المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فاتحة: ْلولا نسب لى فى الشيوخ عريق، لتهيبت التصدى لهذا الموضوع - الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌فاتحة:

- ‌المبحث الأول

- ‌المعجزة

- ‌الجدل والتحدي وآيات المعاجزة

- ‌وجوه الإعجاز والبيان القرآني

- ‌البلاغيون والإعجاز البياني

- ‌المبحث الثاني

- ‌فواتح السُّوَر وسِرُّ الحرف

- ‌دلالات الألفاظ وسر الكلمة

- ‌الأساليبُ وسرُّ التعبير

- ‌مسائل نافع بنِ الأزرق

- ‌اللهمَّ يسَّرْ وأَعِنْ

- ‌1 - {عِزِينَ}

- ‌2 - {الْوَسِيلَةَ} :

- ‌3 - {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}

- ‌4 - {وَيَنْعِهِ}

- ‌5 - {رِيشًا} :

- ‌6 - {كَبَدٍ}

- ‌7 - {سَنَا} :

- ‌8 - {حَفَدَةً} :

- ‌9 - {حَنَانًا}

- ‌10 - {يَيْأَسِ}

- ‌11 - {مَثْبُورًا}

- ‌12 - {فَأَجَاءَهَا}

- ‌13 - {نَدِيًّا}

- ‌15 - {قَاعًا صَفْصَفًا}

- ‌16 - {تَضْحَى}

- ‌18 - {وَلَا تَنِيَا}

- ‌19 - {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}

- ‌20 - {مَشِيدٍ}

- ‌21 - {شُوَاظٌ}

- ‌23 - {يُؤَيِّدُ}

- ‌24 - {نُحَاسٌ}

- ‌25 - {أَمْشَاجٍ}

- ‌26 - {فُومِهَا}

- ‌27 - {سَامِدُونَ}

- ‌28 - {غَوْلٌ}

- ‌29 - {اتَّسَقَ}

- ‌30 - {خَالِدُونَ} :

- ‌31 - {الْجَوَابِى}

- ‌32 - {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}

- ‌33 - {لَازِبٍ}

- ‌34 - {أَنْدَادًا}

- ‌35 - {شَوْبًا}

- ‌37 - {حَمَإٍ مَسْنُونٍ}

- ‌39 - {مَاءً غَدَقًا} :

- ‌40 - {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} :

- ‌41 - {أَلِيمٌ} :

- ‌42 - {قَفَّيْنَا} :

- ‌43 - {تَرَدَّى}

- ‌44 - {نَهَرٍ}

- ‌45 - {الْأَنَامِ}

- ‌46 - {يَحُورَ} :

- ‌47 - {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}

- ‌48 - {مُلِيمٌ}

- ‌49 - {تَحُسُّونَهُمْ}

- ‌50 - {أَلْفَيْنَا}

- ‌51 - {جَنَفًا}

- ‌52 - {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}

- ‌53 - {رَمْزًا}

- ‌54 - {فَازَ}

- ‌55 - {سَوَاءٍ}

- ‌59 - {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}

- ‌57 - {زَنِيمٍ}

- ‌59 - {الْفَلَقِ}

- ‌60 - {خَلَاقٍ}

- ‌61 - {قَانِتُونَ}

- ‌61 - {جَدُّ رَبِّنَا}

- ‌64 - {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}

- ‌65 - {أَكْدَى}

- ‌66 - {وَزَرَ}

- ‌67 - {نَحْبَهُ}

- ‌69 - {الْمُعْصِرَاتِ}

- ‌70 - {عَضُدَ}

- ‌72 - {لِكَيْلَا تَأْسَوْا}

- ‌73 - {يَصْدِفُونَ}

- ‌74 - {تُبْسَلَ}

- ‌75 - {أَفَلَتْ}

- ‌76 - {الصَّرِيمِ}

- ‌77 - {تَفْتَأُ}

- ‌78 - {إِمْلَاقٍ}

- ‌79 - {حَدَائِقَ}

- ‌80 - {مُقِيتًا}

- ‌81 - {لَا يَئُودُهُ}

- ‌82 - {سَرِيًّا}

- ‌83 - {دِهَاقًا}

- ‌84 - {كَنُودٌ}

- ‌85 - {يُنْغِضُونَ}

- ‌87 - {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}

- ‌88 - {تَتْبِيبٍ}

- ‌90 - {عَصِيبٌ}

- ‌91 - {مُؤْصَدَةٌ}

- ‌92 - {يَسْأَمُونَ}

- ‌93 - {أَبَابِيلَ}

- ‌94 - {ثَقِفْتُمُوهُمْ}

- ‌95 - {نَقْعًا}

- ‌97 - {مَخْضُودٍ}

- ‌98 - {هَضِيمٌ}

- ‌99 - {سَدِيدًا}

- ‌100 - {الإِلّ}

- ‌102 - {زُبَرَ الْحَدِيدِ}

- ‌103 - {سُحْقًا}

- ‌104 - {غُرُورٍ}

- ‌105 - {حَصُورًا}

- ‌106 - {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}

- ‌107 - {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}

- ‌108 - {إِيَابَهُمْ}

- ‌109 - {حُوبًا}

- ‌111 - {فَتِيلًا}

- ‌12 - {قِطْمِيرٍ}

- ‌113 - {أَرْكَسَهُمْ}

- ‌114 - {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}

- ‌115 - {يَفْتِنَكُمُ}

- ‌116 - {لَمْ يَغْنَوْا}

- ‌118 - {نَقِيرًا}

- ‌119 - {فَارِضٌ}

- ‌120 - {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} من {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}

- ‌121 - {شَرَوْا}

- ‌122 - {حُسْبَانًا}

- ‌123 - {عَنَتِ}

- ‌124 - {ضَنْكًا}

- ‌125 - {فَجٍّ}

- ‌126 - {الْحُبُكِ}

- ‌127 - {حَرَضًا}

- ‌128 - {يَدُعُّ}

- ‌129 - {مُنْفَطِرٌ}

- ‌130 - {يُوزَعُونَ}

- ‌131 - {خَبَتْ}

- ‌132 - {الْمُهْلِ}

- ‌133 - {وَبِيل}

- ‌134 - {نَقَّبُوا}

- ‌135 - {هَمْسًا}

- ‌136 - {مُقْمَحُونَ}

- ‌137 - {مَرِيجٍ}

- ‌138 - {حَتْمًا مَقْضِيًّا}

- ‌139 - {أَكْوَابٍ}

- ‌140 - {يُنْزَفُونَ}

- ‌141 - {كَانَ غَرَامًا} :

- ‌142 - {التَّرَائِبِ}

- ‌143 - {بُورًا}

- ‌145 - {أَلَدُّ الْخِصَامِ}

- ‌146 - {حَنِيذٍ}

- ‌147 - {الْأَجْدَاثِ}

- ‌148 - {هَلُوعًا}

- ‌149 - {لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}

- ‌150 - {دُسُرٍ}

- ‌151 - {رِكْزًا}

- ‌152 - {بَاسِرَةٌ}

- ‌153 - {ضِيزَى}

- ‌154 - {لَمْ يَتَسَنَّهْ}

- ‌155 - {خَتَّارٍ}

- ‌156 - {الْقِطْرِ}

- ‌157 - {خَمْطٍ}

- ‌158 - {اشْمَأَزَّتْ} :

- ‌159 - {جُدَدٌ}

- ‌160 - {أَغْنَى، وَأَقْنَى}

- ‌161 - {لَا يَلِتْكُمْ}

- ‌162 - {أَبًّا}

- ‌163 - {السِرًّ}

- ‌164 - {تُسِيمُونَ}

- ‌165 - {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}

- ‌166 - {مَتْرَبَةٍ}

- ‌167 - {مُهْطِعِينَ}

- ‌168 - {سَمِيًّا}

- ‌169 - (يُصْهَرُ)

- ‌170 - (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)

- ‌171 - (كُلَّ بَنَانٍ) :

- ‌172 - (إِعْصَارٌ)

- ‌173 - (مُرَاغَمًا) :

- ‌174 - (صَلْد) :

- ‌175 - (مَمْنُون) :

- ‌176 - (جَابُوا) :

- ‌177 - (جَمًّا) :

- ‌178 - (غَاسِقٍ) :

- ‌179 - (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) :

- ‌180 - (يَعْمَهُونَ) :

- ‌181 - (إِلَى بَارِئِكُمْ) :

- ‌182 - (رَيْبٍ) :

- ‌183 - (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)

- ‌184 - (صَفْوَان) :

- ‌185 - (صِرٌّ) :

- ‌186 - (تُبَوِّئُ) :

- ‌187 (رِبِّيُّونَ) :

- ‌188 - (مَخْمَصَةٌ) :

- ‌189 - (يقترف) :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ‌فاتحة: ْلولا نسب لى فى الشيوخ عريق، لتهيبت التصدى لهذا الموضوع

‌فاتحة:

ْلولا نسب لى فى الشيوخ عريق، لتهيبت التصدى لهذا الموضوع الدقيق

الصعب الذى توارد عليه أئمة من علماء السلف أفنوا أعمارهم فى خدمة

القرآن الكريم، وقدموا إلى المكتبة الإسلامية ثمار جهودهم السخية الباذلة.

ولولا ما أعلم من مكانة جليلة للمرأة المسلمة فى تاريخنا، لأحجمت عن

التقدم إلى هذا الميدان الجليل، إشفاقا من أن يُنكر مكاني فيه. . .

مع الكتاب المعجزة عشت عمرى كله، وفي المدرسة القرآنية كانت تلمذتي

الطويلة التي تولاها أبي فى مراحلها الأولى. وإليها انتهى تخصصى فى الدراسة

- العليا التى وجهنى إليها أستاذى الإمام "أمين الخولى"، وظل لمدى ثلث قرن

يقود خطاي على الطريق الشاق، ويحمينى من عثرة الرأى ومزالق التأويل

وسطحية النظر، ويأخذني بضوابط منهجه الدقيق الصارم الذى لا يجيز لنا أن

نفسر كلمة من كلمات الله تعالى دون استقراء لمواضع ورودها بمختلف صيغها فى الكتاب المحكم، ولا أن نتناول موضوغا قرآنيا أوظاهرة من ظواهره

الأسلوبية، دون اسيعاب لنظائرها وتدبر سياقها الخاص فى الآية والسورة،

وسياقها العام فى القرآن كله.

***

وقد شغلتني قضية الإعجار البياني دون أن أتجه إليها قصدا: فأثناء اشتغالى

بالتفسير البياني والدراسات القرآنية، تجلى لي من أسراره الباهرة ما لفتنى إلى

موقف العرب الأصلاء من المعجزة القرآنية فى عصر المبعث، ووجهنى إلى

محاولة منهجية في فهم عجزهم عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، وقد

تحداهم أن يفعلوا، والعربية لغته ولغتهم، والبيان طوع ألسنتهم.

وهم لا ريب قد أدركوا من أسرار إعجازه البياني، ما أياسهم من محاولة

ص: 11

الإتيان بلفظ يقوم مقام اللفظ منه، أو أن يأتوا بآية على غير الوجه الذى

جاءت به فى البيان المعجز. . .

وهذا هو مجال المحاولة المتواضعة التى أقدمها اليوم فى فهم إعجاز البيان

القرآني، لا أجحد بها جهود السلف الصالح فى خدمة القرآن الكريم، تفسيرًا

وإعرابًا وبلاغة وإعجازًا، وقد زودتنى بمعالم هادية على الطريق الذى سرت فيه من حيث انتهت خطواتهم. واثقة أن الأجيال بعدنا حين تبدأ من حيث انتهى بنا الجهد، سوف تجتلى من أسراره الباهرة ما تضيفه إلى عطاء السلف

الصالح، رضى الله عنهم.

الجزء الأول، في الإعجاز البياني، يجمع خلاصة مما لمحت من أسراره

الباهرة، فى دراساتي القرآنية المنشورة من قبل: وبحوث قدمتها إلى

مؤتمرات: المستشرقين بالهند (سنة 1964) والأدباء العرب ببغداد (1965)

وندوة علماء الإسلام بالمغرب (1968) وأسبوع القرآن بجامعة أم درمان

الإسلامية (1968) ومحاضرات فى الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين.

وأما الجزء الثاني، فمحاولة تطبيقة لمنهج الدرس الاستقرائى للنص

القرآني، بدراسة نحو مائتى مسألة فى كلمات قرآنية، سأل فيها نافع بن

الأزرق، عبدَ الله بن عباس رضى الله عنهما، وطلب إليه فى تفسير كل مسألة منها أن يأتي بشاهد له من كلام العرب.

قدمتها فى الطبعة الأولى، ولم أكن وقفت على مخطوطات ثلاث للمسائل،

بالخزانة الظاهرية بدمشق ودار الكتب المصرية، أتاحت لى فى هذه الطبعة

ص: 12

الجديدة أن أعود على بدء فأدرس المسائل بعد بضع عشرة سنة انقطعت فيها

لخدمة القرآن، مزودة بما تعلمت وعلَّمت فى هذه المرحلة الأخيرة من عمرى، وما أشرفت عليه من رسائل فى علوم القرآن والحديث والعربية، لطلاب

الدراسات العليا بجامعات القرويين والأزهر وعين شمس وكلية البنات

بالرياض، وما قرأت معهم من ذخائر مخطوطة ومطبوعة، أجدتْ عليَّ مزيد

نضج وتثبت، وتواضع وتهيب.

والله من وراء القصد، له سبحانه الفضل والمنة، ومنه التوفيق وبه

المستعان.

ص: 13

الجزء الأول

الإعجاز البياني

- مدخل: خطوات على الطريق.

- المبحث الأول: المعجزة

- الجدل والتحدى

- وجوه الإعجاز والبيان القرآني

- علماء السلف والإعجاز البياني

- المبحث الثاني: محاولة فى فهم الإعجاز البياني

ص: 15

من إعجاز القرآن أن يظل مشغلة

الدارسين العلماء جيلا بعد جيل، ثم

يبقى أبدًا رحبَ المدى سخى المورد،

كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية،

امتد الأفق بعيدًا وراء كل مطمح،

عاليا يفوت طاقة الدارسين.

ص: 17

من إعجاز القرآن أن يظل مشغلة الدارسين العلماء جيلا بعد جيل، ثم

يظل أبدًا رحب المدى سخى المورد كلما حسب جيل أنه بلغ منه الغاية، امتد

الأفق بعيدًا وراء كل مطمح، عاليا يفوت طاقة الدارسين.

فى القرن الثالث للهجرة، كانت البيئة الإسلامية تموج بأقوال فى الإعجاز

أخذت وضعا حادا فى صراع الفرق الإسلامية، فانتصر أعلام كل فرقة لرأيهم فيه وتصدوا لنقض أراء مخالفيهم.

ولم تنفرد قضية الإعجاز فى أول الأمر بالبحث والنظر، وإنما عولجت مع

غيرها من القضايا التي نشط فيها الكلام وتجادلت الفرق، وبخاصة تلك التي

تتصل بالنبوة والمعجزة، كالذى فى (تأويل مشكل القرآن) لابن قتيبة،

و (مقالات الإسلاميين) لأبى الحسن الأشعرى، و (حجج النبوة، للجاحظ)

و (الانتصار) لأبى الحسين الخياط الذى نقض كتب "ابن الراوندى"، ومنها

(الزمرد) ، و (الدامغ) و (الفريد) فى نظم القرآن.

أو تناولها المفسرون فى سياق التفسير كالذى فى (جامع البيان) للطبرى

و (مجاز القرآن) لأبى عبيدة. . . .

على أن القضية لم تبث أن استقلت بالتأليف المفرد: ففى القرن الثالث

ظهرت كتب فى الإعجاز تحمل فى الغالب عنوان (نظم القرآن) وللجاحظ

(ت 255 هـ) كتاب بهذا الاسم لم يصل إلينا، وإن كان الجاحظ أشار إليه فى كتابه (الحجج) كما أشار إليه الباقلاني فى كتابه (إعجاز القرآن) .

ص: 19

وألف " السجستاني: أبو بكر عبد الله " كتابه (نظم القرآن) في النصف

الثاني من القرن الثالث وأوائل الرابع، وكذلك أبو زيد البلخى، أحمد بن

سليمان ت (322) ومعاصره "أبو بكر أحمد بن على": ابن الإخشيد" (ت 326) وقد أشار إلى كتابه الخياط فى (الانتصار) والزمخشرى فى خطبة (الكشاف) .

وفى أواخر القرن الثالث، ظهر أول كتاب - فيما نعلم - بعنوان (إعجاز

القرآن، في نظمه وتأليفه) لأبي عبد الله بن يزيد الواسطى المعتزلى

(ت 306 هـ) وقد ذكر حاجى خليفة فى (كشف الظنون) أن كتاب الواسطى فى إعجاز القرآن شرحه الشيخ عبد القاهر الجرجاني فى شرحين: الكبير وسماه

المعتضد، والشرح الصغير.

وظن أعلام هذه الطبقة الأولى ممن كتبوا فى نظم القرآن وإعجازه، أنهم

استوفوا الكلام فيه فلم يدعوا لمن بعدهم مجالا لجديد يقال.

كتب الجاحظ فى (حجج النبوة) يقدم كتابه (نظم القرآن) إلى الفتح بن خاقان: ". . . فكتبت لك كتابًا أجهدت فيه نفسى وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلى فى الاحتجاج للقرآن والرد على كل طعان. فلم أدع فيه مسألة لرافضى ولا لحديثى ولا لحشوى، ولا لكافر مبادٍ ولا لمنافق مقموع ولا لأصحاب النظام ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة.

وشهد أبو الحسين الخياط لهذا الكتاب فقال فى (الانتصار) :

ومن قرأ كتاب عمرو الجاحظ فى الرد على المشبهة وكتابه فى الأخبار

ص: 20

وإثبات النبوات، وكتابه فى نظم القرآن، علم أن له فى الإسلام غناء عظيمًا لم يكن الله عز وجل ليضيعه عليه، ولا يُعرف كتاب فى الاحتجاج لنظم القرآن وعجيب تأليفه وأنه حجة لمحمد على نبوته غير كتاب الجاحظ.

ونقل أبو حيان التوحيدى" فى (البصائر) قول أبى حامد القاضى "فى

كتاب أبى زيد البلخى:

"لم أر كتابا فى القرآن مثل كتاب لأبى زيد البلخى، وكان فاضلا يذهب

إلى رأى الفلاسفة، لكنه يتكلم فى القرآن بكلام لطيف دقيق فى مواضع،

وأخرج سرائره وسماه نظم القرآن، ولم يأت على جميع المعاني فيه".

***

وتلقى القرن الرابع هذا الجهد فلم يجد فيه مع ذلك ما يغنى، بل كان فى

تقديره كما قال القاضى أبو بكر الباقلاني في (إعجاز القرآن) :

لأوقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة فى معاني القرآن وتكلم فى

فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا

القول فى الإبانة عن وجه معجزته والدلالة على مكانه، فهو أحق بكثير

مما صنفوا فيه من القول. . . فالحاجة إليه أمَس، والاشتغال به أوجَبُ.

"وقد قصَّر بعضهم فى هذه المسألة حتى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة

فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصرَ

فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا فى لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية

فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه فى هذا المعنى - إعجاز القرآن - غير كامل فى بابه ولا مستوفى فى وجهه، قد أخِل بتهذيب طرقه وأهمل ترتيب

ص: 21

بيانه. "وقد يُعذرَ بعضهم فى تفريط يقع منه فيه وذهاب عنه، لأن هذا الباب

مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل عظيمة المقدار دقيقة

المسلك لطيفة المأخذ. . .

"وقد صنف الجاحظ فى نظم القرآن كتاباً لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون

قبله ولم يكشف عما يلتبس فى أكثر هذا المعنى".

وكذلك قال أبو سليمان الخطابي (388 هـ) في مقدمة رسالته فى

الإعجاز:

"قد أكثر الناس الكلام فى هذا الباب قديما وحديثاً وذهبوا فيه كل مذهب

من القول. وما وجدناهم بعدُ صدروا عن رِيٍّ، وذلك لتعذر معرفة وجه

الإعجاز فى القرآن ومعرفة الأمر فى الوقوف على كيفيته "

وقدم هذا القرن الرابع رصيده، واختار عنوان (إعجاز القرآن) الذى كتب

على رسائل من تصدوا للتأليف فيه من أعلام هذا القرن.

ومن أشهر ما وصل إلينا من مصنفاتهم فى الإعجاز:

(النكت في إعجاز القرآن) لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني - ت 384 هـ

(بيان إعجاز القرآن) للخطاب، أبي سليمان حمد بن محمد - ت 386 هـ

(إعجاز القرآن) لأبي بكر الباقلاني - ت 403 هـ

ومعها مجلد (إعجاز القرآن) من كتاب (المغنى: فى أبواب التوحيد والعدل)

للقاضى عبد الجبار أبي الحسن المعتزلى " - ت 315 هـ.

ص: 22

وقد نقلنا آنفاً من كلام الباقلاني فيمن سبقوه، ما ندرك معه كيف رأى أن

موضوع إعجاز القرآن " قلَّ أنصاره واشتغل عنه أعوانه وأسلمه أهله، فصار

عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه

عند ظهور أمره، فمن قائل قال إنه سحر وقائل يقول إنه شعر، وآخر يقول

إنه أساطير الأولين، وقالوا:(لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا) . إلى الوجوه التى

حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه وتكلموا به، فصرفره إليه "

وتجرد الباقلاني لتفصيل القول فى مسألة الإعجاز وفاء بما قصر عنه سلفه،

ليجىء فى نظم القرآن، بما يكون مستفادا من كتاب خاصة، وموجها ما وصل إليه جهده، إلى الخاصة "من أهل صناعة العربية الذين وقفوا على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرفوا جملة من طرق المتكلمين ونظروا فى شىء من أصول الدين.

***

وظن الباقلاني أنه أغلق الباب وقال فيه الكلمة الأخيرة، فجاء "عبد القاهر

الجرجاني" فى القرن الخامس، وعرض السؤال فى قضية الإعجاز كأن لم يُعرض من قبل، وبدأ القولَ فيها كمن يرى الميدان خالياً ليس فيه دليل، بحيث احتاج إلى وضع كتاب (دلائل الإعجاز) ، مقدمة لفهمه بإدراك أسرار العربية، فاستفرغ طاقته فى عرض أسالييها ونحوها وملاحظها البلاغية من حيث هى الهادية إلى دلائل الإعجاز.

ولم يبدأ فى كتابه حتى نظر فى كتب السلف فلم ير إلا شرًّا وتخليطا وأنكر

تصدى كثير مهم لتفسير القرآن وتأويله وقد أعوزتهم آلة فهمه وإدراك

إعجازه، وقال فيما قال:

"ولو أن هؤلاء القوم إذ تركوا هذا الشأن تركوه جملة فلم يأخذوا أنفسهم

ص: 23

بالتقَوِّى فيه والتصرف فيما لم يعلموا منه، ولم يخوضوا فى التفسير ولم يتعاطوا

التأويل، لكان البلاء واحداً ولكانوا إذا لم يبنوا لم يهدموا وإذا لم يصلحوا لم

يكونوا سببا للفساد. ولكنهم لم يفعلوا، فجلبوا من الداء ما أعيا الطبيب وحير اللبيب، وانتهى التخليط بما أتوه فيه إلى حدٍّ يُئس من تلافيه، فلم يبق

للعارف الذى يكره الشغب إلا التعجب والسكوت. وما الآفة العظمى

إلا واحدة وهى أن يجىء من الإنسان يجرى لفظه ويكثر من غير تحصيل، وأن

يحسن البناء على غير أساس وأن يقول الشىء لم يقتله علماً. . .

"ثم إنا وإن كنا فى زمان هو ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها

وتحويل الأشياء عن حالاتها ونقل النفوس عن طباعها وقلب الخلائق المحمودة

إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفاً والغيظ بحتاً

وإلا ما يدهش معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأيا عند الجميع من كانت له

همة أن يستفيد علماً أو يزداد فهما أو يكتسب فضلا. . .

"فإن الإلْف من طباع الكريم، وإذا كان من حق الصديق عليك ولا سيما

إذا تقادمت صحبته وصحَّت صداقته ألا تجفوه بأن تنكبك الأيام وتضجرك

النوائب وتحرجك محن الزمان فتتناساه جملة وتطويه طيًّا، فالعلم الذى هو

صديق لا يحول عن العهد ولا يدغل فى الود، وصاحب لا يصح عليه النكث

والغدر ولا يُظن به الخيانة والمكر، أولى منه بذلك وأجدر، وحقه عليك

أكبر. . " 27

وظن الجرجاني أنه قطع قول كل دارس وجاء فى بيان فوت نظم القرآن

بما قصر عنه الأوائل والأواخر، وأتى به على وجه يؤخذ باليد ويُتناول من

كتب ويُتصور فى النفس كتصور الأشكال، بين ما ادعيناه من الفصاحة

العجية فى القرآن" 70

وأوجب على كل ذى عقل ودين أن ينظر فى الكتاب الذى وضعه فيه:

ص: 24

"فإن عَلِم أنه الطريق إلى البيان والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق

وأخذ به.

وإن رأى أن له طريقا غيره أومأ لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك!

أو كما أضاف، الجرجاني متحدياً:

إني أقول مقالا لست أخفيه. . . ولست أرهب خصماً إن بدا فيه

ما من سبيل إلى إثبات معجزة. . . فى النظم إلا بما أصبحت أبديه

قولوا وأصغوا للبيان تروا. . . كالصبح منبلجا فى عين رائيه

ومع الدلائل، قدم الجرجاني (الرسالة الشافية) فى إعجاز القرآن - نشرت

مع: ثلاث رسائل فى الإعجاز - وحسب أنه أتى فيها "بما يشفى من له طبع

إذا قدحتَه أورى، وقلب إذا أريته رأى. . . فأما من لا يرى ما تريه ولا يهتدى للذى تهديه، فأنت معه كالنافخ فى الفحم من غير نار وكالملتمس الشم من أخشم.

وكما لا يقيم الشعر فى نفس من لا ذوق له، لا يفهم هذا البابَ من لم

يؤتَ الآلة التى بها يفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء أو ظن العادم لها أنه قد

أوتيها، وأنه ممن يكمُل للحكم ويصح منه القضاء فجعل يخبط ويخلط ويقول

القولَ لو علم عِيه لاستحيا منه. . .

"فليس الكلام إذن بمغن عنك ولا القول بنافع، ولا الحجة مسموعة، حتى

تجد مَن فيه عون لك، ومن إذا أبى عليك أي ذاك طبعُه فردَّه إليك وفتح

سمعه لك ورفع الحجاب بينه وبينك وأخذ به إلى حيث أنت، وصرت ناظره

إلى الجهة التى أليها أومأت، فاستبدل بالنفار أنساً وأراك من بعد الإباء قبولا.

وبالله التوفيق".

***

فى القرن الخامس أيضاً، ظهر ابن حزم الظاهرى (ت 456 هـ) فتصدى

للسلف ممن تكلموا فى إعجاز القرآن، واشتدت وطأته على القاضى الباقلاني

ص: 25

فوصفه بالكفر أعظم الكفر، والهذيان المحض والحمق العتيق ونقل من كتابه

(الانتصار) أقوالا من باب الدلالة على القرآن معجزة للنبى، صلى الله عليه

وسلم، ما رآه من الكفر الصريح والكيد للإسلام، من هذا النذل المستخف

الباقلاني.

وجاء القرن السادس فلم ير فى فصل ابن حزم ما ينهي الصراع المذهبى

بين المفسرين والمتكلمين في الإعجاز والنبوة، كما لم يجد فى شافيهّ الجرجاني

ما يشفى غليلا أو يروى ظمأ. ولا صح عنده أن عبد القاهر جاء بدلائل

الإعجاز على نحو يؤخذ باليد أو بلغ منها ما قاله من (إقرار الأمور قراوها

ووضع الأشياء فى مواضعها، وبيان ما يشكل وحل ما يتعقد والكشف

عما يخفى، حتى يزداد السامع ثقة بالحجة واستظهارا على الشبهة واستبانة

للدليل"،

وتقدم ابن رشد الحفيد (ت 595 هـ) إلى الميدان فأنكر هذه الخصومات

المذهبية التى أضرت بالإسلام أشد الضرر.

وصرح بأن الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع، ثلاث خواص دلت على الإعجاز:

إحداها أنه لا يوجد أتم إقناعاً وتصديقا للجميع منها.

والثانية أنها تقبل النصرة بطبيعها إلى أن تنتهى إلى حد لا يقف على التأويل فيها - إن كانت مما فيه تأويل - إلا أهل البرهان.

والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق.

وهذا ليس يوجد لا فى مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة أعنى أن تأويلاتهم لا تقبل النصرة ولا تتضمن التنبيه على الحق

ولا هى حق، ولهذا كثرت، البدع. ."

". . . فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد، فإن النفس مما تخلل هذه

الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات المحرفة، في غاية الحزن والتألم.

وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قِبَلِ مَن ينسب نفسه إلى الحكمة. فإن

ص: 26

الأذية من الصديق هى أشد"من الأذية من العدو. أعنى أن الحكمة هى

صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالأذية ممن ينسب إليها أشد الأذية مع

ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة. وهما المصطحبتان بالطبع

والمتحابتان بالجوهر والغريزة. وقد آذاها أيضا كثير من الأصدقاء الجهال ممن

ينسبون أنفسهم إليها، وهى الفِرق الموجودة فيها".

وفى عصر أبي الوليد ابن رشد، قدم الإمام فخرالدين الرازى - محمد بن

عمر، (ت 606 هـ) كتابه (نهاية الإيجاز فى دراية الإعجاز) يوجر به أن

يستدرك ما فات غيره وإن عذب ما قالوه وبخاصة عبد القاهر الجرجاني، الذى قال فيه الرازى، فى مقدمة كتابه، إنه "أهمل فى رعاية ترتيب الأصول

والأبواب، وأطنب فى الكلام كل الإطناب. . ولما وفقنى الله لمطالعة كتابيه - دلائل الأعجاز، والشافية - التقطت منهما معاقد فوائدهما ومقاصد فرائدهما، وراعيت الترتيب مع التهذيب، والتحرير مع التقرير، وضبط أوابد الإجمالات فى كل باب بالتقسيمات اليقينية، وجمعت متفرقات الكلم فى الضوابط العقلية، مع الاجتاب عن الإطناب الممل، والاحتراز عن الاختصار المخل".

وفي القرن السابع أيضاً، قدم ابن أبي الأصبع المصرى (ت 654) كتابه

(بديع القرآن) .

***

ثم لم يمض غير قرن واحد، حتى كان الإمام يرحيى بن حمزة العلوى -

(ت 749 هـ) يرى اليدان قفرأ خاليا، ولا ينقضى له عجب من حال علماء البيان وأهل البراعة فيه عن آخرهم، وهو أنهم أغفلوا بلاغة القرآن فى

مصنفاتهم. . مع أن ما ذكروه من الأسرار المعنوية واللطائف البيانية من

ص: 27

البديع وغيره، إنما هو بيان لطائف الإعجاز وإدراك دقائقه واستنهاض عجائبه.

فكيف ساغ لهم تركها وأعرضوا عن ذكرها، وذكروا فى آخر مصنفاتهم ما هو بمعزل عنها،. .

"ثم لو عذرنا من كان منهم ليس له حظ فى المباحث الكلامية ولا كانت له

قدم راسخة فى العلوم الإلهية، وهم الأكثر منهم، كالسكاكى وابن الأثير

وماحب التبيان. . . فما بال من كان له فيها اليد الطولى كالرازى، فإنه

أعرض عن ذلك فى كتابه المصنف فى علم البيان، فلم يتعرض لهذا المباحث

ولا شَم. منها رائحة، ولكنه ذكر فى صدر (كتاب النهاية) كلاما - قليلا فى وجه الإعجاز، لا ينقع من غلة ولا يشفى من علة ".

وقدم ابن حمزة العلوى كتابه الموسوم بالطراز، المتضمن أسرار البلاغة

وحقائق الإعجاز، لينقع الغلة ويشفى العلة.

***

ولكن القرن التالى، لم يجد فى الطراز أكثر مما وجده مصنفه فى تراث

السلف، وألقى البقاعى - برهان الدين بن عمر، ت 885 هـ - دلوه فى النبع السخى، فخرج بكتاب سماه (نظم الدرر) وصفه حاجى خليفة فى (كشف الظنون) فقال (إنه كتاب لم يسبقه إليه أحد. جمع فيه من أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول، وأتقن فيه المناسبات، وأوضح المعاني المشكلات.

وقال فى بيان فضله:

هل رأيتم يا أولي التفسير مَن. . . صاغ تفسيرا كنظم الدررِ

دقً معنى جلَّ سبكاً لفظُه. . . فى وجوه الفكرمثل الغرر

ولم يمهل الزمن البقاعى فى انتظار جواب ما سأل عنه، بل تصدى له من

معاصريه مَن خالفوه وجرحوه، حتى كادت تكون فتنة!

ص: 28

وقد حمل البقاعى ذلك منهم على داء الحسد، فقال فيما نقل حاجى خليفة

في الكشف:

"إني بعدما توغلت فيه واستقامت لى مبانيه فوصلت إلى قريب من نصفه،

فبالغ الفضلاء فى وصفه بحسن سبكه وغزارة معانيه وإحكام رصفه، دبَّ داء

الحسد في جماعة أولى نكد ومكر، فصوبوا من سهام الشرور والأباطيل وأنواع الزور ما كثرت بسببه الوقائع وطال الأمر فى ذلك سنين وعَم الكرب"

وفات البقاعى أن يدرك أن المجال يتسع لآراء مخالفيه، وأن أعلام السلف

قالوا فى مصنفاتهم فى تفسير القرآن ونظمه وإعجازه، مثل ما قال فى كتابه

(نظم الدرر) فلم يُسلَّم لأحد منهم أن يدعى القول الفصل فى الكتاب

المعجز -.

فى القرن الثامن، لخص "البدر الزركشى" الأقوال فى الإعجاز، فى النوع

الثامن والثلاثين من كتابه (البرهان فى علوم القرآن) آل إليه الجلال السيوطى

فى "فصل فى وجوه الإعجاز" من كتابه (الإتقان فى علوم القرآن) .

وفى العصر الحديث، عقد "الشيخ محمد عبده" فى (تفسير الذكر الحكيم)

فصلا "فى تحقيق وجوه الإعجاز بمنتهى الاختصار والإيجاز" مهد له بقوله:

"وللباحثين فيه أقوال كُتبت فيها فصول وألفت فيها رسائل وكتب.

وقد عقدت هذا الفصل لما علمت من شدة حاجة المسلمين أنفسهم إليها، دع أمر دعوة غيرهم أو الاحتجاج عليهم بها. . .

"ولعمرى إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر، وأعجب العجائب لمن

فكر وأبصر. ولم يوفها أحد حقها على كثرة ما أبدأوا فيها وأعادوا".

وجاء من بعده السيد مصطفى صادق الرافعى فنظر فى تراث المكتبة

القرآنية فلم يرَ فيه كله شيئاً ذا بال، بل وجد أن القوم من علمائنا رحمهم

الله

ص: 29

قد أكثروا من الكلام فى إعجاز القرآن وجاءوا بقبائل من الرأى لونوا فيها مذاههم ألواناً مختلفات وغير مختلفات، بيد أنهم يمرون فى ذلك عُرضا على غير طريق، وويشتقون فى الكلام ههنا وههنا من كل ما تمترس به الألسنة فى اللدد والخصومة وما يأخذ بعضه على بعض من مذاهبهم ونحلهم، وليس وراء ذلك كله إلا ما تحصره هذه المقاييس من صناعة الحق - فسرها بهامشه فقال: كناية عن علماء الكلام، وفنهم يقوم على الجدل والمنطق! - وإلى أشكال من هذه التراكيب الكلامية، ثم فتنة متماحلة لا تقف عند غاية فى اللجاج والعسر.

والرافعى لا يتحرج من القول بالظن فى مصنفات السلف: فهر يحكم على

كتاب الجاحظ، ولم يصل إلينا، بأنه لم يحاول فيه "أكثر من توكيد القول فى

الفصاحة والكشف عنها على ما يفى بالابتداء فى هدا المعنى، إذ كان هو الذى ابتدأ التأليف فيه ولم تكن علوم البلاغة قد وضعت بعد.

وقال فى كتاب الواسطى، ولم يصل إلينا كذلك:

"ولا نظن الواسطى بنى إلا على ما ابتدأه الجاحظ، كما بنى عبد القاهر فى

دلائل الإعجاز على الواسطى "

ثم يشير إلى كتاب لابن سراقة فى إعجاز القرآن، ضاع فيما ضاع من

تراثنا، فيحكم عليه قائلا:

"على أن كتابه لوكان مما ينفع الناس لمكث فى الأرض"

وتصدى الرافعى للموضوع الجليل، فتناوله أول الأمر مبحثاً من مباحث

كتابه (تاريخ آداب العرب) ثم أفرده مستقلا ليكون كما قال: (كتابا بنفسه، تعم به المنفعة ويسهل على الناس تناوله" ونشره بعنوان (إعجاز القرآن)

ولم يحتمل رحمه الله أن يختلف معاصروه فى كتابه، فيكون منهم من

يراه فصل الخطاب وشهد له بأنه كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور

ص: 30

الذكر الحكيم) كما قال سعد زغلول، ومن يوجب "على كل مسلم عنده نسخة من القرآن أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب " كما قال الدكتور يعقوب صروف فى تقريظه للكتاب.

ويكون منهم علماء شيوخ لا يحسنون الرأى فى الكتاب ولايتقبلوفه بمثل

ما تقبله به سعد زغلول ويعقوب صروف - وليسا من أصحاب الكلمة فى مثل هذا الموضوع - فيقف الرافعى منهم مثل الموقف الذى أنكره على السلف من "اللدد فى الخصومة والفتنة المتماحلة لا تقف عند غاية فى اللجاج والعسر"

كتب فى مقدمة الطبعة الثالثة من (إعجاز القرآن) :

"وأما بعد فهذه هى الطبعة الثالثة من نسخ كتابى تظهر اليوم، وإن فينا

مع فريق الطاعة فريق المعصية، ومع أهل اليقين عصبة الشك، ومع طائفة

الحقيقة دعاة الشبهة، ومع جماعة الهداية أفراد الضلالة. يتخذون الحلم دُرْبة

لإفساد الناس وتحليل عُقدهم الوثيقة وتوهين أخلاقهم الصالحة القوية*

ويزعمون للعلم معنى إن يكن بعضه فى العلم فأكثره فى الجهل، وإن يكن له

صواب فله خطلأ يغمر صوابه وإن كان فيه ما يرجع إلى عقول العلماء ففيه

كذلك مايرجع إلى عقولهم هم،، * وناهيك بها عقولا ضعيفة معتلة غلب

عليها الكيد وأفسدها التقليد ونزع بها لؤم الطبع شر منزع، حتى استهلكها

ما أوبقهم من فساد الخلق، وما يستهويهم من غوايات المدنية، فجاءونا فى

أسماء العلماء ولكن بأفعال أهل الجهل، وكانوا فى العلم كالنبات الذى خبُث

لا يخرج في الأرض الطيبة إلا خبيثا. . .

"وإنك لن تجد سيماهم إلا فى أخلاقهم فتعرفهم بهذه الأخلاق، فستنكرهم

جميعا، ولتعلمن عليهم كل سوء، ولترينهم حشو أجسامهم طينا وحماة، فى

زعم كذبٍ يسمي لك الطين طيباً والحمأة مسكا! ولتجدن أحدهم وما فى

السفلة أسفل منه شهواتٍ ونزغاتٍ، وإنه مع ذلك لُيزوِّر لك ويلبس عليك"

ص: 31

فما فيه من لون عندك يعيبه إلا هو عنده تحت لون يزينه، ولا رذيلة تقبحه

إلا هى فى معنى فضيلة تجمله. فخذ منه الكذب فى فلسفة المنفعة، والتسفلَ

فى شفاعة الغريزة، والوقاحة فى زعم الحرية، والخطأ فى علة الرأى، والإلحاد

فى حجة العلم، وفسادَ الطبيعة فى دعوى الرجوع إلى الطبيعة! وبالجملة، خذ

أفعالهم فسَمها غيرَ أسمائها وانحلها غير صفاتها، واكذِبْ بالألفاظ على المعاني

وقل: علماء ومصلحون، وأنت تعنى ما شئت إلا حقيقة العلم والإصلاح.

"أيتها الحصاة! ما يسخر منك الساخر بأكثر من أن يجلوك على الناس فى

علبة جوهرة.

"وأنت أيها القارئ فلا يغرنك منهم من يلبس العمامة ويتسم بسمة الشرع

ثم يذهب أين ذهب وشعلة الجحيم العلمية تدور فى رأسه تهفو من هنا وهنا!

"وَمَن تراه فى ثياب المعلم يتلبس بالنشء كما يتلبس الداء بعضو حيٍّ

لا يدع أبدا أن يغمز غمزة، ويبتلى بما فيه من ضعة وبلاء فلايصلح إلا على

إفساد الحياة، ولا يقوى إلا على إضعاف القوى، ولا يعيش إلا على غذاء من الموت، كان هذا المعلم أخزاه الله كان دودة فى قبر ثم نفخه الله إنسانا فيما يبلو به الخلقَ ويضرب الحياة به ضربة انحلال وبِلى وتعفن!

"وَمن تراه سخِر به القدر أشد سخرية قط، فضغطه في قالب من قوالب

الحياة المصنوعة فإذا هو فى تصاريف الدنيا كاتب مرشد متنصح، ينفث دخان

قلبه الأسود ويعمل كما تعمل الأعاصير على إهداء الوجوه والأعين والأنفاس

صحفاً منشرة من غبار الأرض، إن لم تكن مرضًا فأذى، وإن لم تكن أذى

فضيق، وإن لم تكن ضيقا فلن تكون شيئا مما يساغ أو يقبل أو يحب.

"على إنك ترى أصحابنا العلماء لا يتحاملون على شىء، ما يتحاملون على

القرآن الكريم. فهم يخصونه بمكاره العلم كله ويجفون عنه أشد جفاء، لكنهم وإياه فى غرورهم وأوهامهم لكالطيارات غرها أن تصعد فى الجو فمضت حاشدة فى حملة حربية إلى فلك الشمس. .

ص: 32

وأعتذر عن هذه الإطالة فى نقل فقرات من مقدمة السيد الرافعى لكتابه

(الإعجاز) فعباراته فيها تعكس صدى رأى علماء جيله فى هذا الكتاب، بقدر

ما تكشف لنا عن طريقته في النظر والتناول، ومنطقه فى البرهنة والاحتجاج

وأسلويه فى المناقشة والجدل. .

فبمثل هذا التدفق جرى قلمه فى موضوع الإعجاز. وبمثل هذه الطواعية

الخطابية صال وجال فى الميدان كمن يقول، كم ترك الأول للآخر!

واستراح حيث ظن أنه ألقم الأوائل والآواخر حجراً، وقال: (فى غير

الجهات التى كتب فيها كل من قبله "!

***

ثم لم يلبث أن صار هو من الأول الذى ترك لنا ما ترك.

لم تمض أعوام على ظهور كتابه فى الإعجاز، حتى بدا الميدان لمن بعده خاليا

أو يكاد، فرأى الدكتور عبد العليم أن ينشر فى الهند كتاب الباقلاني فى

(إعجاز القرآن) فى الوقت الذى رأى فيه الزميل السيد أحمد صقر أن ينشر

الكتاب نفسه فى مصر، لأنه فى تقديره "أعظم كتاب ألف فى الإعجاز إلى

اليوم".

وهو رأى لم يسلم به الدارسون من قدامى ومحدثين، وينقل الزميل فى

مقدمته لإعجاز الباقلاني، أن بعض المتعصبين كرهوا نشر الكتاب،

قال: "حدثى من أثق بصحة حديثه أن دارا للنشر والطبع استشارت كبيرا منهم فى طبع هذا الكتاب بتحقيقى، فكتب إليها بخط يده يقول:(أنا لا أنصح بطبع كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، لأنه ليس أنفسَ كتاب فى موضوعه) .

ولما لقيت كاتب هذا التقرير العجيب قذفت سامعتيه بهذا التحدى: دلنى على كتاب واحد فى إعجاز القرآن تربو قيمته على كتاب الباقلاني.

فأبلس ولم يحر جوابا"

قلت وأنا أقرأ هذا التعليق: رحم الله ابن حزم! ورحمنا الله إن كانت

ص: 33

حياتنا عَقُمت، فليس لها أن تعرف من الإعجاز، غير ما قاله قائل منذ عشرة

قرون!

***

ونبدأ نحن من حيث انتهى السلف، وتراثهم بين أيدينا علامات على

الطريق، لا نغض من قيمته ولا نحط من أقدار أهله، وإنما نرى فى كل منهم

جهد عصر ومستوى بيئة، وحتمية تقدم وسنة حياة.

ونمض ونترك للأجيال بعدنا ما نترك، والباب مفتوح أبداً ليس لأحد أن

يدعى أنه أغلقه، والمجال رحب يتلقى كل حين جديدا لن يلبث أن يصير من

القديم، دون أن تسلم الحياة بأن أحدا قال الكلمة الأخيرة فيه.

لقد قالها الجاحظ من قديم وهو يقدم كتابه (نظم القرآن) إلى الفتح

ابن خاقان، وقالها الباقلاني من بعده، والجرجاني وابن حزم والرازى والعلوى

والبقاعى. . . فما لبث الزمن أن نسخ ما قالوا.

وكذلك قالها الرافعى فى كتابه الذى بدا لسعد زغلول كأنه تنزيل من

التنزيل " وأوجب يعقوب صروف "على كل مسلم عنده نسخة من القرآن، أن يقتنى نسخة منه ".

فما مضت أعوام حتى جاء من لم ير كتابا ظهر فى الإعجاز بعد كتاب

الباقلاني من القرن الرابع للهجرة!

فإن تكن الخصومة المذهية والفكرية فيما مضى، قد وضعت قضية الإعجاز

فى دوامة الصراع المذهبى والجدل الكلامى والعداوة الشخصية، فإنا نعود بعد هذا كله فنقول ما قلناه فى مستهل هذا المدخل:

لعل من إعجاز القرآن أن تظل الأجيال تتوارد عليه جيلا بعد جيل، وهو

رحب المدى سخى المورد، كلما حسب جيل أنه بلغ منه مبلغاً، امتد الأفق

بعيدا وراء كل مطمح وفوق كل طاقة. . .

ص: 34

ومع إدراكي أن الإعجاز البياني للقرآن يفوت كل محاولة وجهد، أتقدم فى

خشوع إلى الميدان الجليل فأضع إلى جانب محاولات السلف الصالح، ما هدى

إليه عكوفى الطويل على تدبر كلمات الله، من وجهٍ فى هذا الإعجاز:

(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) .

صدق الله العظيم

ص: 35