الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
فواتح السُّوَر وسِرُّ الحرف
ما مِنْ حرف في القرآن الكريم تأوَّلوه زائداً أو قدَّروه محذوفاً أو فسرُوه بحرف آخر، لا يتحدى بسرَّه البياني كل محاولة لتأويله على غير الوجه الذي جاء به في البيان المعجز.
مع إدراكي أن الإعجاز البياني للقرآن الكريم يفوت كل محاولة لتحديده، ويجاوز مدى طاقتنا على مشارفة آفاقه الرحبة واجتلاء أسراره الباهرة، أتقدم في خشوع إلى الميدان الجليل، فأضع إلى جانب محاولات السلف، محاولتى المتواضعة في فهم هذا الإعجاز.
وسبق الالتفات إلى أن "الخطابي" لمح الإعجاز في "اللفظ في مكانه إذا أُبدِل فَسَدَ معناه، أوضاع الرونق الذي يكون منه سقوط البلاغة".
وهذه اللمحة الدقيقة، هي - كما قلت من قبل - محور فكرة عبد القاهر الجرجاني في النظم، ولعلها أيضاً تلتقي مع جانب من فكرتنا في الإعجاز البياني، ثم نختلف بعد ذلك في إدراك مغزاها ولمح أبعادها، وطريق الاحتجاج لها والاستدلال عليها.
لقد شُغل البلاغيون عن الإعجاز بمباحث بلاغية قدموها بمعزل عن المعجزة، لأنهم رأوا علوم البلاغة هي دلائل الإعجاز وسبيل فهمه. على حين نتعلم نحن البلاغة من هذا القرآن، ونخلص إليه لنتدبر أسرار بيانه المعجز. . .
* * *
ولعل أول ما لفتني إلى سر الحرف والكلمة، وقفتي أمام فواتح السور، وهي الحروف المقطعة التي افتتحت بها سِتُّ وعشرون سورة مكية، وثلاث من السور المدنية المبكرة.
وهذا هو المشهور في تسمية الفواتح، وإن كان البلاغي المصري "ابن أبي الإصبع" مؤلف بديع القرآن، قد صنف كتاباً عنوانه (الخواطر السوانح في أسرار الفواتح) وعنى بالفواتح أنواع الكلام في مفتتح السور القرآنية، وقد نسقها في عشرة أنواع أحدها حروف التهجي، أو ما نسميه الفواتح، والأنواع التسعة الأخرى هي: الثناء على الله تحميداً وتسبيحاً، والنداء، والجملة الخبرية،
والقسم، والشرط، والأمر، والاستفهام، والدعاء، والتعليل.
ومثله طالزركشي" في النوع السابع من كتابه البرهان: "في أسرار الفواتح والسور".
وقد أدرجها "السيوطي" في نوع فواتح السور من كتابه (الإتقان) ، وأما الفواتح بمعنى الحروف المقطعة، فجاء بها باسم أوائل السور، في فصل المتشابه.
* * *
والسور المكية المستهلة بالفواتح، هي على المشهور في ترتيب النزول:
القلم (ن) ، ق، ص، الأعراف (المص) يس، مريم (كهيعص) طه، الشعراء (طسم) النمل (طس) القصص (طسم) يونس وهود ويوسف والحجر (الر) لقمان (الم) ، غافر وفصلت (حم) الشورى (حم عسق) الزخرف والدخان والجاثية والأحقاف (حم) إبراهيم (الر) السجدة والروم والعنكبوت (الم) .
والسور المدنية هي:
البقرة وآل عمران (الم) والرعد (المر) .
وقد تنبه السلف إلى أن مجموع هذه الحروف، بغير المكرر منها، أربعة عشر حرفاً، هي نصف الحروف العربية.
كما أطال بعضهم النظر في هذه الحروف، فلفتهم منها أنها نصف الحروف الهجائية على أي وجه من الوجوه التي اصطلح عليها علكاء اللغة بعد نزول القرآن بزمن طويل.
ففيها خمسة مهموسة، وعدد المهموس من حروف العربية عشرة.
وفيها كذلك نذف الحروف المجهورة، بغير زيادة ولا نقصان.
وفيها ثلاثة من حروف الحلق، هي نصف الحروف الحلقية، كما أن فيها نصف الحروف غير الحلقية.
وفيها نصف الحروف الشديدة، ونصف الحروف الرخوة.
وفيها حرفان من الأحرف الأربعة المطبقة، ونصف الحروف الأخرى المنفتحة غير المطبقة.
وفيها نصف الحروف المستعلية، ونصف الحروف المنخفضة.
وقد ذهب قوم، منهم الباقلانى، إلى "أن مجئ هذه الحروف على حدَّ التنصيف مما تواضع عليه العلماء بعد العهد الطويل، هو من دلائل الإعجاز، من حيث لا يجوز أن يقع هكذا إلا من الله عز وجل، لأن ذلك يجرى مجرى علم الغيوب".
وإن يكن في موضع آخر، قد عدها معنى من معاني إعجاز القرآن "بديع نظمه وعجيب تأليفه وتناهيه في البلاغة".
ووقف الزمخشري عند هذه النصفية في حروف الفواتح، ورأى فيها لطائف ملزمة بالحجة.
* * *
ولكن، لم جاءت حروف الفواتح، المفردة منها والمركبة، على هذه الصورة التي نزلت بها؟
وماذا قال السلف فيها؟
شغل المفسرون بها من قديم، فما يخلو كتاب تفسير من التعرض لها. وغالباً ما يأتي كلامهم فيها عند تفسير فاتحة سورة البقرة (الم) إذ هي أول سورة في ترتيب المصحف، مفتتحة بالحروف.
وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره لفاتحة البقرة، ما انتهى إلى عصره من أقوال
في الفواتح. ولا يكاد المتأخرون يخرجون عن تلك الأقوال، إلا أن يختاروا قولاً منها يزيدونه تفصيلاً وبياناً وإيضاحاً:
قيل هي حروف يتألف منها اسم الله الأعظم. ورووا عن سعيد بن جبير أنها أسماء الله تعالى مقطعة، لو عرف الناس تأليفها تعلموا اسم الله الأعظم. قال ابن عباي: إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
أو هي اسم ملك من ملائكته تعالى، أو نبي من أنبيائه.
وعند بعضهم أن حروف الفواتح دوالّ على أسماء الله الحسنى أو مفاتيح لها، فما من حرف منها إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه تعالى: فالكاف من الكريم أو الكبير والهاء من الهادي، والعين من العزيز أو العليم أو العلي، والصاد من الصمد أو المصور، والألف من الله، والراء من الرحمن، والميم من الملك، والقاف من القدوس أو القاهر أو القادر. . .
ونحو ذلك ما روى عن ابن عباس من أن في قوله تعالى (الم) : أنا الله أعلم، وفي (المص) : أنا الله أفصل) ، وفي (الر) " أنا الله أرى.
* * *
وقيل، هي أسماء للسور التي افتتحت بها. قال "الزمخشري" في الكشاف:"وعليه - أي على هذا الوجه - إطباق الأكثر".
ولا يعني هذا عنده أنها أسماء السور حقيقة، بل هي التسمية بما افتُتحت به واستهلن. ونظيره قولهم" فلان يروى * قفا نبكِ، وعفت الديار * وقول القائل: قرأت من القرآن "الحمد لله"، و"براءة".
وقريب من هذا، قول من قال إن الفواتح من أسماء القرآن، كالفرقان. ومن تأويلها رموزاً لأسمائه، القول بأنها علامات وضعها كُتَّاب الوحي.
وهو قول متأخر فيما يبدو. ويمنعه أنْ تدخل هذه العلامات وهي من عند البشر، في آي القرآن الكريم.
* * *
وقيل هي أوصوات للتنبيه كما في النداء، عمد إليها القرآن ليكون في غرابتها ما يثير الالتفات، وقد ترك ما ألفوا من ألفاظ التنبيه إلى ما لم يألفوا، لأنه لا يشبه كلام البشر، ولكي يكون أبلغ في قرع الأسماع.
ثم اختلفوا فيمن يكون المقصود بهذا التنبيه:
أبو حيان يرى أنها تنبيه للمشركين إلزاماً لهم بالحجة: "ليستغربها المشركون فيفتحوا لها أسماعهم فتجب عليهم الحجة" بسماع القرآن.
على حين يتجه بها "الفخر الرازي" إلى تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام، لا المشركين. قال يفصل هذا الوجه من وجوه تأويلها:
"الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة، ومن يكون مشغول البال بشغل من الأشغال، يُقدّم على الكلام المقصود شيئاً غيره، ليلتفت المخاطب بسببه إليه ويقبل بقلبه عليه، ثم يشرع في المقصود.
وذلك المنبه "قد يكون كلاماً له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع، واجعل بالك إلىّ. . . وقد يكطون شيئاً في معنى الكلام المفهوم كقول القائل: أزيْدُ، ويا زيد، و. . . ألا يا زيد. وقد يكون صوتاً غير مفهوم كالصفير بالفم والتصفيق باليد. . .
"والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظان الجنان، لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن، فكان يحسُن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفاً هي كالمنبهات. . .
"ثم إن تلك الحروف بحيث تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه، من تقديم الحروف التي لها معنى. . . لأن المقدَّم إذا كان كلاماً منظموماً وقولاً مفهوماً، فربما يظن السامع أنه كل المقصود ولا كلام بعد ذلك، فيقطع الالتفات عنه. أما إذا سمع صوتاً بلا معنى فإنه يقبل ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره، لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود. فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في هذا الموضع، على الكلام المقصود، فيه حكمة بالغة".
استجاده الإمام الجويني، أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، فقال:"القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز وفوائده عزيزة، فينبغي أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونَ النبي صلى الله عليه وسلم في عالم البشر مشغولاً، فأمَر جبريَل بأن يقول عند نزوله: "الم" و"الر" و"حم". . . ليسمع النبي صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه. وإنما لم يستعمل الكلمات المشهورة في التنبيه كـ: ألا وأمَا. . . لأنها من الألفاظ التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآ، كلام لا يشبه الكلام، فناسبَ لأن يؤتىَ فيه بألفاظِ تنبيه لم تُعهد، ليكون أبلغ في قرع سمعه".
* * *
وقيل هي من حروف الجُمَّل، أو ما يسمونه "حساب أبي جاد" ويعنون به الأبجدية: أبجد هوز حطي كلمن. . .
واتجهوا بدلالة الأعداد فيها، إلى مدة المِلة أو مدة الأمم السابقة، أو مدة الدنيا! . . .
ولعل كل المرويات في تأويلها على حساب أبي جاد - مع اختلاف دلالته - تبدأ من قصة "حُيَىَّ بن أخطب اليهودي" وقد نقلها "ابن إسحاق" مفصلة في (السيرة النبوية) مع ما نقل من كيد يهود للإسلام، وجدلهم المعنت للمصطفى عليه الصلاة
والسلام إثر هجرته إلى المدينة، وقد كانت هي وما حولها منطقةّ نفوذٍ لهم منذ حطوا عليها فراراً من وطأة الرومان، قبل المبعث بنحة خمسة قرون، فتسلطوا على مواردها الإقتصادية ومزقوا الوجود العربي فيها، بالعداوة والبغضاء.
وخلاصة القصة، أن "أبا ياسر بن أخطب" مر بالمصطفى عليه الصلاة والسلام عام الهجرة، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة، أول سورة نزلت بالمدينة:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}
فأتى أبو ياسر أخاه "حيى بن أخطب" في نفر من يهود، فنقل إليهم ما سمع مما يتلو المصطفى من القرآن. فمشى "حيى" في النفر من قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فيما تلا من فاتحة البقرة، فلما استوثق منه قال:"لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بينَّ لنبي منهم ما ملكُه وما أجَلُ أمتِه غيرَك: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون. فهذا إحدى وسبعون سنة، أفندخل في دين نبي إنما مدة مُلكه وأجَل أمته إحدى وسبعون سنة؟ "
ثم استطرد يسأل: يا محمد، هل معك مع هذا غيرهُ؟
قال عليه الصلاة والسلام: نعم، المَصْ.
قال حيى: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذا إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا غيره؟
رد المصطفى: نعم، الر.
قال اليهودي: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون الراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟
ولما ذكر المصطفى عليه الصلاة والسلام: المر، أحصاها حيى بن أخطب على حساب أبى جاد، فهي إحدى وسبعون ومائتان سنة.
وعندها توقف، ثم قام وهو يقول للنبي عليه الصلاة والسلام:
"لقد لبس علينا أمرُك حتى ما ندري أقليلاً أُعطِِيتَ أم كثيراً
وانصرف بالنفر من قومه، فتساءل أخوه أبو ياسر: ما يدرينا لعله جُمِعَ هذا كله لمحمد؟ وأحصى مجموع ما سمعوا من حروف، فبلغت سبعمائة وأربعا وثلاثين سنة.
وقال النفر من اليهود: لقد تشابه علينا أمره.
ومن هذا التأويل اليهودي، دخل القول بحساب الجُمَّل، حساب أبى جاد، يتنقل في كتب التفسير - بصورة أو بأخرى - مع غيره من الإسرائيليات التي خالطت الفهمَ الإسلامي للقرآن الكريم، ونقل السيوطي تأويل الفواتح بهذا الحساب، فيما جمع من أقوال السلف في هذه الحروف.
ونقل معه شيخ الإسلام الحافظ "ابن حجر": "وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقج ثبت عن ابن عباس الزجرُ عن عدَّ أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة".
وكذلك رفضه "الحافظ ابن كثير" من أئمة القرن الثامن للهجرة، (ت 774 هـ)، قال:
"وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدُدَ، وأنه يُستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم، فقد ادعى ما ليس له وطار في غيره مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف، وهو مع ذلك أدلّ على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي قال: حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رئاب، قال: مر أبو ياسر بن أخطب - ونقل القصة كما وردت بسندها في السيرة لابن إسحاق عن
ابن الكلبي - فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن لا يحتج بما اتفرد به".
ويُفهم من عبارة "ابن كثير" أن حساب أبي جاد بدأ في قصة ابن أخطب اليهودي - في السيرة النبوية - بِعَدَّ الحروف مدة الإسلام وأجَلَ أمته، قد أضافت إليه العصور، بعد ابن إسحاق في القرن الثاني للهجرة، استخراجَ أوقات الحوادث والفتن والملاحم، من حساب الحروف بعدَّ أبى جاد!
وقد استسخفه الشيخ الإمام محمد عبده وقال فيه:
"إن أضعف ما قيل في هذه الحروف وأسخفه، أن المراد بها الإشارة بأعدادها في حساب الجُمَل إلى مدة هذه الأمة أو ما يشابه ذلك. وروى ابن إسحاق حديثاً في ذلك عن بعض اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم. . .
"ولا يزال يوجد في الناس، حتى علماء التاريخ واللغات منهم، من يرى أن في هذه الحروف رموزاً إلى بعض الحقائق الدينية والتاريخية ستظهره الأيام"
ثم بدا للسيد الأستاذ "على نصوح الطاهر"، أن يتجه بحسابها العددي إلى عدد حروف السوَر التي افتتحت بها، لكن المحاولة - وقد نشرها في رسالة مطبوعة في القدس، سنة 1960 - لم تسلم بعد الجهد الإحصائي المضني.
* * *
وقيل إن الحروف في مفتتح السور تشير إلى غلبة مجيئها في كلمات هذه السورة. ذكره "الزركشي" بمزيد تفصيل في (البرهان) : بياناً لوجه اختصاص كل سورة بما بدئت به، حتى لم تكن لترد (الم) في موضع (الر) ولا (حم) في موضع (طس) قال:
"وكل سورة بدئت بالحروف المفردة، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق
لكل سورة منها ألا يناسبها غير الواردة فيها. فلو وضع (ق) في موضع (ن) لم يكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله. وسورة ق بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذكر: القرآن، والخلق، وتكرار القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب والسائق، والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعيد، وذكر المتقين والقلب، والقرن، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، والقوم، وخوف الوعيد وغير ذلك. . .
"وتأمب ما اشتملت سورة (ص) على خصومات متعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم، اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم. . . وكذلك سورة (ن، والقلم) : فإن فواصلها كلها على هذا الوزن، مع ما تضمنت من الألفاظ النونية"
ولا أدري ما وجهه، وفي فواصل سورة القلم: عظيم، الخرطوم، زعيم، مكظوم، مذموم. مع: يكتبون، الصالحين، متين، مثقلون!
ويبدو أن الملحظ لما لم يطرد في سائر السور المفتتحة بالحروف، عمد الزركشي إلى التأويل والتخريج، حتى خرج بها إلى إشاريات بعيدة من مثل قولها:
"و (الم) جمعت المخارج الثلاثة: الحلق واللسان والشفتين، على ترتيبها. وذلك إشارة إلى البداية التي هي بدء الخلق، والنهاية التي هي بدء الميعاد، والوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي، وكل سورة افتتحت بها (الم) فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.
"وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على (الم) - المص - لما فيها من شرح القِصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} ولهذا قال بعضهم، معنى (المص) :{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} .
وذهب الظاهرية إلى أنها من المتشابه، قال أبو محمد ابن حزم:"والمتشابه من القرآن هو الحروف المقطعة والأقسام فقط، إذ لا نص في شرحها ولا إجماع، وليس فيما عدا ذلك متشابه على الإطلاق".
* * *
واستراح قوم من كل هذا العناء المضني الذي لا ينتهي في أي وجه قيل، إلى ما يُطمأن إليه من اطراد في كل فواتح السور، فقالوا إنها سر من مكنون علمه تعالى: ورووا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "في كتاب الله سر، وسر الله في القرآن، في الحروف التي في أوائل السور".
وحوّم حول هذا، جماعة من القائلين بعلوم الحروف، ذكرهم "أبو حيلن" وقال: "وقد أنكر جماعة من المتكلمين أن يكون في القرآن ما لا يُفهم معناه. فانظر إلى هذا الاختلاف المنتشر الذي لا يكاد ينضبط في تفسير هذه الحروف والكلام عليها. والذي أذهب إليه أن هذه الحروف في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وسائر كلامه تعالى محكم. . .
"وإلى هذا ذهب أبو محمد علي بن أحمد اليزيدي، وهو قول الشعبي والثوري وجماعة من الحدَّثين. قالوا: هي سر الله في القرآن، وهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها وتمر كما جاءت. وقال الجمهور: بل يجب أن نتكلم فيها وتُلتمس الفوائد التي تحتها والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك الاختلاف الذي قدمناه. قال ابن عطية: والصواب ما قال الجمهور، فنفسر هذه الحروف ونلتمس لها التأويل".
ويبدو أن القول بأنها من المتشابه، هو ما غلب على المتأخرين بحيث ساغ للسيوطي أن يضع الأقوال المختلفة في هذه الحروف في نوع المتشابه، وإن لم يقصره
عليها بل أضاف إليها غيرها إنه من متشابه القرآن.
وقد بدأ الفصلَ الخاص بالحروف، من نوع المتشابه، بقوله:
"ومن المتشابه أوائل السور. والمختار فيها أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى". . .
"وخاض في معناها آخرون" ممن نقل الجلال السيوطي اقوالهم في هذا الباب.
* * *
ويئس بعضهم من ذلك الجدل المثار في الحروف، واختلاف الأقوال في تأويلها. منهم القاضي "أبو بكر ابن العربي" الذي قال، فيكا نقل السيوطي من كلامه في (فوائد رحلته) :"ومن الباطل علمُ الحروف المقطعة في أوائل السور. وفد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد. ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم. والذي أقوله إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولاً متداولاً عنهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. بلا تلا عليهم (حَمَ) و (صَ) وغيرها فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة، مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة. فدلَّ على أنه كان أمراً معروفاً بينهم لا إنكار فيه"
. . . . . . . . .
فماذا عساه أن يكون ما عرف العرب من دلالة هذه الحروف المقطعة في فواتح السور؟
لا يمكن أن يكونوا عرفوها إذا كانت من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه. ومثله في البعد عن إدراكهم، أن تكون حروفاً يتألف منها الأسم الأعظم أو
اسم ملك من ملائكته تعالى أو نبي من أنبيائه، فذلك أيضاً مما لم يحيطوا به علماً؛ ولا نتصور أنهم، الأمين، عكفوا على حساب الجُمَّل يعدون الحروف على عدَّ أبي جاد، كما فعل اليهودي "حيى بن أخطب، وأخوه أبو ياسر"
كما لا يسهل أن نتصور أنهم راحوا يحصون حرف القاف في (سورة ق) ومواقف الخصومة في سورة (ص) أو يربطون بين بداية الخلق ونهايته والمعاش والتكليف بينهما، بمخارج حروف (الم) من الحلق واللسان والشفتين. . . .
* * *
ثم يرد على كل هذه الأقوال، سؤال عن وجه اختصاص بعض سور القرآن بفواتح من حروف مقطعة دون سائر السور. وإن كان الزمخشري يرى أن هذا السؤال ساقط "كا إذا سَمَّى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عَمْراً، لم يُقَلْ له: لم خصصت ولدك هذا يزيد وذاك عمرو؟ لأن الغرض هو التمييز، وهو حاصل أية سلك. ولذلك لا يقال: لم سُمَّي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس، ولم قيل للانصتاب القيام، ولنقضيه القعود؟ "
على حين لم يُسقط الفخر الرازي هذا السؤال عن حكمة اختصاص بعض السور بحروف الفواتح دون سائر السور، بل رد عليه فقال:
"عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز، والله أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا الله له"
ثم مضى فقدم في رده ملحظاً هاماً هو: غلبة ذكر القرآن أو الكتاب بعد هذه الفواتح. قال:
"كل سورة في أوائلها حروف التهجي، فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن، كقوله تعالى:
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ}
{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ}
{ص وَالْقُرْآنِ}
{ق وَالْقُرْآنِ}
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ}
إلا ثلاث سور: {كهيعص} ، {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ} ، {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} - أي: مريم، والعنكبوت، والروم.
لكن الفخر الرازي لم يمض بهذا الملحظ الهام إلى تدبر سر الحرف في الإعجاز البياني، بل ربطه بتأويلها بالمنبهات، ورأى "أن الحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أز الكتاب بالحروف، هي أن القرآن عظيم، والإنزال له ثقل، والكتاب له عبء كما قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}
وكلُّ سورة في أولها ذِكْرُ القرآن والكتاب والتنزيل، قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه".
ولم يفت الرازي أنَّ ربك الفواتح بذكر تالقرآن والكتاب والتنزيل، لا يسلم له طرداً ولا عكساً كما يقول المناطقة.
فثقل القرآن لا تختص به السور المفتتحة بالحروف دون سائر السور الأخرى. فضلاً عن وجود ذُكَرِ الإنزالُ زالكتاب في آياتها الأولى، غير مفتتحة بالحروف، مثل سور: الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا}
الفرقان {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}
القَدْر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
كما أن التنبيه، جاء في القرآن بغير الحروف المقطعة، كالنداء في سور النساء والحج والتحريم، والبدء بواو القسم في مثل سور الضحى والعصر والليل والفجر والشمس والنجوم. . . وعدم ذكر البسملة، في سورة التوبة.
وقد رد الرازي على الأول، بأن السورة التي فيها ذكر القرآن تُنبه على كل القرآن. وردَّ على الثاني بأن هذه السور غير المفتتحة بالحروف، ليست واردة على مشغول القلب بشيء غير القرآن. وردّ على الثالث بأن أوائل الحج والتحريم أشياء هائلة عظيمة.
وأما السور التي افتتحت بالحروف ولم يذكر بعدها القرآن أو التنزيل، فعلَّله بأن ثقل القرآن، بما فيه من التكاليف والمعاني.
ولا يبدو ردهُّ مقنعاً، بل هو واضح التكلف.
وكان "الزركشي" أوضح مسلكاً وأنأى عن تكليف، إذ اكتفى بقوله:
"واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف، أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن. . .
وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم، فيسأل عن حكمة ذلك." وهو ما حاوله "الحافظ ابن كثير" فهداه الاستقراء إلى أن كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه. على ما سوف ننقل فيما يلي.
* * *
ولعل أقرب ما قالوه في حروف الفواتح، إلى طبيعة البيان وقضية الإعجاز، هو أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من حروف هجائهم، مفردة أو مركبة "ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم، أنه بالحروف التي يعرفونها ويبنون كلامهم منها".
ذكره الإمام الطبري في تفسيره، وأتى به الزمخشري في بيان مجئ الحروف مقطعة "مسرودة على نمط التعديد، كالإيقاع وقرع العصا لمن تُحدى بالقرآن وبغرابة نظمه، وكالتحريك إلى النظر في أن هذا المتلو عليهم، وقد عجزوا عنه من آخرهم، كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيفنوا أنْ لم تتساقط مقدرتهمة دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحراص على التساجل في اقتضاب الخطب والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز؛ ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحد الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر".
وبعد أن ساق الزمخشري ملحظ مجئ الفواتح على حرف، واثنين، وثلاثة، وأربعة، وخمسة، كمجئ ألفاظ العرب وأبنيتهم على هذا لم تتجاوز، انتصر لهذا الوجه الذي يربط حروف الفواتح بالإعجاز فقال:
"وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، إشارة إلى ما ذكرتُ من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم".
نقله الحافظ ابن كثير في تفسيره، وأضاف:
"قلت: ولهذا، كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته. وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع
وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}
{المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء - القائلون بأنها إشارة إلى أن القرآن المعجز جاء من مألوف حروفهم - لمن أمعن النظر".
وينتصر الحافظ ابن كثير لهذا المذهب في مجئ هذه الحروف "بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين، وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحز هذا. وقرره الزمخشري في (كشافه) ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية، وشيخنا الحافز المجتهد أبو الحجاج المزى، وحكاه لي عن ابن تيمية".
وترى هذا الكلام بنصه تقريباً، قد نقله السيد محمد رشيد رضا، معقباً به على قول الشيخ محمد عبده:
"آلم: هو وأمثاله أسماء للسور المبتدأة به. . .
"وحكمه التسمية والاختلاف في: {الم} ، {المص} نفوض الأمر فيها إلى المسمى سبحانه وتعالى. ويسعنا في ذلك ما وسع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وليس من الدين في شيء أن يتنطع متنطع فيخترع ما يشاء من العلل التي قلما يسلم مخترعها من الزلل".
* * *
هذا الوجه الذي لمحه الإمام الطبري، وقال به عدد من أئمة المحققين، لغويين ومفسرين، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر، وأيده ابن كثير بما حكاه عن شيوخه. . .؛
هو فيما نرى أقرب ما يكون طبيعة الكتاب العربي المبين في إعجاز بيانه.
ومن ثم أستخلصه من بين حشد الأقوال التي تأولوا بها فواتح السور وزادت على العشرين، فيما ذكر القاضي أبو بكر ابن العربي في فوائد رحلته.
وأمعن النظر فيها بمزيد تدبر، لعلى أجتلة منها ما أضيفه إلى ما قاله السلف الصالح في مجئ الفواتح بهذه الحروف التي يبني العرب منها كلامهم "بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله، مع أنه مركب من الحروف التي يتكلمون بها".
وقد نقلنا ما وصل إليه جهدهم، من مجئ هذه الحروف القرآنية على حد النصف من حروف التهجي العربية، على أي وجه صنفها به علماء العربية وفقهاء اللغة بعد عصر نزول القرآن.
وليس لدىّ ما أضيف إلى هذا المجال.
ويبقى أن أتابع ما التفت إليه الرازي من غلبة مجئ هذه الحروف في سور مفتتحة بآيات فيها ذكر القرآن أو الكتاب أو التنزيل. فلا أربطها به من "المنبهات التي توجب ثبات المخاطب لاستماعه"ولا ألمح فيها ما لمحه في
الآيات بعدها من ثقل العبء، من حيث لا أرى هذه السور تنفرد عن سائر سور القرآن، بهذا الملحظ.
وإنما أتابع ما قرره "ابن كثير" في "أن كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه. وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة"
وهو استقراء كامل كما ترى، وان اكتفى "الحافظ" بأن استئهد بسبع مبتدأة بالفواتح، ومعها مفتتح ثلاث سور من الحواميم.
وفيها جميعاً يأتي ذكر الكتاب أو القرآن والتنزيل، في مستهل السور. وقد علق ناشر (تفسير ابن كثير) - السيد محمد رشيد رضا - على هذا الملحظ، فكتب بهامشه:"ولكن الاستقراء غير تام، لأن سورة مريم ليست كذلك". ومن قبله التفت "الفخر الرازي، والزركشي" إلى أن سورة مريم، ومعها سورتا العنكبوت والروم، افتتحت بالحروف المقطعة، دون أن يليها ذكر القرآن أو الكتاب:
مريم: {كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}
العنكبوت: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}
الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ}
ولم يفت الرازي والزركشي تخلفُ هذه السور الثلاث عن الملحظ في مجئ الكتاب أو القرآن والتنزيل، في مستهل السور المفتتحة بالحروف المقطعة، على ما نقلنا من كلامها آنفاً.
على حين لا نرى وجهاً لتعليق السيد محمد رشيد رضا على ملحظ "ابن كثير" من حيث لم يُقيده بالآيات التاليه للفواتح في مستهل السور، وإنما أطلق القول بأن "كل سورة افتتحت بالحروف فلابد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه".
قوله: يُذكَر فيها، لا يقيد الانتصار للقرآن بالآيات التالية للفواتح، وإنما يطلقه فيجئ في أي موضع من السورة.
وهذا ما لم ينتبه إليه السيد رشيد رضا، كما فات الرازي أن يلحظه فقيد ذكر القرآن بأوائل السور، ومن ثم تخلفت سور مريم والعنكبوت والروم، مفتتحة بالحروف المقطعة، لا يتلوها ذكر الكتاب أو القرآن والتنزيل.
وبتدبر السور الثلاث، يطرد ملحظ ابن كثير، لا تتخلف عنه سورة مريم - كما وهم السيد رضا - وفيها يتكرر قوله تعالى للمصطفى عليه الصلاة والسلام:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ. . .} خمس مرات - آيات: 16، 41، 51، 54، 56 - ثم تختتم السورة بقوله تعالى:
كما يسلم الملحظ نفسه، لا يتخلف، في سورة العنكبوت، وفيها من آيات الانتصار للقرآن والاستدلال لإعجازه، ردّاً على جدل المشركين والمرتابين وأهل الكتاب، قوله تعالى:
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 45: 52
وكذلك يطرد الملحظ لا يتخلف، في سورة الروم، وفي ختامها تأتي هذه الآيات احتجاجاً للقرآن:
* * *
ماذا عسانا أن نضيف إلى هذا الملحظ الهام الذي يتصل اتصالاً قوياً ومباشراً، بما يشغلنا من أمر الإعجاز البياني؟
يتجه منهجنا ابتداء، إلى استقراء كامل لجميع السور المفتتحة بالحروف المقطعة، مرتبة على حسب النزول. وهي محاولة لا أعلم أن أحداً ممن قرأت لهم في هذه الفواتح قد اتجه إليها، مع أنها التي يمكن أن تهيدنا إلى ملحظ مشترك في هذه السور جميعاً، مأخوذ من تدبر سياقها وفهم طبيعة المقام الذي اقتضى إيثارها بهذه الفواتح، مرتبطاً بسير الدعوة عصرَ المبعث ونزول آيات المعجزة:
وأول سورة نزلت مفتتحة بالحرف، هي سورة القلم ثاني السور على المشهور في ترتيب النزول. واللافُت اقترانُ الحرف فيها بالقلم وما يسطرون، والرد على المجادلون في المعجزة:
واضح أن الآيات موجهه إلى تأييد نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام، تثبيت قلبه في مواجهة من يكذبونه ويجادلون في معجزته، فيزعمون أن هذا القرآن من مثل ما يسطرون من أساطير الأولين.
والرسول في أول عهده بالوحي كان في أشد الحاجة إلى ما يثَّبت فؤاده ويذهب عنه قلق النفس وشواغل البال من ناحية المشركين من طواغيت قريش. وقد وصفوه بالجنون حين دعاهم إلى ترك أوثانهم التي وجدوا آباءهم لها عابدين.
وزعموا أن هذا القرآن أساطير الأولين. وإنهم لعلى عِلم بتلك الأساطير، وفيهم من كان يكتبها ويتلو منها تحدياً للمصطفى عليه الصلاة والسلام. على ما في (السيرة النبوية: 1 / 321) .
وهذه هي آيات المعجزة معروضة عليهم بلغتهم وحروفهم، فليقابلوها على ما لديهم مما كانوا يسطرون. ويأتي النذير الصادع في ختام السورة:
لقد بدأ إذن جدل المشركين في المعجزة من أول المبعث، ولم يكن قد نزل من القرآن غير الآيات الأولى من سورة العلق. ومجئ الحرف (ن) في سورة القلم المكية المبكرة، فيه لفت واضح إلى سر الحرف في البيان المعجز: فمن حيث يجادل المشركون في القرآن ويحملونه على أساطير الأولين، يبدأ الاحتجاج للقرآن بأن يعرضوه على ما عرفوا منها، وإن كلماته لمن الحروف التي عرفوها.
ونربط هذا الاحتجاج للمعجزة في سورة {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} بما نزل
قبلها مباشرة في مستهل الوحي، وقد كانت كلمته الأولى:"اقرأ" وفيها لفت إلى آية الله الكبرى في الإنسان، خلقه الله من علق، وعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. فكأن نزول سورة القلم بعدها مبتدأه بحرف (ن) يلفت إلى سر الحرف الذي هو مناط القراءة والعلم والبيان، تنطق به في حروف التهجي، منفرداً منقطعاً فلا يعطي أي معنى أو دلالة، وما يخرج عن مجرد صوت.
ثم يأخذ الحرف موضعه من الكلمة فيتجلى سره الأكبر.
وما كان المصطفى بقارئ، ولا كان يتلو من كتاب من قبل القرآن ولا يخطه بيمينه. والمشركون بحيث لا يجهلون أنه ليس كأساطير الأولين التي يعرفون ويسطرون، لكنهم جادلوا فيه عناداً واستكباراً أن يؤمنوا بنبوة بشر مثلهم. ومن ثم توالى الوحي، بعد أن لفتهم إلى سر الحرف في آية القلم، يبهرهم بآيات هذا القرآن لعلهم بما يجركون من إعجاز بيانه، يكفون عن جدل فيه. فلما أصروا على عنادهم، اتجه إلى صريح التحدي والمعاجزة، إلزاماً لهم بالحجة.
وقيبل التحدي والمعاجزة، في العهد المكي، نزلت تسع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. من هذه السور يبدو أن الدجل في المعجزة قد اشتد وأن المشركين أصروا على التكذيب بها وحملها إما على أساطير الأولين، أو على قول شاعر أو كاهن أو ساحر. ويسجل القرآن دعاواهم ومزاعمهم، متجهاً إلى دحضها والكشف عن زيفها وبطلانها، بالاحتجاج للمعجزة، وسوق العبرة بمن مضى من أمم كذبوا برسالات ربهم واتهموا رسله بالافتراء، وبالسحر والجنون، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
إيناساً للمصطفى عليه الصلاة والسلام فيما يحمل من أعباء رسالته وما يلقى من تكذيب قومه، وتذكرةّ وعبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
وهذه هي آيات الجدل والاحتجاج في السور التسع التي نزلت مفتتحة بالحروف المقطعة، قيبل مواجهة العرب المشركين بصريح التحدي والمعاجزة، نوردها هنا على المشهور في ترتيب النزول:
34، سورة ق:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 37..
38 -
سورة ص:
39 -
الأعراف:
45 -
طه:
47 -
الشعراء:
48 -
النمل:
{طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
46 -
القصص:
* * *
وفي هذه السور التي تقارب وقتُ نزولها، كما تقارب ترتيبُها في المصحف، يبدو التركيزُ، في الاحتجاج للمعجزة، على ما تلا القرآن من قصص المرسلين الذين كُذَّبوا. فإن كذَّب المشركون بمحمد رسولاً، فكذلك كذب من قبلهم قومُ نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط وإبراهيم وموسى وعيسى.
وإن جادل المشركون في معجزة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكذلك جادل الأولون في معجزات الرسل عليهم السلام.
ولا يخطئنا أن نلتفت إلى وصفه تعالى للقرآن بأنه: كتاب عربي مبين، تنزيل من رب العالمين، نزل به الوحي على خاتم المرسلين، ويسرَّه بلسانه ليبشر به المتقين وينذر به قوماً لُدّاًَ.
وفي سورة القصص، العاشر من السور المكية الأولى المفتتحة بالحروف المقطعة، تبدأ المعاجزة والتحدي، بأن يأوا بكتابٍ من عند الله هو أهدى مما أوتى محمد وموسى، عليهما السلام.
كما لا يفوتنا أن نلحظ أن الفواتح بدأت في السور الثلاث الأولى منها، بحرف واحد، ن، ق، ص.
لافته إلى سر الحرف.
ثم نزلت سور "الأعراف ويس ومريم وطه والشعراء والنمل والقصص" بفواتح من حرفين: يس، طه، طس، وثلاثة: طسك. وأربعة: المص، وخمسة كهيعص.
وألفاظ العربية مبنية على مثل هذا العدد من الأحرف التي نزل بها الكتاب العربي المبين.
فلفتت إلى أن الحروف قد تتألف منها ألفاظ عجماء، فإذا أخذ الحرف موضعه في البيان، تجلَّى سرُّه.
* * *
بعد أن نزلت عشر سور مفتتحة بالحروف المقطعة أولاها "ن" وعاشرتُها سورة القصص المفتتحة بـ "طسم" والتي بدأ فيها تحدي المكذبين المجادلين بأن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن والتوراة.
نزلت سورة الإسراء - الخمسون في ترتيب النزول - تواجههم بصريح المعاجزة بمثل هذا القرآن، في سياق تعنت المشركين في جدلهم في المعجزة، وما اقترحوا على المصطفى من دلائل أخرى تقنعهم بنبوة بَشَرٍ رسول:
بلى، هو بشَر رسول، معجزته هذا الكتاب العربي المبين، يعرف الذين نزل بلسانهم كما لا يعرف سواهم من غير العرب، أنه يعيى الإنس ومن يظاهرهم من الجن، أن يأتوا بمثله.
ومن ثم واجَه المكذبين والمجادلين بالتحدي والمعاجزة، مع تتابع نزول السور مفتتحة بهذه الحروف المقطعة التي يتألف كلام العرب منها، ولا سبيل لأحد من أصحاب هذه العربية، لغة القرآن، وأمراء بيانها، أن يأتوا بسورة من مثله.
فهل يقولون افتراه؟ فيم إذن عجزهم عن الإتيان بمثل ما افتراه، وإنه ليتحداهم تحدياًَ جهيراً معلناً، بعد أن أعلن - في آية الإسراء - عجز الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟
بعد نزول سورة "الإسراء" بهذه المعاجزة، نزلت مباشرة سورتا "يونس وهود" مفتتحين بالحروف "الر" مع آيات الكتاب الحكيم، كتاب أحمت آياته ثم فُصَّلت من لَدُنٌ حكيم خبير.
وفي السورتين آيات تحدَّ ومعاجزة، رداً على جدل المشركين في المعجزة: في يونس - وترتيبها في النزول الحادية والخمسون - يتحداهم أن يأتوا بسورة مثله:
بل لماذا وقد زعموا أن محمداً افتراه، لا يأتون بعشر سُوَرٍ من مثله مفتريات كما تحدتهم آية "هود" الثانية والخمسون، في ترتيب النزول - وألزمتهم الحجة إن لم يفعلوا؟
وتلتها سور "يوسف،، الحجر، لقمان" ترتيبها على التوالي: 53، 54، 57، مففتحة بالحروف "الر، الر، الم" متلوة بآيات الكتاب وقرآن مبين، هدى ورحمة. وفيها جميعاً آيات تؤكد الاحتجاج لهذا القرآ، العربي المبين الذي نزل بلسانهم، وتكشف عن سَفَهِ تورظهم في الجدل في المعجزة، بعد أن عجزوا عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، كانت، لو أنهم استطاعوا، بحيث تغنيهم عن اللدد في الخصومة.
53 -
يوسف:
54 -
الحجر:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا
مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 1: 15.
57: لقمان:
ثم نزلت الحواميم السبع متتالية في ترتيب نزولها (60: 66) متتالية كذلك في ترتيب المصحف (40: 46) وهي سور: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان الجاثية، الأحقاف.
وكلها تبدأ بحرفى "حم" ومعهما في سورة الشورى: "عسق" وفيها جميعاً احتجاج للقرآن ردّاً على جدل المكذبين، فهي تستهل بعد الأحرف المقطعة، بتقرير تنزيله من العزيز الحكيم، كتاباً عربياً مبيناً فُصَّلت آياته لقوم يعلمون، وتنذر من جادلوا فيه بالباطل، بمثل ما حاق بالذين كذبوا من قبلهم بآيات الله وجادلوا فيها فأخذهم، وتَرُد عن المصطفى تهمة الافتراء ودعوى
السحر، فما كانت عليه الصلاة والسلام بدْعاً من الرسل، وإنما يتبع ما أوحى إليه فليصبر على عنت المجادلين وتكذيب الضالين:
60 -
غافر:
61 -
فُصلت:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} 40: 44
62 -
الشورى:
63 -
الزخرف:
{حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي
أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} 1: 8
64: الدخان:
65 -
الجاثية:
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. . .} 1: 2.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ
يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} 6: 9.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 20
66 -
الأحقاف:
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 1: 2.
* * *
بعد الحواميم، نزلت خمس سور بغير فواتح من الحروف المقطعة، وكان المتوقع أن ينتهي جدل المشركين في المعجزة، من حيث لزِمْتهم الحجةُ ولم يبقَ أمامهم إلا التسليم بأن هذا الكتاب العربي المبين، تنزيل من رب العالمين. ولكنهم عادوا يَلْغُون فيه، ونزلت سورتا إبراهيم (72) والسجدة (75) مبدوءتين بالأحرف:"الر، الم" مقترنة بتقرير إنزال الكتاب من الله ودحض حجج من جادلوا فيه.
7 -
إبراهيم:
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1: 4.
75 -
السجدة:
بعدهما نزلت سورتا الطور، والحاقة (76، 78) بغير فواتح، ومن آياتهما ندرك أن المشركين لجوا في عنادهم وكفرهم، وضاقوا بهذا التحدي الذي كشف عجزهم وألزمهم الحجة، فعادوا على بدء، يخبطون في متاهة الحيرة ويتعثرون في أمر هذا القرآن، لا يستقرون على قول فيه، كدأبهم في أول المبعث حين تحيروا فيه بين أن يقولوا هو قول شاعر، أو كاهن أو مجنون. وإنهم لعلى يقين من أن العرب تدري من الشعر والكهانة والجنون، ما لا يمكن أن يصدقوا هذه المزاعم فيما يتلو المصطفى، عليه الصلاة والسلام، من آيات القرآن.
76 -
الطور:
78 -
الحاقة:
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} 38: 52
بعد هذا التحدي الصادع المكرَّر، نزلت، في أواخر العهد المكي، سورتا الروم والعنكبوت مقتتحتين بـ "الم" ولا تستهل السورتان بذكر القرآن وتنزيله من رب العالمين، لكن فيهما كلتيهما، احتجاجاً للمعجزة التي يصر المبطلون، ممن عميت قلوبهم، على جحدهم كع ظهور آيتها لكل ذي بَصَرٍ وبصيرة.
84 -
الروم:
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} 1: 3.
85: العنكبوت:
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} 1: 2.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 45: 51.
* * *
وبدأ الوحي في العهد المدني، بعد الهجرة، بسورة "البقرة" مفتتحة بِـ:
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 1: 2
وفي هذه السورة المدنية الأولى، حسم القرآن قضية المعاجزة بهذا التحدي الصادع:
وبعدها، لم تنزل سورة مبدوءة بالحروف المقطعة، غير سورتى آل عمران والرعد، وهما من أوائل السور المدنية، وفيهما يطرد ملحظ الاحتجاج للمعجزة وتقرير نزولها بالحق من الله الحي القيوم، وإنذار الذين كفروا بها، بعذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام.
3 -
آل عمران:
9 -
الرعد:
* * *
بسورة الرعد، انتهت السور المبدوءة بفواتح من أحرف مقطعة، كما انتهت قضية التحدي والمعاجزة بآية البقرة التي كررت تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن إن كانوا في ريب منه، فإن لم يفلعوا، ولن يفعلوا، فليتقوا النار.
* * *
ونخلص من هذا الاستقراء الكامل للفواتح في سورها وترتيب سياقها، بالملاحظ الآتية:
1 -
أنها بدأت من أوائل الوحي في سورة القلم، لفتة إلى سر الحرف، ثم كثرت وتتابعت في أواسط العهد المكي - من سورة ق وترتيب نزولها الرابعة والثلاثون إلى سورة القصص وترتيب نزولها التاسعة والأربعون - حين بلغ الجدل في القرآن أشده، فعُرِضَتْ قضية التحدي، وظلت آيات القرآن تعاجزهم وتتحداهم أن يأتوا بمثله أو بسورة منه، إلى أول العهد المدني الذي نزلت فيه آية البقرة فحسمت الجدل العقيم، بعد أن لزمتهم الحجة على صدق المعجزة، بعجزهم مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله.
2 -
ما من سورة بُدئت بالحروف المقطعة، إلا كان فيها احتجاج للقرآن وتقرير نزوله من عند الله، ودحض لدعاوى من جادلوا فيه. مع التنظير لموقف المجادلين فيه، بموقف أمم قبلهم كذبوا بآيات الله واستهزئوا برسله تعالى فحق عليهم العقاب.
3 -
أكثر السور المبدوءة بالفواتح، نزلت في المرحلة التي بلغ فيها عتو المشركين أقصى المدى، وأفحشوا في حمل الوحي على الافتراء والسحر والكهانة، فواجههم القرآن بالتحدي. وعاجزهم مجتمعين، ومن ظاهرهم من الجن، أن يأتوا بسورة من مثله مفتراة، أو فليأتوا بعشر سور، أو بحديث مثله، ما داموا يزعمون أن محمداً افتراه وتقوله.
وأفحموا، عجزوا جميعاً عن أن يأتوا بسورة من مثله، وإنه لكتاب عربي مبين: ألفاظه من لغتهم، وحروفه هي حروف معجمهم، تلك الحروف التي تقرأ مقطعة مفردة أو مركبة، فلا تعطي دلالة ما، لكنها حين تأخذ مكانها في القرآن يتجلى سرها البياني المعجز.
* * *
هكذا وقفتُ أمام فواتح السور، فكانت اللمحة المضيئة لسر الحرف. وما أعجب سره:
ما أعجب أن تتحق آيات الإنسان الناطق، بحروف من مثل: ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، هـ، ى!
حروف صماء، قد تتألف منها أصوات عجماء لا تُبين ولا تنطق.
ومنها تصاغ الكلمات فيحقق بها الإنسان آية نطقه وبيانه، ويحقق آية القراءة والعلم، متميزاً عن الحيوان الأعجم، ومرتقياً بإنسانيته إلى درجتها العليا في الكائنات، ومحتملاً بها أمانة التكليف ومسئولية الخلافة في الأرض.
وبها نزلت آيات المعجزة البيانية، فتجلى سر الكلمة في البيان الأعلى الذي أعيا العربَ أن يأتوا بسورة من مثله، والحروف التي يتألف منها مبذولة لهم في لغتهم التي نزل بها القرآن كتاباً عربياً مبيناً.
* * *
وانطلاقاً من هذا الملحظ لسر الحرف، أقدم هنا لقضية الإعجاز البياني، بعض الشزاهد من حروف قرآنية، حاول اللغويون والبلاغيون في تأويلها أن يعدلوا بها على وجه التقدير، عن الوجه الذي جاءت به، لكي تلبي مقتضيات الصنعة الإعرابية وتخضع لقواعد المنطق البلاغي المدرسي، فبقيت هذه الحروف تتحدى كل محاولة بتغيير أو تقدير لحذف أو زيادة.
منها مثلاً حرف الباء، في مثل أية القلم:
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} .
جرى النحاة والمفسرون على القول بأن هذه الباء زائدة في خبر ما، كما تأتي زائدة في خبر ليس. فهي تعمل في لفظ الخبر، ويبقى الحكم الإعرابي على أصله منصوباً بفتحة مقدرة على أخر الخبر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
لا يعنون بلفظ الزيادة أنها تأتي عبثاً أو لغواً، وإنما هي زائدة عندهم للتأكيد. وقد جاء "ابن هشام" بهذه الباء الزائدة في الخبر، مع خمسة مواضع أخرى لزيادة الباء، وأدرجها جميعاً تحت حكم عام هو: معنى التأكيد المستفاد من الباء الزائدة.
ومع تنبههم إلى أن من هذه المواضع ما تكون الزيادة فيه واجبة وغالبة وضرورة، جرت الصنعة الإعرابية على قصر عملها على اللفظ دون المعنى.
وباستقراء ما في القرآن من خبر "ما، وليس" تلقانا كثيرا، ظاهرة مجيء هذه الباء المقول بزيادتها، في خبرهما المفرد الصريح غير المؤول.
وقد أحصيت من مواضع مجيء الباء في خبر "ليس" الصريح المفرد، ثلاثا وعشرين آية، في مقابل ثلاث آيات فحسب، جاء فيها خبر ليس غير مقترن بالباء. وهي آيات:(النساء 94، هود 8، الرعد 43)
ولها سياقها الخاص، نتدبره بعد.
وكذلك خبلا "ما" الصريح المفرد يأتي غالباً مقترناً بالباء المقول بزيادتها، إلا أنْ تُتلىَ "ما" النافية، بالفعل "كان" فينصب الخبر به صريحاً مفرداً غير مقترن بالباء في آيات:
البقرة: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ومعها آيتا: الأنعام 144، ويونس 45.
آل عمران 67: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا}
الأعراف 7: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}
الأنعام 23: {إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
الأنفال 33: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
يوسف 111: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}
الإسراء 15: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
الإسراء 20: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
الكهف 51: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}
مريم 64: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
الشعراء 8: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} 67، 103، 121، 139، 158، 174، 190.
الشعراء 209: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} .
النمل 32: {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}
القصص 45: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ}
الأحزاب 40: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}
وأنظر معها آيات: البقرة 196، الأنفال 35، يونس 37، 71، هود 20، يوسف 73، 81، الكهف 28، مريم 4، 28، الأنبياء 8، يس 28، الأحقاف 9، الزخرف 13. . .
وأما في غير أسلوب "كان" فالأكثر في البيان القرآني أن يقترن خبر "ما" الصريح، بهذه الباء المقول بزيادتها.
لم تتخلف فيما أذكر إلا في آية المجادلة:
وآية يوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}
وأما هذه الظاهرة الأسلوبية، من غلبة اقتران خبر "ما، وليس" بالباء، لا يهون القول بأنها حرف زائد، إذ مقتضى القول بزيادتها، إمكان الاستغناء عنها واطراحها، وهو ما لا يؤنس إليه البيان القرآني.
* * *
والمفسرون يذهبون كذلك إلى أن هذه الباء زائدة للتأكيد.
وفي منهجنا، لا تؤخذ الباء هنا بمعزل عن نظائرها، وقد نلحظ في آيات قرآنية أن الباء تقترن بخبر المنفي بـ "ليس" فلا تؤكد النفي، بل تنقضه وترده تقريراً وإلزاماً مثل قوله تعالى:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
الباء فيها لم تؤكد النفي، بل هي تنقُضه وتجعله تقريراً وإثباتاً.
فلننظر إذن في كل الآيات التي يقترن فيها خبر "ما وليس" بالباء، مقارَنةَ بالتي استغنى الخبر فيها عن هذه الباء، لعل الاستقراء يهدينا إلى ملاحظ بيانية في الكتاب العربي المبين المحكمّ، تعطي سر هذه الباء: متى تلزم الخبر؟ ومتى يستغنى عنها؟
ونبدأ بخبر "ما" غير المتلوة بكان، فنلحظ في النظم القرآني أن الباء تلزمه في الآيات المحكَمات:
البقرة 8: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}
البقرة 74: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
معها آيات: البقرة 85، 140، 144، 149، آل عمران 99.
الأنعام 132: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
معها: هود 123، النمل 93.
الأنعام 107: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
معها: الشورى 6.
البقرة 102: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
ق 29: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
معها: فُصلت 46.
البقرة 167: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}
هود 29: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}
معها: الشعراء 114.
هود 83: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}
يوسف 17: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}
النحل 46: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}
غافر 56: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}
إبراهيم 22: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} والأنعام 134.
يوسف 44: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}
يوسف 103: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}
الشعراء 137، 138:{إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}
النمل 81: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} . ومعها: الروم 53.
فاطر 22: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
الصافات 162: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ}
الطور 29: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} . ومعها: القلم 2.
التكوير 22 - 24: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
الطارق 13، 14:{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}
فهل تكون الباء زائدة، مع اطراد مجيئها في هذا الأسلوب، لم تتخلف فيما أذكر، إلا في آيتى المجادلة:{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ}
ويوسف: {مَا هَذَا بَشَرًا} ؟
أو هل يكفي القول بأن الباء زيدت لمجرد تأكيد النفي؟
العربية تعرف أساليب عدة للتأكيد اللفظي والمعنوي، كالقسم والتكرار وأدوات التأكيد المعروفة، ولابد أن يكون لكل أسلوب منها ملحظّ بيانيِ يميزه عن سواه.
وقد نحس في كل هذه الآيات التي اقترن فيها خبرُ "ما" بالباء، أن المقام مقام جحد وإنكار،
ولعله قد أغنى عنها في آيتى المجادلة ويوسف، التقرير المستفاد من القَصْر بعدهما:{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} {إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} .
كما أغنى عنها في خبر "ما كان" أن النفي بهذا الأسلوب يفيد الجحد، فاستغنى عن الباء.
* * *
وننظر في خبر "ليس" فيهدى البيان القرآني إلى وجوب التفرقة بين الجمل الخبرية منها، والجمل الاستفهامية.
فحيث يجئ النفي بليس في الجمل الخبرية، في مقام الجحد والإنكار اقترن الخبر بالباء، كما في آيات:
البقرة 267: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
آل عمران 182: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
معها: الأنفال 51، الحج 10، فصلت 46.
المائدة 116: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}
الأنعام 66: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}
الأنعام 89: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
الحجر 20: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}
الأنعام 122: {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
الأحقاف 32: {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ}
المجادلة 10: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}
ولا يستوي البيان بهذا الباء، والاستغناء عنها في خبر "ليس" بأسلوب النفي البسيط المعتاد، حين يكون قائل الجملة الخبرية غير مستيقن مما ينفيه، بل يجرى لسانه بهذا النفي وفي نفسه من الأمر شيء يمنع من التقرير والجحد، كالذي في آية الرعد:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} 43.
أو يكون المقام في حاجة إلى التثبيت قبل نفي الخبر، كآية النساء:
أو يغني عن تقرير النفي بالباء، تعقيبٌ على الجملة الخبرية بما ينقلها من الإخبار عن غيب لم يقع، إلى ماض قد تقرر وكان، كآية هود:
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ
لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} 8.
وهذه الآيات الثلاث فحسب، هي التي لم يقترن خبر ليس فيها بالباء، في الكتاب العربي المبين.
* * *
هذا عن الجمل الخبرية المنفية بـ "ليس".
وأما الجمل الاستفهامية، فيطرد مجئ الخبر فيها مقترناً بالباء، لا يتخلف.
وما من آية منها، يمكن أن تحتمل نفياً أو تأكيداَ لنفي، بل ينتقص النفي فيها جميعاً، ويصير إلى إثبات مؤكد وتقرير ملزم.
ويبلغ التقرير والإثبات فيها، أن يُستغنَى عن جواب المستفهَم عنه، أو يجاب عنه بلفظ "بلى" المختص بإيجاب ما يُستفهم عنه منفياً.
فلنتدبر كل ما في القرآن من آيات استفهامية لجملٍ منفية بليس، والخبر فيها صريح غير مؤوَّل:
الأنعام 30: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}
الأنعام 53: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}
الأعراف 172: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا}
هود 81: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}
العنكبوت 10: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}
الزمر 37: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}
الأحقاف 34: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا}
القيامة 40: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
التين 7، 8:{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}
النفي في هذه الآيات جميعاً قد انتقض وخرج إلى تقرير باتَّ وإثبات حاسم.
فهل جاء معنى التقرير والإثبات في هذه الآيات، من خروج الاستفهام عن معناه الأصلي، على ما قرره علماء البلاغة؟.
معروف أن الاستفهام قد يخرج إلى هذا الوجه من التقرير، كما قد يخرج إلى وجوه أخرى كالاسترحام والضراعة أو النفي والزجر والوعيد أو التوقُّع والانتظار. . .
وهذه الآيات خاصة بالاستفهام عن منفى بليس، وقد انتقض النفي فيها جميعاً وخرج إلى التقرير لا إلى أي وجه آخر من الوجوه التي يعرفها البلاغيون.
ومن حيث اطرد اقتران الخبر فيها بالباء، تعين أن يكون لهذه الباء أثرها في الدلالة البيانية.
فلو قلنا مثلاً: ألست غافلَا عما حولك؟ أليس الصبح قريباً؟
احتمل الاستفهام أن يكون على معناه الأصلي من طلب الفهم، وأن يخرج إلى التوبيخ أو التنبيه أو السخرية والتهكم أو التوقع والانتظار.
ولا شيء من هذه المعاني، مما تحتمله آيات الاستفهام المقترن خبر ليس فيها بالباء، وإنما هي للتقرير والإثبات لا لمعنى آخر.
وهذا هو سر الباء التي قالوا إنها زائدة على الخبر لمعنى التأكيد، ثم جروا على إبطال عملها أصالةَ في الخبر، وأعربوه منصوباً منع من ظهور حركته الأصلية اشتغالُ محلها بحركة حرف الجر الزائد.
* * *
وخلاصة ما هدى إليه الاستقراء لآياتها في البيان القرآني:
- أن الجمل الخبرية المنفية بـ "كان" لا يقترن خبرها بالباء. ووجه الاستغناء عن الباء، أن النفي بهذا الأسلوب يفيد الجحد أصالةَ، شأنه شأن أسلوب الجحد في الفعل:"ما كان الله ليعذبهم".
- حيثما جاء الخبر منفياً بما أو ليس، في الجمل الخبرية، واقترن الخبر بالباء، أفادت تقرير النفي بالجحد والإنكار.
وتلزم الباء خبر ما وليس في هذا السياق، في البيان القرآني: ولا تتخلف إلا حين يكون المقام مستغنياً عن تقرير النفي، أو محتملاً لشك في الخبر.
- في الجمل الاستفهامية، يطرد اقتران خبر ليس بالباء، وبها ينتقض النفي ويخرج الاستفهام إلى إثبات حاسم وتقرير بات، لا إلى أي وجه آخر من سائر الوجوه التي يعرفها علم البلاغة في خروج الاستفهام عن معناه الأول في أصل اللغة.
* * *
وإذ كشف حرف الباء عن سره في البيان الأعلى، يبدو القول بزيادته مما يجفوه حس العربية المرهف. ولا يلطف من هذه الجفوة أن نعلم أنهم لم يعنوا بالزيادة مجرد الحشو أو الفضول، بل أدرجوها تحت الحكم العام لمعنى التأكيد بالباء الزائدة.
ولا أدري ما إذا كان من المجدي، أن أقول في هذه الباء غيرَ ما قرره النحاة،
كي تبقى حرفاً أصلياً غير زائد؟ وتظل على أصيل معناها في الإلصاق، وتعمل عملها المباشر في الخبر ملصقة به غير معقول بزيادتها، ومنها معاً يستفاد خبر المنفي بما وليس؟
غير أني لا أشك في أننا لو رجعنا النظر في سائر المواضع الأخرى التي قال النحاة فيها إن الباء تأتي فيها زائدة، لهدى الاستقراء إلى ملاحظ بيانية ذات بال.
* * *
ولعنا كذلك نعيد النظر في حروف أخر قالوا بزيادتها، لنلتمس سرها في البيان القرآني، كحرف "من" في آية الحجرات:
تَصَرَّفَ به الظرفُ "وراء" من جموده مبيناً بمعنى خلف، إذ ليس الحكم في الآية مقيداً بالنداء خلفَ الحجرات، بل من أي جهة من وراء حجراته صلى الله عليه وسلم نادوه منها.
ومن النظائر قوله تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} . الحشر 14.
{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} المؤمنون 100.
وسيأتي في الحديث عن "الظواهر الأسلوبية وسر التعبير" مثل آخر من قولهم بزيادة "لا" النافية قبل فعل القسم، في مثل قوله تعالى:
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}
* * *
وننظر في حروف أخرى لم يتأولوها على تقدير زيادتها، بل قدروها محذوفة، ومضوا في تأويل الآيات على تقدير حرف محذوف وهو مراد؟
ولنأخذ مثلَا: حذف حرف "لا" مقدراً، في آيات:
يوسف 85: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ}
النساء 176: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
البقرة 184: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
تأويل الحذف فيها، يخضع للقاعدة النحوية في حذف "لا النافية".
وهم يقولون إنها تُحذف اطراداً في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً.. وقدموا له شواهد من الشعر، وأما القرآن الكريم فقدموا منه آية يوسف:{تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} .
على تأويل حرف (لا) محذوفاً، والتقدير: تالله لا تفتأ تذكر يوسف.
والذي نفهمه، هو أنه متى اطرد الحذف - كقولهم - فالسياق حتماً مستغنٍ عن المحذوف، ولا وجه إذن لتقدير الحرف ثم تأويل حذفه.
لأن السياق متى أعطى المعنى المراد، مستغنياً عن هذا الحرف أو عن غيره، كان ذكره من الفضول أو الحشو الذي يتنزه عن الكلام البليغ، فضلاً عن البيان المعجز. وأراهم في تقدير حرف نفي محذوف، حملوا "تفتأ" على:"مازال" أْمَّ الباب من أفعال الاستمرار. وقد نلحظ أن "زال" لا تكون فعل استمرار إلا منفية، ومضارعها: ما يزال فإذا لم يسبقها حرف نفي فهي تامة بمعنى الزوال
نقيض البقاء، ومضارعها: يزول واستعمالها تامة، كثير في العربية. وهي تتصرف فيه: فعلاً ومصدراً واسم فاعل ومفعولٍ وزمانٍ ومكان. . .
على حين تفيد "فتئ" معنى الاستمرار أصالة مستغنية عن حرف النفي. ولا تأتي تامة في العربية، فيما أذكر. وقلما تتصرف فيها إلا بالفعل ماضياً ومضارعاً: فتئ يفتأ. ولا ينفك عنهما معنى الاستمرار.
* * *
وأما ما جوزوا فيه الحذف بغير اطراد، فذكر ابن هشام في (المغني) أنه قيل به في آية:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} على تقدير: لئلا تضلوا. ثم أضاف: "وقيل: المحذوف مضاف، أي: كراهةَ أن تضلوا"
والآية من آيات الأحكام في تشريع المواريث. وسياقها مستغن تماماً عن تقدير حرف محذوف لم يجد البيان القرآني حاجة إلى ذكره. إذ لا يخطر على البال، إيهامُ أن يكون المعنى: يبين الله لكم لتضلوا! وإنما يبين الله لنا ما نتقي به الضلال.
ومتى أعطى السياقٌ المعنى المراد مستغنياً عن الحرف الذي قدروه محذوفاً، فذِكْرُ المحذوف الذي لا حاجة إليه، يأباه البيان العالي. إذ لو كان الحذف مما يوقع في شبهة إيهام، لاقتضى المقام وجوب ذكره دفعاً لأي وَهْم. ولعله مراد "ابن جنى" في (باب في أن المحذوف إذ دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به) إذ استهل الباب قبله (في الاستغناء عن الشيء بالشيء) بقول سيبويه:"أعلم أن العرب قد تستغني بالشيء عن الشيء حتى يصير المستغني عنه مُسقَطاَ من كلامهم".
* * *
ونتدبر آية الإفطار والفدية في تشريع أحكام الصيام:
والكلام فيها يطول: فالحذف فيها ليس مما يطرد على قواعد النحاة، وإنما هو مما يجوز ولا يطرد.
وقد اختلف علماء الأحكام والمفسرون في القول بنسخها أو إحكامها، وفي تأويلها على القولين:
منهم من قال إنها منسوخة، والقول بنسخها هو أول ما أورده "الطبري" من الأقوال في تفسيرها:
"قال بعضهم، كان ذلك في أوَّل ما فُرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين - غير المسافرين - صامه إن شاء، وإن شاء أفطره وافتدى فأطعم لكل يوم أفطره مسكيناً، حتى نُسخ ذلك، فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر"
يعني النسخ يقوله تعالى في الآية بعدها:
على أن الإمام الطبري، نقل كذلك، بعد القول بنسخ الحكم في الآية، قولَ آخرين:"لم يُنسخ ذلك ولا شيء منه. وهم حُكم مثبت مِن لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة".
وأصح الأقوال فيها عنده "أبي جعفر النحاس"، أنها منسوخة، ومن لم يجعلها منسوخة فبمعنى يطيقونه على جهد، أو كانوا يطيقونه. ولم يتعرض لقول بتقدير "لا" محذوفة ونقل فيها "أبو بكر الجصاص" في كتابه (أحكام القرآن) سورة البقرة، أقوالاً ثلاثة. أنها منسوخة، وغير منسوخة، وأن حكم النسخ للصحيح المقيم والمريض المسافر، والإفطار والفدية للشيخ لا يرجى له قضاء في أيام أخر. "فحكمة إيجاب الفدية في الحال، من غير خلاف أحد من نظرائهم - القائلين به - فصار ذلك إجماعاً لا يسع خلافه".
وعند "الزْْمخشري": أن يكون الحكم منسوخاً، وأن يكون تأويل الآية على تقدير: يتكلفونه على جهد منهم وعسر، وهم الشيوخ والعجائز. . . وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه غير منسوخ (الكشاف) .
وأما "القاضي أبو بكر ابن العربي" فقال في كتابيه (أحكام القرآن، والناسخ والمنسوخ) إن الآية منسوخة. نقله القرطبي في (جامع أحكام القرآن) فيما تقصى من أقوال في الآية، ثم قال:"فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية ليست بمنسوخة، وأنها محكة في حق من ذكر - الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم، والمرضع والحامل إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا - والقول الأول، بنسخها، صحيح أيضاً إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص".
وحاصل الأمر عند "ابن كثير" في تفسيره: "أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام فلع أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنه ليست له حال يتمكن فيها من القضاء".
وأوجز السيوطي فقال في (إتقانه) : قيل منسوخة بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقيل محكمة، و"لا" مقدرة.
والقول بأن لا "محذوفة وهي مرادة" مما تداوله عدد من المفسرين، والفقهاء، في تأويل الآية، على القول بأنها محكمة غير منسوخة. وهي من شواهد "ابن هشام" في (المغني) على جواز حذف "لا" وهي مرادة، على ما نقلنا آنفاً. قال "أبو حيان" بعد أن ذكر أن القول بنسخها هو قول أكثر المفسرين:"وجوَّز بعضهم أن تكون "لا" محذوفة، فيكون الفعل منفياً، وتقديره: وعلى الذين لا يطيقونه. حذَف "لا" وهي مرادة، كقول الشاعر:
آليت أمدح مقرفاَ أبداًَ. . . متى المديح ويذهب الرفد
وقال آخر:
فخالِفْ فلا والله تهبطُ تلعة. . . من الأرض إلا أنت للذلَّ عارفُ
وقال امرؤ القيس:
فقلت يمينَ اللهِ أبرحُ قاعداً. . . ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
ثم عقب أبو حيان: "وتقديرُ (لا) خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم هو أن الفعل مثبت؟ ولا يجوز حذف (لا) وإرادتها إلا في القسم. والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم. وعلة ذلك مذكورة في النحو". البحر المحيط.
والنحو لم يمنع حذف (لا) في غير القسم، وإنما القاعدة حذفها اطراداً مع القسم إذا كان المنفي فعلاً مضارعاً، وجوازه في غيره، على ما نقلنا آنفاً من كلام ابن هشام في (المغني) .
تبين من هذا العرض الموجز، أن الآيتين المختلف على القول بالنسخ فيهما تشرعان لحالين مختلفتين: الفدية على من يطيقونه، طعام مسكين.
والقضاء على من كان مريضاً أو على سفر، عدةً من أيام أخر.
والقضاء لا يكلف به إلا من عرض له عذر يبيح الإفطار في شهر رمضان، ثم يلزمه القضاء بعد زوال العذر فيصوم بعدد الأيام التي أفطراها.
وفي مثل هذا لا تقبل الفدية بديلاً من القضاء.
وإنما الفدية بنص الآية "على من يطيقونه".
فهل هم الذين لا يطيقونه؟
نستبعد، والله أعلم، أن تكون "لا" حُذفت هنا وهي مرادة. فالآية من آيات التشريع والأحكام. وغير قريبٍ أن يعبر عنها القرآن بالإيجاب والثبوت، فنتأولها على النفي والحذف.
ونأخذ بقول أبي حيان:
"وتقدير (لا) خطأ، لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم هم أن الفعل مثبت"؟
لقد قال تعالى في أحكام الصيام: "وعلى الذين يطيقونه" فيما ينبغي لنا أن نتأولها بالنفي: وعلى الذين لا يطيقونه، فنخرجها بهذا النفي إلى نقيض نصها الصريح بالإثبات.
ولعل الذين تأولوا الآية على تقدير حذف "لا" - صراحة أو مآلاً، فهموا "يطيقونه" بمعنى: يستطيعونه.
وليست الكلمتان: يطيقونه ويستطيعونه، سواء.
في لفظ الاستطاعة، حسُّ الطواعية والمواتاة والقدرة. ولو كان المكلَّف بحيث يستطيع الصوم، فالتكليف قائم لا تقبل عنه فدية ولا قضاء. وبه نفهم ما روى عن عطاء في "الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم".
وأما الطاقة فهي في العربية أقصى الجهد ونهاية الاحتمال. وحين يقول العربي لصاحبه: هل تطيق هذا؟ لا يقولها إلا وهو يقدر أن هذا مما لا يحتمل ولا يستطاع.
وبهذه الدلالة على أقصى الجهد ونهاية الاحتمال، نُقل لفظ الطاقة إلى المصطلح العلمي في الطبيعية والرياضيات.
وجاءت "طاقة" مرتين في القرآن الكريم، بآيتي البقرة:
{قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}
{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
وبهما نستأنس في فهم الآية الثالثة:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
فندرك أن الأمر في احتمال الصوم إذا جاوز الطاقة إلى ما لا يطاق، سقط التكليف. لأنه لا تكليف شرعاً بما لا يطاق، والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً
إلا وسعها. فالحكم بالفدية في الآية. غير وارد على من يستطيعونه، إذ التكليف مع الاستطاعة قائم.
وغير وارد كذلك على من لا يطيقونه، بسقوط التكليف عمن لا يطيق.
وإنما الفدية تيسير على من يطيقونه، بمعنى من يستنفذ الصوم طاقتهم وأقصى احتمالهم، فليسوا بحيث يستطيعون القضاء عدة من أيام أخر.
ونقبل هنا قول من ذكروا في تفسير الآية:
"المريض الذي لا يرجى شفاؤه، والشيخ الفاني الهرم، لا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء"
كما نقبل قول الزمخشري:
"يطيقونه، يتكلفونه على جهد منهم وعسر. وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية. وهو على هذا الوجه غير منسوخ"
تيسيراً على من لا يستطيعون القضاء عدة من أيام أخر.
وتبقى الآية على صريح نصها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} دون تأويلها على >حذف لا النافية وهي مرادة" والله أعلم.
ذلك مَثَلٌ مما قالوا فيه بحذف الحرف، يمكن أن يصدق على حروف أخر قالوا فيها بالتأويل على الحذف، ويقوم النص في البيان القرآني مستغنياً عن تقدير حرف محذوف، ولافتاً إلى سر البيان في الاستغناء عما قدروه محذوفاً.
* * *
ومن النظائر، قوله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} فاطر 41.
{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} الحج 65.
وأنظر معها آيات: البقرة 282، المائدة 2، الحجرات 6، الفتح 25. . .
* * *
وقريب من هذا، الإبقاءُ على حرف "لا" مع تعطيل دلالته في صريح النص، كمثل صنيعهم في تأويل آية التوبة:
صريح سياقها: نفىُ استئذان المؤمنين في الجهاد. حَملها مفسرون على نفي الاستئذان في التخلف والقعود وترك الخروج للجهاد. من حيث بدا لهم أن الاستئذان لا يكون إلا في التخلف والقعود. قال الإمام الطبري:
"فأما الذي يُصدق بالله ويقر بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذن في ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه. وعن ابن عباس: فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر. وعذَر الله المؤمنين، فقال: لم يذهبوا حتى يستأذنوه صلى الله عليه وسلم ".
وهذا التأويل بنفي الاستئذان في القعود، يبدو مخالفاً لما ذهب إليه الزمخشري في تفسير الآية:
"ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا. وكان الخُلَّص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي أبداً، ولنجاهدن أبداً معه بأموالنا وأنفسنا".
ونحتكم إلى النص القرآني، فنرى أن الأوْلى حمل الآية على نفي استئذان المؤمنين "أن يجاهدوا" لا أن يتخلفوا ويقعدوا. فليس المؤمن بحيث يستأذن في أن يؤدي فريضة الجهاد، كنا لا يستأذن في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج.
وآية التوبة نزلت في "غزوة تبوك" ولا مجال لاستئذان في الخروج مع المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد أن استفز أصحابه للجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل أن الاستئذان في مثل هذا الموقف أقرب إلى أن يكون مظهر تردد وتباطؤ. فالمترددون هم الذين يستأذنون المصطفى في الخروج معه، عن ارتياب وحيرة بين أن يخرجوا أوْ لا يخرجوا. ولو أنهم أرادوا الخروج حقاً لبادروا بالاستعداد له دون أن يترددوا ويتباطئوا، انتظاراً لإذنه صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو ما تعطيه الآية بصريح تعلق استئذان المؤمنين فيها بأن يجاهدوا، وصريح سياقها مع الآيات بعدها:
ومعها آية التوبة (83) في هؤلاء المنافقين الذين ارتابت قلوبهم في ربيهم يترددون:
وإذ يقول تعالى لنبيه المصطفى:
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا. . .}
نفهم الآية المحكمة بصريح لفظها وسياقها، دون تأويل لها بمثل ما نقل فيها الطبري: لا يستأذنك في ترك الغزو والجهاد.
* * *
وننظر في حروف أخرى لم يقولوا فيها بتأويل على تقدير زيادة أو حذف، وإنما أخذوا فيها بمذهبٍ للنحاة يقول إن حروف الجر يمكن أن تتعاقب فيأخذ أحدها مكان الآخر وينوب بعضها عن بعض. . . "وهذا مما يتداولونه ويستدلون به" كما قال "ابن هشام".
وهو مذهب رفضه من وصفهم "أبو هلال العسكري" بالمحققين من أهل اللغة، ونقل عن "ابن درستويه" قوله:
"في جواز تعاقبهما - أي الحرفين - إبطالُ حقيقة اللغة وإفسادُ الحِكمة فيها والقولُ بخلاف ما يوجبه العقل والقياس".
"قال أبو هلال: وذلك أن الحروف إذا تعاقبت خرجت عن حقائقها ووقع كل واحد منها بمعنى الآخر، فأوجب ذلك أن يكون لفظان مختلفان لهما معنى واحد. فأبى المحققون أن يقولوا بذلك، وقال به من لا يتحقق المعاني".
وقال "ابن هشام" تعقيباً على قولهم إن بعض حروف الجر ينوب عن بعض: "وتصحيحه بإدخال (قد) على قولهم: ينوب عن بعض. وإلا تعذر استدلالهم به، إذ كل موضع ادعوا فيه ذلك، يقال لهم فيه: لا نسلم أن هذا مما وقعت فيه النيابة. ولو صح قولهم، لجاز أن يقال: مررتُ في زيد، ودخلت من عمر، وكتبت إلى القلم.
"وعلى أن البصريين ومن تبعهم يرون في الأماكن التي ادُّعِيتْ فيها النيابة، أن الحرف باق على معناه" فإن كان تجوُّز فليكن في الفعل، لأن التجوز في الفعل أسها منه في الحرف.
ونعرض هذا الخلاف على البيان الأعلى: فيأبى أن نتأول حرفاً منه بحرف آخر
يمكن أن ينوب عنه. من ذلك مثلاً، قوله تعالى: في آية التوبة:
{فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} 45.
قيل إن حرف "في" يمكن أن يتأول بحرف منْ أو اللام، على تقدير: فهم من ريبهم، أو لريبهم، يترددون.
ولا يقوم أحد الحرفين مقام الحرف في النص القرآني. وليس المقصود منه التعليل المستفاد من حرف اللام.
وإنما مناط التعبير فيه هذا الانغماس والملابسة الملحوظة في ظرفية "في"
* * *
وحرف "عن" في آية الماعون:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
نستبعد قول من تأولوا السهو عن الصلاة في الآية، بأنه سهو في الصلاة، فليس السهو فيها بخطيئة أو منكر، وكل مؤمن عرضة لأن يسهو في صلاته فينجبر سهوه في الصلاة بسجود السهو أو بالسنن والنوافل على ما هو مقرر في باب صلاة السهو من أحكام العبادات.
كما لا نطمئن في تفسير السهو عن الصلاة، إلى ما ذهب إليه الإمام الطبري في قوله:"وأوْلى الأقوال عندي بالصواب، أنهم ساهون لاهون يتغافلون عنها وفي اللهو عنها والتشاغل بغيرها تضييعها أحياناً وتضييع وقتها أحياناً أخرى، فصح بذلك قولُ من قال: عنى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنى تركَها".
وقريب من هذين الوجهين في تأويل السهو عن الصلاة بتركها أو ترك وقتها ما أضافه الزمخشري: أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف. ولكن ينقرونها نقراً من غير خشوع وإخبات، ولا اجتناب لما يُكره فيها
من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، ولا يدرى الواحد منهم كما انصرف، ولا ما قرأ من السور".
وحين نفهم الآية في سياقها مع الآيات قبلها، ومع الآية التالية لها وقد ارتبطت بها ارتباط الصلة بالموصول:{الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} .
يعطينا حلاف "عن" سره، فنرى النذير بالويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون غافلون عن كونها قياماً بين يدي الخالق، يكبح غرور الإنسان وينهاه عن الفحشاء والمنكر، ويأخذه بالخشوع والتواضع أمام جلال خالقه وعظمته وقدرته، ويرهف ضميره فيتقي الله في اليتيم والمسكين مؤدياً حقهما في التواصي بالمرحمة.
ليس السهو عن الصلاة إذن سهواً فيها ولا تركاً لها أو ترك وقتها، أو العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب، وإنما هو سهو عن حكمتها، ومراءاة بها، قد يؤديها بعضهم في أوقاتها، ويتظاهرون بالخشوع فيها والإخبات رثاء الناس وقصداً إلى منفعة. وصلاة الذي يدُّ اليتيم ولا يحض على طعام المسكين، لا يمكن أن تصدر عن قلب خاشع وضمير مؤمن، وحين لا تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر، فذلك، والله أعلم، هو السهو عنها، تعود به طقوساً شكلية ونفاقاً من المصلين يراءون به الناس.
* * *
ونتدبر معها حرف "ثم" في آية البلد:
وقف مفسرون طويلاً عند عطف الإيمان على فك رقبة، بحرف "ثم" الذي يفيد الترتيب مع التراخي فتأولوه بما يخرج به من صريح سياقه وظاهر معناه، ليفيد
إبعاد الإيمان عما قبله، والتراخي في الرتبة لا الترتيب.
قالوا: إن "ثم" جئ بها هنا قصداً إلى إبعاد الإيمان عن فك رقبة أو إطعام يتيم أو مسكين، كيلا يكون معهما في رتبة واحدة. ونص عبارة "الزمخشري" في (الكشاف) :
"جاء بـ (ثم) لتراخي الإيمان وتباعده في الفضيلة والرتبة عن العتق والصدقة، لا في الوقت. لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به"
وإلى مثل هذا ذهب "أبو حيان" وزاده تفصيلاً فقال:
"ثم: لتراخي الإيمان في الفضيلة لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمانُ، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع. أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموتَ على الإيمان إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، أو يكون التراخي في الذكر، كأنه قيل: ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا. . . ".
* * *
وبعيداً عن مثل هذه التأويلات، نأخذ حرف "ثم" على صريح معناه في السياق، فنفهم أن القرآن إذ يرتب مراحل اقتحام العقبة الجدير بالإنسان المميز أن يكابده، يضع العتق والتراحم خطوتين سابقتين على الإيمان لازمتين له، مقرراً بذلك أن الإيمان لا يُرجَى فيمن يتسلط على عباد الله بالاسترقاق، أو يتحجر قلبه فيطيق في يوم ذي مسْغبة، جوعَ يتيم ذي مقربة أو مسكين ذي متربة. فلا موضع لإيمان صادق، من مثل هذا الجاحد القاسي، يستعبد الخلق ويغفل عن حق اليتيم القريب أو المسكين في يوم مجاعة!. ويؤنس إلى هذا الفهم لحرف "ثم" آية الماعون:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى
طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وآية آل عمران:
والإيمان فيها مسبوق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا حاجة إلى احتراز بمثل قولهم: إن الإيمان شرط قي صحة الطاعات.
لأن هذا من أصل العقيدة. وإنما يحترز عن الظن بأن ظاهر الإيمان يغني عن المجاهدة والبذل والإيثار، وأن أداء العبادات يعفي من تكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنواصي بالصبر والحق والمرحمة. . .
* * *
ومن الحروف التي تأولوها في القرآن الكريم، حرف الواو في آية النساء:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} - 3.
كأنهم حسبوا أن العطف بالواو يعطي حاصل الجمع: تسع نساء!
فقالوا: إن الواو فيها نائبة عن "أو"
وقد يكفي أن أنقل هنا من ردَّ "ابن هشام":
"ولا يُعرف ذلك في اللغة، وإنما يقوله بعضُ ضعاف اللغويين والمفسرين".
ثم نقل من كلام "أبي طاهر حمزة بن الحسن الأصفهاني" في كتابه (الرسالة المعربة عن شرف الإعراب) :
"القول فيها - أي في آية النساء - بأن الواو بمعنى أو، عجز عن دَرْك الحق. فاعملوا أن الأعداد التي تجمع قسمان: قسم يؤتَى به ليُضَم بعضَه إلى بعض، وهو الأعداد الأصول، نحو:
{ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}
"ولم يقولوا: ثُلاثَ وخماسَ، ويريدون ثمانية" كما قال تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
* * *
ونستأنس لفهم آية النساء، بآية فاطر:
وآية سبأ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} 46.
فندرك دلالة الواو في مثل هذا السياق، بما يفيد من كون الملائكة ليسوا جميعاً سواء أولى أجنحة مثنى، أو ثلاثَ، أو رُباعَ، بل منهم أولو أجنحة مثنى، ومنهم أولو ثلاث، وأولوا رُباع.
وفي (آية سبأ) يجوز لهم أن يقوموا لله مثنى وأن يقوموا فرادى أي وحدانا ومجتمعين. ولو كان القول: مثنى أو فرادى، للزم أن يقوموا جميعاً، إما مثنى وإما فرادى.
وبهذا الاستئناس، لا نرى السياق يستقيم، بل لا نرى المعنى يصح إطلاقاً، إذا ما وضعنا "أو" نيابة عن "الواو" في آية النساء. لأن مقتضى التخيير بـ: أو، أن ينكحوا إما مثنى أو ثلاث أو رباع، بحيث لا يحل لمن اختاروا أن ينكحوا مثنى، أن ينكحوا ثلاث أو رباع. وليس هذا هو الحكم المستفاد من الآية، في إباحة تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع، ثم لا يتجاوز إلى المحظور وراء رباع.
ويخطئ سر العربية مّن لا يفرق بين: مثنى وثلاث ورباع، وبين اثنتين وثلاث وأربع، مجموعها تسع، فالأعداد لا تجمع إلا إذا جاءت على أصلها غير معدول بها إلى: مثنى وثلاث ورباع.
كما يخطئه من لا يميز بين "مثنى وثلاث ورباع" بما تفيد من إباحة التعدد مثنى وثلاث ورباع، بحسب الظروف والأحوال؛ وبين: مثنى أو ثلاث أو رباع، بما تفيد من دلالة التخيير يُقْتصَرُ فيها إما على مثنى أو ثلاث، أو رباع.
* * *
أحسب أن هذه الشواهد التي قدمتها تكفي لاجتلاء سر الحرف لا يقوم مقامه
ويُغني عن مزيد تتبع هنا، ما قد يتاح لنا من تدبر سر الحرف في سياقه القرآني عند الحديث عن "الأسلوب وسر التعبير" ثم في مسائل ابن الأزرق وأخص بالذكر منها المسألتين 120، 121.
* * *