المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجوه الإعجاز والبيان القرآني - الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق

[عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌فاتحة:

- ‌المبحث الأول

- ‌المعجزة

- ‌الجدل والتحدي وآيات المعاجزة

- ‌وجوه الإعجاز والبيان القرآني

- ‌البلاغيون والإعجاز البياني

- ‌المبحث الثاني

- ‌فواتح السُّوَر وسِرُّ الحرف

- ‌دلالات الألفاظ وسر الكلمة

- ‌الأساليبُ وسرُّ التعبير

- ‌مسائل نافع بنِ الأزرق

- ‌اللهمَّ يسَّرْ وأَعِنْ

- ‌1 - {عِزِينَ}

- ‌2 - {الْوَسِيلَةَ} :

- ‌3 - {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}

- ‌4 - {وَيَنْعِهِ}

- ‌5 - {رِيشًا} :

- ‌6 - {كَبَدٍ}

- ‌7 - {سَنَا} :

- ‌8 - {حَفَدَةً} :

- ‌9 - {حَنَانًا}

- ‌10 - {يَيْأَسِ}

- ‌11 - {مَثْبُورًا}

- ‌12 - {فَأَجَاءَهَا}

- ‌13 - {نَدِيًّا}

- ‌15 - {قَاعًا صَفْصَفًا}

- ‌16 - {تَضْحَى}

- ‌18 - {وَلَا تَنِيَا}

- ‌19 - {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}

- ‌20 - {مَشِيدٍ}

- ‌21 - {شُوَاظٌ}

- ‌23 - {يُؤَيِّدُ}

- ‌24 - {نُحَاسٌ}

- ‌25 - {أَمْشَاجٍ}

- ‌26 - {فُومِهَا}

- ‌27 - {سَامِدُونَ}

- ‌28 - {غَوْلٌ}

- ‌29 - {اتَّسَقَ}

- ‌30 - {خَالِدُونَ} :

- ‌31 - {الْجَوَابِى}

- ‌32 - {فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}

- ‌33 - {لَازِبٍ}

- ‌34 - {أَنْدَادًا}

- ‌35 - {شَوْبًا}

- ‌37 - {حَمَإٍ مَسْنُونٍ}

- ‌39 - {مَاءً غَدَقًا} :

- ‌40 - {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} :

- ‌41 - {أَلِيمٌ} :

- ‌42 - {قَفَّيْنَا} :

- ‌43 - {تَرَدَّى}

- ‌44 - {نَهَرٍ}

- ‌45 - {الْأَنَامِ}

- ‌46 - {يَحُورَ} :

- ‌47 - {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}

- ‌48 - {مُلِيمٌ}

- ‌49 - {تَحُسُّونَهُمْ}

- ‌50 - {أَلْفَيْنَا}

- ‌51 - {جَنَفًا}

- ‌52 - {الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}

- ‌53 - {رَمْزًا}

- ‌54 - {فَازَ}

- ‌55 - {سَوَاءٍ}

- ‌59 - {الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}

- ‌57 - {زَنِيمٍ}

- ‌59 - {الْفَلَقِ}

- ‌60 - {خَلَاقٍ}

- ‌61 - {قَانِتُونَ}

- ‌61 - {جَدُّ رَبِّنَا}

- ‌64 - {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}

- ‌65 - {أَكْدَى}

- ‌66 - {وَزَرَ}

- ‌67 - {نَحْبَهُ}

- ‌69 - {الْمُعْصِرَاتِ}

- ‌70 - {عَضُدَ}

- ‌72 - {لِكَيْلَا تَأْسَوْا}

- ‌73 - {يَصْدِفُونَ}

- ‌74 - {تُبْسَلَ}

- ‌75 - {أَفَلَتْ}

- ‌76 - {الصَّرِيمِ}

- ‌77 - {تَفْتَأُ}

- ‌78 - {إِمْلَاقٍ}

- ‌79 - {حَدَائِقَ}

- ‌80 - {مُقِيتًا}

- ‌81 - {لَا يَئُودُهُ}

- ‌82 - {سَرِيًّا}

- ‌83 - {دِهَاقًا}

- ‌84 - {كَنُودٌ}

- ‌85 - {يُنْغِضُونَ}

- ‌87 - {الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}

- ‌88 - {تَتْبِيبٍ}

- ‌90 - {عَصِيبٌ}

- ‌91 - {مُؤْصَدَةٌ}

- ‌92 - {يَسْأَمُونَ}

- ‌93 - {أَبَابِيلَ}

- ‌94 - {ثَقِفْتُمُوهُمْ}

- ‌95 - {نَقْعًا}

- ‌97 - {مَخْضُودٍ}

- ‌98 - {هَضِيمٌ}

- ‌99 - {سَدِيدًا}

- ‌100 - {الإِلّ}

- ‌102 - {زُبَرَ الْحَدِيدِ}

- ‌103 - {سُحْقًا}

- ‌104 - {غُرُورٍ}

- ‌105 - {حَصُورًا}

- ‌106 - {عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}

- ‌107 - {يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}

- ‌108 - {إِيَابَهُمْ}

- ‌109 - {حُوبًا}

- ‌111 - {فَتِيلًا}

- ‌12 - {قِطْمِيرٍ}

- ‌113 - {أَرْكَسَهُمْ}

- ‌114 - {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}

- ‌115 - {يَفْتِنَكُمُ}

- ‌116 - {لَمْ يَغْنَوْا}

- ‌118 - {نَقِيرًا}

- ‌119 - {فَارِضٌ}

- ‌120 - {الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} من {الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}

- ‌121 - {شَرَوْا}

- ‌122 - {حُسْبَانًا}

- ‌123 - {عَنَتِ}

- ‌124 - {ضَنْكًا}

- ‌125 - {فَجٍّ}

- ‌126 - {الْحُبُكِ}

- ‌127 - {حَرَضًا}

- ‌128 - {يَدُعُّ}

- ‌129 - {مُنْفَطِرٌ}

- ‌130 - {يُوزَعُونَ}

- ‌131 - {خَبَتْ}

- ‌132 - {الْمُهْلِ}

- ‌133 - {وَبِيل}

- ‌134 - {نَقَّبُوا}

- ‌135 - {هَمْسًا}

- ‌136 - {مُقْمَحُونَ}

- ‌137 - {مَرِيجٍ}

- ‌138 - {حَتْمًا مَقْضِيًّا}

- ‌139 - {أَكْوَابٍ}

- ‌140 - {يُنْزَفُونَ}

- ‌141 - {كَانَ غَرَامًا} :

- ‌142 - {التَّرَائِبِ}

- ‌143 - {بُورًا}

- ‌145 - {أَلَدُّ الْخِصَامِ}

- ‌146 - {حَنِيذٍ}

- ‌147 - {الْأَجْدَاثِ}

- ‌148 - {هَلُوعًا}

- ‌149 - {لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ}

- ‌150 - {دُسُرٍ}

- ‌151 - {رِكْزًا}

- ‌152 - {بَاسِرَةٌ}

- ‌153 - {ضِيزَى}

- ‌154 - {لَمْ يَتَسَنَّهْ}

- ‌155 - {خَتَّارٍ}

- ‌156 - {الْقِطْرِ}

- ‌157 - {خَمْطٍ}

- ‌158 - {اشْمَأَزَّتْ} :

- ‌159 - {جُدَدٌ}

- ‌160 - {أَغْنَى، وَأَقْنَى}

- ‌161 - {لَا يَلِتْكُمْ}

- ‌162 - {أَبًّا}

- ‌163 - {السِرًّ}

- ‌164 - {تُسِيمُونَ}

- ‌165 - {لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}

- ‌166 - {مَتْرَبَةٍ}

- ‌167 - {مُهْطِعِينَ}

- ‌168 - {سَمِيًّا}

- ‌169 - (يُصْهَرُ)

- ‌170 - (لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ)

- ‌171 - (كُلَّ بَنَانٍ) :

- ‌172 - (إِعْصَارٌ)

- ‌173 - (مُرَاغَمًا) :

- ‌174 - (صَلْد) :

- ‌175 - (مَمْنُون) :

- ‌176 - (جَابُوا) :

- ‌177 - (جَمًّا) :

- ‌178 - (غَاسِقٍ) :

- ‌179 - (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) :

- ‌180 - (يَعْمَهُونَ) :

- ‌181 - (إِلَى بَارِئِكُمْ) :

- ‌182 - (رَيْبٍ) :

- ‌183 - (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)

- ‌184 - (صَفْوَان) :

- ‌185 - (صِرٌّ) :

- ‌186 - (تُبَوِّئُ) :

- ‌187 (رِبِّيُّونَ) :

- ‌188 - (مَخْمَصَةٌ) :

- ‌189 - (يقترف) :

- ‌خاتمة

الفصل: ‌وجوه الإعجاز والبيان القرآني

(3)

‌وجوه الإعجاز والبيان القرآني

اختلفت مذاهب السلف من علماء الإسلام في بيان الإعجاز، وتعددت أقوالهم في وجوهه. لكن إعجازه البلاغي لم يكن قط موضع خلاف، وإنما كان الجدل بين الفرق الإسلامية، في اعتباره الوجه في الإعجاز، أو القول بوجوه أخرى معه.

ص: 79

حُسمت قضية التحدي بعجز العرب المشركين في عصر المبعث، عن أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن.

لتظل قضية الإعجاز معروضة على الأجيال المتعاقبة، تلقاهم بهذا السؤال: لماذا أعيا العرب أن يأتوا بسورة من مثله، وقد تحداهم أن يفعلوا، وليدعوا من استطاعوا، وليستظهروا بالجن مجتمعين؟

وقد نزل القرآن بلغتهم، وكانت في عصر نزوله في عز أصالتها ونقائها، لم تَشُبْها شائبة من عجمة، ولا اختلطت بغيرها من الألسن.

فكيف عجز شعراؤهم الفحول وأمراء البيان من بلغائهم، ممن عبأتهم قريش لحربها ضد الرسالة والرسول، أن يأتوا بسورة من مثل سورة القصار، وهم الذين خاضوا المعركة ضد الإسلام بسلاح الكلمة وأجهدوا قرائحهم في هجاء المصطفى عليه السلام بقصائد مطولات، كان يغني عنها أن يجتمعوا على الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن؟

سورة واحدة فحسب، كانت تعقيهم كذلك من التورط في حملة الاضطهاد السفيهة الشرسة التي أرهقوا بها من أسلم منهم، وتكفيهم شر الحرب التي صَلُوا نارها سنين عدداً وأكلت فلذات أكبادهم وحصدت رءوس صناديدهم.

"لو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم، لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة ولم يركبوا الفواقر المبيدة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل. هذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذو لب. وقد كان قومه قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم

ص: 80

الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد فقال سبحانه:

{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وقال: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} . . .

ومعلوم بالضرورة أن رجلاً عاقلاً لو عطش عطشاًَ شديداً خاف منه الهلاك على نفسه، وبحضرته ماء معروض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشاً، أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه. وهذا بَيَّنٌ واضح لا يشكل على عاقل".

ويؤكد القاضي المعتزلي عبد الجبار هذا الملحظ ويضيف إليه:

"فإن قيل: فقد قال أمية بين خلف الجمحي: "لو نشاء لقلنا مثل هذا". قيل له: إن إدعاء الفعل وإمكانه لا يمنع من الاستدلال على تعذره بأن لا يقع مع توفر الدواعي، يبين لذلك أن كل واحد منا يتمكن من أن يدعى ما يعلم أنه لا يمكنه أن يأتيه.

"فإن قال: فكيف استجاز ذلك مع ظهور كذبه؟ قيل له: لا يمتنع على الواحد والجمع اليسير أن يدعى ما يعلم خلافه، على طريق البَهْتِ والمكابرة، لبعض الأغراض. . .

"وبعد فإنا لا نُجَوَّز على الجمع اليسير ما ظنه السائل على كل حال، من تواطؤ على ترك المعارضة أو إخفائها، لأنه مع التنافس الشديد والتقريع العظيم وتحرك الطباع ودخول الحمية والأنفة وبطلان الرياسة والأحوال المعتادة والدخول تحت المذلة، لا يجوز في كثير من الأحوال على الواحد أن يسكت عن الأمر الذي يزيل به عن نفسه الوصمة والعار والأنفة، فكيف على الجامعة القليلة أو الكثيرة؟ مثل هذا لا يجوز على عاقل واحد إذا كان من أهل المعرفة فكيف على الجماعة؟

ص: 81

"وكيف يجوز أن يدعي فيهم النبوة ويوجب عليهم الدخول تحت الطاعة، ويعدلون عن الأمر الواضح الذي لا شبهة فيه؟ وهل حالهم في ذلك إلا كحال من يجوز عليه من شدة العطش والماء معروض والموانع زائلة، أن يعدل عن تناوله مع شدة الحاجة وتوفر الدواعي إليه؟ وذلك يوجب إخراجهم عن حد العقلاء".

* * *

ومن قديم فرضت قضية الإعجاز نفسها على السلف من علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وتعددت أقوالهم في وجوه هذا الإعجاز.

وأيًّا ما قالوا فيها، فالذي لا ريب فيه هو أن إعجازه البلاغي لم يكن قط موضع جدل أو خلاف، وإنما كان الجدل بين الفرق الإسلامية، في اعتباره الوجه في الإعجاز، أو القول معه بوجوه أخرى. وقد تبدو شبهة خلاف فيه، في ضجيج جدلهم الكلامي، لكن الشبهة تنجلي في المال، بإمعان النظر في موقفهم من خلال الجدل المثار.

* * *

* قال قوم فيه بالصرفة، عنوا بها "أن الله تعالى صرف الهمم عن معارضته"

وشاعت نسبة هذا القول إلى المعتزلة بعامة، ونُقل فيه كلام عدد من متقدمي شيوخهم - منهم، أبو إسحاق النظام، إبراهيم بن سيار - وهشام القوطي وعباد بن سليمان. ووجهُ احتجاجهم للصرفة، إنه إذا جاز عقلاً عدم تعذر المعارضة، ثم عجز بلغاء العرب - فضلاً عمن دونهم - عن معارضته وانقطعوا دونه، فذلك برهان على المعجزة "لأن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجارى العادات، صار كسائر المعجزات".

ولعلهم لم ينظروا في ذلك إلى المعجزة وإنما نظروا إلى دلالتها على النبوة،

ص: 82

فبصرف النظر عن المعجزة ذاتها، يكفي عجز البشر عنها لتكون الآية والبرهان. أو كما قالوا افتراضاً:

"ولو كان الله عز وجل بعث نبياً في زمان النبوات، وجعل معجزته في تحريك يده أو مدَّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له: كما آيتك! فقال: (آيتي أن أحرك يدي أو أمد رجلي، ولا يمكن أحداً منكم أن يفعل مثل فعلي) - والقوم أصحاء الأبدان لا آفة بشيء من جوارحهم - فحرك يده أو مد رجله، فراموا أن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه، كان ذلك آية دالة على صدقه، وليس يُنظَر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ولا إلى فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمراً خارجاً عن مجارى العادات ناقصاً لها، فمهما تكن بهذا الوصف، كانت آية دالة على صدق من جاء بها".

ويبدو أن مثل هذا الاحتجاج للنبوة بصرف الهمَم عن معارضة القرآن، قد أوقع في شبهة أن إعجازه البلاغي غير معتبر عند من لم ينظروا إليه. وذلك ما التفت إليه أعلام المعتزلة أنفسهم، فجهدوا في تقرير وجه إعجاز فصاحته ونظمه، وتجردوا للاحتجاج له.

فالجاحظ، وهو من تلاميذ "النظَّام" صنف كتابه (نظم القرآن) احتجاجاً لإعجاز هذا النظم، ومخالفاً به رأي من أكتفوا فيه بالقول بالصرفة، دون نظر إلى بلاغته المعجزة التي تفوت بلاغات البشر.

والذي فهمته من كلام القاضي عبد الجبار، وهو من أقطابهم، هو أن الاعتبار الأول عنده لإعجاز القرآن من جهة فصاحته، وأن القول بالصرفة حجة ملزمة لمن قالوا بها. قال في مبحث "بيان صحة التحدي بالكلام الفصيح":

"فإن قال - السائل -: هلا قلتم إن التحدي بالقرآن يصح لأمر يرجع إلى

ص: 83

التخلية والدواعي، فكأنه يتحداهم أن يأتوا بمثله فيمتنع عليهم ذلك لحصول منع فيهم أو لورود بعض الصوارف عليهم مما يختص القلب أو اللسان. . . فمن أين لكم مع تجويز ما ذكرناه، أنه خارج عن العادة من قدر الفصاحة؟ . . .

"قيل له: 'ن الذي ذكرته، لو صح، لأيد ما قلناه في التحدي. لأنه يؤذِن بأنه يصح من وجوه سوى الذي ادعيناه - في خروجه عن العادة في الفصاحة - وإنما يصح هذا السؤال بين من يعترف بإعجاز القرآن إذا اختلفوا في الوجه الذي صار به معجزاً. وغرضنا في هذا الباب الكلام على المخالفين الذين يظنون أن التحدي لا يصح به، على وجه، لكنا مع ذلك نبين فساد ما أوردتَه. وقد علمنا أن المنع من الكلام لا يكون إلا بما يجرى مجرى المنافي له. . . وإنما يقع المنع بأمر يختص محله وآلته، ولا يكون ذلك بما يضاد القدرة أو يغير حال الآلة والبنية. وما هذا حاله، يؤثر في صحة الكلام أصلاً، وقد علمنا أن من كان في زمانه صلى الله عليه وسلم من الفصحاء، لم يعتذر عليهم الكلام، فلا يصح أن يقال إنهم اختصوا بمنع، وبانَ هو عليه الصلاة والسلام منهم بالتخلية.

"فإن قال: امتنع عليهم ذلك بأن أعدمهم الله تعالى العلوم التي معها يكون الكلام الفصيح فصار ذلك ممتنعاً عليهم لفقد العلم؛

"قيل له" لست تخلو فيما ذهبت إليه من وجهين:

إما أن نقول: قد كان ذلك القدر من العلم حاصلاً من قبل معتاداً، فمنعوا منه عند ظهور القرآن، أو تقول: إن المنع من ذلك مستمر غير متجدد، وأنهم لم يختصوا، ولا من تقدمهم، بهذا القدر من العلم.

فإن أردت الوجه الأول فقد كان يجب أن يكون قدر القرآن في الفصاحة قدَر ما جرت به العادة من قبل، وإنما منعوا من مثله في المستقبل. لو كان كذلك لم يكن المعجز هو القرآن، لكونه مساوياً لكلامهم ولتمكنهم - قبلُ - كم فعل مثله في قدر الفصاحة، وإنما يكون المعجز ما حدث منهم من المنع،

ص: 84

فكان التحدي يجب أن يقع بذلك المنع لا بالقرآن. حتى لو لم ينزل الله تعالى القرآن ولم يظهر أصلاً، وجعل دليل نبوته امتناع الكلام عليهم على الوجه الذي اعتادوه، لكان وجه الإعجاز يختلف. وهذا مما نعلم بطلانه باضطرار، لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى بالقرآن وجعله العمدة في هذا الباب. على أن ذلك، لو صح، لم يقدح في صحة نبوته، لأنه كان يكون بمنزلة أن يقول صلى الله عليه وسلم: دلالة نبوتي أني أريد المشي في جهة فيتأتى لي على العادة، وتريدون المشي فيتعذر عليكم.. فإذا وُجد الأمر كذلك دل على نبوته، لكون هذا المنع على هذا الوجه ناقضاً للعادة.

وإن أراد الوجه التالي مما قدمناه - أي أن المنع مستمر - فهو الذي يعُول عليه. أنا نعلم أن للقرآن المزية في الفصاحة من حيث يحتاج إلى قدر من العلم لم تجر العادة بمثله أن يفعله تعالى فيهم. . .

"فأما إدعاء السائل أنه صلى الله عليه وسلم توافرت دواعيه وأتى بمثل القرآن، وانصرفت دواعيهم عن فعل مثله فلذلك لم يأتوا به، وأن وجه التحدي في ذلك وقوع الصرف فيهم عن مثله، فبعيد. لأنا نعلم باضطرار توافر دواعيهم إلى إبطال أمره والقدح في حاله، حتى لم يبق وجه في الدواعي إلا توافر فيهم، فكيف يصح مع ذلك إدعاء ما ذكرت؟

"فإن قلت: إن دواعيهم وإن توافرت فإنه تعالى صرفهم عن ذلك بجنس من الدواعي، فهذا يوجب إثبات ما لا يعقل من الدواعي. وإن قلت: إنه تعالى صرفهم بمنع، فهو الذي بَيَّنا فساده من قبل. وهذا الجملة تبطل قول من يتعلق في إعجاز القرآن بذكر الصرفة، لأنها إذا كُشفت فلابد من أن يراد بها بعض ما بينا فساده. ولا معتبر بالعبارات في هذا الباب وإنما المعتبر بالمعاني".

إلى هذا المدى، يمضي عبد الجبار المعتزلى في الرد على من يتعلق في إعجاز القرآن بالصرفة، وبيان وجه فساده إن اعتبر فيها بالألفاظ الموهمة احتمالَ

ص: 85

القدرة على الإتيان بمثله، في فصاحته، لولا صرفهم عن ذلك.

ومدار كلامه، على إعجاز القرآن بفصاحته والتحدي بأن يأتوا بمثله. وقد تجرد لبيان وجه "اختصاص القرآن بمزية في رتبة الفصاحة خارجة عن العادة" ردًّا على من قالوا:"فبَيًّنُوا أن للقرآن هذه الرتبة في الفصاحة ليتم ما ذكرتم"

وحين عرض لاختلاف مذاهب العلماء في وجه إعجاز القرآن، صرح بأن فصاحته الخارجة عن العادة هي وجه الإعجاز ومناط التحدي به، قال:

"واختلف العلماء في وجه دلالة القرآن: فمنهم من جعله معجزاً لاختصاصه برتبة الفصاحة خارجة عن العادة. وهو الذي نظرناه وبينَّا مذهب شيوخنا فيه.

"ومنهم من قال: لاختصاصه بنظم مباين للمعهود عندهم صار معجزاً. ومنهم من جعله معجزاً من حيثُ صرفت همهم عن المعارضة وإن كانوا قادرين متمكنين، ومنهم من جعله معجزاً لصحة معانيه واستمرارها على النظر وموافقتها لطريقة العقل".

وفي إبطال الصرفة، بالفهم الشائع، قال: إن المتقدمين قالوا بها لعجزهم عن معارضته.

"فلما رأى أتباعهم الأكابرَ ضاق ذرعهم بالقرآن وعدلوا عن المعارضة إلى الأمور الشاقة، تبعوهم في هذه الطريقة لعلمهم بأنهم عن ذلك أشد عجزاً. فذلك استمرت أحوالهم على هذا الوجه، لا للصرفة التي ظنها السائل. ولولا أنهم علموا أن القرآن في أعلى رتبة من الفصاحة الجامعة لشرف اللفظ وحسن المعنى حتى بهرهم ذلك، لقد كان يجوز أن يختلفوا في سائر المعارضة فيكون فيهم من يكفُّ وفيهم من يحاول. . . لكن الأمر في القرآن لَمَّا كان على ما ذكرناه عدلوا عن المعارضة لظهور حاله. ولولا صحة ذلك من هذا

ص: 86

الوجه، لقد كان القول بالصرفة يقوى من حيث لم تجرِ العادة مع التنافس الشديد وتباين الهمم وامتداد الأوقات، أن يقع الكفُّ عن الأمر المطلوب الذي قويت الدواعي إلى فعله، فكان يصح أن يُتعلق بالصرفة ويراد بها انصرافهم عن المعارضة وإن كانت غير مؤثرة، دون المعارضة المؤثرة، لأن هذه المعارضة يُعلم أنها لا تحصل، بما قدمناه من الأدلة. لكن ذلك يبعد، لأنه متى جُوز في انصرافهم عنها أن يكون الوجه فيه الصرفة، لم يأمن أن تكون المعارضة الصحيحة أيضاً ممكنة وإنما عدلوا عنها للصرفة التي ذكرها السائل وهذا بين فيما أردناه".

و"علي بن عيسى الرماني" وهو من المعتزلة أيضاً، لم يزد في القول بالصرفة، على أن ساقه بإيجاز مع وجوه إعجاز القرآن. قال:

"وأما الصرفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعللا ذلك كان يعتمد بعض أهل العلم في أن القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة كخروج سائر المعجزات التي دلت على النبوة. وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول".

على حين جعل رسالته كلها (النكت في إعجاز القرآن) للحديث عن إعجازه البلاغي، باستثناء الصفحتين الأخيرتين.

ويوشك أن يكون هذا هو الموقف الغالب على المتكلمين في إعجاز القرآن، ممن عدوا الصرفة وجهاً للإعجاز، ثم مضوا ينظرون في بلاغته المعجزة.

فالزمخشري المعتزلى، يقرر أنه "لابد من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعرفة لطائف حجته".

* * *

وقد خالف أهل السنة، من قالوا بالإعجاز بالصرفة واكتفوا بها عن النظر في المعجزة. قال "الخطابي" بعد أن ساق كلامهم:

ص: 87

"وهذا أيضاً وجه قريب - من وجوه الإعجاز - إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله سبحانه:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .

فأشار في ذلك إلى أمر طريقُه التكَلُّفُ والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد. والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة. فدل على أن المراد غيرها والله أعلم".

وذهب إلى أن البشر تعذر عليهم الإتيان بمثل القرآن، "لأنه معجزة البلاغة، جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف متضمناً أحسن المعاني".

* * *

وسلَّم "ابن حزم الظاهري" بأن في كون القرآن كلام الله تعالى، وقد أصاره معجزاً ومنع من مماثلته، برهاناً كافياً. غير أنه أنكر أن يكون أحد قد قال إن كلام البشر معجز. ونص عبارته في (الفِصَل) :

"لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز. لكن لما قاله الله تعالى - أي القرآن - وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته. . . وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره".

وأراد "الفخر الرازي" أن يتحاشى هذا الخلاف، فقال في تفسير آية المعاجزة من سورة الإسراء:

"وللناس في إعجاز القرآن قولان: منهم من قال إنه معجز في نفسه، ومنهم من قال إنه ليس معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإتيان بمعارضته، مع أن تلك الدواعي كانت قوية، كانت هذه الصرفة معجزة.

"والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول:

ص: 88

القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون. فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوافرة على الإتيان بهذه المعارضة، وما كان لهم عنها صارف ومانع، وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً، فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً. فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب"

نقله "ابن كثير" ورأى أن هذه الطريقة إنما تصلح على سبيل التنزل والمجادلة، لكنها غير مرضية، لأن القرآن في نفسه معجز، قال:

"وقد قرر بعض المتكلمين الإعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة، وقول المعتزلة في الصرفة، فقال: إن كان القرآن معجزاً في نفسه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ولا في قواهم معارضتُه، فقد حصل المدعَّى وهو المطلوب. وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا مع شدة عداوته له، كان ذلك دليلاً على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك.

"وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية، لأن القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر معارضته كما قررنا، إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق. وبهذه الطريقة أجاب الرازي في تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر".

والمسألة كما ترى قد عولجت في مجال الجدل النظري وإن آلت بالمعتزلة أنفسهم، بعد الجيل الأول من شيوخهم، إلى أن اعتبار الصرفة وجهاً من وجوه الإعجاز، لا يعطل النظر في وجه إعجازه البلاغي. والذين ذكروا الصرفة، من غير المعتزلة، استيعاباً لمذاهب المتكلمين في الإعجاز، لم يلبثوا أن خصوا إعجازه البلاغي بالعناية والاهتمام.

* * *

ص: 89

*وقال قوم إن إعجاز القرآن بقيَمه ومثُله وأحكام، ووجههُ استحالةُ أن يأتي مثلها من بشر أمي في قوم أميين، في زمان ومكان هيهات أن يشارفا ذلك الأفق القرآني العالي.

وهؤلاء أيضاً لم يكونوا بحيث يفوتهم أن البيان القرآني - أو النظم كما سماه بعضهم - هو الذي فرض إعجازه على العرب من مستهل الوحي، وأن قضية التحدي واجهت المشركين في العهد المكي وحُسمت بآية البقرة أولى السور المدنيات، قبل أن يتم التشريع والأحكام بتمام الوحي في آخر العهد المدني.

وهو وإن لم ينصوا على التفاتهم إلى هذا الملحظ، فقد عبر عنه مسلكهم حين أكتفوا بأن عَدُّوا القيم والأحكام بين وجوه الإعجاز، ثم تفرغوا للنظر في الإعجاز البلاغي للقرآن.

بل إنهم لم يستطيعوا فصل الأحكام والقيم والمثل القرآنية، عن النظم البليغ المعجز الذي نزلتْ به. فالخطابي يقول شرحاً لهذا الوجه من الإعجاز:

"وأعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أحسن المعاني: من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته: من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأكر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساوئها. واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يُرَى شيء أولى منه. . .

"ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق، أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخلق دونه. . . ".

و"الباقلانى" كتب بعض فقرة في "إعجاز المعاني التي تضمنها، في أصل وضع الشريعة والأحكام، والاحتجاجات في أصل الدين والرد على الملحدين" ثم اتجه بكل هذا إلى أن المعاني والأحكام "جاءت على تلك الألفاظ البديعة وموافقة بعضها بعضاً في اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ويمتنع. وذلك أنه قد علم أن تخير

ص: 90

الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة والأسباب الدائرة بين الناس، أسها وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة وأسباب مؤسسة مستحدثة. فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، والأمر المتقرر المتصور. ثم انضاف إلى ذلك التصرفُ البديع في الوجوه التي تتضمن تأييد ما يُبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه، بَانَ التفاضلُ في البراعة والفصاحة. ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعاني وفقها، لا يفضل أحدهما على الآخر فالبراعة أظهر والفصاحة أتم".

ويوشك أن يكون هذا هو النهج الغالب على من عدواً قيم القرآن وأحكامه وجهاً من وجوه إعجازه، لم يفصلوها عن نظمه المعجز الذي حشدوا جهدهم للنظر في بلاغته.

وإعجاز القيم والمثل والأحكام القرآنية، ليس موضع جدل أو خلاف. لكنه كما التفت الخطابي "ليس بالأمر العام في كل سورة من سور القرآن، وقد كانت المعاجزة بسورة واحدة. ومعلوم بالضرورة أن سورة واحدة لا تجمع كل ما ذكروه من أحكام القرآن ومعانيه ومثله وآدابه"27.

فضلاً عن كون التشريع والأحكام، مما اتجهت إليه عناية القرآن في العهد المدني أكثر، بعد حسم قضية المعاجزة، بآية البقرة: أولى السور المدنية.

* * *

* ويقال مثل هذا فيمن ذهبوا إلى أنه معجز بما ذَكَر من أحداث قبل أن تقع، وأخير عن أمور كانت لا تزال مطوية في مضمر الغيب، ثم حدثت تماماً كما أنبأ عنها.

وهو أحد وجوه قال بها الأشاعرة في الإعجاز ولم يختلف أحد معهم في صدق ما أخبر به القرآن من أحداث قبل أن تقع، حتى أصحاب الصرفة من المعتزلة قالوا

ص: 91

به. فشيخهم "النظام" يقرر أن "الآية والأعجوبة في القرآن، ما فيه من الإخبار عن الغيوب".

وأهل السنة لم يترددوا في تقرير أن هذا وجه من وجوه الإعجاز، لكنه عندهم ليس الوجه العام الذي يتحقق في كل سورة، فتقع به المعاجزة. والأمر فيه كما قال الخطابي:

"وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان. نحو قوله سبحانه:

{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ} وكقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} .

ونحوهما من الأخبار التي صدقت. . .

"قلت: ولا يُشَك في أن هذا وما أشبهه من أخباره، نوع من أنواع إعجازه. ولكنه ليس بالأمر العام في كل سورة من سور القرآن. وقد جعل سبحانه في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها فقال:

{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} من غير تعيين - للسورة - فدل ذلك على أن المعنى غير ما ذهبوا إليه.

ويوضح القاضي عبد الجبار مذهب المعتزلة في هذا الوجه: إن اعتبرُ به في صدق النبوة فصحيح، وأما أن يقال إنه مناط التحدي بإعجاز القرآن، فبعيد. أو كما قال:

"فأما من قال إنه صلى الله عليه وسلم إنما تحدى بالقرآن من حيث تضمن الإخبار عن الغيوب، فبعيد، لأنه قد تحدى بمثل كل سورة من غير تخصيص، ولا يتضمن كل ذلك الإخبار عن الغيوب. ولأنا نعلم أنه تحدى بجملته لا ببعضه".

ص: 92

"فإن قال: جوَّزوا، وإن كانت المعارضة ممكنة، أنهم ظنوا أنه تحداهم بما تضمنه من الإخبار عن الغيوب. ولولا ظنهم ذلك لما طلب بعضهم إلى بعض أخبارَ الفرُس. قيل له: إن هذا الوجه مما يدل على النبوة - على ما سنذكره - لكنه صلى الله عليه وسلم تحدى بالقرآن لمرتبته في قدر الفصاحة، لا لما ذكرتَه، للوجوه التي بيَّناها من قبل. ولا يجوز في العرب أن تنصرف في هذا الباب عن الطريقة المعتادة لهم في التحدي، إلى طريقة غير معتادة. لأنهم قد عرفوا أن المنازعة والمباراة في سائر الكلام كيف تقع، وأنه لا معتبر فيه بالمعاني - وحدها - وإنما يعتبر قدوه في الفصاحة: إما على كل وجه، أو في نظم مخصوص، على ما تقدم ذكره. وذلك يُسقط هذا السؤال".

أضيف إليه: أن كثيراً من الصحابة آمنوا بالمعجزة، بمجرد سماع آيات منها. وأن كل السابقين الأولين سبقوا إلى الإسلام إثر نزول السور الأول من الوحي، دون أن ينتظروا حتى تتحقق أحداث أنبأ بها ليدركوا وجه إعجازه.

وهذا الملحظ نفسه، وارد على من ذهبوا إلى أن القرآن كان معجزاً، بما جاء به من أخبار الماضي الغابر "ووجهه أنه كان معلوماً من حال النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أمياً، ولم يكن يعرف شيئاً من كتب المتقدمين وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى القرآن بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ".

والذين ذكروا هذا الوجه في الإعجاز، لم يستطيعوا أن يفصلوه عن البيان القرآني. وقد علموا أن التوراة والإنجيل فيهما الكثير من أخبار الأمم الخالية وقصص الأنبياء منذ خلق الله سبحانه آدم. ولعلها في التوراة والإنجيل أكثر تفصيلاً. ولم يقل أحد إن الكتب السماوية كانت معجزات لرسلها وآيات نبوتهم، ولا علمنا أن عيسى وموسى عليهما السلام، تحديا قومهما أن يأتوا بسفر أو إصحاح من مثل التوراة والإنجيل.

ص: 93

وواضح أن القرآن قدر مكان البيان في العرب، ودرايتهم بفنون القول، بحيث يستطيعون أن يحكموا في إعجازه.

* * *

* والإعجاز البلاغي هو الذي "ذهب إليه الأكثرون من علماء أهل النظر" وسيطر على مباحث المتكلمين في الإعجاز، سواء منهم من جعلوه الوجهَ الذي يصح به التحدي بالسورة الواحدة من القرآن، ويفسر موقف العرب، عصرَ المبعث، من المعجزة، والذين ذكروا مع إعجازه البلاغي غيره من وجوه الإعجاز الأخرى التي لا مشاحة فيها، وإنما الخلاف في أن تنفصل عن إعجاز نظمه وبلاغته.

والواقع أن المصنفات الأولى في الإعجاز، على اختلاف مذاهب أصحابها، جاءت أشبه بمباحث بلاغية مما قدروا أن إعجاز القرآن يُعرف بها، وإن استوعبت أقوال المتكلمين في وجوه الإعجاز، فرسائل الخطابي السني، والرماني المعتزلى، والباقلانى الأشعري تأخذ مكانها في المكتبة البلاغية.

وبعد أن استقلت البلاغة بالتأليف والتصنيف، وُجَّهت إلى خدمة الإعجاز البلاغي:

"الجرجاني" يضع كتابه في النظم والبلاغة ويقدمه باسم (دلائل الإعجاز) .

و"أبو هلال العسكري" يضع علم الفصاحة والبلاغة تالياً لعلم التوحيد، ويقدم (كتاب الصناعتين) بقوله:"أعلم علمك الله الخير أن أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالحفظ، بعد المعرفة بالله جل ثناؤه، علمُ البلاغة والفصاحة، الذي يعرف به إعجاز كتاب الله".

و"الزمخشري" البلاغي، وهو من المعتزلة، يقرر أنه "لابد من علم البيان والمعاني لإدراك معجزة رسول الله ومعرفة لطائف حجته".

ص: 94

و"ابن سنان الخفاجي" وإن قال بالصرفة وصرح بأنا "إذا عُدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته" قرر في مقدمة (سر الفصاحة) أنه "لابد لمن يبحث في إعجاز القرآن من معرفة سر الفصاحة والبلاغة، سواء أقال بالصرفة أو بغيرها".

و"السكاكى" إمام البلاغيين المدرسيين، يقول في كتابه مفتاح العلوم:"أعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامه الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكما يدرك طيب النغم العارض للصوت. ولا يدرك تحصيله لغير ذوي الفطرة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والحذق فيهما".

و"حمزة بن يحيى العلوي" يصنف كتابه المرسوم بالطراز في (أسرار البلاغة) ، يتلوها فصل في حقائق الإعجاز، يمهد له بأن "الكلام في بيان كون القرآن معجزاً، خليق بإيراده في المباحث الكلامية والأسرار الإلهية لكونه مختصاً بها ومن أهم قواعدها، لما كان علامة دالة على النبوة وتصديقاً لصاحب الشريعة، حيث اختاره الله تعالى بياناً لمعجزته وعلماً دالاً على نبوته وبرهاناً على صحة رسالته".

ثم يؤكد صلة المباحث البلاغية بالإعجاز، من حيث "كانت وصلة وذريعة إلى بيان السر واللباب. والغرض المقصود عند ذوي الألباب، إنما هو بيان لطائف الإعجاز وإدراك دقائقه واستنهاض هممه".

من هنا كان بدؤه بالمباحث البلاغية مدخلاً إلى هذا الفصل في الإعجاز. وقد نقلنا في مدخلنا هنا، عَجَبه الذي لا ينقضي من حال علماء البيان وأهل البراعة فيه لما أغفلوا من هذا الشأن.

وجرى المتأخرين على أن يجمعوا في الإعجاز كل ما قال السلف من وجوه. كصنيع "الشيخ محمد عبده" في الفصل الذي كتبه في تفسيره عن الإعجاز فبدأ بإعجازه بأسلوبه ونظمه وبلاغته، وبتأثيره في القلوب والعقول. ثم ذكر إعجازه بأخبار الغيب فيه، وتعبيره عن المعاني بما يقبله المختلفون في فهمها مع موافقة

ص: 95

الحق، وبسلامته من الاختلاف، وبالعلوم الدينية والتشريع، وبعجز الزمان عن إبطال شيء منه، وتحقق مسائل كانت مجهولة للبشر.

* * *

ولا أعرض هنا للذين خاضوا حديثاً فيما سموه "الإعجاز العلمي" وتأولوا فيه آيات قرآنية في اختراع الذرة وسفن الفضاء وقانون الجاذبية ودوران الأرض وهندسة السدود، وغير ذلك مما لم يخطر على بال أي عربي في عصر المبعث وصدر الإسلام، ولا كان بحيث يلتقط لمحةً منه، أيُّ صحابي من ألوف المؤمنين الذين لقوا المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصغوا إلى كلمات ربه فبهرهم إعجازها وخروا لله ساجدين.

وهل كان طواغيت الوثنية القرشية وهم يأخذون سبل العرب إلى مكة في الموسم ويحذرونهم من الإصغاء "إلى ما جاء به محمد من كلام هو السحر" يحسبون حساباً لأي شيء سوى إدراك العرب أن هذا البيان القرآني ليس من قول البشر؟

لا أحد يحجر على أي إنسان في أن يفهم القرآن كما يشاء، ولكن المحنة أن يؤلَّف فيه من ليسوا من أهل الاختصاص، وتروج في البيئة الإسلامية أقاويل وتأويلات مقحمة على القرآن نصاً وروحاً، لا يعرف لها فقهاء العربية والإسلام والمتخصصون في القرآن، سنداً ولا دليلاً، وإنما تستند إلى ملتقطات من معارف المحدثين، في التشريح وعلم الأجنة ورياضيات الفلك وبيولوجيا القمر.. والتكنولوجيا. . . و. . .

ولا شيء من هذا صح في أي خبر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله لتلاميذه الصحابة لكي يفهموا هذا الإعجاز العلمي، فضلاً عن أن يبينوه للناس!.

وقد يلفتنا أن أكثر المحدثين ممن خاضوا في مجال التفسير العلماني وصنفوا الكتب في القرآن والعلوم، ردوا النظريات والكشوف العلمية في عصرنا إلى أصول لها في

ص: 96

القرآن وليسوا من أهل الاختصاص في الدراسة القرآنية وعلوم العربية والإسلام.

وطالما نبه علماء الدراسات القرآنية إلى ما ينبغي لكل دارس يتعرض لشيء منها، من اختصاص بالعربية وفقه لأساليب كلامها، وإطلاع على طرق المتكلمين وأصول الدين.

و"من هنا تهيب كثير من السلف - كما قال الخطابي - تفسير القرآن، وتركوا القول فيد حذراً أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين. فكان الأصمعي، وهو إمام أهل اللغة، لا يفسر شيئاً من غريب القرآن".

* * *

ص: 97