الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(4)
البلاغيون والإعجاز البياني
خطوات على الطريق
هذا الإجماع على إعجاز البيان القرآني، هو الذي نقل القضية إلى الميدان البلاغي على وجه التخصيص، إلى جانب ما يعرض له المفسرون، وبخاصة البلاغيون منهم، من ملاحظ بلاغية في سياق تفسيرهم لآيات الكتاب المحكم.
وقد ظهرت محاولات مبكرة في الإعجاز البلاغي، واشتهر عبد القاهر الجرجاني بأنه صاحب مذهب الإعجاز في النظم، واشتهر أبو بكر الباقلانى بأنه أول من بسط القول في بلاغة القرآن.
والواقع أن كل المصنفات الأولى التي تحمل عنوان (نظم القرآن) تشير إلى أن مصنفيها اتجهوا إلى الدرس البلاغي "احتجاجاً لنظم القرآن" كما قال الجاحظ في تقديمه كتاب (نظم القرآن) إلى الفتح بن خاقان، ومثله كتاب أبي بكر السجستاني في (نظم القرآن) والكتابان من تراث القرن الثالث.
وإذا كنا لا نملك الحكم على مناهج المصنفين الأوائل في الإعجاز البلاغي، ممن لم تصل إلينا كتبهم، فلننظر في مناهج الذين بقيت كتبهم معالم لخطواتهم على الطريق.
سبق "الخطابي" من القرن الرابع الهجري - ت 388 هـ - في رسالته (بيان إعجاز القرآن) إلى شرح فكرة الإعجاز بالنظم، إيضاحاً للإعجاز من جهة البلاغة "الذي قال به الأكثرون من علماء أهل النظر" قبله، وإن كانت فكرتهم فيه قائمة على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن. أو كما قال:
"وفي كيفيتها - جهة البلاغة - يعرض لهم إشكال ويصعب عليهم منه الانفصال. ووجدتُ عامة أهل هذه المقالة - الإعجاز من جهة البلاغة - قد جروا في تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي أختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز
به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون عند سماعه ضرباً من المعرفة لا يمكن تحديده. وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع فيه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفةُ ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيلُ الفاضل من المفضول منه. قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا يوجد مثلها لغيره منه، والكلامان معاً فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة.
"قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشَفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحِيلَ على إبهام. . .
"فأما من لم يرضَ من المعرفة بظاهر السمة دون البحث عن ظاهر العلة. . . فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع الهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب وتَحصى الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أمر لابد له من سبب، بوجوده يجب له هذا الحكمُ وبحصوله يستحق هذا الوصف" 24: 26
ومناط البلاغة في النظم القرآني، عند الخطابي، إنه "اللفظ في مكانه إذا أبدل فسد معناه أو ضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة" 29
وهذا الملحظ الدقيق، هو المحور الذي أدار عليه عبد الظاهر مذهبه في الإعجاز بالنظم، وهو أيضاً مما يلتقي - إلى حد ما - مع جوهر فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في تحقيق مغزاه ولمح أبعاده وطريق الاحتجاج له:
فالخطابي حين يقول بسقوط البلاغة لفساد المعنى أو ضياع الرونق، يتجه إلى الرونق اللفظي فيجعله غير فساد المعنى.
وسنرى الجرجاني يعتمد هذه التفرقة بين المعنى واللفظ أساساً لنظريته في النظم، على حين لا نرى اللفظ منفصلاً عن معناه بحيث يمكن أن يصح أحدهما والآخر فاسد، بل يفسد المعنى بفساد لفظه، ولا عبرة عندنا برونق لفظي مع فساد المعنى. ثم إن الخطابي في شرح فكرته في النظم المعجز، يرى من الإعجاز أن تأتي بلاغات القرآن جامعة لطبقات ثلاث متفاوتة من حيث المستوى بعد استبعاد الهجين المذموم. قال:
"والعلة فيه - يعني إعجاز القرآن من جهة البلاغة - أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية: فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود، دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة:
"فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه. والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه، فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة" 26
والعبارة موهمة، قد يُفهم منها أن في القرآن ما هو من الدرجة العليا في البلاغة وفيه ما هو من أوسطها وأدناها. وذلك مردود عندنا من ناحيتين:
أولاهما: أن فهمنا للإعجاز البياني، فوت لأعلى درجات البلاغة دون أوسطها وأدناها.
والأخرى، أن هذه الدرجات الثلاث لا تجتمع، بالضرورة، في السورة الواحدة، وبسورة واحدة كان التحدي والمعاجزة.
وسبق "الخطابي" أيضاً إلى لمح فروق دقيقة في الدلالة، لألفاظ قرآنية جرت معاجمنا وكتب المفسرين على القول بترادفها مع "ألفاظ أخرى في معناها" مثل: العلم والمعرف، الحمد والشكر، العتق وفك الرقبة، (29: 33) . . .
وهذا أيضاً مما نتزود به لطريقنا إلى فهم الإعجاز البياني، على ما سوف نوضحه في:"الترادف وسر الكلمة".
وتجرد الخطابي لدفع شبهات من جادلوا في بلاغة عبارات قرآنية قالوا إنها جاءت على غير المسموع من فصيح كلام العرب. وفي ردَّ الخطابي عليهم ملاحظُ دقيقة، غير أنا نختلف معه، من حيث المبدأ، في قبول عرض العبارات القرآنية على ما نقل عصر التدوين من فصيح كلام العرب. والأصل أن يعرض هذا الذي نقلوه على القرآن، إذ هو الفصحى والنص الموثق الذي لم يصل إلينا من أصيل العربية بنص آخر صح له مثل ما صح للقرآن من توثيق يحميه من شوائب الرواية النقلية، وما لألفاظه من حرمة لا تجيز رواية بالمعنى، فضلاً عما في الشواهد الشعرية من ضرورات لا مجال لمثلها في الشواهد القرآنية.
وتفرغ الخطابي في النصف الأخير من رسالته، لنقض ما سموه "معارضات للقرآن" من مدّعي النبوة، فبسط القول في معنى المعارضة وشروطها ورسومها، وضرب الأمثلة من معارضات امرئ القيس وعلقمة في وصف الفرس، وامرئ القيس والحارث بن التوءم اليشكرى في إجازة أبيات، كما ضرب أمثلة من تنازع الشاعرين معنى واحداً، كأبيات في وصف الليل لامرئ القيس والنابغة الذبيانى، وفي وصف الخمر للأعشى والأخطل، وفي صفة الخيل لأبي دؤاد الإيادي والنابغة الجعدي. وقابل هذا كله إسفاف مسيلمة الكذاب وسُخف من تكلم في الفيل مبيناً سقم كلامهم وعدم استيفائه شروط المعارضة ورسومها. . .
ولهذا الفصل من رسالة الخطابي قيمته في المباحث البلاغية والنقدية المبكرة. ونرى مع ذلك أن أبا سليمان كان في غنى عن الاشتغال بهذيان من ادّعوا النبوة بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وجاءوا بسخافات هابطة سقيمة يعارضون بها القرآن فيما زعموا. وهي عندنا أهون من أن توضع في الميزان أو يشار إليها في مجال الاحتجاج لإعجاز القرآن من جهة البلاغة. ومجرد ذكرها في هذا المقام الجليل، ولو للكشف عن سقمها وإسفافها، يرفع شأنها ويعطيها من القيمة ما لا تستحق. . .
* * *
وبلاغة القرآن هي موضوع "علي بن عيسى الرماني" - من القرن الرابع أيضاً - في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) : مهد لها بسرد مذاهب القوم في وجوه سبعة للإعجاز، ثم تفرغ للنظر في إعجازه من جهة البلاغة.
والبلاغة عنده على ثلاث طبقات، عليا ووسطى ودنيا "فما كان أعلاها طبقة فهو معجز، وهو بلاغة القرآن. وما كان دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس" 75
خلافاً لما ذهب إليه أبو سليمان الخطابي من أن بلاغة القرآن تحوز هذه البلاغات في طبقاتها الثلاث.
وليست البلاغة عند الرماني: "في إفهام المعنى، لأنه قد يُفهِمُ المعنى متكلمان أحدهما بليغ والآخر عَيِىّ، ولا البلاغة أيضاً بتحقيق اللفظ على المعنى، لأنه قد يحقق اللفظ على المعنى وهو غث مستكره ونافر متكلف. وإنما البلاغة إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ: فأعلاها طبقة في الحُسن بلاغة القرآن وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة" 76
ثم كان منهجه في بيان إعجاز القرآن من جهة البلاغة، أن جعل البلاغة عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.
وعقد لكل باب منها فصلاً يبدأ بتعريف الباب، ثم يقدم شواهد قرآنية منه، ففي باب الإيجاز مثلاًَ، يبدأ فيعرفه بأنه "تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى. وهو على وجهين: إيجاز حذف، وإيجاز قِصَر. فالحذف إسقاط كلمة للاجتراء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام. والقصر بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف"
ثم يقدم من شواهد الحذف:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} {لَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ}
"ومنه حذف الأجوبة وهو أبلغ من الذكر. وما جاء منه في القرآن كثير كقوله جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} كأنه قيل: لكان هذا القرآن. ومنه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير.
"وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب، ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان.
"وأما الإيجاز بالقصر دون الحذف فهو أغمض من الحذف وإن كان الحذف غامضاً، للحاجة إلى العلم بالمواضع التي يصلح فيها من المواضع التي لا يصلح. فمن ذلك:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ}
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ}
{إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}
واستطرد الرماني إلى بيان وجه الإعجاز بإيجاز القصر في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عن طريق المقارنة بينها وبين ما استحسنه الناس من الإيجاز في قولهم: "القتل أنفى للقتل" فذكر أن التفاوت بينهما يظهر من أربعة أوجه:
- أن العبارة القرآنية أكثر فائدة، ففيها كل ما في قولهم: القتل أنفى للقتل، مع زيادة معان حسنة، منها إبانة العدل لذكره القصاص، وإبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، والاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله.
- الإيجاز في العبارة، فعدد حروف "القتل أنفى للقتل" أربعة عشر حرفاً
وقوله تعالى {الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عشرة أحرف.
- البعد عن التكليف بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة. ففي قوله: "القتل أنفى للقتل" تكريرٌ غيرهُ أبلغُ منه. ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصَّر في البلاغة عن أعلى طبقة.
- العبارة القرآنية أحسن تأليفاً بالحروف المتلائمة، يُدْرَك بالحس ويوجد في اللفظ. فإن الخروج من الفاء إلى اللم - في القصاص - أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة - في: القتل أنفى - لبعد الهمزة من اللام. وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء، أعدل من الخروج من الألف إلى اللام.
"فباجتماع الأمور التي ذكرناها صار (الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) أبلغ من (القتل أنفى للقتل) وإن كان بليغاً حسناً"
واستأنف الرماني القول في الإيجاز، فأوضح الفرق بينه وبين التقصير، وذكر أوجه الإيجاز ومسالكه ومراتبه، من حيث كانت المعرفة بها "سبيلاً إلى معرفة فضيلة ما جاء في القرآن منه على سائر الكلام، وعلوه على غيره من أنواع البيان" وختم الباب بقوله:
"الإيجاز تهذيب الكلام بما يحسن به البيان. والإيجاز تصفية الألفاظ من الكدر وتخليصها من الدرن. والإيجاز البيانُ عن المعنى بأقل ما يمكن من الألفاظ. والإيجاز إظهار المعنى الكثير باللفظ اليسير"80.
* * *
وعلى هذا النهج سار "الرماني" في الأبواب الأخرى التسعة، للبلاغة عنده. وقد تمهلت في الوقوف عنده دون ضجر بنقل ما نقلتُ منه، لأني أقدر أن الرماني قدم في (النكت) محاولة جليلة من المحاولات الرائدة في التصنيف البلاغي وتنسيق أبواب ومصطلحات فيه. كما أردت أن ألفت إلى كونه لم يخرج عن موضوع الإعجاز فيما عرض له من أبواب البلاغة، بل كان همه أن يقدم لكل باب شواهده القرآنية، وان يلمح بذوق مرهف ما فيها من نكت بلاغية.
وهذا ما نفتقده في أكثر الكتب التي تناولت إعجاز القرآن من جهة البلاغة، بعد
الرماني. فنرى الباقلانى مثلاً يُخرج في كتابه عن الدراسة القرآنية إلى دراسات للشعر، ونرى عبد القاهر يستكثر في (الدلائل) من الاستشهاد بالشعر. وقلما يأتي بشواهد قرآنية تجلو الملحظ البلاغي. وهذا هو ما غلب على جمهرة المصنفين من البلاغيين فيما عدا قلة منهم جعلت للشواهد القرآنية المكان الأول في مباحثها البلاغية، كابن أبي الأصبع المصري - في القرن السابع - الذي سار في (بديع القرآن) على نهج الرماني، في تقديم الشاهد القرآني.
ونرجئ التعرض لرأي الرماني في بلاغة اللفظ والمعنى إلى حيث يتسع المجال لمثل هذا في "مذهب النظم للجرجاني"
ونتابع خطوات السلف على الطريق، انطلاقاً من هذه الخطوة الرائدة التي وصل إليها جهد الرماني في دراسته البلاغية للقرآن، وقد بدا واضح الفكرة والمنهج، لم تختلط عنده بالجدل الكلامي، ولا شُغل عنها بالنظر في هذيانِ مُدَّعِى معارضة القرآن.
* * *
وفصاحة القرآن كانت مناط النظر، في الجزء الخاص بإعجاز القرآن، من (كتاب المغني) للقاضي المعتزلى عبد الجبار.
لم يتناوله تناول البلاغيين، كزميلة الرماني، وإنما كان همّه الاستدلال لإعجاز القرآن، من جهة فصاحته التي انفرد بها، وصحة التحدي به. فاقتضى هذا بطبيعة الحال، أن ينظر في مفهوم الفصاحة وإعجازها، فكان أن عرض لقضية النظم، مقصوداً به النمط الخاص من صياغة الكلام، وبيَّن وجهة نظر المعتزلة فيها. والملحظ الدقيق في النظم عنده. بمعنى النسق والطريقة، أنه لا يكفي عدم السبق إلى مثله، ليكون وجهاً لإعجاز. وإلا كان يجب القول بإعجاز من يبتدع طريقة ركيكة من النظم، لم يُسبق إليها "وقد علمنا أنه لابد من أن يُعتبر مع النظم المبتدع، رتبتُه في الفصاحة".
ومن ثم ينبغي أن يتبين المقصود بالنظم: إن أريد به مجرد السبق إلى طريقة
مبتدعة، فبعيد "وإن أراد من قال:"إن وجه إعجاز القرآن النظم المخصوص" هذا المعنى، وهو أنه تعالى خصه بالقرآن على نظام لم تجر العادة بمثله، مع اختصاصه برتبة في الفصاحة - معجزة - فهو الذي بينَّاه. لأن خروجه عن العادة في الفصاحة، يوجب كونه معجزاً، بإنفراد واختصاصه بنظم، من دون هذا الوجه لا يوجب كونه معجزاً. وإنما يُقوى ويؤكد كونَه معجزاً فإن سلَّم هذا المخالفُ بما ذكرناه، فهو الذي نصرناه.
"فإن قال: إنه يكون معجزاً للنظم فقط، ولكونه على هذه الطريقة المباينة لمنظوم كلامهم ومنثورة، وإن لم يختص برتبة الفصاحة، فالذي قدمناه يبطله. ومتى اعتُبر في كونه معجزاً كلا الأمرين: فإن أراد أنه بمجموعهما يتم ذلك، فقد بينا أنه قد يتم بأن يَبيِن من كلامهم برتبة عظيمة في الفصاحة. وإن أراد أنه يؤكد ذلك فهو صحيح، وهذا هو الأقرب. لأنهم لا يريدون النظام دون رتبة الفصاحة، وإنما يريدون بذلك أنه تعالى جاء بالقرآن على أوكد الوجوه في نقض العادة والمباينة، وأوكدها أن يكون نظاماً مبايناً لما تعارفوه، مع رتبته العظيمة في الفصاحة، وهذا بيَّن".
ولم ير "القاضي عبد الجبار" أن إبدال لفظة بأخرى موضع تعلق، "وذلك لأن هذه الطريقة تقارب الحكاية، فكما أن حكاية الكلام لا تدل على معرفة، فكذلك وضع لفظة بدل أخرى ووزنهما واحد، لا يدل على المعرفة. وإن كان من يتمكن في هذا الباب، لابد من أن يكون له قدر من العلم بالألفاظ التي تتفق معانيها وأوزانها، حتى يمكنه أن يأتي بَدلَ واحدة منها ما يماثلها أو يقاربها، لكن هذا القدر من العلم لا يكفي في التصرف المخصوص الذي قدمنا ذكره، لأنه يحتاج في ذلك إلى قدر مخصوص من العلم زائد على ذلك، حتى يمكنه أن يورد هذا القدر من الفصاحة، وبذلك أبطلنا قول من يقول: إن المفحم يمكنه قول الشعر على هذه الطريق؛ لأن إبدال الكلمات لا يُعدَ تمكيناً من الشعر وإن كان الكلام شعراً. حتى إذا صح منه أن يبتدئ ذلك ويتصرف فيه، عُدَّ ذلك منه شعراً".
وعقد القاضي فصلاً (في اختصاص القرآن بمزية في رتبة الفصاحة خارجة عن العادة) فلم يتناول الموضوع تناول البلاغيين بل مضى على طريقته في الاستدلال لإعجاز القرآن بعلو مرتبته في الفصاحة إلى حيث بايَنَ الفصيح من كلام العرب، وأعياهم أن يأتوا بمثله، قال: بينا أن العرب كانت عارفة بما يباين المعتاد من الفصيح، للتجربة والعادة. فلم تكن عند سماع القرآن والوقوف على مزيته محتاجة إلى تجربة مجددة، وعلمت خروجَه عن العادة. ومَن قصَّر حاُله عن حالهم فكَمِثْل، لأنه إذا عرف بالتجربة تعذر مثل كلامهم عليه، فبأن يتعذر عليه أوْلى. وإن كان لا يمتنع أن يكون في العرب من ظن في الوقت أن مثل القرآن يواتيه إن رامه، ثم تبين تعذره. وإن كان ذلك - الظن - يبعد من أهل التقدم في الفصاحة، كما يبعد ممن جرب مقادير ما يمكنه أن يفعله، أن تلتبس عليه حال الأمور العظيمة. وقد أورد بعضُ شيوخنا عند جحد بعض اليهود أن للقرآن مزية، بعض ما ذكرناه من حال العرب. ثم تلا عليه قوله تعالى:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وبعضهم تلا قوله تعالى:
وإذا تأمل السامع لقوله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}
إلى آخر الآيات، علم أن كزيته على ما نسمع من الكلام الفصيح عظيمةٌ، وإنما يشتبه مثلُ ذلك على من لاحظَّ له" 16 / 134
ثم كان أكثر ما تجرد له القاضي عبد الجبار: الرد على مطاعن المخالفين في القرآن (337) وبطلان القول بأن للتنزيل في القرآن تأويلاً باطناً غير ظاهر، على ما يحكى الباطنية (363) وبطلان طعنهم في القرآن بأن فيه تناقضاً واختلافاً فيما يتصل باللفظ والمعنى والمذهب (387) وبيان فساد طعنهم من جهة التكرار والتطويل وما يتصل بذلك (397) .
وفي كل ذلك، كان يجادل على طريقة الكلاميين لا البلاغيين. وحسبنا على كل حال، أنه أكد نصره لوجه إعجاز القرآن بفصاحته، وأعطانا مفهوماً محرراً لمعنى النظم: لا يراد به مجردُ طريقة مبتدعة في صياغة الكلام تُباين ما عرف العرب من منظوم ومنثور، وإنما انفرد معها برتبه في الفصاحة عرفها أهلُ التقدم منهم بمجرد سماعه، دون أن يظنوا أن مثل القرآن يُواتى من رامه. . .
* * *
وجاء "الباقلانى" في أواخر القرن الرابع، فقدم كتابه المشهور في (إعجاز القرآن) ، وليس دراسة قرآنية خالصة للإعجاز كما يُفهم من عنوانه وكما تَعدِ مقدمتُه، بل هي أقرب إلى الجدل الكلامي والمذهبي، والنقد الأدبي لنصوص طوال، من الشعر والنثر.
ففي الفصول الأولى، يتصدى الباقلانى لتخطئة أقوال في الإعجاز، رفضها الأشاعرة وهو منهم، ولإبطال زعم من زعموا أن علم وحدانية الله لا يمكن بالقرآن، والرد على زعم المجوس أن بعض كتبهم معجز. . .
وهو في هذا كله يورد شبهات الخصوم دون ذكر أسمائهم، ويشتد في تجريحهم والطعن عليهم والزراية بهم.
بعد ذلك ينقل عن الأشاعرة ثلاثة أوجه في الإعجاز، فلا يطيل الوقوف عند الأول والثاني منها - الإخبار عن غيب المستقبل، وعن الماضي منذ خلق الله آدم - بل يمر بهما سريعاً كي يخلص للوجه الثالث وهو "بديع نظم القرآن وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة" فتحسبه قد تجرد للدرس البلاغي لبديع نظم القرآن، لكنه لا يلبث أن يستطرد بين حين وآخر إلى جدل كلامي مُجهِد.
بل إنه فيكا يختص بالفصول البلاغية التي عقدها، لا يفرغ للنظر في أسرار البيان القرآني، وإنما يعمد إلى نقل قصائد وخطب طوال من مختار الشعر والنثر، ويتعجل النقد لما ينقده منها "لكيلا يتوهم متوهم أن جنس الشعر معارض لنظم القرآن، فتخطفه الطير أو تَهوِى به الريح في مكان سحيق".
وقد يكتفي بإيراد النصوص الشعرية والنثرية المختارة، ويعقب عليها بأن هبوطها عن مستوى النظم القرآني لا يخفى على ذي بصر وبصيرة.
نقل نصوصَ سبع خطب للرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابيه إلى كسرى والنجاشي، وعهد صلح الحديبية، ليقول بعدها:"إن من كان له حظ في الصنعة وقسط من العربية، لا يشتبه عليه الفرق وكلام النبي" عليه الصلاة والسلام.
ونقل بعدها خطبة لأبي بكر الصديق، وعهده إلى عمر، وكتابين من أبي عبيدة ابن الجراح ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب ورده عليهما، وعهده إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وخطبةً لعثمان بن عفان، وكتابه إلى علي بن أبي طالب، ورثاء عليَّ لأبي بكر، وخطبتين من خطب الإمام علي، وكتابه إلى عبد الله بن عباس، وخطباً لابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً - وعمر بن عبد العزيز، والحجاج بن يوسف، وقس بن ساعدة، وخطبة أبي طالب فر زواج محمد صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها (169: 234)
وعقب على هذا الحشد الكاثر - الذي ملأ به سبعين صفحة - بعبارة توجز القول بأن "من تأمل الخطب المتقدمة ونحوها، سيقع له الفصلُ بين كلام الآدميين وكلام رب العالمين".
وملأ ثلاث صفحات من كلام مسيلمة الكذاب وسجاح التميمية، ليقول:"ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام"(238: 240)
وتتبع القصائد المشهورة لكبار الشعراء، ينقلها وينقدها بيتاً بيتاً، حتى لتستغرق القصيدة الواحدة بضع عشرات من الصفحات، كمعلقة امرئ القيس (243: 277) وقد انتهى منها إلى القول:
"فأما نهج القرآن ونظمه، وتأليفه ورصفه، فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل حذا ما تستدل به على الغرض وتستولي على الأمد وتصل به إلى المقصد، وتتصور إعجازه كما تتصور
الشمس وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن العجز. . . وأعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب، ليس له عشيرة تحميه، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه، وهو أدق من السحر وأهول من البحر وأعجب من الشعر.
"ولو لم يكن من عظم شأنه إلا أنه طبق الأرض أنواره وجلل الآفاق ضياؤه ونفذ في العالم حُكمُه وقُبِل في الدنيا رسمه، وطَمسَ ظَلام الكفر بعد أن كان مضروب الرواق ممدود الأطناب مبسوط الباع مرفوع العماد. . .
فكان كما وصفه الله تعالى جل ذكره من أنه نور فقال:
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية
"فأنظر إن شئت إلى شريف هذا النظم وبديع هذا التأليف وعظيم هذا الرصف، كلُّ كلمة من هذه الآية تامة، وكلُّ لفظ بديع واقع" 284
وتتوقع بعد هذا أن يفرغ الباقلانى لما "تستدل به على الغرض وتستولى على الأمد وتتصور إعجاز النظم القرآني كما تتصور الشمس".
فإذا به يستأنف نقل النصوص الطوال من شعر البحتري وأبي نواس وابن الرومي وأبي تمام وابن المعتز وأبي فراس، ومختارات من نثر الجاحظ وابن العميد. . .
ليقول إن هذا كله مما يمكن أن يوازي بغيره أو يعارض، احتجاجاً لما ذكره قبل هذه الصفحات المئات، من أن نظم القرآن:
"ليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدي به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً كما يتفق للشاعر البيت النادر والكلمة الشاردة والمعنى الفذ الغريب والشيء القليل العجيب. وكما يلحق من كلامه بالوحشيات ويضاف من قوله إلى الأوابد. لأن ما جرى هذا المجرى ووقع هذا الموقع فإنما يتفق للشاعر في لُمَعٍ من شعره وللكاتب في قليل من رسائله وللخطيب في يسير من خطبه. ولو كان كل شعره نادراً ومثلاً
سائراً ومعنى بديعاً ولفظاً رشيقاً، وكل كلامه مملوءاً من رونقه ومائه، ومحلى ببهجته وحسن روائه، ولم يقع فيه المتوسط بين الكلامين والمتردد بين الطرفين، ولا البارد المستثقل والغث المستنكر، لم يبن الإعجاز في الكلام ولم يظهر بَيَّنُ التفاوتِ العجيب بين النظام والنظام" 164
ومن أشق الأمور على دارس ينظر في كتاب الباقلانى، أن يستخلص له من بين ذلك الحشد الكاثر من الجدل الخطابي والنصوص الطوال من الشعر والنثر، فكرةَ ّواضحة في الإعجاز البلاغي لنظم القرآن. فقد عقد بعد هذا كله فصلاً "في وصف وجوه من البلاغة" بدأه بقوله:
"ذكر بعض أهل الأدب والكلام أن البلاغة على عشرة أقسام" ثم نقل هذه الأقسام العشرة عن "الرماني" - لم يصرح باسمه -، فملأ بها ثلاثين صفحة (396: 426) ثم تعقبها بالنقد الذي لا يستبين منه مذهبٌ واضح في الإعجاز البلاغي في بديع نظم القرآن.
وفيما تناوله من أنواع هذا البديع، بمعنى البلاغة، لم يلتزم منهج الرماني في الاستشهاد بالقرآن، بل قدم مع الشواهد القرآنية شواهد من الشعر والنثر. وربما بدأ بتقديم هذا الشواهد من كلام البشر، ثم عقب عليها بقوله:"ونظير ذلك في القرآن. . . " أو: "ومثله في القرآن. . . "
وهذا التنظير والمماثلة، مما ينبو عنه حِسَّ من يدرك أن الإعجاز البياني لا يحتمل وجودَ المثل والنظير. . .
وأقدم هنا مثلاً من نظر "الباقلانى" في الإعجاز البلاغي، وأسلوبه في التنظير:"ويعدون من البديع، الموازنة، وذلك كقول بعضهم: "أصبر على حر اللقاء ومضض النزال وشدة المِصاع" - أي المجالدة بالسيف - وكقول امرئ القيس:
سليم الشظا عبل الشوى شنج النَّسَا. . . له حجبات مشرفات على الفال
"ونظيره من القرآن:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
"ومن البديع صحةُ التقسيم، ومن ذلك قول نصيب. . . وقول الآخر. . . وقول المقنع الكندي. . . وكقول عروة بن حِزام. . .
"ونحوه قول الله عز وجل:
"ومن البديع التكميلُ والتتميم، كقول القائل:
"وما عسيت أن أشكرك على مواعيد لم تُشَنْ بمكل، ومرافدَ لم تُشَب بمنَّ، وبِشْرٍ لم يمازجه مَلَقٌ، ولم يخالطه مذق. . .
وكقول نافع بن خليفة:
رجال إذا لم يقبلوا الحق منهمُ. . . ويعطوه، عادوا بالسيوف القواطع
وذلك كقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . .} الآية.
"ومن البديع الترصيعُ، وذلك على ألوان. . .
منها قول امرئ القيس:
مخش مجش مقبل مدبر معاً. . . كتيس ظباءِ الحُلَّبِ العدوان
ومن ذلك كثير من مقدمات أبي نواس:
يا مِنَّةً امتنَّها السُّكْرُ. . . ما ينقضى منى لها الشكر"
ثم لم يقدم على الترصيع شاهداً من القرآن. . .
كما لم يقدم أي شاهد قرآني لعددٍ من أنواع البديع اكتفى لها بشواهد من
الشعر والنثر: كالمساواة، والمبالغة، وصحة التفسير، والتكافؤ، والكناية والتعريض، والاعتراض، والرجوع، والاستثناء. . .
* * *
وتحاول أن تلتمس في تناول الباقلانى لفنون البديع، ملحظاً له في أسرار الإعجاز، أو نكتة بلاغية فيما يقدم من شواهد قرآنية، فيلقاك بمثل قوله:
"فكر في هذه الكلمات، من القرآن، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره، وكالياقوت يتلألأ بين شذوره ص 293.
"وما رأيك في قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ}
هذه تشتمل على كلمات، سناؤها وضياؤها على ما ترى، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد، ورونقها على ما تعاين، وفصاحتها على ما تعرف. . .
"أنظر إلى هذه الكلمات الأربع التي ألف بينها، واحتج بها على ظهور قدرته ونفاذ أمره، أليس كل كلمة منها في نفسها غُرَّة وبمفردها دُرَّة؟ وهو مع ذلك يصدر عن علو الأمر ونفاذ القهر، ويتجلى في بهجة المقدرة، ويتحلى بخالصة العزة، ويجمع السلاسة إلى الرصانة، والسلامة إلى المتانة، والرونق الصافي، والبهاء الضافي. - 286
"ثم أنظر في آية أية، وكلمة كلمة، هل تجدها كما وصفنا من عجيب لنظم وبديع الرصف؟ فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غايةً وفي الدلالة آية، فكيف إذا قارنتْها أخواتُها وضامَّتْها ذواتها، مما تجرى في الحسن مجراها وتأخذ في معناها؟ - 289.
"فلعلك ترجع إلى عقلك وتستر ما عندك إن غلطت في أمرك أو ذهبت في مذاهب وهمك أو سلطت على نفسك وجهَ ظنك. متى نهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة فيجعلها مؤتلفة من غير أن يبين على كلامه إعياءُ الخروج والتنقل، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل؟
"هيهات هيهات! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة.." _ 290
"ومنَ المؤتلف قوله تعالى:
"وهذه ثلاث كلمات، كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر - 296
"أي خاطر يتشوف إلى أن يقول:
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. . .} الآية؟
"وأي لفظ يدرك هذا المضمار، وأي حكيم يهتدي إلى ما لهذا من النور، وأي فصيح يهتدي إلى هذا النظم؟ - 303.
"ثم تأمل قوله:
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ. . .}
"كل كلمة من ذلك على ما قد وصفتها، من أنه إذا رآها الإنسان في رسالة، كانت عينَها، أو في خطبةٍ كانت وجهها، أو قصيدة كانت غرة غرتها وبيت قصيدتها، كالياقوتة التي تكون فريدة العقد وعين القلادة ودرة الشذر، إذا وقع بين كلام وشَّحه، وإذا ضُمن في نظام زيَّنه، وإذا اعترض في خطاب تميز عنه وبان بحسنه منه - 304.
"أرفع طرف قلبك وأنظر بعين عقلك وراجع جلية بصيرتك، إذا تفكرت في كلمة كلمة مما نقلناه إليك وعرضناه عليك، ثم فيما ينتظم من الكلمات إلى أن يتكامل فصلاًََ وقصة، أو يتم حديثاً وسورة؛
"لا، بل فكر في جميع القرآن على هذا الترتيب، وتدبره على نحو هذا التنزيل، فلم ندَّع ما ادعيناه لبعضه، ولم نصف ما وصفناه إلا في كلمة، وإن كانت الدلالة في البعض أبين وأظهر، والآية أكشف وأبهر؛
"وإذا تأملت على ما هديناك إليه ووقفناك عليه، فانظر هل تجد وقع هذا النور في قلبك واشتماله على لبَّك وسريانَه في حسك ونفوذه في عروقك، وامتلاءك به إيقاناً وإحاطة، واهتداءك به إيماناً وبصيرة؟ أم هل تجد الرعب يأخذ منك مأخذه من وجه، والهزة تعمل في جوانبك من لون، والأريحية تستولى عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزك للِطيفِ ما فطنتَ له، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزة، وفي أعطافك ارتياحاً وهزة، وترى لك في الفضل تقدماً وتبريزاً وفي اليقين سبقاً وتحقيقاً، وترى بالعين التي يجب أن تلحظ بها، ومراتبهم بحيث أن ترتبها؟
"هذا كله في تأمل الكلام ونظامه وعجيب معانيه وأحكامه. فإن جئت إلى ما نبسط في العالم من بركته وأنواره، وتمكن في الآفاق من يمينه وأضوائه، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه.. فهل يدلك هذا على عظيم شأنه وراجح ميزانه وعالي مكانه؟ - 308
"ونظم القرآن في مؤتلفة ومختلفة، وفي فصله ووصله، وافتتاحه واختتامه، وفي كل نهج يسلكه وطريق يأخذ فيه وباب يتهجم عليه ووجه يؤمه، على ما وصفه الله تعالى به لا يتفاوت:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}
"وغيره من الكلام كثير التلون دائم التغير، يقف بك على بديع مستحين ويعقبه بقبيح مستهجن، ويطلع عليك بوجه الحسناء ثم يعرض للهُجْرِ بخَدَّ القبيحة الشوهاء، ويأتيك باللفظة المستنكرة بين الكلمات التي هي كاللآلي الزهر، وقد يأتيك باللفظة الحسنة بين الكلمات البهم، وقد يقع إليك منه الكلام المثبج، والنظم المشوش والحديث المشوه - 314.
"وعلى هذا فقِسْ بحثك عن شرف الكلام وماله من علو الشأن، لا يطلب مطلباً إلا انفتح، ولا يسلك قلباً إلا انشرح، ولا يذهب مذهباً إلا استنار وأضاء، ولا يضرب مضرباً إلا بلغ فيه السماء. لا تقع منه على فائدة فقدرت أنها أقصى
فوائدها إلا قصّرت، ولا تظفر بحكمة فظننت أنها زُبدة حِكَمِها إلا وقد أخللتَ" - 322
* * *
إلى أين وصل الباقلانى في بيان إعجاز القرآن من جهة البلاغة، بعد طول الجهد وعناء النقل للمطولات من القصائد والخطب والتصدي لنقدها؟
أوثر هنا أيضاً أن أترك له تلخيص جهده فيه واستخلاص ثمرته، وإيضاح الشوط الذي قطعه على الطريق لفهم الإعجاز البلاغي، حيث يقول:
"فالقرآن أعلى منازل البيان، وأعلى مراتبه ما جمع وجوه الحسن وأسبابه، وطرقه وأبوابه: من تعديل النظم وسلامته وحسنه وبهجته، وحسن موقعه في السمع وسهولته على اللسان، ووقوعه في النفس موقع القبول وتصوره تصور المشاهدَ، وتشكله على جهته حتى يحل نحل البرهان ودلالة التأليف، مما لا ينحصر حسناً وبهجة وسناء ورفعة.
"وإذا علا الكلام في نفسه كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذُهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويُضحك ويبكي، ويحزن ويُفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب، ويهز الأعطاف ويستميل نحوه الأسماع، ويورث الأريحية والعزة، وقد يبعث على بذل المهج والأموال شجاعة وجوداً، ويرمي السامع من وراء رأيه مرمى بعيداً. وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة.
"وبِحَسَبِ ما يترتب في نظمه ويتنزل في موقعه، ويجرى على سمت مطلعه ومقطعه، يكون عجيبُ تأثيراته وبديع مقتضياته. وكذلك على حسب مصادره يُتصور وجوه موارده. وقد ينبئ الكلام عن محل صاحبه، ويدل على مكان متكلمه وينبه على عظيم شأن أهله وعلى علو محله" - 419
ثم يقول خاتمة لكتابه في إعجاز القرآن:
"وقد بيَّنا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف. ثم الفواتح والخواتم، والمبادئ والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل.
"ثم الكلام في نظم السور والآيات، ثم في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل.
"ثم الكلام الموشح والمرصع،. . . والمجنسَّ والموشع، والمحلى والمكلل، والمطوق والمتوج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه، في منظر بهيج ونظم أنيق ومعرض رشيق، غير معتاص على الأسماع ولا مُتَلَوَّ على الأفهام. . . ممتلئ ماء ونضارة، ولطفاً وغضارة. يسرى في القلوب كما يَسرى السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر. طموح العباب جموح على المتناول المنتاب. كالروح في البدن، والنور المستطير في الأفق، والغيث الشامل والضياء الباهر:
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
"من توهم أن الشعر يلحظ شأوه بان ضلاله ووضح جهله، إذ الشعر سَمت قد تناولته الألسن وتداولته القلوب وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلاً وأقرب مأخذاً وأسها مطلباً..
"أنظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر فيما دللناك عليه، فالحق منهج واضح والدين ميزان راجح، والجهل لا يزيد الأعَمى، ولا يورث إلا ندماً.." - 461
* * *
وما استكثرتُ من نقل آراء الباقلانى في بلاغة القرآن بنص عبارته، إلا حرصاً مني على أن يأخذ بها موضعه من قضية الإعجاز البلاغي. لا أظلمه. . .
ومضى الباقلانى بعد أن ترك للبلاغين ممن تكلموا في الإعجاز بعده، هذا الرصيد الضخم من ألفاظه البديعة وعباراته الفخمة، في النصاعة والبراعة والفخامة والسلاسة، والنضارة والغضارة، والرونق والماء، والحسن والبهاء والبهجة والسناء، والنور والضياء، والدر والياقوت، وفريدة العقد وعين القلادة ودرة الشذر، والبحر الزاخر والنجوم الزاهرة، والكبريت والأحمر. . .
وترك لمدرسة السكاكي، طريقته في التناول البلاغي: تقدم مع الشواهد من قول البشر شاهداً من القرآن، دون تفرقة أو تمييز، بل على القول بالمثل والنظير. . .
* * *
والجرجاني - من القرن الخامس الهجري - يعرض في رسالته (الشافية) لقضية الإعجاز في جدل المتكلمين خصومه المذهبيين، متعقباً شبهات من صرفوا الإعجاز عن وجهة البلاغي، وبخاصة من قالوا فيه بالصرفة.
وإذ كانت البلاغة عنده ليست إلا النظم، يقرر أن العرب إنما عجزوا عن الإتثيان بمثله في النظم - 117
"وإن التحدي كان أن يجيئوا في أي معنى شاءوا بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه" - 141.
ويذهب الجرجاني إلى استحالة أن يكون التحدي بالكلم المفردة أو بمعانيها التي هي لها بوضع اللغة. فذلك متاح لأهل اللغة. كما يُبطل أن يكون النظم: "الإتيان بكلام في زنة كلمات القرآن بمقاطعة ومفاصله، على نحو ما يأتي الشاعر بقصيدة يعارض بها أخرى في وزنها وعلة رَوِيَّها" - 198
"وإذ امتنع ذلك لم يبق إلا أن يكون الإعجاز في النظم والتأليف، لأنه ليس من بعد ما أبطلنا أن يكون فيه، إلا النظم" - 201.
ويحدد معنى النظم والتأليف، بأنه "ليس شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأنَّا إن بقينا الدهلا نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة مسلكاً
ينظمها وجامعاً يجمع شملها ويؤلفها ويجعل بعضها بسبب من بعض، غيرَ توخي معاني النحو وأحكامه فيها، طلبنا ما كلُّ محالٍ دونه" - 201.
وهو يتجه بمعاني النحو إلى مواضعها في نسق الكلام ونظم الأسلوب، لا إلى الصنعة الإعرابية التي تُجَرى بمعزل عن المعنى.
* * *
ويمتنع عند عبد القاهر، أن يَفهم هذا الإعجاز البلاغي في النظم، مَن لم يؤت الآلة التي بها يفهم وهي العلم بالبلاغة والفصاحة. وكتابه (دلائل الإعجاز) يُفَصَّل القول في هذا العلم الشريف بما يتفاضل به الكلام في نظمه. أي أن الدلائل مقدمة لفهم الإعجاز ووسيلة إليه. ومعقد البلاغة عنده "أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته، ويُختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه وأتم له، وأحرى بأن يكسبه نبلا ويظهر فيه مزية. ولا تفاضل بين لفظتين في الدلالة حتى يكون إحداهما أدل على معناها من الأخرى.
"وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لاخواتها؟ وهل قالوا: لفظة متمكنة ومقبولة، وفي خلافة: قلقة ونابية ومستكرها، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم، وأن الأولى ام تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقاً للتالية في مؤادها؟
"فالألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وإنما تثبت لها الفضيلة وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ. ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينك تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر. . . " - 38
وقد تجرد في الفصول الأولى من كتابه (دلائل الإعجاز) للاحتجاج لمذهبه في أن
العبرة في الفصاحة والبلاغة ليست إلا بالنظم، دون الألفاظ التي هي مجرد خَدَمٍ للمعاني. ومن حيث رأى أن الإعجاز في نظم القرآن يُفهم بإدراك أسرار الفصاحة، فرغ في كتابه لمباحث بلاغية خالصة يجلو بها وجه الفصاحة. وفيما بين مبحث وآخر يقدم لمحات من البيان القرآني في سياق الاستشهاد أو التنظير.
والكتاب على هذا الوضع، من المصنفات البلاغية القيمة، ولعله من خير ما كُتبَ في قضية النظم، لكن اتصاله بالإعجاز غير مباشر، إذ ينظر في أساليب البلاغة العربية، وفي تقديره أنها الوسيلة إلى فهم الكتاب العربي المبين. قال يشرح وجه الإعجاز بالنظم: "إنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يَدَعوا معارضته وقد تُحدوا إليه وقرعوا فيه وطولبوا به. . .
"فخبرونا عنهم؟ عماذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول، أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه؟ فقلنا: أعجزتم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية ومقاطعها، ومجارى ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة، وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، مع كل حجة برهانٌُ وصفة وتبيان، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشراً عشراً وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة تُنكر شأنها أو يُرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتفاقاً وإحكاماً، لم يَدَع في نفس بليغ منهم ولو حَكَّ بيافوخه السماء، موضعَ طمع. حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول. . . " - 32
ثم لم يمض الجرجاني في الاحتجاج لهذا الوجه من الإعجاز تدبراً لأسرار النظم القرآني المعجز، بل قدر أن الدراية بذلك "لا تتأتى عن طريق حفظ متن الدليل
وظاهر لفظه. . . وإنما يستقصى الدارس النظَر في أبواب البلاغة باباً باباً، حتى يعرف بها الشاهد والدليل، فلا يكون كمن قيل فيه:
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها. . . فلو قيل هاتوا حَقَّقوا، لم يحققوا"
وقطعاً لعذر المتهاون، يقدم الجرجاني مباحثه البلاغية "يهدي فيها إلى أمور في نظمها، لا غنى بالعاقل عن معرفتها، والوقوف عليها والإحاظة بها" - 33
وهو فيما يعرض له من أبواب البلاغة، لا يتحرى تناولها في النظم القرآني والاستئهاد لها منه، وإنما يصرف النظر عنه عمداًَ، مصرحاً بقوله:
"إن الجهة التي يقف منها - الباحث - والسبب الذي تُعرف به بلاغة النظم، استقراء كلام العرب وتتبع أشعارهم والنظر فيها" - 33
ومن ثم مضى في مباحثه البلاغية، فاستوفى القول في: تحقيق الفصاحة والبلاغة، وتوقف النظم على التركيب النحوي، ونظم الكلام ومكان النحو منه، والكناية والإستعارة، ومزايا النظم بحسب المعاني والأغراض، والتقديم والتأخير، والحذف والإثبات، والتعريف والتنكير، والقصر والاختصاص. . .
ملتمساً لكل فصل منهلا شواهده من بليغ الشعر والنثر، وقد يقدم بين حين وآخر شاهداً قرآنياً على سبيل التنظير.
ومحتجاً بهذا كله لشرف علم البيان الذي "لا ترى علماً هو أرسخ منه أصلاً وأبسق فرعاً وأحلى جنى وأعذب وِرْداً وأكرم نتاجاً وأنور سراجاً. والذي لولاه لم تر لساناً يحرك الوشى ويصوغ الحلى ويلفظ الدر وينفث السحر ويقرى الشهر ويريك بدائع من الزهر ويجنيك الحلو اليانع من الثمر، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها وتصويره إياها، ابقيت كامنة مستورة، ولما استبنتَ لها يدَ الدهر صورة، ولاستمر السرار بأهلَّتها واستولى الخفاء على جملتها، إلى فوائد لا يدركها الإحصاء، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء" - 4
* * *
وما نجادل فيما ذهب إليه "الجرجاني" من أن الدراية بأسرار للعربية، هي
السبيل إلى فهم إعجاز النظم القرآني، فغير مُتصور أن يكون لمن أعوزته الدراية بأسرار التعبير في لغةٍ ما، أن يقدر روائع نصوصها، فضلاً عن أن يميز وجه البلاغة فيها.
ثم إن الجرجاني في تقديره لبلغاء العرب، قد نجا مما تورط فيه "الباقلاني" حين تعقب مشهور القصائد والخطب لفحول لاشعر وأمراء البيان، بالتهوين والتحقير والزراية، فانساق بهذا، من حيث لا يدي، إلى أن العرب الفصحاء في عصر المبعث، ما سلموا بإعجاز القرآن إلا وهم هابطوا المستوى جاهلون بأسرار البيان. وقد نرى الوجه في الإعجاز، أن يكونوا قد بلغوا من علو المستوى في الفصاحة والبلاغة، ما يجعلهم قادرين على إدراك هذا الإعجاز.
لكنا نختلف مع الجرحاني، في أن تُلتمس أسرار البيان العربي في شعر الشعراء ونثر البلغاء، ولا تلتمس في النص الأعلى الذي لا يمكن أن يصحَّ لنا ذوق العربية بمعزل عنه.
وإذا كنا نأخذ على المتأخرين من علماء البلاغة، التماسهم ملاحظها وشواهدها من النماذج الشعرية والنثرية التي أرضت ذوقهم، وكان ينبغي أن يجتلوا بلاغة العربية في كتابها الأكبر،
فكيف يهون أن نتناول مباحث البلاغة بمعزل عن القرآن الكريم، في كتاب يقدم هذه المباحث مدخلاً لفهم النظم القرآني ودلائل إعجازه؟!
على أي حال، نرى الجرجاني في (دلائل الإعجاز) قدم ملاحظ دقيقة مما لمحه من أسرار البلاغة العربية، ولم يقدم دراسة قرآنية للإعجاز البلاغي، وهذه المباحث تأخذ مكانها في الدرس البلاغي، ولعلها تجلو براعة بلغاء العرب واقتدارهم على فن القول، لكن دون أن تتصل بإعجاز القرآن إلا على وجه التوطئة والوسيلة والتمهيد. . .
ويظل السؤال قائماً: ما وجه فوت النظم القرآني نظم البلغاء من العرب؟ وماذا بهرهم من أسرار بيانه فانقطعوا دون وأعياهم أن يأوا بسورة من مثله؟
ولعل إدراك الجرجاني لقوصر (دلائله) عن أن تتجاوز المدخل إلى الموضوع،
والدلائل إلى الأدلة، والوسيلة إلى الغرض، هو الذي جعله يختم مباحثه البلاغية في (دلائل الإعجاز) بفضل يحيل فيه إدراك البلاغة على مبهمات ومجردات مما سماه الذوق والإحساس الروحاني، والأمور الغامضة الخفية. والناس عنده مرضى حتى يلتمسوا الطب لديه.
وقد يجدي أن أنقل هنا هذا الفصل الختامي من (دلائل الإعجاز) يلخص مذهب الجرجاني ويوضح طريقته في التناول وأسلوبه في الجدل والاحتجاج:
"اعلم أنك لن ترى عجباً من الذي عليه الناس في أمر النظم. وذلك إنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن ههنا نظماً أحسن من نظم، ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم بذلك تسدر أعينُهم وتضل عنهم أفهامُهم. وسبب ذلك أنهم أوَّل شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ جون المعاني. فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضاً مزمناً وداء متمكناً.
"ثم إذا أنت قُدتَهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو، عرض لهم من بعدُ خاطر يدهشهم حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنهم يروننا ندعى المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يُتصور أن يتفاضل الناس في العلم به. ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء يُعم أن من شأن هذا، أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه. بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه، في موضع دون موضع وفي كلام دون كلام وفي الأقل دون الأكثر وفي الواحد دون الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولاً، ومن أين يُتصور أن يكون للشيء في كلام مزيةٌ عليه في كلام آخر، بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة؟ فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير حيلة في قوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} من أن له حسناً ومزية، وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهماً منا وتخيلاً.
"ولسنا نستطيع في مشف الشبهة في هذا عنهم، ما استطعناه في نفس النظم -
يعني حملهم على الإقرار بأن البلاغة ليست إلا النظم - لأنا ملكنا في ذلك أن نضظرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول. وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهين، ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت فيه الإمكان مع كل أحد مسعفاًَ والسعي منجحاً. لأن المزايا التي تحتاج أن تُعلمهم مكانها وتصور لهم شأنها، أمور خفية ومعان روحانية، أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها وتُحدِث له علماً بها، حتى يكون مهيَّئاً لإدراكها وتكون له طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوده والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، ومن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر، فرَّق بين موقع شيء منها وشيء، ومَن إذا أنشدته قول الشاعر:
لي منك ما للناس كلهم. . . نظرً وتسليم على الطرقِ
وقول البحتري:
وسأستقل لك الدموع صبابةً. . . ولو آن دجلة لي عليك دموعُ
وقوله رأت مَكِناتِ الشيب فابتسمت لها. . . وقال: نجوم لو طلعن بأسعدِ
وقول أبي نواس:
ركب تساقوا على الأكوار بينهم. . . كأس الكرى فانتشى المسقى والساقي
كأن أعناقهم والنومُ واضعها. . . على المناكب لم تعمد بأعناق
وقوله:
يا صاحبَّى عصيتُ مصطبحاً. . . وغدوت للذّّات مُطَّرحساً
فتزودا مني محادثة. . . حذرُ العصا لم يُبِق لي مرحاً
وقول إسماعيل بن يسار:
حتى إذا الصبح بدا ضوؤه. . . وغابت الجوزاء والمرزم
خرجتُ والوطءُ حفى كما. . . ينساب من مكمنه الأرقم
"إذا أنشدته هذه الأبيات - ولاحظْ أن الجرحاني على منهجه في الدلائل في الاستكشار من الشواهد الشعرية، لا القرآنية - أنِق لها وأخذته الأريحية عندها،
وعرف لطف موضع الحذف والتنكير في قوله * نظرٌ وتسليم على الطرق * وما في قول البحتري * لي عليك دموع * من شبه السحر،. . . وعرف كذلك شرف قوله * نجوم لو طلعن بأسعد * وعلو طبقته ودقة صنعته. . .
"والبلاء والداء العياء، أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى لإنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه، في شعر يقوله أو رسالة يكتبها، الموقعَ الحسن ثم لا يعلم أنه قد أحسن.
"فأما الجهل بمكان الإساءة، فلا تعدمه بمن له طبع إذا قدحته وَرَى، وقلبٌ إذا أريته رأى، فأما وصاحبك كم لا يرى ما تُريه ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رامٍ معه في غير مرمى، ومَعَنَّ نفسك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له، كذلك لا تُفهم هذا الشأن مَن لم يُؤت الآلة التي بها يُفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم ويصح منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم غَيَّة لاستحيا منه. فأما الذي يحس بالنقص من نفسه ويعلم إنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت معه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماع عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلف ما ليس بأهل له".
ويستطرد الجرجاني في بيان عقد (الدلائل) مع خصم معاند لا يملك من الذوق والروحانية والأريحية ما يدرك به فروق البلاغية في النظم، فيذكر أن العلوم التي لها أصول معروفة وقوانين مضبوطة، قد يخطئ فيها المخطئ ثم يعجب برأيه فلا تستطيع رده عن هواه وصرفَه عن الرأي الذي رآه إلا بعد الجهد والمشقة، إذا كان حصيفاً عاقلاً. وهذا الصنف من الناس العقلاء يعز ويقل.
"فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن - مزايا النظم يتفاضل بها الكلام - وأصُلك الذي تردهم إليه وتعول في محاجتهم عليه، استشهادُ القرائح وسبر النفوس وفَلْيُها، وما يعرض فيها من الأريحية عند ما تسمع؟
"وهو لا يضعون أنفسهم موضع مَن يرى الرأي ويفتي ويقضي، إلا وعندهم أنهم ممن صفَت قريحته وصح ذوقه وتمت أدانه. فإذا قلت لهم: إنكم قد أوتيتم من أنفسكم. ردوا عليك مثله وقالوا: لا، بل قرائحنا أصح ونظرنا أصدق وحِسُّنا أذكى، وإنما الآفة فيكم لأنكم خيَّلتم إلى أنفسكم أموراً لا حاصل لها، وأوهمكم
الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين فضلاً على الآخر، من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً.
"فتبقى في أيديهم حسيراً لا تملك إلا التعجب!
"فليس الكلام بمغن عنك لا القول بنافع ولا الحجة مسموعة، حتى تجد من فيه عون لك على نفسه، ومن إذا أبى عليك ذلك طبعُه فردَّه إليك وفتح سمعَه لك، ورفع الححجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت، فاستبدل بالنفار أنسا وأراك من بعد الإباء قبولاً. . .
"ولم يكن الأمر - في بلاغة النظم والمزايا التي يتفاضل بها - على هذه الجملة، إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقاً في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسَك وتكد فيخ فكرك وتجهد فيه كل جهدك، حتى إذا قتلته علماً وأحكمته فهماً، كنت بالذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة ويعرض فيه شك، كما قال أبّو نواس:
ألا لا أرى مثل امترائىَ في رسم. . . تغص به عيني ويلفظه وهمي
أتتْ صُوَرُ الأشياء بيني وبينه. . . فطني كَلَا ظنًّ، وعلمي كَلَا علم!
"وإنك لتنظر في البيت دهراً طويلاً وتفسره، ولا ترى أن فيه شيئاً لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفى لم تكن قد علمته. . . " 393: 403.
* * *
ومضى "الجرجاني" بعد أن أتم توجيه البلاغة لتكون علم الاستدلال للإعجاز، ونقل القضية نقلة حاسمة إلى ميدان الدرس البلاغي بمعزل عن القرآن نفسه! فرسم معالم الطريق لمن جاءوا بعده، فأفردوا البلاغة بالدرس والتأليف المستقل، يرون أنهم بهذا يخدمون المعجزة القرآنية ويَهدون إلى فهم إعجازها.
* * *
وتفرعت دروب الدارسين بعد الجرحاني، وإن أخذوا عنه أو داروا في فلَكه: منهم من رأى أن محاولة الجرجاني في (دلائل الإعجاز) تحتاج إلى إعادة ترتيب وتحرير وتهذيب، كالفخر الرازي الذي ألف كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) فاعترف بأن الجرجاني كان الذي استخرج أصول هذا العلم وأقسامه وشرائطه وأحكامه، لكنه أهمل رعاية ترتيب الأصول والأبواب، وأطنب في الكرم كل الإطناب.
ومنهم من قدر حاجة هذه المباحث البلاغية إلى أن تلتمس لها الشواهد القرآنية كصنيع ابن أبي الإصبع المصري (ت 654 هـ) الذي نسق كتابه (بديع القرآن) - والبديع عنده بمعنى البلاغة - في مائة وعشرين باباً، تحرى فيها الاستئهاد بالقرآن الكريم، وإن يكن في الغالب، قد اكتفى في أكثر هذه الأبواب بأن يذكر المصطلح البديعي للباب، ثم يتبعه بالشاهد أو الشواهد القرآنية، دون تفصيل لبيان وجه القوة أو سر البلاغة فيه.
ومنهم من اكتفى بما وجه إليه الجرجاني من دراسة البلاغة طريقاً لفهم الإعجاز ودلائَل عليه، فاستقل بالبحث البلاغي بعيداً عنة قضية الإعجاز، كما عزل البلاغة عن معاني النحو التي قرر الجرحاني، بحق، أنها داخلة في بلاغة النظم. وإمام هذه المدرسة هو "السكاكي" - ت 626 هـ - الذي جعل البلاغة في (مفتاح العلوم) علماً يُحَّصل وصنعة تضبط بقواعد منطقية.
وكان حظ القرآن من (مفتاح العلوم) وشروحه، بضع شواهد قرآنية سيقت مع حشد من شواهد وأمثلة أخرى من قول البشر. ثم كان الجهد، كل الجهد، موجهاً إلى العناية بإجراء الصنعة البلاغية التي تتعلق في التشبيه مثلاً: ببيان أركانه وأداته ووجهه وأقسامه ومرتيته، وفي الاستعارة: بمعرفة المستعار له والمستعار منه والجامع والقرينة والتجريد والتصريح والترشيح. . . وفي المجاز والكناية: ببيان المعنى الأصلي والمعنى المجازي، والعلاقة وأنواعها، والقرينة مانعة أو غير مانعة من إرادة المعنى الأصلي. وفي البديع: بالمحسنات اللفظية وغير اللفظية وضروبها ومصطلحاتها.
فكان أن جَمَّدوا روح البلاغة في قوالب الصنعة وأغلال المنطق، وشغلتهم الحدود والتعريفات والإجراءات، عن لمح سر البيان وذوق الأسلوب وروح النص.
* * *
وتوارت قضية الإعجاز في الميدان البلاغي، في فيض الشروح والمختصرات والحواشي على متن (مفتاح السكاكي) الذي سيطر على الدراسة البلاغية. فانحصرت قضية الإعجاز في كتب علوم القرآن الجامعة، كالبرهان للزركشي والإتقان للسيوطي. وفي كتب المفسرين، يتناولونها في تأويل آيات لبتحدي والمعاجزة. على نحو ما فعل "الشيخ محمد عبده" في تفسير آيتى البقرة:
حيث كتب فصلاً "في تحقيق وجوه الإعجاز" لخص به مختلف الأقوال فبه. ويعينيا هنا ما يتصل بالبيان، أو ما سماه الإعجاز بأسلوبه ونظمه.
ووجه هذا الإعجاز عنده، هو اشتمال القرآن على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب، في مَطالعه وفواصله ومقاطعه، قال:
"ولعمري إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكُبَر، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر، ولو يوفها أحدٌ حقها على كثرة ما أبدأوا وأعادوا فيها. وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد، وإنما هو مائة وأكثر: القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر، من السبع الطوال إلى الوسطى إلى ما دونها. وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين المعين على الفهم المفيد للتأثير. على
اختلافها في الفواصل، وتفاوت آياتها في الطول والقصر. وهي على ما فيها من متشابه وغير متشابه في النظم، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض. . .
"ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن كلام العرب من شعر أو نثر، أنك ترى السور ذات النظم الخاص والقوافي المقفاة، تأتي في بعضها فواصلُ غير مقفاة فتزيدها حسناً وجمالاً وتأثيراً في القلوب. تأتي في بعض آخر آياته مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزناً وقافية، فترفع قدرها وتكسوها جلالا وتكسبها روعة وعظمة، وتجدد من نشاط القارئ وترهف نم سمع المستمع. وكان ينبغي للخطباء والمتراسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها أو الصعود إلى أفق بلاغتها" 1 / 201.
ويتصدى الشيخ محمد عبده لمن يمارون في مثل هذا الكلام عن البلاغة ويرون "أن الإجابة على الذوق فيها إحالة على مجهول لا تقوم به حجة ولا يثبت به مدلول، لأن الذوق المعنوي كالحسي خاص بصاحبه، ومن ذاق عرف".
وهو يرد على هؤلاء الناس، بمثل ما ورد به عبد القاهر الجرحاني فيقول: إن سبب هذا هو جهلهم اللغة الفصحى نفسها.
ملتفتاً إلى أن اللغة الفصحى يُكسَب ذوقها بمدارسة الكلام البليغ منها واستظهاره واستعماله. وليس بقراءة كتب الصنعة المتأخرة التي هي إلى العجمة والتعقيد أدنى منها إلةى الفصاحة والبيان. ومنوهاً في الوقت نفسه بكتب الأولين ممن وضعوا قواعد النحو واللغة والبلاغة، حتى القرن الخامس للهجرة، وبخاصة (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) لأنهما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك وجنانك، قال:
"وقد مرت القرون في إثر القرون على ترك الناس لهذه المدراسة، واقتصار مدارس الأمصار على قراءة كتب النحو والصرف والمعاني والبيان، هي أدنى ما وُضع في فنونها فصاحة وبياناً وأشدها هجمة وتعقيداً، وهي الكتب التي اقتصر
مؤلفوها على سرد القواعد بعبارة دقيقة بعيدة عن فصاحة أهل اللغة وعن بيان المتقدمين الواضعين لهذا الفنون ومَن بعدهم إلى القرن الخامس الهجري، كالخليل وسيبويه وأبى علي الفارسي وابن جنى والجرحاني، حتى صار أوسع الناس علماً بهذه الفنون أجهل قراء هذه اللغة بها وأعجزهم عن فهم البليغ منها، بله الإتيان بمثله. فمن لم يقرأ من كتب البلاغة إلا مثل (السمرقندية وشرحى جوهر الفنون وعقود الجمان فشرحى التلخيص للسعد التفتازانى) وحواشيها، لا يُرجى أن يذوق للبلاغة طعماً أو يقيم للبيان وزناً. وإنما يُرجى هذا الذوق لمن يقرأ (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) فإنهما هما الكتابان اللذان يحيلانك في قوانين البلاغة على وجدانك وما تجد من أثر الكلام في قلبك وجنانك، فتعلم أن علمى البيان شعبة من علم النفس، ولكن لابد مع ذلك من قراءة الكثير من منظوم الكلام ومنثوره، واستظهار بعضه مع فهمه كما قرر حكيمنا ابن خلدون في الكىم على علم البيان من (مقدمته) . فهذا هو الأصل في تحصيل ملكة البلاغة فهماً وأداء. والقوانين الموضوعة لها مستنبطة من الكلام البليغ وليس هو مستبطاً منها. وقد عُكست القضية منذ القرون الوسطى حتى ساغ لمستقل الفكر أن يقول في الكتب التي أشرنا إليها، وهي التي تقرأ في مدرية الجامع الأزهر، وأمثالها: إن قواعدها تقليدية لا يمكن أن يُعلم بها تفاضلُ الكلام، إذ يمكن حمل كل كلام عليها. ولذلك كان أكثر الناس مزاولة لها، أضعفهم بياناً وأشدهم عيّاً وفهامة.
"فمعرفة مكان القرآن من البلاغة لا يُحكمها من الجهة الفنية والذوقية إلا مَن أوتى حظّاً عظيماً من مختار كلام البلغاء المنظوم والمنثور، من مرسل ومسجوع، حتى صار ملكة وذوقاً. واستعان بمثل (كتابي عبد القاهر، والصناعتين، والخصائص وأساس البلاغة، ومغنى اللبيب لابن هشام) هذه مقدمات البلاغة، ونتيجتُها الملكة. ولها غاية يمكن العلم بها من التاريخ وهي ما كان للقرآن من التأثير في الأمة العربية، ثم فيمن حذقها من الأعاجم أيضاً..
"الحد الصحيح للبلاغة في الكلام، هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس السامع بإصابة موضع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس - وقد يُعَّبر عنها
بالقلب - ولم يُعرف في تاريخ البشر أن كلاماً قارب القرآن في قوة تأثيره في العقول والقلوب، فهو الذي قَلَبَ طباعَ الأمة العربية وحولها من عقائدها وتقاليدها، وصرفها عن عاداتها وعداواتها، وصدف بها عن أثرتها وثاراتها، وبدلها بأميتها حكمة وعلماً، وبجاهليتها أدباً رائعاً وحلماً، وألف من قبائلها المتفرقة أمة واحدة، سادت العالم بعقائدها وفضائلها وعدلها وحضارتها وعلومها وفنونها.
"اهتدى إلى هذا النوع من إعجازه بعضُ حمكاء أوربة مستنبطاً له من هذه الغاية التاريخية، وقد رأينا وروينا عن بعض أدباء هذه اللغة، من غير المسلمين، أنهم يذهبون في بعض ليالي رمضان إلى بيوت معارفهم من المسلمين ليسمعوا القرآن ويمتعوا ذوقهم العربي وشعورهم الروحاني الأدبي بسماع آياته المعجزة. وقد شهد له أهل العلم والإنصاف منهم بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب. ولكنهم لم يفقهوا دلالة ذلك على أنه من عند الله عز وجل.
"ولو شئت أن أورد الشواهد على هذا الوجه لخرجت عن الاختصار الذي التزمته في هذا الفسل. إنك لتجد من التنبيه على عجائبها في كل جزء من هذا التفسير ما لا تجده في غيره حتى الدقه في معاني مفرداته وتحديد الحقائق في جُمَلِه، ومزج المعاني الكثيرة في أسلوبه، ولطف التناسب بين آياته وبين سُورة. ومن أعجبها ضروب الإيجاز التي انفرد بها وكثرة تكراره للمعنى الواحد بعبارات لا يملها قارئ ولا سامع، ومن العجب غفلة أكثر ظلاب البلاغة عنها".
وبهذا أضاف الشيخ الإمام محمد عبده إلى دلائل الإعجاز كما بينها الجرحاني: ضرورة الإتصال بروائع الفصحى لكسب ذوقها الذي به تُدرك بلاغة النظم المعجز.
كما لفت إلى الأثر النفسي لفن القول، وهو الملحظ الذي انظلق به أستاذنا أمين الخولي إلى مداه الرحب، فقدم فيه رسالته عن (الإعجاز النفسي للقرآن) .
والشيخ محمد عبده، عبر عن النظم بالأسلوب، وجعل لتأثير التلاوة مكاناً في قضية الإعجاز البلاغي، وأدخل الأوربيين ممن تعلموا العربية، في الاحتجاج لإعجاز القرآن، وتعلق "بشهادة أهل العلم والإنصاف منهم، بهذا الإعجاز في النظم والأسلوب، والبلاغة يغوص تأثيرها في أعماق القلوب".
وفيما عدا ذلك، نراه متأثراً بمذهب عبد القاهر في فهم الإعجاز ونهجه في المناقشة والاحتجاج.
والواقع أنه بقدر ما سيطر "السكاكي" على البلاغين المدرسيين، سيطر "عبد القاهر" على من تصدى من المحدثين لموضوع الإعجاز البلاغي، فكان الذي أضافوه إلى رصيده أن يتحدث المتحدثون عن إعجاز القرآن فيقولوا: ما أروع وما أعظم، ما أبهى وأبلغ، وما أجل وأسنى، ونظر إلى شرف هذا المعنى وجزالة ذلك اللفظ وفخافة هذه العبارة وروعة ذلك المثل، وتأمل في سحر هذا الإيقاع واسر ذلك النغم. . .
إلى أمثال لهذا العبارات المبذولة والقوالب الصماء التي ملّها سمع الزمان لطول ما ابتذلتها أقلام الكتاب وألسنة المداحين، في تقريظ قصص هزيلة يروَّجون لها، وأغان مبتذلة ينتشون بها.
ومن ألف سنة رُدَّدَتْ أمثال هذه العبارات الرنانة، فلم يجد فيها أبو سليمان الخطابي - ت 388 هـ - ما يقنع أو يشفى، قال في (بيان إعجاز القرآن) يرد على من ذهبوا إلى أن تميز القرآن عن سائر الكلام الموصوف بالبلاغة، أمر لا يمكن تصويره وقد يخفى سببه ويظهر أثره في النفس:
"إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع والهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب والتأثير في النفس فتصطلح من أجله الألسن على أنه كلام لا يشبهه كلام، وتحصر الأقوال عن معارضته وتنقطع به الأطماع عنها، أملا لابدَّ له
من سبب، بوجوده يجب له هذا، وبحصوله، يستحق هذا الوصف"
* * *
وظل الإعجاز البلاغي مع ذلك، يدور في هذا النطاق من القوالب التقليدية الصماء والعبارات المضخمة التي لم يجد فيها مثل الخطابي، من القؤرن الرابع، ما يقنع في هذا المجال أو يشفى من داء الجهل، والتي لم تعد تليق بحرمة الكتاب المعجز، ولا تقدم شياً ذا بال، إلى هذا الجيل من أبناء العربية الذين نحرص على أن نصلهم بمعجزة البيان الأعلى. . .
* * *