المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني: - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٢

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أبرز الأحداث على المسرح الإسلامي

- ‌أبرز الأحداث على المسرح العالمي

- ‌أبرز الأحداث على مسرح الجزائر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الجزائر المجاهدة

- ‌ الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق:

- ‌آ - معركة ليبانتي:

- ‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية:

- ‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني:

- ‌الفصل الثاني

- ‌ الجزائر وبناء القدرة الذاتية

- ‌ إنكلترا تشن الحرب على الجزائر

- ‌آ - الحملة على جيجل (1664)

- ‌ب - الإغارة على الجزائر (1682م)

- ‌ القتال حول وهران - وتحريرها

- ‌ الإسبانيون يعودون إلى وهران

- ‌ تبادل الأسرى والمعركة البحريةأمام الجزائر

- ‌ الجزائر تدمر الحملةالإسبانية الكبرى

- ‌ معركة بحرية جديدةأمام الجزائر

- ‌ وأخيرا تحرير وهران

- ‌الفصل الثالث

- ‌ الجزائر (المحروسة)على طريق البناء والقوة

- ‌ السياسة الاستراتيجية للجزائر

- ‌ المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية

- ‌قراءات

- ‌(وهران) وأدب الحرب

- ‌ ترجمة رسالتين متبادلتينبين داي الجزائر والرئيس الأميريكي

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني:

‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني:

كان (جان بولاط - أوجانبولاط) حاكما على (كلس) قرب مدينة حلب، حلما وراثيا من قبل الأتراك العثمانيين، وفي سنة (1603م) قامت حامية (تبريز) بالتمرد على الحكم العثماني، وظن (جان بولاط) في نفسه القوة، فأعلن الثورة بدوره، وانضم إليه أبناء عشيرته الأكراد. وكانت الدولة مشغولة بقتال المجر. وعندما انتهت معركة (بودا) بانتصار العثمانيين، بات باستطاعتهم التحول لقمع الثورات. وأمكن القضاء على ثورة (جان بولاط). فما كان من هذا إلا أن فر ليحتمي بأخطر الزعماء الثائرين في آسية الصغرى وهو (الأمير الدرزي فخر الدين المعني) الذي كان قد أعلن الثورة في جبل لبنان بالتنسيق والتعاون مع (جان بولاط).

ولم تتمكن الدولة العثمانية من التعرض له بسبب انصرافها إلى حروبها الخارجية - حتى بعد هزيمة جان بولاط - بل تركت إليه حكم البلاد الواقعة في حوزته، لقاء جزية سنوية يدفعها لبيت مال المسلمين. وما لبث (فرديناند الأول)(1) الذي غمرت نفسه روح المغامرة، أن اتصل به ابتغاء فتح أسواق جديدة لتجارة فلورنسا، في حين كان فخر الدين يرغب في الاستعانه بفرديناند وبالبابا وبإسبانية أيضا على فتح فلسطين، ثم إن فخر الدين استولى على بعلبك سنة (1610م) وهدد دمشق ذاتها بالاحتلال. ولكن أسطولا تركيا إسلاميا ما لبث أن ظهر على الشاطىء سنة (1613) فاضطر الأمر فخر الدين إلى الفرار إلى (ليفورنو) - وكان (كوزموس الأول - ابن فرديناند) قد

(1) فرديناند الأول: FERDINAND. I. GRAND DUC DE TOSCANE استمر حكمه لدوقية توسكانيا خمس سنوات (1604 - 1609م).

ص: 54

تولى مقاليد الحكم في (توسكانيا) فتقدم إليه (فخر الدين) وعرض عليه تجريد حملة صليبية جديدة، غير أن كوزموس كان أعقل من أن يفكر في مثل ذلك.

وقضى فخر الدين خمس سنوات في البندقية (فلورنسا) استطاعت خلالها أمه (نسب) أن تدافع عن بلاده باسم حفيدها (أحمد علي) ضد والي دمشق. حتى إذا رجع (فخر الدين) من إيطاليا. اضطر إلى الاعتراف بابنه أميرا على البلاد. ولكنه قاد بالنيابة عن ابنه الحرب ضد العثمانيين. وأفاد من انصراف العثمانيين لقتال الشيعة في بلاد فارس (ايران) فعمل على بسط نفوذه على الساحل الشامي حتى أنطاكية. وفي سنة (1631م) نشأ بينه وبين الباب العالي نزاع بسبب من رفضه السماح لجيش من جيوش السلطان، حشد لحرب الفرس، أن يقضي فصل الشتاء في البلاد التي يحكمها، وطرده لهذا الجيش بقوة السلاح. وبعد سنتين اثنتين، وجهت الدولة ردا على هذا النقض لإحكام السلم، أسطولا آخر إلى الساحل الشامي فاحتل المرافىء جميعا، في حين هاجم الولاة المسلمون (الدروز) في البر، وفي 10 تشرين الأول - أكتوبر - استدرج علي بن فخر الدين، إلى خوض معركة فاصلة دارت رحاها في السهول، فهزم هزيمة شنعاء ولقي حتفه هو وعمه. وهكذا اضطر (فخر الدين) إلى أن يستسلم في مفزعه الأخير في 12 تشرين الثاني -نوفمبر - فحمل إلى استانبول، حيث حز رأسه في 13 نيسان - أبريل - سنة (1635م) بعد أن قام ابن أخيه (ملحم) بمحاولة فاشلة للثأر لشرف أسرته عن طريق الثورة المسلحة.

كانت الدول الغربية تتابع باهتمام كبير ثورة (جان بولاط) و (فخر الدين المعني) فبدأت الاتصال بالدروز والموارنة. وعندما احتل إبراهيم باشا فيما بعد (سنة 1831) بلاد الشام، قام الموارنة بدور

ص: 55

كبير، حيث تلقوا الأسلحة من الحلفاء لمحاربة الحكم المصري. وأبرز ذلك ظهور أسر التنوخيين والمعنيين والشهابيين. وبدأت فرنسا بممارسة دور فعلي في أحداث الشرق الإسلامي من خلال ما زعمته حقا لها في حماية (نصارى الشرق) - والموارنة منهم بصورة خاصة في حين أخذت روسيا منافسة فرنسا في هذا المجال من خلال الزعم بحقها في حماية رعاياها من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية. ولم تقف إنكلترا مكتوفة الأيدي، فبسطت حمايتها على الدروز، وأدى ذلك إلى تنافس هذه الطوائف واستفحال أمرها، مما أدى فيما بعد إلى حدوث صدامات دموية (أشهرها مذابح سنة 1860) وبروز المسألة الشرقية.

ص: 56

3 -

الموقف على جبهة الأندلس

سقطت مملكة غرناطة تحت حكم (فرديناند وإيزابيللا) سنة 1492، غير أنه كان من المحال القضاء على الوجود الإسلامي في الأندلس دفعة واحدة. وفي الوقت ذاته أدت الحرب المنظمة ضد المسلمين إلى تعرض إسبانيا لأزمة حادة في إدارتها، وإلى اضطراب في أمورها المالية حتى أشرفت على الإفلاس. فالتفتت إلى الفتح، وظنت أن نهب العالم الجديد سيضمن لها الموارد الكافية، غير أن القرصنة الإسلامية من جهة والمنافسة مع الدول الغربية من جهة ثانية حرمتا إسبانيا من هذه الموارد. وزاد موقف إسبانيا سوءا بسبب المظالم وحكم الإرهاب وارتكاب الفظائع ضد المسلمين - تحت إدارة محاكم التفتيش - وبإدارة الملك الإسباني فيليب الثاني (1527 - 1598 م) الذي ورث عن أبيه (شارل الخامس - شارلكان) كل الحقد والكراهية ضد المسلمين، فجمع في شخصه كل الصفات السيئة كالظلم والشراسة وفساد الأخلاق، حتى استوجب وصف أحد المؤرخين له: (قليل من الرجال الذين عرفهم التاريخ، قد استطاعوا بجهودهم الخاصة، أن يأتوا بمثل هذا المقدار الضخم من الشر الذي جاء به هذا الملك

وإذا كانت هناك عيوب قد برىء منها، فسبب ذلك هو أنه غير مسموح للطبيعة الإنسانية بأن تبلغ الكمال، حتى في الشر) (1).

(1) حرب الثلاثمائة سنة - أحمد توفيق المدني - ص 392.

ص: 57

وكان من الطبيعي أن تتعاظم النقمة في نفوس المسلمين الذين لجؤوا إلى جنوب الأندلس، سواء منهم من حافظ على دينه، أو من

أعلن تنصره ظاهريا بسبب عجزه عن احتمال الضغوط. وأن يؤدي ذلك إلى استعداد هؤلاء للثورة على الحكم الإسباني. واتصل هؤلاء بوالي الجرائر (قلج علي - أو علج علي) يطلبون إليه دعمهم وإمدادهم. وأعلموه أنهم قرروا إعلان الثورة في الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - المصادف لعيد (جميع القديسين)(1568م) ولم يكن باستطاعة (قلج علي) تجاهل صرخة استغاثة المسلمين الأندلسيين. فحشد في الجزائر جيشا يضم (14) ألف مقاتل من المشاة - رماة البنادق - بالإضافة إلى (60) ألفا من أبناء المغرب الإسلامى المجاهدين في سبيل الله

وأرسل بهم إلى مدينتي (مستغانم ومازغران) استعدادا للإغارة على وهران، ثم الإنزال في الموانىء الأندلسية. وأرسل مع الرجال المذكورين عددا كبيرا من المدافع، مع (1400) بعير محملة بالبارود. ويوم الأربعاء، المتفق عليه، أي يوم عيد جميع القديسين، كانت أربعون سفينة من الأسطول الجزائري تقف أمام مرسى (المرية) الأندلسي لدعم الثورة ساعة اندلاعها. غير أن العملية أخفقت يومئذ بسوء تصرف أحد رجال الثورة، مما أدى إلى اكتشاف أمره، فداهمه الإسبان. وضبطوا ما كان يخفيه في منزله من السلاح. واطلعوا عل مخطط الثورة، فلم تقع في اليوم المعين، وضاعت بذلك فرصة المبادأة. ولكن الثورة لم تلبث أن تفجرت بعد ذلك، ويصف (مؤرخ عربي (1) نقلا عن المصادر الأندلسية ما حدث خلال هذه الفترة بالتالي:

لما صار الأمر إلى فيليب الثاني، شدد في إنفاذ الأوامر بحق

(1) حاضر العالم الإسلامي (الأمير شكيب أرسلان) 2/ 15 - 16.

ص: 58

الموريسك - المسلمين - وسنة 1567، عزز الأمر الصادر بهذا الشأن والمتعلق بتغيير الزي واللغة باستيثاق غريب لأجل منع النظافة - الطهارة - التي هي من سنن الإسلام - حيث كان من عادة الشعوب اللاتينية التقزز من الطهارة والاستحمام وكانوا ينفرون من المسلم بقولهم (الذي يدخل الحمام) وكان الإسبانيون يهدمون الحمامات بالحماسة التي يهدمون بها المساجد - وانطلق جند فيليب لهدم الحمامات. وكانت الأساليب التي اتبعت للقضاء على تلك الأمة البائسة، أكبر من أن يحتملها أي إنسان، فكيف الأمر بالنسبة لأحفاد المنصور وعبد الرحمن وأبناء سراج، ولذلك لم يطل الأمر حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة وثار (فرج بن فرج من نسل بني سراج) ومعه جماعة من ذوي الحمية من غرناطة، وقصدوا الجبال قبل أن تتمكن الحامية - الإسبانية - من مطاردتهم، ونودي (بهرناندو - دوفلرر) من نسل خلفاء قرطبة ملكا على الأندلس تحت اسم (محمد بن أمية) وعمت الثورة في أسبوع واحد جميع جبال البشرات. ووقع ذلك في سنة - 1568م -.ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى، وأوعرها مسلكا، كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالا وكانت الفتنة فيها بعيدة المدى، فاستمرت هذه المرة حولين كاملين، حافلا تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر والتعذيب والاستباحة والاحتيال، وذلك من الجانبين لا من جانب واحد، لكنه حافل أيضا بوقائع يندر في تاريخ الفروسة وكتب الحماسة الظفر بمثلها، وتبقى على صفحات السير فخرا للقرون والأمم.

وكان المغاربة هناك في موطنهم الأخير، والموقف الذي يحاولون فيه إدراك الثأر عن نحو من مائة سنة قضوها في البلاء العظيم، والهون الذي ليس له نظير، فهبوا جميعا منادين بأخذ الثأر، واقتضاء الأوتار،

ص: 59

قرية بعد قرية، وهدموا الكنائس، وأهانوا ما فيها، وفتكوا بالقسس، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في أيديهم، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج. ودافعوا دفاعا شديدا. وكان المركيز (مونتيجارة) قائدا في غرناطة فعمد إلى المسالمة، وأخذ بالملاينة، وكادت الوقدة تنطفىء لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء من المغاربة في حبس البيازين - ضاحية غرناطة - قيل إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز، لكن الموريسك - المسلمين - لم يقبلوا العذر، ونشروا لواء الثورة. وصار (ابن أمية) أميرا بالفعل على جميع جهات (البشرات) إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة، فقام بعض أعوانه وقتلوه، وبويع لرجل آخر موصوف بالنجدة والحماسة (اسمه عبد الله بن أبوه). فأرسلت دولة إسبانية الدون (جون الاوستري) أخا الملك - وهو شاب في الثانية والعشرين من العمر - بمهمة القضاء على الثوار. فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى سنة 1570وأتى من الفظائع ما بخلت بأنداده كتب الوقاقع، فذبح النساء والأطفال أمام عينيه، وأحرق المساكن، ودمر البلاد، وكان شعاره (لا هوادة). وانتهى الأمر بإذعان الموريسك. لكنه لم يطل، واستأنف (مولاي عبد الله بن أبوه) الكرة، فاحتال الإسبان حتى قتلوه غيلة، وبقي رأسه منصوبا فوق أحد أبواب غرناطة ثلاثين سنة.

وأفحش الإسانيون في قمع الثورة، بما أقدموا عليه من الذبح والحريق والخنق بالدخان، حتى أهلكوا من بقية العرب خلقا كثيرا، وخنع الذين نجوا من الموت، لكنهم وقعوا في الرق، وسيقوا مماليك وعبدانا، ونفي منهم جملة، فأخذ عددهم يتناقص، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ، وهو عيد جميع القديسين سنة (1570م) بلغ عدد من ذهب منهم عشرون ألفا، والذين أخذوا منهم في معمعة

ص: 60

الفتنة صاروا إلى الاستعباد. وأخرج الباقون من البلاد مخفورين، فمات كثير منهم على الطرق تعبا. ومنهم من أجاز إلى (بر العدوة) في المغرب. وطافوا هناك سائلين - متسولين - لأجل قوتهم الضروري. ومنهم من لجأ إلى البلاد الإفرنسية، حيث استقبلوهم برا وترحيبا، واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانيا. والحقيقة أن (هنري الرابع) أصدر أمرا بقبولهم في فرنسة لكن على شرط أن يتحولوا إلى كاثوليكيين. وقد نفذ الأمر، وأرغموا على التنصر، وبقي الأمر على ذلك حتى بلغ السلطان العثماني، فأرسل إلى (هنري الرابع) يطلب إليه إخراجهم إلى بلاد الإسلام، فخرج أكثرهم. وبقي من اختار الإقامة بفرنسا مع النصرانية. ولما ظهر مذهب (البروتستانت) وكان منهم من اختار هذا المذهب، أصدر لويس الرابع عشر أمره بطرد البروتستانت، فهاجر قسم من هؤلاء إلى سويسرا. وبينهم العالم الشهير (أبو زيد) الذي كان من أعلم علماء عصره في كل فن، وكان صديقا لفولتير وروسو ونيوتن ولايبينتز. وكان فولتر يقول عنه (صديقنا العربي). وطالما كان فولتير يستفتيه في عويص المسائل، كما كانت بينه وبين روسو مراسلات كثيرة جمعت في كتاب.

المهم في الأمر، هو أن الإسبانيين لم يتمكنوا من إخراج المسلمين دفعة واحدة. ولم ينته إخراجهم إلا في سنة (1610م) حيث وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم واحد بعد أن وليها الإسلام ثمانية قرون. ويقال أن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين وأن الذين خرجوا لآخر مرة يبلغ نصف مليون. وأما الإسبانيون المساكين، فلم يعرفوا ماذا يصنعون ولا فهموا أنهم كانوا

ص: 61

يخربون بيوتهم بأيديهم بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة الذين كانت بهم إسانيا مركزا للمدنية، ومبعثا لأشعة العلم طوال قرون عديدة. وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام بمقدار ما استفادته هذه البلاد. فلما غادرها الإسلام، انكسفت شمسها وتسلط نحسها، وإن فضل مسلمي الأندلس ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة، وسقوط هذه الأمة في مكانتها الاجتماعية بعد أن خلت ديارها من الإسلام.

يمكن بعد ذلك العودة إلى دور الجزائر الفتية في دعم هذه الثورة، ففي شهر كانون الثاني - يناير - من سنة (1569م) أرسل والي الجزائر (كلج علي) الأسطول الجزائري لدعم الثائرين، وحاول هذا الأسطول إحباط عملية الإنزال. وبلغت الثورة عنفوانها، عندما وصلت زواح الشتاء أوج قوتها في البحر، ولكن ذلك لم يمنع المجاهدين في البحر من بذل كل الجهود لمقاومة الأعاصير من أجل الوصول إلى أماكن أخرى على الساحل لإنزال الأمداد والدعم. غير أن الزوابع والأعاصير أغرقت (32) سفينة جزائرية كانت تحمل الرجال والسلاح. ولم تتمكن إلا ست سفن فقط من إنزال شحنتها فوق سواحل الأندلس، وكان فيها المدافع والبارود والمتطوعون الجزائريون. ولم يأبه والي الجزائر (كلج علي) لهذه الكارثة فصمم على إرسال مدد جديد لمسلمي الأندلس، وتمكن من إنزال أربعة آلاف من مجاهدي الجزائر، خلال شهر تشرين الأول - أكتوبر - من سنة (1570م) من رماة البنادق النارية، مع كمية كبيرة من الذخائر، علاوة على بعض قدماء المجاهدين العثمانيين للعمل في مراكز قيادة الثورة. وعاد الجزائريون، فأرسلوا دعما جديدا من الرجال والسلاح، وعزم (كلج علي) على قيادة الحملة بنفسه للجهاد هناك - فوق الأرض

ص: 62

الأندلسة - غير أن ما أشيع عن تجمع أسطول صليبي بهدف خوض معركة حاسمة مع المسلمين، وتوجيه السلطان العثماني له بالاستعداد لمجابهة هذه الملحمة، جعله مضطرا للبقاء في الجزائر، وانتظار تطورات الأحداث. غير أن الأسطول الجزائري لم يوقف نشاطه، واستمر الجزائريون في غزواتهم البحرية. وهدفهم تدمير كل ما يجدونه في طريقهم، وكل ما يعترض سبيلهم من السفن الإسبانية - تجارية أو حربية -. وما زادتهم نكبة الأندلس الأخيرة، وفشل الثورة فيها، إلا شعورا بالمرارة والظلم، الأمر الذي أدى إلى تصعيد الصراع المسلح - وتوجيهه بصورة خاصة ضد الأعداء الإسبانيين في حاميتي (وهران والمرسى الكبير) وفي شهر نيسان - أبريل - سنة 1578، هاجم الأسطول الجزائري بقوة وجرأة سواحل إسبانيا الشرقية والجنوبية، فحطم منشآتها، وغنم ما بها، وأسر وسبى من أهلها جمعا كبيرا، انتقاما من الموبقات التي ارتكبها الإسبان بحق المسلمين. وفي تلك السنة أيضا هاجم الأسطول الجزائري جزائر الباليئار من جديد فحطم ما فيها وغنم ما بها. وفي سنة (1582م) جهز والي الجزائر أسطوله لمحاربة إسبانيا فوق ترابها، وما تحتله من بلاد أوروبا. ونزل المجاهدون المسلمون في (برشلونه) فأعطوا فيها تدميرا، ثم قاموا بعد ذلك بعبور مضيق جبل طارق، وهاجموا (الجزائر الخالدات - أو جزر الكناري) التي تحتلها إسبانيا. فدمروا المراكز الإسبانية وغنموا ما فيها. ورجع القبطان (مراد رايس - أحد أمراء البحر الجزائريين المشهورين) بغنائم عظيمة (1). ولم يكن الأسطول الجزائري يذهب للأندلس، لمجرد

(1) مراد رايس: مجاهد مسلم، احتفر على مقربة من الجزائر بئرا للسابلة، يروون منه، وأقيمت قرية بعد ذلك حول البئر، ثم تطورت. ويحمل البئر حتى اليوم اسم (بئر رايس) والقرية (قرية بئر مراد رايس). وأصبح اسمها منذ الاحتلال الإفرنسي للبلاد اسم (بير ماندريس).

ص: 63

التنكيل بالإسبانين، ولتدمير منشآتهم، وأخذ الأسلاب والأسرى منهم، بل كان يهدف بالدرجة الأولى إنقاذ المسلمين من نكبتهم. وتعرض الأسطول الجزائري أثناء ذلك لمعارك قاسية، وللهزائم أحيانا، ومنها موقعة سنة (1585 م) حيث اصطدم الأسطول الجزائري بأسطول إسباني كبير - من أسطول جنوه - ووقعت معركة أسفرت عن أسر (18) سفينة جزائرية. ونجحت الجهود في هذه الفترة بإنقاذ أكثر من عشرة آلاف مسلم أندلسي.

بقيت جذوة الثورة الإسلامية متوقدة فوق أرض الأندلس، ولم تتمكن لا محاكم التفتيش، ولا أعمال القمع الوحشية للثورات المتتالية من إخمادها أو القضاء عليها. ولم يفقد بقايا الأندلسيين الذين نجوا من المذابح، وآثروا البقاء في موطن الأجداد، الأمل في إنقاذ جزء من وطنهم، يقيمون فوقه بحرية، ويمارسون عباداتهم بدون قهر على ثراه، ويرجعون إليه من شاء الرجوع من أبناء عمومتهم وإخوانهم الذين شردوا وراء البحار. وكان هؤلاء (الموريسكو) كما يدعوهم الإسبان، أهل همة ونجدة ونخوة، وأهل صناعة وفن ومال، لم ينسوا دولتهم، ولم يتخلوا عن دينهم، ولم يفقدوا ثقتهم بأنفسهم على الرغم من إنقضاء فترة مائة وعشرين سنة من تحطيم الإسبان لدولة غرناطة، وبعدما لحقهم من طغيان وظلم وإرهاق، وإرغام على اعتناق المسيحية ظاهرا، وهم يكتمون الإيمان الشديد، وينقلون لأولادهم سرا، عظمة الإسلام وحب العرب. وأفاد هؤلاء من ضعف إسبانيا ووهنها، واضطرارها لعقد معاهدة لاهاي (سنة 1609م) مع الثائرين عليها من رجال الفلانور بشمال أوروبا، وقرروا إعلان الثورة، وكانت هذه الثورة على اتصال بفرنسا - عدوة إسبانيا التقليدية - والتي كانت آنذاك

ص: 64

تحت حكم (الملك هنري الرابع)(1) كما كانت على اتصال بوالي الجزائر في تلك الفترة (رضوان باشا). ونظمت عملية الثورة لتكون على النحو التالي:

1 -

يتحرك الأسطول الإفرنسي، حاملا جيشا إفرنسيا قويا إلى إسبانيا، وينزل بمدينة (دانية).

2 -

يتحرك الأسطول الجزائري في الوقت ذاته، ويتحرك نحو (دانيه) لحماية عملية إنزال القوات الإفرنسية إلى البر، ثم يقوم الأسطول الجزائري بإنزال قواته بعد ذلك - بحماية الأسطول الإفرنسي.

3 -

في الوقت ذاته، يقوم مائة ألف رجل من بقايا مسلمي الأندلس، بثورة عامة داخل البلاد، مما يضع الجيش الإسباني أمام تهديد مزدوج، تهديد قوات المسلمين على مؤخراته، وتهديد قوات الغزو في مواجهته.

غير أن التحرك الواسع، والاتصالات لإعداد الثورة لم تكن

(1) هنري الرابع: (HENRI- IV -LEGRAND) ابن (انطوان دوبوربون) و (جين البرت) ولد في مدينة (بو: Pau) جنوب فرنسا (باس بيرينة (1553 - 1610م) أصبح سنة (1572) ملكا لمملكة نافار باسم هنري الثالث، ثم أصبح ملكا لفرنسا (سنة 1589 م) تزوج سنة 1572 من (مارغريت دوفالوا) خاض مجموعة من الحروب لتوحيد المملكة الإفرنسية ولقيادة حركة الإصلاح. ونجح سنة (1598) في دخول باريس بعد أن فشل في ذلك من قبل بسبب تدخل الإسبانيين. ونجح في فرض سيطرته على كل الإقاليم. وأصلح الأنظمة المالية والزراعية واكتسبت فرنسا في عهده قوتها وعظمتها. وتزوج بعد ذلك من ماري دوميديسي:(MARIE DE MEDICIS) التي أصبحت وصية على الملك لويس الثالث عشر. وقتل هنري الرابع غيلة من قبل رجل اسمه بافاياك: BAVAILLAC عندما كان على وشك البدء بتنفيذ مشاريعه السياسية الضخمة.

ص: 65

خافية على مراقبة الحكم الإسباني، فأصدر الملك (هنري الثالث) ملك إسبانيا أمرا يوم 22 أيلول (ستمبر) 1609م بإبعاد كل موريسكي - مغربي مسلم - من أرض إسبانيا، وأعطاهم لذلك أجلا لا يتعدى ثلاثة أيام كي يتجمعوا في الموانىء المعينة لهم من أجل ركوب البحر وهكذا خرج من إسبانيا آخر فوج من بقايا مسلميها الذين اعتنقوا النصرانية مرغمين، وكانت أغلبيتهم العظمى من العرب المسلمين، وقامت سفن الأسطول الجزائري فنقلت معظهم إلى عاصمة الجزائر، فمنهم من توجه بعد ذلك إلى تونس أو تطوان (تيطوان) ومنهم من أقام في سهل متيجة (متوجة) بالقرب من الجزائر.

ترى هل كان من الأفضل استكانة هؤلاء (الموريسك) وعدم القيام بالثورات المتتاية الأمر الذي أدى إلى إخراجهم من الأندلس؟

قد يكون من المحال محاكمة ذلك الحدث التاريخي بأي مقياس من المقاييس التي تخرج عن الحدود المكانية والزمانية التي أحاطت بالحدث، غير أن مجموعة الشواهد التاريخية المتوافرة تؤكد أنه لم يكن أمام مسلمي الأندلس خيار (غير الثورة) مهما كانت نتائجها، إذ أنها لن تبلغ في أسوأ تلك النتائج مقدار ما كان يجابهه هؤلاء المسلمون من سوء المعاملة. ومن المحتمل القول أنها كانت (ثورة يأس) غير أنها لم تكن كذلك فعلا، إذ كان تصميم الثوار كبيرا، وإيمانهم بالنصر عظيما - بدلالة بقاء ثورة البشرات مدة سنتين كاملتين - وبالإضافة إلى ذلك، فإن هدف الثورة لم يكن من أجل منازعة الإسبانيين خلال تلك الفترة ملكهم، وإنما كان الحصول على كيان ذاتي يضمن لهم ما سبق أن تم الاتفاق عليه يوم استسلام ملك غرناطة للملك فرديناند، من شروط تضمن للمسلمين (حريتهم). وهكذا كان التعصب الصليبي مرة أخرى هو الحافز للتعصب الإسلامي الذي أوقد نار الثورة وأدى إلى

ص: 66

ذلك العداء المستحكم الذي لم يتوقف عند حدود إخراج المسلمين من الأندلس وإنما تطور إلى صراع مستمر أخذ شكل حملات صليبية متتالية ضد المغرب العربي الإسلامي عامة، وضد الجزائر المجاهدة منها بصورة خاصة.

ص: 67