحتمال كره القتال، والاستعداد الدائم للقتال والإعداد له، والصلابة والتصميم حتى بلوغ النصر الكامل والثبات في مواطن الشدة والخطر كل ذلك هو بعض الفضائل الإسلامية التي تشكلت منها (العقيدة القتالية الإسلامية) والتي أبرزتها صفحة الجهاد على أرض المغرب العربي - الإسلامي والحروب البحرية.
بنتيجة ذلك كله، لم تكن حروب الجزائر حروبا نظامية في مفهومها الحديث - بقدر ما كانت نوعا من الحروب الثوروية الحقيقية
التي طبقت فيها أساليب الحرب النظامية، واستخدمت فيها أسلحتها، فكانت نموذجا متقدما للمزج بين طرائق الحرب النظامية
وطرائق الحروب الثوروية. وكانت هذه الظاهرة هي التي أذهلت قادة الصليبيين الإسبانيين الذين اعترفوا في مناسبات كثيرة (بأنهم لم يعرفوا مثل هذه الحروب) على الرغم من استمرار صراعهم مع المسلمين. ولم يكن ذلك إلا بسبب اعتماد الجزائر المجاهدة على أسس (العقيدة القتالية الإسلامية) والتي شكلت ما يطلق عليه في العصر الحديث اسم (الأصالة الثوروية) وهي الأصالة التي كان لها دورها الثابت في مجابهة كل ما تعرضت له الجزائر من قبل ومن بعد.
وقد يصاب المرء بالذهول وهو يطالع ما جابهته الجزائر المجاهدة عبر تاريخها الطويل، وما تعرضت له من غزوات واعتداءات. لقد كانت وباستمرار في (حرب طويلة الأمد) لا تكاد تنطفىء معاركها حتى تتجدد بقوة أكبر وبعنف أعظم، واشتركت في هذه الحرب الطويلة الأمد، كل شعوب الأرض، فإذا كانت إسبانيا الصليبية هي التي تزعمت الحرب الصليبية ضد الجزائر وتركت للبرتغال قيادة هذه الحرب في المغرب الأقصى، فإن الدول الأوروبية الأخرى لم تلبث أن جاءت بدورها للإسهام في هذه الحرب الشاملة، حتى أمريكا ذاتها لم تلبث أن جربت حظها في العدوان على الجزائر المجاهدة الصابرة المحتسبة. وانتصرت الجزائر على كل أعدائها. وبقيت (الجزائر المحروسة) نجما يتألق في سماء (المغرب العربي الإسلامي) وكوكبا متوهجا يضيء دنيا الإسلام والمسلمين.
لقد بقيت (الجزائر المحروسة) لأنها حفظت الإسلام فحفظها الإسلام.
وعرفت (الجزائر المحروسة) تلك العلاقة الجدلية الثابتة أيضا بين دفاعها من الإسلام والمسلمين، وبين دفاع الإسلام والمسلمين
للمحافظة على وجودها وقدرتها. فكان في ذلك بناء (الأصالة الثوروية الحقيقية) التي بقيت الصخرة الثابتة ضد كل أعداء الدين. واعتمدت (الجزائر المحروسة) في تحليقها وفي انطلاقتها على جناحيها الثابتين في المشرق والمغرب. وكان في ذلك التعبير الحقيقي عن (الأصالة الثوروية الحقيقية) والتي ستبقى أبدا مصدر قوة (الجزائر المجاهدة) وقوة (المغرب العربي الإسلامي).