الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2)
الجدل والتحدي وآيات المعاجزة
(سورة الإسراء 88)
(سورة البقرة 23 - 24)
تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام، في قومه قريش مل تلقى من كلمات معجزته، فآمن بها من آمن بمجرد أن أصغى إليه. وعز على طواغيت الوثنية القرشية أن يسلموا بنبوة بشر مثلهم، ابن امرأة من قريش تأكل القديد، جاء يسفه أحلامهم وينسخ دين آبائهم ويقوض أوضاعاً سائدة راسخة، توارثوها خلفاً عن سلف، واستقرت عليها حياتهم من قديم الدهور والأحقاب، وتهيأ بها لقريش شرفها ونفوذها الديني والتجاري على قبائل العرب، بحكم استئثارها بالوظائف الكبرى في "أم القرى" مثابة حج العرب، ومركز سيادتها على الأسواق العامة التي كانت تقام هناك بالبلد العتيق في موسم الحج، بعكاظ ومجنة وذي المجاز. . .
ولم يأتهم "محمد بن عبد الله" بآية من مثل ما أتى المرسَلون قبله. وتلا عليهم ما أوحى إليه من هذا القرآن العربي المبين، يعرفون كما لا يعرف سواهم أنه معجز، وما عهدوا على "محمد بين عبد الله" كذباً قط، ولا ارتابوا في أمانته ورجاحة عقله وكرم خلقه، لكنهم في مواجهة الدعوة التي ترفض دين آبائهم وتسفه أحلامهم وتمحق عبادتهم وتقوض ما ألفوا من أوضاع، تصدوا لمجادلته في معجزة نبوته.
ومن شأن هذه المجادلة أن تورطهم في اتهامه بما يوقنون أنه برئ منه. ولهذا ينبغي أن نفرق في موقفهم من المعجزة، بين حقيقة رأيهم فيها، وبين ما انساقوا إليه من دعاوى جدلية في خصومتهم العنيدة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، لعلها تصد العرب عن الإيمان برسالته.
وفيما سبق من حديث المعجزة، نقلنا ما كان من حيرتهم في وصف القرآن بالشعر أو السحر والكهانة، مع إقرارهم فيما بينهم وبين أنفسهم بأنه ليس شيئاً من ذلك كله، ويقينهم أنه غير ما عرفوا من كلام البشر.
ولم تبلغ بهم الغفلة أن يتصوروا أن العرب يفوت عليهم أن يميزوا بين
القرآن ومنظوم الشعر وسجع الكهان وهمهمة السحر، وإنما تعلق أمل المشركين من قريش، في أن يصرفوا سمع العرب الوافدين إلى مكة في الموسم، عن هذا القرآن.
وتكلفوا بأهل مكة، بأن رابطوا في البيت الحرام يحولون بين المسلمين وبين تلاوة القرآن في الحرم، اتقاء نفاذه إلى قلوب المكيين وضمائرهم، مع الإلحاح في اضطهاد من يسلم منهم.
ولكن الدعوة مضت تكسب كل يوم مؤمناً بها. . .
وكلمات الله تصدع جبروت الوثنية وتزلزل صروحها، فتجذب من حزبِها جنوداً لله، أصحاباً لرسوله عليه الصلاة والسلام.
ومع الاضطهاد والتعذيب، كان المسلمون يزدادون ثباتاً على عقيدتهم واستبسالاً في احتمال الأذى. . .
وفي مهب الخطر، بدا للمشركين أن يكذبوا الرسول ويتهموه بافتراء القرآن.
لا عن ظن بأنه افتراه حقاً، ولا لأن فيهم من تصور "أن الكل قادرون على الإتيان بمثله".
ولكن ليلقوا ظلال الريب على رسالته، فيصد عنها من يحرصون على بقاء الأوضاع الموروثة والأعراف الراسخة، ومن يشق عليهم أن يعقوا آباءهم وينسلخوا من دينهم، ومن يشفقون من تصدع كيان القبيلة التي حازت شرف السيادة الدينية وجاه السيطرة الاقتصادية والأدبية على جزيرة العرب.
يقول القاضي عبد الجبار:
"على أن ما ظهر من أحوالهم يدل على أن القوم لم يكونوا شاكَين في أمر القرآن، لآن استجابة بعضهم تدل على نفي الشك، وكذلك إعظامُ من لم يستجب لحال القرآن، وعدوله إلى ما عدل إليه، وكذلك عدولهم إلى الحرب
وغيره، فلا يصح والحال هذه أن يكونوا شاكين في ذلك".
* * *
واحتدم الجدل على امتداد العهد المكي، من أول المبعث إلى آخر سورة نزلت بمكة وهي سورة المطففين على المشهور:
إن محمداً بشر لا يُنكر بشريته، فلماذا لا يقولون إنه تقوَّل القرآن، فهو أفك افتراه، وما عدا أن يكون من قول البشر؟
وفيهم من يكتتبون أساطير الأولين، فماذا عليهم لو زعموا أنها أساطير اكتتبها؟
وفيهم كذلك من التقطوا كلمات من صحف الأولين، وقد يفوت الأمر على من لم يسمعوا القرآن، لو أن المشركين ادعوا إنه تلقى كلمات من تلك الصحف، فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً؟
ويسجل القرآن مفترياتهم لا يكتمها، ويجادلهم فيها بما يهدي كلَّ ذي عقل وبصيرة إلى وجه الزيف فيما زعموا، كما في آيات:
المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 11: 26
سبأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ
إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 43: 47.
ولقد أملى لهم في هذا الجدل السقيم والمماراة الفاحشة، أن "محمد ابن عبد الله" يقر بأنه بشر مثلهم، وأنه لم يأتيهم بآية مما اقترحوه عليه.
وردًّا على هذه المزاعم الجدلية من المشركين، بدأ القرآن من أواسط العهد المكي - الذي أشتد فيه الجدل على ما نقلنا - يواجههم بالتحدي والمعاجزة، حسماً لكل جدل أو ريب فيه، وبرهاناً قاطعاً على إعجازه، وحجة بالغة على من زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوله وافتراه أو اكتتبه من أساطير الأولين.
وأول ما نزل من آيات المعاجزة، آية الإسراء المكية، ردًّا على من جحدوا نبوة الرسول لكونه بَشَراً مثلهم، فكان إعجاز القرآن مع الإقرار ببشرية الرسول عليه الصلاة والسلام، تحدياً جهيراً لهؤلاء الذين أبوا إلا كفوراً واستكباراً:
بل هو بشر رسول لا ريب في بشريته المماثلة لبشرية سائر الناس، وهذا
القرآن معجزة رسالته، يتحداهم مجتمعين، إنساً وجناً، أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وهذه هي قضية الإعجاز مطروحة عليهم، وهم قوم لُدَّ خَصِمُون.
* * *
وسورة الإسراء المكية ترتيبها في النزول الخمسون - على المشهور - والتحدي فيها {بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} .
وبعد أن ألقى القرآن هذا التحدي العام، في آية الإسراء، نزلت بعدها آية يونس تتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فحسب، مثل هذا القرآن، وليدعوا من استطاعوا من دون الله:
والمشهور في سورة يونس أنها نزلت بمكة بعد الإسراء مباشرة، إلا الآيات 40، 94، 95، 96 فنزلت بالمدينة (الإتقان 1 / 15) وآية التحدي هي الثامنة والثلاثون فهي في حيز المكيات. والتحدي فيها بسورة واحدة، قطعاً للجدل وتقوية للحجة.
بل لماذا وقد زعموا أن محمداً افتراه، لا يأتون بعشر سور مثله مفتريات، وإنه لبشر مثلهم؟ بهذا تحدتهم آية هود التي نزلت بعد سورة يونس مباشرة:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 13، 14.
بل لماذا واللغة لغتهم والبيان طوع ألسنتهم، لا يأتون بحديث مثله كما تحدتهم آية الطور:
وكل هذه الآيات في المعاجزة نزلت قبل الهجرة، من آية الإسراء وترتيبها في النزول الخمسون، إلى آية الطور وهي السورة السادسة والسبعون، على المشهور في ترتيب النزول.
وبعدها، في مستهل العهد المدني نزلت آية البقرة، أولى السور المدنيات، والتحدي فيها بسورة من مثله إنهاء لهذا الجدل الذي طال:
على هذا النحو حُسِمتْ قضية المعاجزة بالقرآن، وقد نزلت منه في العهد المكي سبع وثمانون سورة، أعيا العرب أن يأتوا بسورة من مثله.
ولا وجه لما تعلق به بعض المتكلمين فيما نقل "القاضي عبد الجبار" عنهم، من أن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما تحداهم بالقرآن لما قوى أمره وظهر حاله وكثر أصحابه، وعاجلهم بالحرب فمنعهم الخوف من إيراد مثله".
وقد نقضه عليهم القاضي عبد الجبار، بما لا نرى ضرورة لنقله هنا، إذ يغنينا عنه أن آيات التحدي - عدا آية البقرة - نزلت قبل الهجرة التي تحول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة بعد أن بلغت الجولة
المكية ذروتها الرهيبة من ضراوة الاضطهاد والأذى والفتنة، دون أن يؤذن للمسلمين في قتال.
وآية البقرة آخر آيات التحدي، نزلت في مستهل العهد المدني، من قبل أن يبدأ الصدام المسلح بين الإسلام وأعدائه من مشركين ومنافقين ويهود. . .
* * *
فإلى من، اتجه هذا التحدي؟
هذا أوان ما وعدنا به - في الحديث عن المعجزة - من إيضاح لبيان موقف العرب عصرَ المبعث، بين إدراك المعجزة وبين معاجزته من يدعون منهم إنه من قول البشر، فيلزمهم - لتصح دعواهم - أن يأتوا بمثله إن استطاعوا.
وقد سبق القول إن إدراك المعجزة ميسر لكل العرب في عصر المبعث، لا ينفرد به بلغاؤهم دون عامتهم، على ما وَهِم الباقلانى.
وأمَّا المعاجزة، فصريح النص القرآني لآياتها، أن التحدي للإنس والجن جميعاً أن يأتوا بمثله.
لكن الخطاب فيها موجه إلى المشركين العرب الذين جادلوا في المعجزة، والمقام يقتضي أن من يتصدون للتحدي، إن استطاعوا، هم أعلى البلغاء مرتبة وأقدرهم على البيان، إذ تفرض طبيعة الموقف ألا ينتظر من عامة مشركي العرب التعرض لهذا التحدي، وإنما يندب له بطبيعة الحال من يتوهم في طاقته القدرة عليه. وقد أَلِفَ العرب في مواسمهم في أخريات الجاهلية أ، يقوم الشاعر الفحل منهم فيعاجز كل من حضروا الموسم بقصيدة ينشدها، ويتحداهم أن يعارضوها بمثلها. فلا يُفَهمُ أنه يتجه بالتحدي إلى عامة القوم، وإنما يتجه به إلى أقرانه الأكفاء من فحول الشعراء. والأمر في هذا لا يختلف عن عرفهم في المنافرة، وعن تقاليد فرسانهم وأبطالهم في النزال، حين يقف البطل فيتحدى الناس جميعاً فلا يقوم له منهم سوى أقرانه ونظرائه الأكفاء.
وموسى عليه السلام، عاجز بآيته قوم فرعون، فندب له أمهر السحرة في زمانه.
طبيعة الموقف إذن تفرض أن يعاجز القرآن من يتوهمون في أنفسهم القدرة على الإتيان بمثله نم أمراء البيان، وإن أطلق التحدي عاماً للناس جميعاً.
ويؤنس إلى تعلق التحدي بأبلغ بلغائهم قوله تعالى في آيتي التحدي، من سورتى يونس وهود:{وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
بما تُفهِم من مطالبتهم أن يدعوا للإتيان بمثل هذا القرآن، من يرونهم كفئاً له ويتوهمون أنهم قادرون عليه.
وفي هذا يقبل ما ذكره الباقلانى من تفاوت مراتبهم في البلاغة، دون أن يختلط بسياق إدراكهم جميعاً لإعجاز القرآن.
ونعجب مع الباقلانى لمن "ذهب إلى أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيبٍ لو علموه لوصلوا إليه. وأعجب منه قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد".
ونراها مما أقحمه بعض المتكلمين على قضية التحدي، فكا خطر على بال المشركين حين تورطوا جدلاً في أن القرآن من قول البشر، أن أحداً من أبلغ بلغائهم يقدر على الإتيان بمثله.
* * *
والقرآن يتحدى الجن مع الإنس.
ونفهم من معاجزة الجن، ما تواترت به المرويات من أن العرب كان الشعر يبهرها فتتصور أن لكل شاعر فحل تابِِعَه من الجن يظاهره ويلهمه روائع القصيد. وشاهده في آية التحدي من سورة الإسراء:
لكن "الباقلانى" فهم من معاجزة الجن "أن نظم القرآن وقع موقعاً من البلاغة يخرج عن عادة كلام الجن (؟!) كما يخرج عن عادة كلام الإنس، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل:
"فإن قيل: هذه دعوى منكم وذلك أولئك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن الإتيان بمثله وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله إن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة وأسباب غامضة دقيقة لا نقدر نحن عليها ولا سبيل لنا للطفها إليها، وإذا كان كذلك لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.
"قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بجزاء بخبر الله عز وجل، وقد يمكن أن يقال إن الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن وما يروون لهم من الشعر ويحكون عنهم من الكلام. وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه من ذلك قد تأملناه فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع الناس كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. . . ".
ونقل بعدها مختارات في كلام الغيلان أو وصفها، من شعر تأبط شراً، وشمير بن الحارث الضبى، وعبيد بن أيوب، وذي الرمة.
على حين أبطل "القاضي عبد الجبار" قول من قال: إن مقتضى تحدي الإنس والجن بالقرآن، ألا نعلم كونه معجزاً إلا بعد أن نعلم تعذر المعارضة على الجن.
أبطله بقوله: "قد بينا أنا نعتبر في كونه القرآن ناقضاً للعادات، العادة المعروفة دون ما لا نعرف من العادات، فإذا لم يكن لنا في العقل طريق إلى معرفة الجن أصلاً لأنهم لا يُشاهَدون ولا تعرف أحوالهم بغير المشاهدة، فقد كفانا في معرفة كون القرآن معجزاً، خروجه عن عادة مَن تعرف عادته. ثم إذا علمنا بذلك صحة نبوته وخبَّرنا صلى الله عليه وسلم بالجن وأحوالهم، وأنهم كالأنس في تعذر المعارضة عليهم، علمنا أن حالهم كحال العرب، لأن العلم بإعجاز القرآن موقوف على هذا العلم.
"يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يخبرنا بالجن، كنا لا نعلم إيمانهم أصلاً، وكان لا يقدح ذلك في العلم بأن القرآن معجز. وكذلك القول في فقد المعرفة بحالهم. ولولا الخبر الوارد كنا لا نقول إن المعارضة متعذرة فكان لا يقدح في كون القرآن معجزاً، وكان يحل ذلك محل أن يجعل دلالة نبوته تمكنه من حمل الحبال الراسيات وطمر البحار، في أن ذلك إن تعذر على الإنس فقد صار دالاً على نبوته وإن لم نعلم تعذره على الجن أو الملائكة".
وفهُمُنا لمعاجزة الجن، على ما قدمنا من توابع الشعراء يظاهرونهم ويلهمونهم، يغنينا عن الخوض في مثل هذا الجدل الغريب والتعلق بمعتقدات العرب في الجن ومغامرات شعرائهم مع الغيلان، احتجاجاً لفوت القرآن فصاحةَ الجن!
وقد نرى عجباً من العجب، أن يسوق الباقلانى شعراً لتأبط شراً وذي الرمة وغيرهما، ليحكم به على مستوى كلام الجن والغيلان من جهة الفصاحة!
والذي حكاه الشعراء العرب عن مغامراتهم مع الغيلان ونقلوه من كلامهم، هو بلا ريب من كلام الشعراء أنفسهم.
ودون أن ندخل في مناقشة لحقيقة هذه المغامرات وما إذا كان الشعراء فيها يحكون عن مشاهدة لما تجسَّد من تصوراتهم، أو أن الأمر فيها لا يعدو تجاوب شعرية لمغامرات خيالية.
أقول إن الشاعر حين يحكي عن الجن ويتحدث بلسان الغيلان، فبِلُغَته يتكلم وبلسانه هو يعبر: وقد جمع "المرزبانى" في القرن الرابع جملة من (أشعار الجن) في كتاب له بهذا الاسم، أشار إليه أبو العلاء في (رسالة الغفران) حين التقى بالجني "أبي هدرش، الخيتعور، من بني الشيصبان: حيَّ من الجن".
وشخصية أبي هدرش من الشخوص المسرحية التي ابتدعها خيال أبي العلاء، ونظم على لسانه قصيدتين مطولتين تحكيان مغامراته. والقصيدتان مشحونتان بغريب الألفاظ، ولا كلمة منها أو من الحوار الذي أنطق فيه أبو العلاء أبا هدرش، يمكن أن نحكم بها على كلام الجن حقيقة، وإنما النصوص كلها لأبي العلاء تصوراً وصياغة ولفظاً!
وما تحدثت التوابع والزوابع في (رسالة ابن شهيد) وإنما تحدث "ابن شهيد" بلسانها، شعراًَ ونثراً.
وأقرب من هذا إلى ما نحن بصدده من معاجزة الجن، أن نذكر أن القرآن الكريم قد حكى عن الجن، فهل يخرج ما حكاه من ذلك، عن البيان القرآني المعجز، إلا كلام الجن على الحقيقة؟
وهل نطق الهدهد والنملة، بنص الكلمات التي نتلوها في سورة النمل؟
وكذلك قص علينا القرآن من قصص الغابرين، مثل حوار أهل الكهف، ونوح وابنه، وموسى وفرعون والسحرة، وامرأة العزيز ونسوة بالمدينة، والعزيز والملأ من قومه، وإبراهيم والملائكة. . .
ولا شيء من هذا كله يمكن أن يخرج عن البيان القرآني المعجز، لنحكم به على فصاحة هؤلاء الغابرين، في اللسان العربي!
* * *
وتلقانا هنا أيضاً، في قضية التحدي والمعاجزة، مسألة بالغة الدقة، لما داخلها من التباس، وهي:
هل كان التحدي موجهاً إلى العرب في عصر المبعث، أو إنه قائم أبداً على امتداد الزمان؟
ذهب فريق ممن كتبوا في الإعجاز إلى "اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي" وذهب آخرون إلى أنه "تحد لسائر الناس على مر العصور والأجيال".
وتردد بعضهم بين بين، ذهبوا مرة إلى القول الأول، ثم انساقوا إلى القول الثاني من حيث يدرون أو لا يدرون.
وقد أرى أن الخلاف في هذه المسألة الدقيقة يحسمه أن نفرق بين الإعجاز والتحدي:
الإعجاز قائم في كل عصر لا يختص به أهل زمان دون زمان، وهذا هو ما نفهمه من كلام الإمام الطبري عما أيد الله به المصطفى من معجزة "على الأيام باقية، وعلى الدهور والأزمان ثابتة، وعلى مر الشهور والسنين دائمة".
فالحديث هنا عن المعجزة، لا عن التحدي كما فهم من نقل هذه الفقرة من كلام الطبري، واستخلص منها" أن الإعجاز فيها واقع في كل عصر، والتحدي بها لازم لأهل كل زمان".
فإن لم يكن للعرب في عصر المبعث وجه اختصاصٍ بالتحدي، فلأنهم أصحاب هذا اللسان العربي يدركون أسرار بيانه.
فمناط التحدي إذن، هو عجز بلغاء العرب في عصر المبعث عن معارضة هذا القرآن جون أن يُفهم من هذا أن حجة إعجازه خاصة بعصر دون عصر، أو على العرب دون العجم.
وكان الخلط بين ما في ثبوت عجز المشركين من العرب عن الإتيان بسورة من مثله، من حسم لموقف التحدي، وبين خلود المعجزة وبقاء الحجة بها ثابتة على مر الدهور، هو مدعاة الالتباس في القضية وطول الجدل فيها.
وقد نقل "القاضي عبد الجبار" كلام من سألوا عن العجم، ممن لا يعرفون الفصاحة أصلاً، كيف يعرفون مزية كلام فصيح على سواه؟ فإن كانوا لا يعرفون ذلك فيجب ألا يكونوا محجوجين بالقرآن.
وردَّ بأن الجميع يعرف إعجاز القرآن، في الجملة، بعجز العرب عن معارضته مع توافر الدواعي.
وقد أطال القاضي عبد الجبار الكلام في موقف العجم عن إعجاز القرآن، وهم يعرفون القدر المعتاد من الفصاحة فضلاً عن أن يعرفوا الخارج عن هذا الحد، ونقل أقوال شيوخه في هذه المسألة، ثم قال:"فأما قول من يقول: إن العجم إذا لم يصح فيهم تأتَّي مثل هذا القرآن ولا نعذُّره، فلا ينكشف ذلك فيهم أصلاًَ، فكيف يصح التحدي فيهم والاحتجاج بالقرآن عليهم؟ فبعيد، وذلك لأنا لا نقول إنه صلى الله عليه وسلم تحداهم، وإنما تحدى أهل هذا الشأن، وجعل تعذر المعارضة عليهم دلالة على نبوته، ودلالة لسائر الناس على أن القرآن خارج عن العادة. . . فهم يعلمون أن تعذر المعارضة على أهل هذا اللسان هو الدلالة، فإذا أمكنهم معرفة ذلك فحالهم في أن الحجة قائمة عليهم، كحالهم لو عرفوا تعذر المعارضة من قِبَلِهم لو كانوا أهل الفصاحة".
واضطرب "الباقلانى" في موقفه من هذه القضية، فهو يشتد في حملته على خطأ من زعموا اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي، "وقالوا: الذي بني عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن، أ، هـ وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه. فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب، وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه".
ثم لا يلبث أن يقول:
"إن هذه الآية - المعجزة - عِلْمٌ يلزم الكلَّ قبولُه والانقيادُ له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة، فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم في توجُّه الحجة عليه. وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن. ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه. . .
"والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء، دون الآحاد. . . ".
وهو في هذا الكلام، لا يبعد عما ذهب إليه الذين ذهبوا إلى اختصاص أهل العصر الأول بالتحدي، فأشتد في نكيره عليهم.
وإذ يقول في أهل العصر الأول:
"إنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر - عصر النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله، فمَن بعدهم أعجز، لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم، فأمَّا أن يسبقوهم فلا".
لا يلبث في الفقرة التالية لها مباشرة، أن يهدر اختصاص العرب في عصر المبعث، ويقول بأن التحدي مطروح عليهم وعلى غيرهم على حدَّ واحد:
ذلك "أما قد علمنا عجز سائر أهل الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول. والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد، لأن التحدي في الكل على جهة واحدة، والتنافس في الطباع على حد واحد، والتكليف على منهاج لا يختلف".
وأخشى أني أظلم القاضي الباقلانى بنقل فقرات من كلامه قد أراها تحدد موقفاً له من قضيتي الإعجاز والتحدي، فالحق أنني ما أكاد أستبين له رأياً في فقرة أنقلها من كلامه، حتى يبدو لي في فقرة أخرى، تالية، غير ما فهمتُه من الفقرة قبلها.
وأحسبه ما تحير في موقفه إلا لأنه لم يفصل بين الإعجاز باقياً أبداً ملزماً للناس جميعاً على اختلاف العصور وامتداد الزمن، وبين التحدي للعرب المشركين في عصر المبعث، قد حسمه عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وفيهم أمراء البيان ومن يظاهرهم من جن فيما زعموا.
وكان "عبد القاهر الجرجاني" أجلى موقفاً وأوضح مسلكاً في بيانه لوجه اختصاص العرب في عصر المبعث بالتحدي، لا يعني اختصاصهم بالإعجاز، بل يعني أن ثبوت عجزهم عن الإتيان بمثله، قاطع الدلالة على عجز سواهم، ومن ثم يكون هذا العجز حاسماً لقضية التحدي، وأما الإعجاز فيبقى قائماً ما بقى الدهر.
قال في مقدمة رسالته (الشافية) :
"معلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاصيل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضاً، وأن عِلْمَ ذلك علمٌ يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب - في لسانهم - ومن عداهم تبع لهم وقاصر فيه عنهم، وأنه لا يجوز أن يُدَّعَى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي نزل فيه الوحي وكان فيه
التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيها لما لم يكملوا له. . .
"هذا خالد بن صفوان يقول: كيف نجاريهم وإنما نحكيهم؟ أم كيف نسابقهم وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟ . . .
"والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى أو ينكره إلا جاهل أو معاند، وإذ ثبت أنهم الأصل والقدوة، فَبِنَا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تُلى عليهم القرآن وتُحدوا إليه وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله ومن التقريع بالعجز عنه، وبُتَّ الحكم بأنهم لا يستطيعونه ولا يقدرون عليه".
* * *
وما من شك في أن عجز البلغاء من العصر الأول، عن معارضة القرآن، وفيهم أصل الفصاحة، برهان قاطع في قضية التحدي، فحين نقول إنها حَسمت في عصر المبعث، فلا يمكن بحال ما أن تُحمل هذا القول على مظنة اختصاص إعجازه بعصر المبعث دون سائر الأعصار، وإنما معناه أن من هم أصل العربية، لغة القرآن، هم الذين يُفترض أن يواجَهوا بالتحدي، لما يملكون من أسرار لغتهم التي نزل بها الكتاب العربي المبين. فاختصاصهم بالتحدي جاء من كونهم أهل الاختصاص بالعربية لغة القرآن، وقد حسمها عجزهم عن أن يأتوا بسورة من مثله، والمعجزة "على الأيام باقية وعلى الدهور والأزمان ثابتة" كما قال الإمام الطبري في مقدمة تفسيره.
* * *