المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الجزائر (المحروسة)على طريق البناء والقوة - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٢

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أبرز الأحداث على المسرح الإسلامي

- ‌أبرز الأحداث على المسرح العالمي

- ‌أبرز الأحداث على مسرح الجزائر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الجزائر المجاهدة

- ‌ الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق:

- ‌آ - معركة ليبانتي:

- ‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية:

- ‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني:

- ‌الفصل الثاني

- ‌ الجزائر وبناء القدرة الذاتية

- ‌ إنكلترا تشن الحرب على الجزائر

- ‌آ - الحملة على جيجل (1664)

- ‌ب - الإغارة على الجزائر (1682م)

- ‌ القتال حول وهران - وتحريرها

- ‌ الإسبانيون يعودون إلى وهران

- ‌ تبادل الأسرى والمعركة البحريةأمام الجزائر

- ‌ الجزائر تدمر الحملةالإسبانية الكبرى

- ‌ معركة بحرية جديدةأمام الجزائر

- ‌ وأخيرا تحرير وهران

- ‌الفصل الثالث

- ‌ الجزائر (المحروسة)على طريق البناء والقوة

- ‌ السياسة الاستراتيجية للجزائر

- ‌ المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية

- ‌قراءات

- ‌(وهران) وأدب الحرب

- ‌ ترجمة رسالتين متبادلتينبين داي الجزائر والرئيس الأميريكي

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ الجزائر (المحروسة)على طريق البناء والقوة

1 -

‌ الجزائر (المحروسة)

على طريق البناء والقوة

لقد فشلت كل المحاولات للنيل من الجزائر المجاهدة، وتحطمت كل أعمال العدوان على صخورها، وغرقت على سواحلها وفي مياهها كل الموجات الصليبية، ولم يكن تحرير وهران والمرسى الكبير أكثر من حلقة في صراع مرير لم يتوقف في يوم من الأيام. وبقيت (الجزائر المحروسة) رائدة للجهاد في سبيل الله، تبني قوتها الذاتية وتقارع أعداءها، وكانت في ذلك كله خيرة معطاءة، فقوتها لها ولكل المسلمين والأعداء هم أعداء لها وأعداء للمسلمين، هكذا كانت أبدا، ومضت الأعوام بعضها يمسك برقاب بعض والجزائر البعيدة عن مركز الخلافة الإسلامية تتبادل معها الدفاع وتنسق معها الجهد، وتحمل معها الأعباء القتالية في البر والبحر. وكانت الجزائر تمارس دورها بحرية تامة، وبمحض اختيارها وإرادتها، إذ لم تكن علاقتها بالخلافة الإسلامية أكثر من علاقة اسمية، فكان الولاة يستقلون بإدارة الجزائر الداخلية تمام الاستقلال، لا تربطهم بالدولة العليا سوى روابط الود والاعتراف بالحماية، وهي رابطة أشبه ما تكون بروابط الأحلاف. بل أن هذه العلاقة أو الرابطة كثيرا ما تترك للجزائر الحرية لانتهاج سياسة خارجية مغايرة لتلك التي تلتزم بها

ص: 161

الخلافة، وعلى سبيل المثال، فقد سبقت الإشارة إلى الموقف الذي اتخذته الجزائر تجاه فرنسا التي كانت قد ارتبطت مع الخلافة العثمانية بمعاهدة (الامتيازات القنصلية) وجاءت الجزائر لترفض منح فرنسا هذه (الامتيازات) لأنها وجدتها تتناقض مع مصلحتها. وفي مناسبات أخرى كانت الجزائر تفرض على دار الخلافة (إستانبول) السياسة المناسبة للجزائر، وعلى سبيل المثال، فعندما حاولت إسبانيا التقرب من الخلافة لعقد معاهدة صداقة وسلام، تصدت الجزائر لهذه المحاولة وأحبطتها، وأعلنت بصراحة ووضوح أنه: (لا سلام مع إسبانيا طالما بقيت قواتها في وهران والمرسى الكبير. وأيدت دار الخلافة الموقف المبدئي للجزائر ودعمته وتم بذلك إحباط الجهود الإسبانية.

كانت علاقة الجزائر بدار الخلافة أشبه ما تكون بعلاقة (الأحلاف) فكانت قوة الجزائر في قوة الخلافة، وكانت قوة الخلافة في قوة الجزائر. فلا غرابة بعد ذلك أن تكون العلاقة الحميمة قائمة على الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل. ولا غرابة في أن تترك الخلافة للجزائر النظام الذي تختاره، لإدارة أمورها. ولا غرابة أيضا في قبول كل ما يصدر عن العاصمتين بروح الإخاء، حتى لو كان في بعض الممارسات خروجا على ما هو معروف من علاقات بين الأحلاف المتشاركين في السراء والضراء.

لقد أسهبت المصادر الغربية في وصف تلك المرحلة التاريخية، لا سيما خلال الفترة الممتدة بين منتصف القرن السابع عشر وبداية القرن التاسع عشر، وأمعنت في الإساءة إلى قادة الجزائر وحكامها وشعبها، من خلال وصف الحكام (بالمزاجية وعدم الاستقرار وقبول الرشاوى بل حتى فرضها بمقادير معينة واتساع نطاق الفساد على كل

ص: 162

المستويات المسؤولة (1)). وتتجاهل تلك الكتابات روح العصر وطبيعته، وليس المجال هنا هو مجال الدفاع (عن الفساد) إذ أن هذه الظاهرة المرضية المرافقة دوما لعهود الانحطاط تبقى أبدا وهي تحمل صفة (الفساد). غير أن تركيز الأحكام على السلبيات بدون إظهار للإيجابيات المقابلة يشكل بدوره ظاهرة من ظواهر (الفساد). ولقد بات من الثابت أن الجزائر بلغت في طليعة القرن التاسع عشر مرتبة من القوة وضعتها في مركز أقوى دول البحر الأبيض المتوسط، وكانت مدينة الجزائر هي أحسن ميناء على ساحل البحر بقلاعها المتينة ومدافعها الضخمة وجنودها البواسل. وكان الأسطول الجزائري يزيد على (72) قطعة حربية ممتازة كبيرة الحجم، و (140) سفينة متوسطة الحجم. وكانت كل هذه السفن الحربية مسلحة بما تحتاجه من المدافع والذخائر والجند، وبلغ عدد البحارة الجزائرين أكثر من (30) ألف بحار اشتهروا بكفاءتهم القتالية العالية وتدريبهم الرائع. ولقد كانت تلك القدرة البحرية المتكاملة هي عدة الجزائر للانتشار في البحر الأبيض المتوسط، واتخاذ الملاحة صناعة وطنية، والقرصنة مهنة تجارية. ولكن وعلى الرغم مما كان يصيبه أهل الجزائر من المغانم الضخمة عبر غزواتهم البحرية، فإنهم لم يكونوا يعتبرون أن ما يحصلون عليه من ربح طائل أو ثروة ورفاهية عظيمتين هما نوعا من السرقة أو النهب، بل إنهم كانوا يعدونها نوعا من الحروب بين المراكب التجارية أينما وجدت.

(1) يمكن في هذا المجال مطالعة كتاب (العلاقات الديبلوماسية بين دول المغرب والولايات المتحدة) 1776 - 1816 - لمؤلفه إسماعيل العربي - إصدار الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر - 1978 والذي يتضمن كشفا دقيقا عن العلاقات التي كانت سائدة في تلك الحقبة التاريخية.

ص: 163

ولم يكن الجزائريرن يهاجمون أية سفينة يظفرون بها في عرض البحر، وإنما كان على جميع الدول البحرية التي تريد أن تجتاز بواخرها البحر الأبيض المتوسط بأمان أن ترتبط مع داي الجزائر بمعاهدة صداقة، وأن ترسل قنصلا لها يقيم في مدينة الجزائر، وتدفع لحاكمها ضريبة سنوية محددة مقابل تمتعها بالحرية البحرية. وهكذا كانت انكلترا وفرنسا والدانمرك وهولاندا وسردينيا والبرتغال والسويد والنرويج وهانوفر وإسبانيا والولايات المتحدة الأميريكية ترتبط بمعاهدات رسمية مع (داي الجزائر) وترسل إليه كل عام الهدايا الثمينة، وتطلب وده ومصادقته وبذلك كانت تضمن عدم تعرض بواخرها للضرر أو الأذى. وبذلك حصلت الجزائر على اعتراف جميع دول العالم بها كدولة مستقلة، تسابق الدول لاكتساب صداقتها والتحالف معها، والاعتراف لها بالسيادة على البحر الأبيض المتوسط. ومن ذلك تلك المعاهدة التي عقدت في أيلول (سبتمبر) سنة 1795م بين الولايات المتحدة الأمريكية والجزائر، وتضمنت التصريح للسفن الأمريكية بممارسة التجارة مع الجزائر مقابل دفع الرسوم المعتادة، وإعفاء الأدوات البحرية والحربية من هذه الرسوم على أن يصرح للسفن الجزائرية بمثل ذلك مقابل إجازات سفر لها من القنصل الأمريكي في الجزائر. وليس إعلان الحرب من قبل الجزائر على أمريكا في 12 نيسان - أبريل - 1825 بسبب سوء استغلال أمريكا للإتفاقية السابقة، ثم عقد صلح جديد، إلا برهانا على استقلالية الجزائر من جهة، وتأكيدا على ما بلغته من القوة في تلك الفترة - من جهة ثانية - (1) وإذن، فالأمر

(1) أنظر في - قراءات 2 - في آخر الكتاب - نصي الرسالتين المتبادلتين بين داي الجزائر والرئيس الأمريكي في هذا المجال.

ص: 164

الذي لا يقبل الجدل هو أن حكومة الجزائر كانت تفرض إرادتها، وتعقد المعاهدات، وتعلن الحروب، وتدافع عن مصالح الجزائر دون الرجوع إلى تركيا أو غيرها من بلدان العالم.

وبلغت الجزائر مرحلة من التطور الاجتماعي - والاقتصادي حسدتها عليه الدول الأوروبية الغربية، ووصلت الجزائر من القدرة الاقتصادية ما جعلها تقدم القروض والمساعدات إلى فرنسا حتى بلغت ديون فرنسا للجزائر مبلغ (7) ملايين فرنك إفرنسي (في سنة 1798م) وأدى ذلك إلى زيادة عدد السكان، حيث بلغ عدد سكان الجزائر عشرة ملايين، وعدد سكان العاصمة الجزائر (50) ألف نسمة. وكانت الجزائر تعتمد في اقتصادها على الزراعة واستخراج الحديد والرصاص والملح من المناجم بالإضافة إلى التجارة والغزو (القرصنة). وعرفت الجزائر في العهد العثماني - على خلاف ما هو شائع - تطورا ثقافيا وعلميا مذهلا بحيث كان كل جزائري تقريبا يعرف القراءة والكتابة، ويعود الفضل ذلك إلى بقاء التعليم حرا من سيطرة الدولة ومن سيطرة الحكام، فكان سكان كل قرية ينظمون بطرائقهم الخاصة ووسائلهم الذاتية تعليم القرآن الكريم والحديث والعلوم العربية الإسلامية، لأن دراسة هذه العلوم هي السبيل إلى معرفة جوهر الدين وفهم القرآن والسنة. وبقي تعليم القرآن الكريم أساس التعليم في الجزائر - كما هو في كل أقطار العالم الإسلامي - سواء كان هذا التعليم ابتدائيا أو ثانويا أو عاليا. وكانت المدارس على اختلاف مستوياتها تمول وتغذى بالأوقاف التي يحبسها أهل الصلاح والخير من الرجال والنساء، وفي بعض الأحيان كان يحبسها موظفون كبارا في الدولة كعمل من أعمال الخير. فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراضي يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف

ص: 165

المعلمين وتوفير المساكن للطلبة، فكانت الأوقاف هي الأساس في تدعيم التعليم وحماية الطلبة والمعلمين. وكانت الأوقاف ترعى التعليم بمراحله الثلاثة الابتدائي والثانوي والعالي.

فبالنسبة للتعليم الابتدائي كان كل طفل بين السادسة والعاشرة يذهب إلى المدرسة. والملاحظ أن هذا بخصوص الأطفال الذكور، أما الإناث فلا يذهبن إلا نادرا إلى المدارس، ولكن أصحاب البيوتات الكبيرة، فكانوا يجلبون أستاذا معروفا بصلاحه وعلمه لتعليم البنات. وكانت هناك خيمة تدعى (الشريعة) في كل قرية مهما صغرت، من أجل تعليم الأطفال، ويشرف عليها معلم (مؤدب) بختاره سكان القرية لهذه الغاية. أما في المدن والقرى الكبيرة، فقد كانت هناك مدارس تدعى المكتب (مسيد) وكانت غالبا ملحقة بالوقف، وإلى جانب ذلك كان كل جامع يضم مدرسة للتعليم أيضا. أما أهل البادية، فكانوا يرسلون أطفالهم للتعليم في المدن حيث يقيمون عادة مع عائلات صديقة أو يصرف عليهم مجانا من الأوقاف. أما المدن الكبرى، فكان عدد المدارس الابتدائية فيها كبيرا، بحيث ضمت (قسنطينة) في سنة 1810 أكثر من (86) مدرسة ابتدائية، كان يختلف إليها حوالي (1350) تلميذا. وكان في تلمسان حوالي (50) مدرسة ابتدائية في تلك الفترة ذاتها. ومدة التعليم الابتدائي حوالي أربع سنوات، يتعلم الطفل خلالها مبادىء القراءة والكتابة وحفظ القرآن وأركان الإسلام وأصول الدين. ينتقل بعدها الطلاب إلى المدارس الثانوية - في الجامع أو في مدرسة ملحقة بالأوقاف.

وكان التعليم الثانوي مجاني أيضا. وكان للمدرس في الثانوي مكانته الخاصة، بحيث كان الأهالي يتكفلون بمتطلباته الحياتية وتقديم الخدمات له من أجل مساعدته على التفرغ وإعداد الدروس. وكان في

ص: 166

مجلس علمي بمسجد كتشاوة قبل تهديمه على يد الفرنسيين

ص: 167

العاصمة وقسنطينة وتلمسان جوامع ومدارس وزوايا لإيواء التلاميذ. وعلى سبيل المثال فقد كان في (قسنطينة) 35 جامعا و7 مدارس، وكان (150) تلميذا من (700) يحصلون على أجرة سنوية من دخل الأوقاف. وكان معظم هؤلاء التلاميذ من سكان الأقاليم، وقد أعدت لهم زوايا خاصة لسكناهم بلغت ست عشرة زاوية. وقد كان في العاصمة ست زوايا لهذا الغرض ثلاثة منها لعرب الغرب واثنتان لعرب الشرق أما الأخيرة فقد أعدت لإيواء المدرسين في العاصمة والذين ليس لهم عائلات مقيمة. أما تلمسان، فقد كان فيها عدد كبير من هذه الزوايا. كما كانت فيها مدرستان إحداهما مدرسة الجامع الكبير، والأخرى مدرسة ولد الإمام. وفي ضاحية تلمسان كانت مدرسة قرية (عين الحوت). ولم تكن الزوايا مقصورة على المدن، بل كانت هناك زوايا في الأرياف تقام تخليدا لأحد المرابطين، ويقام بجانبها جامع للصلاة وبئر للشرب والوضوء. وتخصص الأرض لهذه الزوايا الريفية، فيحرثها الأهالي، ويستعمل دخلها لمساعدة المدرسين والطلبة. ويخصص أهل الخير جزءا من محصولهم السنوي للزاوية التي توجد في منطقتهم. وكان يتلقى العلم في الثانوي حوالي (3) آلاف تلميذ في كل إقليم من أقاليم الجزائر الثلاثة.

لم يكن هناك فصل واضح بين التعليم الثانوي والعالي. ويسمى الأستاذ الذي يدرس في التعليم العالي (عالما). أما عدد الطلبة فكان يتراوح بين 600 و800 طالب في كل إقليم. وكانت الدروس العالية تعطى في الزوايا وأهم الجوامع. وكانت مواد التعليم العالي تشتمل على النحو والفقه (الذي يشمل العبادات والمعاملات) والتفسير والحديث والحساب والفلك بالإضافة إلى التاريخ والتاريخ الطبيعي والطب.

ص: 168

تلك هي لمحات عن الحياة في الجزائر سياسيا وعسكريا وفكريا، خلال مرحلة (بناء الجزائر) الحرة المستقلة، ولقد خاضت الجزائر المجاهدة صراعا مريرا على جبهة الأعداء الخارجيين وعلى جبهة البناء الداخلي، في إطار من التكامل. فدعمت وحدتها الداخلية بانتصاراتها الخارجية وحققت انتصاراتها الخارجية بفضل وحدتها الداخلية. وكان في ذلك انتصارها الأكبر. وبقي البناء الداخلي والصراع الخارجي مرتبطا بالجامع والزاوية (المدرسة). فكان هذا (الجامع) هو القاعدة القوية والأساس الراسخ لقدرة المجتمع الإسلامي ووحدته، على الرغم من كل ظواهر التمزق التي اجتاحته، والتي عرف المغرب العربي الإسلامي منها قدرا ربما زاد على كل ما عرفته أقطار العالم العربي الإسلامي الأخرى.

ص: 169

الحياة اليومية في منزل جزائري أيام العثمانيين

ص: 170