المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية: - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٢

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أبرز الأحداث على المسرح الإسلامي

- ‌أبرز الأحداث على المسرح العالمي

- ‌أبرز الأحداث على مسرح الجزائر

- ‌الفصل الأول

- ‌ الجزائر المجاهدة

- ‌ الموقف على الجبهة الإسلامية في المشرق:

- ‌آ - معركة ليبانتي:

- ‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية:

- ‌ج - تمرد جبلاط وثورة المعني:

- ‌الفصل الثاني

- ‌ الجزائر وبناء القدرة الذاتية

- ‌ إنكلترا تشن الحرب على الجزائر

- ‌آ - الحملة على جيجل (1664)

- ‌ب - الإغارة على الجزائر (1682م)

- ‌ القتال حول وهران - وتحريرها

- ‌ الإسبانيون يعودون إلى وهران

- ‌ تبادل الأسرى والمعركة البحريةأمام الجزائر

- ‌ الجزائر تدمر الحملةالإسبانية الكبرى

- ‌ معركة بحرية جديدةأمام الجزائر

- ‌ وأخيرا تحرير وهران

- ‌الفصل الثالث

- ‌ الجزائر (المحروسة)على طريق البناء والقوة

- ‌ السياسة الاستراتيجية للجزائر

- ‌ المجاهدون والحروب الثوروية الإسلامية

- ‌قراءات

- ‌(وهران) وأدب الحرب

- ‌ ترجمة رسالتين متبادلتينبين داي الجزائر والرئيس الأميريكي

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية:

‌ب - الجهاد على الجبهة الأوروبية:

لم يلبث السللطان سليم الثاني أن توفي، وخلفه السلطان مراد الثاني (1574 - 1595م). وفي عهده قامت القوات العثمانية بأعمالها الهجومية في بلاد القبق (القوقاز) وفتحت (تفليس) وأنشأت قلعة (قارص) في سنة 1579. وعزز العثمانيون نفوذهم في جنوبي (الروسيا) ليتخذوا منها مركزا لحملاتهم ضد بلاد الكرج سنة 1581 وسنة 1583. وأصبح بإمكانهم بعد ذلك التدخل في شؤون بولونيا حيث أصبح الملكان البولونيان اسطفان باثوري وسيجموند تابعين للسلطة العثمانية. وعلى الرغم من وقف القتال بهدنة سنة 1583، فقد ظلت جمرات الحرب متقدة تحت الرماد، وظل شررها يتطاير بالنزاع المستمر على الحدود النمساوية، إلى أن اشتعلت نيرانها بعد عشر بسنوات، وكان حاكم (البوسنة) قد هزم هزيمة مروعة في حزيران - يونيو - سنة 1593 م أثناء إغارة قام بها على (سسد) في بلاد المجر. ولم يكن بد من استئناف الحرب الكبرى. ولكن السلطان مراد الثالث توفي وخلفه ابنه محمد الثالث (1595 - 1603م) الذي قاد بنفسه قواته ضد حكام النمسا (آل هبسبورغ) وانتصر عليهم في معركة (أكري). ولكن الحرب سارت بعد هذا النصر بخطى وئيدة جدا ثم استمرت

= العثماني. واستطاع (قلج علي) الذي تسميه المصادر الغربية (علوش) انقاذ أسطوله والاستيلاء على بعض السفن منها السفينة التي تحمل علم البابا. وبادر السلطان على إثر ذلك بتعيين (قلج علي) أميرا عاما للبحر (قبوران باشا) مع بقائه واليأا على الجزائر (باي لرباي). وتولى (قلج علي) مهمة إعادة تنظيم الأسطول، وترك (أحمد العربي) حاكما للجزائر وهو الذي تسميه المصادر التركية (عرب أحمد). ولم تمض أكثر من سنة واحدة، حتى استطاع (قلج علي) إعداد (250) سفينة جديدة، وعاد الأسطول بأقوى مما كان عليه قبل معركة (ليبانتي).

ص: 39

كذلك عقب وفاة محمد سنة (1603) وارتقاء ابنه أحمد العرش (1603 - 1617 م) والواقع أن الحظ لم يجر في ركاب العثمانيين إلا عندما انحاز إلى جانبهم الزعيم المجري (بوكسكاي) بعد أن نصب أميرا على (ترانسلفانيا) وهكذا عقد الصلح آخر الأمر بين الفريقين بمعاهدة سيتفاتورك (سنة 1606).

وشهدت أوروبا حالة من الهدوء النسبي، حتى عهد (السلطان إبراهيم (1640 - 1648)، حيث استجمع العثمانيون قواتهم لمجابهة التحريض الذي لم تتوقف (البندقية) يوما عن إثارته تحت لواء الصليبية، مع توجيه التهديد إلى بحر إيجه من خلال سيطرة البندقية على جزيرة (كريت). وأدى ذلك إلى إقدام السلطان إبراهيم على إصدار أمر في حزيران (يونيو) سنة 1645 باعتقال جميع البنادقة في كل أنحاء الإمبراطورية ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم، معلنا بذلك الحرب على البندقية. وقام الأسطول العثماني بمهاجة جزيرة كريت، واحتلال (حانيه) بدون مقاومة. وفي هذه الأثناء كان البنادقة يسعون على غير طائل، في سبيل حمل الدول الأخرى على مساعدتهم للاحتفاظ بمواقعهم في المشرق. وأمكن لهم إحراز بعض التقدم في (دلماسيا). كما استطاعوا في سنة (1651) دحر الأسطول العثماني عند (باروس).

وفي هذه الفترة عرفت الإمبراطورية العثمانية نوعا من التنظيم الشامل ، (الذي تولى أمره الصدر الأعظم محمد كوبريلي). وساعد على اتخاذ المواقف الحازمة ضد جيران الإمبراطورية في الشمال، ففي (ترانسلفانيا)(1) أقصى الباب العالي الأمير (جورج راغوجكي) الذي

(1) ترانسلفانيا: (TRANSYLVANIE) وبالرومانية (أرديل: (ARDEAL) إقليم في رومانيا يقع بين جبال الكربات والألب التراسلفانية. وكان هذا الإقليم تابعا =

ص: 40

حاول التمرد على السلطة الإسلامية. وأقام مكانه (الأمير ميخال آبافي). ورفض الإمبراطور النمساوي الاعتراف (بآبافي) بضغط من المجريين. فتهدده الباب العالي بالحرب. وهكذا بعثت في أوروبا فكرة الواجب المشترك الذي يفرض على العالم المسيحي كله العمل من أجل دفع الخطر الإسلامي، وهي الفكرة التي طالما عمل لها البنادقة. واستجاب الملوك لدعوة البابا - بمن فيهم ملك فرنسا لويس الرابع عشر - وذلك من أجل نصرة إخوانه في الدين، على الرغم من صلاته الطيبة بالباب العالي، فحمل الأمراء الألمان الذين يؤلفون عصبة اتحاد الراين (آل هبسبورغ) وكانوا حلفاءه، على أن يضعوا (20) ألف رجل تحت تصرف الإمبراطور الألماني، فأحرجت هذه البادرة بلاط فيينا، الذي كان لا يزال يسعى لتجنب الحرب، ويأمل في مفاوضة العثمانيين. ولكن صبر السلطان ماعتم أن نفد، فأصدر أوامره بالهجوم على المجر في نيسان (أبريل) 1663، حتى إذا انتهى العثمانيون إلى أن يهددوا فيينا ذاتها، دعا الإمبراطور اتحاد الراين، بل دعا السويد أيضا، إلى نجدته، غير أن ما تلقاه من دعم وما أحرزه من انتصارين أبرزهما انتصاره على نهر الراب (قرب جبل القديس غونارد) لم يمنعاه من متابعة جهده الباسي فعقد مع العثمانيين الصلح (سنة 1665) حتى ينصرف لمناوأة السياسة الإفرنسية. بذلك، أصبح باستطاعة القوات العثمانية إلقاء كل ثقلها في معركة (كريت). وكان البنادفة يتوقعون - بل ينتظرون - وصول دعم من فرنسا، لكن هذه لم ترسل أكثر من بعض الضباط للإلتحاق في خدمة البندقية، وعندما قرر لويس الرابع عشر إرسال حملة تضم (7) آلاف رجل في صيف

= للملكة الهنغارية منذ القرن الحادي عشر. ثم حصل على نوع من الاستقالال (1525 - 1686) وأصبح تابعا لحكم آل هبسبورغ بعد ذلك.

ص: 41

سنة (1669) كان الوقت قد أصبح متأخرا. إذ كانت قلعة (قلندية) قد سقطت في قبضة القوات العثمانية منذ يوم 6 أيلول - سبتمبر - وعقدت معاهدة الصلح التي فرضت على البنادقة الانسحاب من كريت.

وعاد العثمانيون لبسط نفوذهم في الشمال الشرقي من بلادهم. وحدث في سنة (1668) أن انضوى الزعيم القوقازي (دوروشنكو) تحت لواء العثمانيين (وكان يعمل من قبل لمصلحة التاج البولوني). ولكن الدولة العثمانية لم تطلب إلى بولونيا التنازل عن (أوكرانيا) إلا سنة (1672) بعد أن وثقت من عدم تدخل ملك فرنسا لويس الرابع عشر، فلما كان شهر أيلول (سبتمبر) عقد ملك بولونيا (ميخال) معاهدة مع العثمانيين تنازل لهم بموجبها عن (بودوليا وأوكرانيا) وذلك بعد أن فقد قلعة (قامنج) القائمة على الحدود، إثر حصار قصير الأمد. ولكن الماريشال (سوبيسكي)(1) نقض هذه المعاهدة في السنة التالية. فكتب له النصر على العثمانيين عند (خوتين) في 11 تشرين الثاني - نوفمبر - وعندما توفي الملك ميخال بعد ذلك بقليل، ارتقى (سوبيسكي) عرش بولونيا باسم (حنا الثالث). غير أنه لم يوفق لإحراز أي نصر خلال حملاته التالية، حتى إذا ما حاول عبور نهر (الدنيستر) سنة 1676، طوقت قواته عند (زوراونو)(2)

(1) سوبيسكي: (SOBISKI: JEAN 111) ملك بولونيا (1673 - 1696) ويعتبر أحد الأبطال الوطنيين لهذه البلاد، وهو من مواليد (أولسكو: OLESKO) (1629 - 1696) انتصر على الأتراك المسلمين، وأنقذ فيينا من الحصار.

(2)

زوراونو: (ZURAWNO مدينة أوكرانية (غاليسيا:: GALICIE) تقع على نهر الدينيستر: DNIESTER . وهو نهر ينبع من جبال الكاربات في أوكرانيا، فيفصل بين مولدافيا (MOLDAVIE) وأوكرانيا ويصب في البحر الأسود وطوله 1200 كيلو متر.

ص: 42

فاضطر إلى عقد الصلح في تشرين الأول - أكتوبر - تنازل بموجبه عن القسم الأعظم من (بودوليا وأوكرانيا).

لم تكد القوات العثمانية تفرغ من صراعها مع بولونيا حتى اندلعت الحرب مع روسيا، ودارت معارك طاحنة انتهت باستيلاء الروس على كييف والمناطق المحيطة بها. واضطرت الإمبراطورية العثمانية إلى عقد صلح في سنة (1681) اعترفت فيه لروسيا بملكية ما استحوذته من المناطق. ولم يكد العثمانيون يطمئنون إلى استتباب الأمن والسلام في الشرق، حتى حشدوا كامل قوتهم لحرب المجر من جديد. وكان النبلاء المجريون قد اقترحوا على السلطان العثماني إخضاع ما بقي من المجر تحت الحكم النمساوي، مقابل أدائهم جزية سنوية. فجهز السلطان محمد الرابع (1648 - 1687 م) جيشا سار من بلغراد لقتال الإمبراطور النمساوي في (أيار - مايو - 1683) وكان الجيش النمساوي يتوقع الحصول على إمدادات جديدة، فتراجع متمهلا إلى (فيينا). وفي 17 تموز - يوليو - حاصر العثمانيون العاصمة بقيادة الصدر الأعطم عمر مصطفى، ولكن جيشا كبيرا ما لبث أن برز من ألمانيا، على الرغم من تهديدات الملك الإفرنسي لويس الرابع عشر. ولقد استطاع هذا الجيش بالتعاون مع الفرق البولونية أن ينرل الهزيمة بالعثمانيين عند (قاهلنبرج) في 12 - أيلول - سبتمبر - وأن يحملهم على رفع الحصار عن العاصمة. ومع أن الخلاف ما عتم أن شجر ببين الألمان وملك بولونيا (سوبيسكي) بسبب من مطالب هذا الأخير، فقد وضعت الخطة الرامية لإخراج الأتراك المسلمين من المجر. وفي 5 آذار - مارس - سنة 1684م، وبفضل تدخل البابا، عقد بين الإمبراطور وسوبيسكي حلف انضمت إليه البندقية وهدفه العمل المشترك ضد العثمانيين. ومنيت القوات العثمانية على أثر ذلك بالهزيمة

ص: 43

تلج الهزيمة في المجر. ولم تلبث القوات الجرمانية أن ظهرت أمام أبواب (بودا) في سنة (1686) وضربت عليها الحصار. وبعد شهرين اثنين سقطت هذه المدينة، بعد أن بقيت طوال 145 سنة دعامة الحكم العثماني في المجر. ولم يؤد أحد من أعضاء التحالف الآخرين ما فرض عليه من مهام باستثناء أهل البندقية، ولكن انتصاراتهم اختتمت هي أيضا باحتلال أثينا سنة 1687، ليضطروا إلى إخلائها في السنة التالية. وحاول البولونيون أن يستردوا (قامنج) طوال الفترة ما بين سنة 1684 وسنة 1687، غير أن محاولاتهم أحبطت وفشلت. وفي سنة (1687) انضمت الروسيا إلى التحالف للإفادة من قوته في الاستيلاء على شبه جزيرة القرم. غير أن روسيا فشلت أيضا في تحقيق هدفها.

أحرزت القوات الصليبية المتحالفة نصرا على العثمانيين في موهاج (موهاكس)(1) سنة (1687 م). وعلى إثر ذلك عقد موتمر للعلماء في (آيا صوفيا) وتقرر قرار خلع محمد الرابع وتعيين أخاه (سليمان الثاني 1687 - 1691 م). وعندما زحفت القوات النمساوية على (بلغراد) في 6 أيلول - سبتمبر - 1688 استطاعت الاستيلاء عليها، غير أن القوات العثمانية تمكنت من طردها منها في 8 تشرين الأول - أكتوبر - (1690 م). وفي السنة التالية قاد الصدر الأعظم بنفسه الجيش العثماني، وخاض معركة (سالانكمن) المشؤومة التي قتل فيها الصدر الأعظم (في 19 آب - أغسطس - 1691).

تولى عرش السلطنة العثمانية بعد فترة من الاضطراب

(1) موهاج: (MOHATCH) MOHACS مدينة هنغارية تقع على نهر الدانوب غير بعيدة عن الحدود اليوغوسلافية وفيها انتصر ملك هنغاريا لويس الثاني على الإمبراطور العثماني سليمان الثاني سنة 1526م. ثم انتصر فيها أيضا أمير اللورين شارل على العثمانيين سنة 1687.

ص: 44

السلطان مصطفى الثاني (1695 - 1703م) فقاد بنفسه الأعمال القتالية في المجر، وتمكن من إنقاذ (طمشوار)(1) غير أنه اصطدم بقوات أمير سافوي (الأمير أوجين)(2) الذي استطاع الانتصار على جيش السلطان عند زنطه - على نهر (تيس) في 11 أيلول - سبتمبر (1696م). وأفاد القيصر بطرس من انشغال العثمانيين على جبهة الغرب فاستأنف الحرب سنة (1695) وتمكن من فتح (آزوف) في سنة (1696م). وتدخلت بريطانيا وهولاندا - بالوساطة - للصلح بين العثمانيين والروس. فتم عقد صلح (كارلو ويج)(3) في 26 كانون أثني - يناير - سنة (1699 م).وأرغم السلطان العثماني بموجب هذه المعاهدة على التخلي (لآل هبسبورغ) عن ترانسلفانيا حتى طمشوار، وعن المجر بكاملها تقريبا. وعن القسم الأعظم من (سلوفينيا)(4)

(1) طمشوار: (TIMISHOARA) مدينة. رومانية (في رومانيا) واسم هذه المدينة باللغة الرومانية TEMESVAR تقع على نهر بيغا: BEGA.

(2)

الاميراوجين (EUGENE DE SAVOIE CARIGAN PRINCE EUGENE قائد شهير في الجيش الإمبراطوري النمساوي، وهو ابن أوجين موريس أمير سافوا وكونت سواسون وأولمب مانسيني. من مواليد باريس (1663 - 1736م). اشتهر بأنه أحد القادة الكبار في عصره. خاض الحرب في البداية ضد الأتراك. ثم خاض حرب الوارثة الإسبانية مع القائد الإنكليزي (مارلبررو). وربطت بين القائدين أوامر الصداقة، وتمكنا بالتعاون إحراز عدد من الانتصارات في أودينارد ومالبلاكية. ولكن القائد الإفرنسي فيلار هزمه في معركة (دينان).

(3)

كارلوويج: (CARLOWITZ) الاسم القديم لمدينة (كارلوفيس: - CARLOVCI) وهي مدينة يوغوسلافية تقع على نهر الدانوب. وفيها وقعت معاهدة سنة (1699م) بين تركيا والنمسا وبولونيا وروسيا والبندقية - فينيسيا - وبها أرغمت تركيا العثمانية على التخلي عن قسم كبير من ممتلكاتها الأوروبية.

(4)

سلوفيينا: (SLOVENIE) إحدى الجمهوريات الإتحادية في يوغوسلافيا حاليا، ومساحتها (16،229) كيلو متر مربع، وعاصمتها (لجرلجابا: LJUBLJANA

ص: 45

وكراوتيا. كما أرغم على التنازل للبولونيين عن (قامنج) وجميع ما فتحوه في (بردوليا) وعن أوكرانيا أيضا. كما تنازل للبنادقة عن المورة وعدد من المدن في دلماسيا. وبالتنازل عن (آزوف) للروس، فتحت أبواب البحر الأسود أمام القيصر، بعد أن بقي هذا البحر لعهود طويلة بحيرة عثمانية.

كان ملك السويد (شارل الثاني عشر)(1) قد أصبح الآن خصما عنيدا لروسيا، فعمل الباب العالي على التقرب منه، غير أن ملك السويد هزم هزيمة شنعاء عند اصطدامه بالقوات الروسية في معركة (بلتاوا - بلتافا)(2) فأسبغ السلطان العثماني عليه حمايته في قلعة (بندر) العثمانية. ولكن الباب العالي لم يشرع في الاستعداد لمحاربة قيصر روسيا إلا في أواخر سنة (1710 م) بعد أن عجز عن الاتفاق معه على عودة (شارل) إلى بلاده. وهكذا اضطر بطرس إلى إيقاف عملياته الحربية في مقاطعة البلطيق، ويعود أدراجه في اتجاه الجنوب. وكاد يقع في الواقع هو وجيشه بكامله في قبضة الجيش العثماني (على نهر البروت) وقدم بطرس غرامة كبيرة حتى سمح له بالتراجع في تموز

(1) شارل الثاني عشر: (CHARLES XII) ابن شارل الحادي عشر، ولد في استوكهولم (1682 - 1718). وما أن تسلم ملك بلاده حتى عمل على توسيع حدودها، فانتصر على ملك الدانمرك في سنة (1700 م) وانتصر على الروس في نارفا: NARVA) وعلى ملك بولونيا (أوغست الثاني) في معركة كيسو (KISSOW)(سنة 1703) وقاد يعد ذلك جيوشه ضد بطرس الكبير ملك الروسيا. غير أن روسيا ألحقت به الهزيمة في معركة بلتافا سنة 1709 م، فالتجأ إلى تركيا (السلطان أحمد الثالث) الذي دعمه فعاد إلى السويد سنة 1715 ، واستمر الصراع حتى قتل أثناء حصار هالدن) آزوف (FREDRIKSHALD HALDEN).

(2)

بلتافا: (PULTAVA)(POULTAVA مدينة أوكرانية (في الاتحاد السوفييتي حاليا) إلى الغرب من خاركوف.

ص: 46

- يوليو - سنة 1711م. واضطر إلى إخلاء (آزوف)(1) واعادتها إلى العثمانيين. مع التزامه بدك حصون طيغان (تاغانروغ)(2) وإزالتها من الوجود. ولقد وافق الباب العالي على هذه المعاهدة من أجل التفرغ لاستعادة ما فقده من مقاطعات فرضتها عليه معاهدة (كارلوويج). وفي سنة (1714 م) أفاد الباب العالي من الثورة التي نشبت في الجبل الأسود فأعلن الحرب على (البندقية) ولم تمض أكثر من فترة قصيرة حتى أضاعت البندقية كل ممتلكاتها في (المورة) وجزر الأرخبيل. وعاد الإمبراطور النمساوي للتدخل في الحرب. وأحرز الأمير أوجين نصرا على القوات العثمانية في بتروارادين - أو وارادين) في 4 آب أغسطس - سنة 1716. ولم يلبث أن فتح (طمشوار) في تشرين الأول - أكتوبر - وهي آخر الحصون العثمانية في الأرض الهنغارية، ليستولي في السنة التالية على (بلغراد) ذاتها. ولكن السياسة الإسبانية في إيطاليا ما عتمت أن اعترضت سبيله الظافر. فاضطر الإمبراطور النمساوي إلى قبول عروض الصلح العثمانية، وفي المعاهدة المعقودة في بازارو ويج يوم 21 تموز - يوليو - سنة 1718، تنازل الباب العالي للإمبراطور عن بلغراد وعن كامل منطقتها إلى مصب نهر الآلوته في الطونة (الدانوب) في حين كان على البنادقة أن يتخلوا عن المورة.

كانت روسيا قد أخذت في توسيع حدودها عبر (بلاد الأفغان) و (فارس - إيران) وأدى ذلك إلى الصدام مه الإمبراطورية العثمانية في مرات عديدة. وعند وفاة بطرس الكبير، تولت زوجته (حنه - أو

(1) آزوف: AZOV - أو - AZOF خليج يشكله البحر الأسود، ويطلق عليه أيضا اسم (زاباخ: ZABACHE) ويصب فيه نهر الدون، ويتوغل هذا الخليح حدود روسيا الجنوبية حاليا.

(2)

تاغانروغ: (TAGANROG) مدينة روسية حاليا. تقع على بحر أزوف.

ص: 47

كاترين) (1) عرش الإمبراطورية الروسية. فوطدت العزم على مواصلة التقدم نحو البحر الأسود وبحر قزوين متبعة في ذلك سياسة زوجها. غير أن الدول البحرية - إنكلترا خاصة - حالت دون هجوم روسيا على الإمبراطورية العثمانية، لأن مصالح تلك الدول تعارضت مع حصول روسيا على توسع جديد. حتى إذا انقضت الاضطرابات البولونية، هاجم الروس العثمانيين في تشرين الأول - أكتوبر - سنة 1735م. ولكنهم لم ينتهوا بادىء الأمر إلى أبعد من (آزوف). وحاول الإمبراطور الألماني الذي كان مقيدا بمعاهدة تفرض عليه مساعدة روسيا، أن يتوسط في البداية بين الطرفين المتصارعين، فلم يشارك في القتال إلا في سنة (1737 م). ولكن جيوشه منيت بالهزيمة تلو الهزيمة، حتى إذا كانت سنة (1739م)، أسلمت (بلغراد) إلى العثمانيين بعد فترة قصيرة من الحصار. وعقدت بعد ذلك مباشرة معاهدة تنازل فيها الإمبراطور النمساوي عن كل المغانم التي ضمنتها له معاهدة صلح (بازاروويج). ومن ثم اضطرت (روسيا) أن توقع معاهدة مع الإمبراطورية العثمانية، غنمت بواسطتها مدينة (آزوف) التي كانت مدمرة تدميرا تاما. وفي سنة (1740 م) جدد الباب العالي اعترافه بالحماية الإفرنسية على نصارى الشرق - من الكاثوليكيين - مقابل تأييد فرنسا الديبلوماسي له في هذه الحرب. وكانت هذه هي الثغرة التي أتاحت بعد ذلك الفرصة لكل الدول لبسط حمايتها على المشرق الإسلامي بحجة حماية رعايا النصارى من المذاهب المختلفة.

كانت أوروبا خلال هذه الفترة تعيش فترة تشكلها الوطني

(1) حنه - أو - كاترين: 1 CATHERINE) إمبراطورة روسيا (1672 - 1727) زوحة بطرس الكبير (PIERRE LE GRAND) تولت الحكم بعد موت زوجها (سنة 1725) غير أنها لم تستمر في الحكم أكثر من سنتين.

ص: 48

والقومي، فوقعت مجموعة من الحروب بين الدول الأوروبية بعضها ضد بعض، وظهر في تلك الفترة بصورة خاصة إمبراطور روسيا (بطرس الكبير) في روسيا و (فريدريك الكبير)(1) في بروسيا الذي خاض حروبه ضد النمسا، ونظرا لأن الإمبراطورية النمساوية كانت تتزعم الدول الكاثوليكية في حربها الصليبية ضد المسلمين، ونظرا أيضا لأن بروسيا كانت تعتبر نفسها (حامية البروتستانتية) فقد حاول فريدريك التحالف مع الإمبراطورية العثمانية ضد العدو المشترك (النمسا)، وإقناع الباب العالي بشن حرب على النمسا أثناء حرب السبع سنوات (المرحلة الثالثة من الحروب السيليزية). وأمكن عقد معاهدة صداقة بين (بروسيا والإمبراطورية العثمانية) في 29 آذار - مارس - سنة 1761.غير أن السلطان رفض الإشتراك في هذه الحرب التي لم يكن له مصلحة فيها، والتي أفتى العلماء بعدم تأييدها انطلاقا من قاعدة (عدم الانتصار لكافر ضد كافر - طالما أنه لا مصلحة للمسلمين فيها).

إن تجنب الإمبراطورية العثمانية الإشتراك في الحرورب الأوروبية، لم يكن ليمنعها من المشاركة في صنع أحداث السياسة الأوروبية، بسبب نشوء المسألة البولونية والتي اصطنعتها روسيا لضمان مطامعها في التوسع نحو أوروبا. وبرزت المسألة البولونية

(1) فريدريك الثاني - الكبير: (FREDERIC II LE GRAND) ابن فريدريك الأول. وملك بروسيا - ولد في برلين (1712 - 1786م) تم تتويجه على إثر وفاة أبيه (سنة 1740م) اشتهر بأنه قائد عسكري كبير، وإداري منظم من الطراز الأول وإليه يعود الفضل في إظهار عظمة بروسيا. استولى على سيليزيا إثر انتصاره في معركة (مولويتز - سنة 1741م) وتحالف مع إنكلترا، وقاوم الدول المتحالفة ضده (النمسا وفرنسا وروسيا) طوال حرب السبع سنوات وانتصر في معارك روزباك ولوتن وزورندورف. واشترك في اقتسام بولونيا سنة 1772 وحصل على نصيبه منها. كان صديق الكاتب الإفرنسي فولتير. واشتهر برعايته للأدباء والفنانين والعلماء.

ص: 49

بصورة خاصة في عهد الإمبراطورة (كاترين الثانية)(1) حيث حاولت هذه الإمبراطورة إضعاف بولونيا، وأظهرت الإمبراطورية العثمانية عدم اهتمام كبير في بداية الأمر، على الرغم من إقدام روسيا على مساعدة الكرج للقيام بالثورة ضد العثمانيين المسلمين، وعلى الرغم أيضا من قيام روسيا بخلق المتاعب والمشكلات في وجه حاكم القرم (خان التتار). وأثناء ذلك بذل حزب الإئتلاف البولوني كل جهوده حتى نجح في إقناع السلطان بضرورة الدفاع عن نفوذه في الشمال الشرقي من بلاده. حتى إذا ما قامت القوات الرومية بتدمير مدينة (يالطة) على حدود (سارابيا)(2) سارع المفتي إلى الإفتاء بضرورة شن الحرب ضد (روسيا) على الرغم من تعلقه وزملائه رجال الإفتاء بأهداب السلام.

بدأت روسيا عملياتها ضد التتار في القرم والذين تولى قيادتهم خان القرم (كراي). واستطاعت القوات الروسية أن تلحق بهم الهزيمة، ثم استولت على (خوتين) بينما كان الجيش العثماني مرابطا في (دوبريجة). وفي سنة (1770م) تابعت القوات الروسية تقدمها عبر

(1) كاترين الثانية الكبيرة: (LA GRANDE CATHERINE II) إمبراطورة روسيا، ولدت في (ستيتن: STETTIN) أو بالألمانيه (SZCZECIN) المدينة البولونية الواقعة على نهر الأودر، وهي ابنة الدوق (آنهالت - زربست) عاشت في الفترة (1729 - 1796م) تزوجت بطرس الثالث. وحكمت وحدها بعد موت زوجها في سنة (1762م) اشتهرت بحروبها ضد المسلمين الأتراك بصورة خاصة، وقامت بإصلاحات كثيرة، وعملت على حماية ورعاية العلماء والأدباء والفنانين - والإفرنسيين منهم بصورة خاصة - فعمل هؤلاء على اسدال ستار على شذوذها وقسوتها.

(2)

بسارابيا: (BESSARABIE) بلاد في أوروبا الشرقية، تقع بين نهر الدنيستر ونهر بروت PRUT . ولم تخضع هذه البلاد أبدا لرومانيا، وهي تتبع حاليا، بعد تقسيمها، إلى (أوكرانيا) و (مولدافيا).

ص: 50

(البغدان والافلاق) إلى أن وصلت نهر الدانوب (الطوانه) واحتلت كيليا وبندر وابرائيل، بعد أن أخذت من النبلاء الرومانيين يمين الولاء للإمبراطورة الروسية (كاترينا) وفي هذه الأثناء ظهر في بحر - إيجة - لأول مرة - أسطول روسي عهد إليه مهمة إشعال الثورة في اليونان ودعم الثوار ضد العثمانيين.

وهكذا احتل القرصان الإيجيون عددا من المواقع الحصينة في المورة، ولكنهم لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها. وقام الروس بعد ذلك بإضرام النار في الأسطول العثماني (في خليج جشمة) وذلك في شهر تموز يوليو (1770م). غير أن الروس لم يستغلوا انتصارهم هذا. فكان أثر هذا العمل العدواني المباغت محدودا. وقامت القوات الروسية بهجوم جديد في سنة (1771م) فأمكن لها تحقيق نصر كبير باستيلائها على (برقوب) وإخضاع شبه جزيرة القرم. وقامت (بروسيا والنمسا) بالوساطة وتم عقد هدنة بين الطرفين تنازل السلطان العثماني مصطفى الثالث (1757 - 1773م) عن جميع مطالبه في بولونيا. غير أنه لم يتم الاتفاق بين الطرفين بشأن موضوع الحصون القائمة على البحر الأسود. وأعاد العثمانيون في هذه الفترة تنظيم قواتهم، وأمكن لهم صد القوات الروسية في البلقان. وأرغموا الروس على رفع الحصار عن (سلسترة) و (فارنا) والانسحاب في أواخر سنة 1773 عبر الدانوب. ثم توفي السلطان مصطفى عندما كان يعتزم قيادة الجيش بنفسه لتدمير جيش روسيا. وخلفه أخوه عبد الحميد الأول (1773 - 1789). فوجه القوات بقيادة الصدر الأعظم (محسن زاده) الذي وقع في كمين نصبه له الروس عند (شملا) وفرقوا جيشه، فاضطر إلى طلب الهدنة. وتم التوقيع على معاهدة للصلح بين الفريقين في (كوجك قينارجه - جنوبي سلسترة) بتاريخ 22 تموز - يوليو - 1774م.

ص: 51

فرضت هذه المعاهدة على السلطان العثماني التنازل لروسيا عن أعظم القلاع شأنا على البحر الأسود، كما تخلى لروسيا عن (قبرطة - أو قبرطاي) الكبرى والصغرى في بلاد القوقاز (القبق). ومنح الأسطول الروسي حق المرور في الدردنيل، ليس ذلك فحسب، بل لقد أكره فوق ذلك على الاعتراف باستقلال التتار في شبه جزيرة القرم. وعلى منح العفو العام وحرية العبادة لسكان البغدان والافلاق. وتدهورت بنتيجة ذلك هيبة الأتراك المسلمين في أوروبا بحيث ظهر أن إخراجهم من أوروبا لم يعد بأكثر من قضية وقت. ووجدت النمسا في ذلك فرصة سانحة، فعملت على سلخ (بوقووينة - أو - بوكوفينا) وضمتها إليها بعد عقد الصلح مباشرة، متذرعة بحجة واهية، فلم يستطع السلطان لها دفعا. وفي سنة (1783م) أخضعت كاترينا التتار، فقضت بذلك نهائيا على استقلال شبه جزيرة القرم. ثم إن السلطان أكره على ذلك أيضا في معاهدة (آيينه لوقواق) سنة (1784م).

سنحت الفرصة للقوات العثمانية بعد ذلك للتعويض عما فقدته في حربها مع روسيا وذلك عندما قام أهل القوقاز (القبق) بالثورة على أمير الكرج (هرقل) الذي كان يحكم بحماية الإمبراطورة كاترين. وحاولت القوات العثمانية استرجاع شبه جزيرة القرم. غير أن القائد الروسي (سوفوروف)(1) أحبط هذه المحاولة، ثم لم يلبث أن استولى على أجاقوف في كانون الأول - ديسمبر - 1788. بعد أن تم تحطيم الأسطول العثماني في الصيف المنصرم على شواطىء القرم.

(1) سوفرروف: (ALEXANDRE SOUVOROV) جنرال روسي من مواليد موسكو (1729 - 1800) من أبرز أعماله القيادية القضاء على ثورة بولونيا، في سنة 1794 وخوض الحروب ضد الأتراك العثمانيين والقضاء على جيوش الثورة الفرنسية في إيطاليا.

ص: 52

وفي شهر شباط - فبراير - من السنة ذاتها أعلن إمبراطور النمسا (جوزيف الثاني) الحرب على العثمانيين، وتقدمت جيوشه في الصرب وتراسلفانيا. وتدخلت من جديد (بروسيا) والدول البحرية للوساطة، وتم عقد صلح (زشتوى) في 4 آب أغسطس سنة 1791، وبموجبه احتفظت الإمبراطورية العثمانية بإمارات الدانوب حتى (أرسورة). وتابعت روسيا الحرب بضراوة في بسارابيا والقرم والدانوب، ثم وقعت صلحا مع الإمبراطورية العثمانية (عند ياش) في 9 كانون الثاني - يناير - سنة (1792 م) وقضى هذا الصلح بجعل نهر الدنيستر هو الحد الفاصل بين الدولتين، وتنازل الأتراك لروسيا عن شبه جزيرة القرم بصورة نهائية.

كان ذلك عرضا سريعا للصراع المرير الذي خاضته الإمبراطورية العثمانية ضد أعداء الخارج. وكانت مرغمة على خوض مجموعة من الصراعات الداخلية أيضا، كان من أبرزها الصراع مع المتمردين من قادة الجيوش (الإنكشارية) ومع الشيعة في (فارس) ومع المتمردين في سوريا ولبنان. ولم تكن أعمال هذا التمرد وتلك الثورات بعيدة عن التحريض الخارجي وهو ما تبرزه بصورة خاصة (ثورة جنبلاط) في الشام وثورة (فخر الدين المعني) في جبل لبنان (1). ونظرا لارتباط هذه الأحداث بما كان يحدث على جهة المغرب الغربي الإسلامي والمشرق العربي الإسلامى فقد يكون من المناسب التوقف عندها قليلا.

(1) تم الاعتماد في البحث هنا على ما ورد في (تاريخ الشعوب الإسلامية) كارل بروكلمان دار العلم للملايين ص 511 و513 و514.

ص: 53