الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعجزة
من فجر المبعث، فرض القرآن إعجازه
على كل من سمعوه من العرب، على
تفاوت مراتبهم فى البلاغة، وقد تحير
المشركون فى وصفه، وحرصرا على أن
يصدوا العرب عن سماعه، عن يقين
بأنه ما من عربى يخطئه أن يميز بين هذا
القرآن، وقول البشر.
قضية الإعجاز البياني بدأت تفرض وجودها على العرب من أول المبعث.
فمنذ تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام فى قومه ما تلقى من كلمات ربه،
أدركت قريش ما لهذا البيان القرآني من إعجاز لا يملك أي عربي يجد حسَّ
لغته وذوقها الأصيل، سليقة وطبعًا، إلا أن يسلم بأنه ليس من قول البشر.
من هنا كان حرص طواغيت الوثنية من قريش، على أن يحولوا بين العرب
وبين سماع هذا القرآن. فكانوا إذا دنا الموسم وآن وفود قبائل العرب
للحج، ترصدوا لها عند مداخل مكة، وأخذوا بسبل الناس لا يمر بهم أحد
إلا حذروه من الإصغاء إلى ما جاء به "محمد بن عبد الله" من كلام قالوا إنه
السحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه، وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته.
وربما وصلت آيات منه إلى سمع أشدهم عداوة للإسلام، فألقى سلاحه
مصدقا ومبايعًا، عن يقين بأن مثل هذه الآيات ليست من قول البشر.
حدثوا أن عمر بن الخطاب خرج ذات مساء متوشحا سيفه يريد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورهطا من أصحابه، فى بيت عند الصفا سمع
أنهم مجتمعون فيه، فلقيه فى الطريق من سأله:
- أين تريد يا عمر،
أجاب: أريد محمدًا هذا الصابئ الذى فرق أمر قريش وسفه أحلامها
وعاب دينها وسبَّ آلهتها، فأقتله.
قال له محدثه:
- غرْتك نفسك ياعمر! أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض
وقد قتلت محمدًا، أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم،
سأله عمر، وقد رابه ما سمع:
- أي أهل بيتى تعنى،
فأخبره أن صهره وابن عمه "سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل " قد أسلم.
وكذلك أسلمت زوجه، أخت عمر "فاطمة بنت الخطاب ".
فأخذ عمر طريقه إلى بيت صهره مستثار الغضب، يريد أن يقتله ويقتل
زوجه فاطمة.
فما كاد يدنو من الباب حتى سمع تلاوة خافتة لآيات من سرة
طه، فدخل يلح فى طلب الصحيفة التى لمح أخته تخفيها عند دخوله. . .
وانطلق من فوره إلى البيت الذى اجتمع فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأصحابة، فبايعه.
وأعز الله الإسلام بعمر، وقد كان من أشد قريش عداوة للإسلام.
وفي حديث بيعة العقبة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ندب صاحبه
مصعب بن عمير ليذهب مع أصحاب العقبة إلى يثرب، ليقرئهم القرآن
ويعلمهم الإسلام.
فنزل هناك على أسعد بن زرارة الأنصارى الخزرجى.
فحدث أن خرجا يومًا إلى حى بني عبد الأشهل على رجاء أن يسلم بعض
القوم. فلما سمع كبيرا الحى سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير بمقدم مصعب
وأسعد، ضاقا بهما وأنكرا موضعهما من الحى.
قال سعد بن معاذ لصاحبه أسيد بن حضير:
لا أباً لك! انطلق إلى هذين الرجلين فازجرهما وانههما عن أن يأتيا ديارنا.
فإنه لولا أن أسد بن زرارة منى حيث علمتَ، كفيتك ذلك: هو ابن خالتى
ولا أجد عليه مقْدَما.
والتقط أسيد بن حضير حربته ومضى إلى صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزجرهما متوعدا:
- ماجاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا،
اعتزلانا إن كانت لكما بنفسيكما حاجة.
قال له مصعب بن عمير:
- أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهتَه كُفَّ عنك
ما تكره،
فركز أسيد حربته واتكأ عليها يصغي إلى ما يتلو مصعب من القرآن.
ثم أعلن إسلامه من فوره، وعاد إلى قومه فعرفوا أنه جاء بغير الوجه الذى ذهب به.
وما زال أسيد بسعد بن معاذ حتى صحبه إلى ابن خالته أسعد بن زرارة
فبادره سعد سائلا فى غضب وإنكار:
"يا أبا أمامة، لولا ما بينى وبينك من القرابة مارُمتَ هذا منى. أتغشانا فى
دارنا بما نكره،!
ولم يجب أبو أمامة، بل أشار إلى صاحبه مصعب الذى استمهل سعد بن
معاذ حتى يسمع منه، ثم تلا آيات من القرآن، نفذت إلى قلب ابن معاذ
فمزقت عنه حجب الغفلة وغشاوة الضلال. أعلن إسلامه وعاد إلى قومه
فسألهم: يا بنى عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم،
أجابوا جميعًا: سيدنا، وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة.
فعرض عيم الإسلام فوالله ما أمسى فى حي بنى عبد الأشهل رجل
أو امرأة إلا مسلمًا ومسلمة.
وفي ترجمة الصحابى جبير بن مطعم بن عدى القرشى رضي الله عنه، أنه
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بعض أسارى بدر، وجبير وقتئذ مشرك، فدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ فى المغرب بسورة الطور، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى آيات منها،
كاد قلب جبير يطير، ومال إلى الإسلام.
وفى حديث العقبة الأولى أن وفد الخزرج أسلموا بمجرد أن تلا عليهم
المصطفى عليه الصلاة والسلام، آيات من القرآن، وأقام مصعب بن عمير
القرشى سنة فى يثرب يقرأ القرآن فلم ييق بيت من بيوت الأنصار إلا وفي
قرآن، فكان أن فتحت يثرب بالقرآن، قل الهجرة بسنتين.
هل فرض القرآن إعجازه على هؤلاء الذين استنارت بصائرهم فآمنوا
بالمعجزة القرآنية بمجرد سماعهم آيات منها، دون غيرهم ممن لجوا فى العناد
والتكذيب،
ذهب القاضى أبو بكر الباقلاني إلى هذا، حين عدَّ تفاوت العرب، عصر
المبعث، فى الفصاحة، من الوجوه الصارفة عن الإسلام، لمن ظلوا منهم على
الشرك والتكذيب أمدًا طال أو قصر.
ذكر آية التوبة: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) .
فرأى فيها الدليل البين على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه:
فإن قيل: لو كان كذلك على ما قلتم، لوجب أن يكون حال الفصحاء
الذين كانوا فى عصر النبى صلى الله عليه وسلم، على طريقة واحدة عند سماعه،.
قيل له: لا يحب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة: مها أنهم كانوا
يشكون، ففيهم من يشك فى إثبات الصانع، وفيهم من يشك فى التوحيد،
وفيهم من يشك فى النبوة. . .
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة وطرق شبَههم متباينة. فمنهم من قلَّت
شبهه وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه
أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، ولم يكن فى البلاغة على حدود النهاية
فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره. . . ولو كانوا فى الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة، لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.
وعاد الباقلاني فأكد المعنى، وأبْعَدَ فسّوى بين العربي الذي ليس في المرتبة العليا من الفصاحة والأعجمي، من حيث لا يتهيأ له "كما لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم، أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا بأن يعلموا أن العرب - البلغاء - قد عجزوا عن ذلك. . .
"وكذلك نقول: إن من كان من أهل اللسان العربي إلا إنه ليس يبلغ في الفصاحة الحد الذي يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تعرف اللغة وما يعدونه فصيحاً بليغاً بارعاً من غيره، فهو كالأعجمي في إنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما بينا أن يعرف بع الفارسي الذي بدأنا بذكره. وهو - أي العربي غير البليغ - ومن ليس من أهل اللسان، سواء". ص 171 وفي هذا الكلام نظر، من حيث أن العرب في عصر المبعث فصحاء، وهم وإن تفاوتوا في مراتب البلاغة والاقتدار على فن القول، وتميز منهم خاصة من خطباء بلغاء وشعراء فحول، فما كانوا بحيث يغيب عنهم جيد القول من رديئة، وعاليه من هابطه، أو يفوتهم حِسُّ لغتهم في ذوقها وبيانها. شأنهم في هذا شأن "أم جندب": لم تُعرف لها مشاركة في قول الشعر ولا كان لها حظ منه، ولكنها بحسها اللغوي المرهف سليقة وطبعاً، استطاعت أن تميز مواضع الضعف والقوة في قصيدتي امرئ القيس وعلقمة بن عبدة الفحل، في وصف الخيل.
فعامة العرب في عصر المبعث، مهما يتفاوتوا في البلاغة والاقتدار على فن القول، كانت لهم هذه الحاسة النقدية التي أرهفتها سليقة لغوية أصلية لم تفسد. وأرى الباقلاني قد خلط هنا بين الفصاحة وبين القدرة البلاغية: فالفصاحة عامةٌ في العرب قبل أن يخرجوا من جزيرتهم ويخالطوا غيرهم من الأمم مخالطة لغوية. وقد اعتمد علماء اللغة ما سُمع من عرب الجاهلية وعصر المبعث، حجةً في الفصاحة، دون أن يفوت اللغويين في تدوينهم معجم
الفصحى أن العرب الفصحاء ليسوا سواء في المقدرة البيانية والمرتبة البلاغية.
وليس الأمر في إعجاز القرآن أن يتوهم كل فرد القدرة على الإتيان بمثله ثم يعجز، أو "أن يكون الرجوع فيه إلى جملة الفصحاء دون الآحاد" كنص عبارة الباقلانى.
بل العبرة فيه إنهم جميعاً فصحاء قادرون على أن يدركوا فوت البيان القرآني بلاغَة بلغائهم، وفي هذا أيضاً أرى الباقلانى قد اختلط عليه الفرق بين المعجزة وبين التحدي.
فمن حيث هو معجز. الأمر فيه واضح لكل ذي سليقة عربية أصلية. وإدراكُ إعجازه كان ميسراً لهم جميعاً في عصر المبعث لا ينفرد به خاصة بلغائهم دون العامة. وما تلا المصطفى عليه الصلاة والسلام آيات معجزته وهو يُقدر أن البلغاء وحدهم هم الذين يدركون إعجازهم.
وأما من حيث تحديهم أن يأتوا بسورة من مثله، فتلك قضية أخرى معروضة على أبلغ بلغائهم ومن يظاهرونهم من جِِنَّ فيما زعموا، على ما يأتي بيان ذلك بتفصيل في قضية التحدي والمعاجزة.
ونوجز القول هنا في إيضاح الفرق بين إدراك المعجزة وبين التحدي، فنلفت إلى أن الشاعر العربي كان يقول قصيدته فيتلقاها جمهور المستمعين بالإعجاب والتقدير أو الصد والتهاون. وأما أن يعارضها آخر منهم، فذلك محصور في أقرانه من الشعراء لا يعدوهم إلى عامة القوم.
* * *
والمشركون من قريش حين كانوا يأخذون سُبُلَ الحاج إلى مكة ليصرفوهم عن سماع القرآن، لم يكونوا يتحرون الخطباء البلغاء والشعراء الفحول منهم أو يُقدرون أن الوافدين على الموسم كانوا سواء في المرتبة البلاغية، بل التقدير أنهم جميعاً عرب خُلص فحاء يجدون حس لغتهم فطرة وطبعاً ويميزون
أساليبها بسليقتهم اللغوية. ومن هنا كان التوجيه القرآني - في آية التوبة - خاصاً بمن لم يسمعوا منهم كلام الله، وليس بمن هم في المرتبة العليا من البلاغة:
والذين بادروا منهم إلى الإيمان بالمعجزة، لم يكونوا جميعاً من صناع القول المشهود لهم بالمرتبة البلاغية العليا، وإنما أدركوا بسليقتهم أن هذا القرآن معجز.
والذين تأخر إسلامهم، كانوا في الغالب ممن صَدُّوا عن سماع القرآن أو صُدوا عنه، ثم لما أصغوا إليه آمنوا به، وليسوا جميعاً شعراء وخطباء.
أريد لأقرر أن القرآن لن يفرض إعجازه البياني من أول المبعث. على هؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان به فحسب، بل فرضه كذلك على من ظلوا على سفههم وشركهم، عناداً وتمسكاً بدين الآباء ونضالاً عن أوضاع دينية واقتصادية واجتماعية لم يكونوا يريدون لها أن تتغير. وقد أمعنوا في إيذاء المصطفى واضطهاد من آمنوا برسالته وما كان لديه صلى الله عليه وسلم ما يواجه به الوثنية الباغية في عنفوان شراستها، سوى كلمات الله يتلوها فتزلزل صروح الوثنية وكأنها تريد أن تنقض.
وفي الخبر أن من طواغيت قريش وصناديد الوثنية العتاة من كانوا يتسللون في أوائل عصر المبعث خفية عن قومهم، ليسمعوا آيات هذا القرآن دون أن يملكوا إرادتهم:
روى "ابن إسحاق" في السيرة أن أبا سفيان بن حرب الأموي، وأبا جهل ابن هشام المخزومي، والأخنس بن شريق الزهري، خرجوا ذات ليلة متفرقين على غير موعد إلى حيث يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ويتلو القرآن في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، ولا أحد منهم يعلم بمكان صاحبيه. فباتوا يستمعون إليه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض:
"لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاًَ".
ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة التالية. عاد كل منهم إلى مجلسه لا يدري بمكان صاحبيه.
فباتوا يستمعون إلى القرآن حتى طلع الفجر فتفرقوا وجمعهم الطريق فتلاوموا، وانصرفوا على ألا يعودوا".
لكنهم عادوا فتسللوا في الليلة وباتوا يستمعون إلى القرآن.
وفي (السيرة) أيضاً أن الملأ من قريش بعثوا أحد صناديدهم "عتبة بن ربيعة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه أموراً أرسلوه بها. فقرأ المصطفى آيات من سورة "فُصَّلَتْ" عاد "عقبة" بعدها إلى قريش مأخوذاً، فما لمحوه حتى صاحوا: عاد أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.
وقد تحير المشركون من قريش فيما بينهم، بم يصفون هذا القرآن: قالوا هو شعر، وقالوا هو سحر، وقالوا هم كهانة. وقد عرفوا الشعر كله رجزه وقصيده ومقبوضة ومبسوطة، وعرفوا السحر ونفثه وعُقَدة، وعرفوا الكهانة وسجعها وزمزمتها. وما جهلوا أن القرآن ليس شيئاًَ من ذلك كله، فإذا كانوا قد وصفوه هكذا فلقد أقروا بأن له من السلطان على عقولهم وأفئدتهم ما لم يعهدوا له شبيهاً إلا في أخذة السحر ونفوذ الشعراء والكهان. ذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وقد دنا أول موسم بعد المبعث وآن وفود القبائل للحج. وإذ تواطأ طواغيت قريش على أن يأخذوا سبل الناس إلى مكة ويصدوهم عن سماع القرآن. كان عليهم أن يتفقوا فيما بينهم على قول واحد في هذا القرآن يلقون به العرب، حتى لا يختلفوا فيه ويرد بعضهم قول بعض. وشهدت دار الندوة حيرتهم في وصفهم إياه بالسحر أو الشعر أو الكهانة، وإنهم ليعلمون - كما قال قائلهم - أن العرب بحيث لا يفوتها أن تميز القرآن
من قول الشعراء والسحرة والكهان. حتى انتهوا آخر الأمر إلى رأي الوليد ابن المغيرة المخزومي": أن يقولوا: إن محمداً جاء بكلام هو السحر يفرق بين المرء وأخيه وأبيه، وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته الأدنين.
هو إذن سحر البيان يعرفون سلطانه على الوجدان العربي، فهم في خشية من أن يدرك العرب، كل العرب لا البلغاء والشعراء منهم فحسب، إعجاز البيان القرآني.
أو هذا هو ما فهمتُه من وصفهم القرآن بالشعر والسحر، لا على أنهم حملوه حقيقة على النسق المألوف من شعر شعرائهم.
وهو أحد وجهين صحًّا لدى الباقلانى.
وأما الوجه الآخر مما صح عنده، فهو "أن يكون محمولاً على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياه بالشعر، لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق، وإن كان ذلك الباب خارجاًَ عما هو عند العرب شعر على الحقيقية".
ونضيف في رد هذا الوجه: أن العرب في عصر المبعث يعرفون مذهب الفلاسفة في وصف حكمائهم وذوي الفطنة منهم بالشعر، ولا كانوا يحملون الشعر على دقة النظر في وجوه الكلام وطرق لحكمائهم في المنطق!
ثم لا نتعلق بما تصدى له "الباقلانى" من رفض ما قد يزعمه زاعم من إنه وجد في القرآن شعراً. وأورد منه عدداً من الأمثلة، فيها أبيات لأبي نواس - وأين هو من عصر المبعث! - بها عبارات قرآنية على وجه التضمين، لا على وجه كونه شعراً في القرآن.
ذلك زعم يحتمل أن يكون قيل بعد عصر المبعث، ورد عليه الجاحظ من
قبل، بأنك إذا قست الشعر بهذا المقياس، فلن تعدم أن تجد في كل كلام حتى كلام السوقة والباعة، ما تحمله على الشعر!.
وما نعلم المشركين خاضوا أيام المبعث، في أن من آيات القرآن ما يمكن أن يُحمل على وزن الشعر ونسقه حين قالوا إن محمداً شاعر، وإنما أرادوا أن للقرآن مثل وقع الشعر على الوجدان والعقل، وذهبوا إلى وصف سحر بيانه، بما ألفوا من وصف روائع شعرهم.
وأوهن منه أن يرد الباقلانى على من يسأل عن هذا الوجه في حمل وصف المشركين للقرآن بالشعر على أن فيه مقاطع موزونة كوزن الشعر، بمثل قوله: "أعلم أن الذي أجاب به العلماء عن هذا السؤال سديد. وهو أنهم قالوا: إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعراً. وأقل الشعر بيتان فصاعداً. وإلى ذلك مذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.
"وقالوا أيضاً: إن ما كان على وزن بيتين إلا إنه يختلف وزنهما أو قافيتهما فبيس شعر.
"ثم منهم من قال إن الرجز ليس بشعر أصلاً، لاسيما إذا كان مشطوراً أو منهوكاً. وكذلك ما كان يقاربه في قلة الأجزاء. وعلى هذا يسقط السؤال".
وأضاف:
"ثم يقولون إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذي يُتعمد ويُسلك، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل، والعالم بالشعر واللسان وتصرفه. وما يتفق من كل واحد،
فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبُه اسم شاعر، لأنه لو صح أن يسمى شعراً كل ما اعترض في كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر أو تنظيم انتظام بعض الأعاريض كان الناس لهم شعراء؛ ألا ترى أن العامي يقول لصاحبه:
أغلق الباب وائتني بالطعام.
ويقول الرجل لأصحابه: أكرموا من لقيتم من تميم.
ومتى تتبع الإنسان هذا النحو عرف إنه يكثر في تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه".
ولخص احتجاجه لنفى الشعر عن القرآن، بأن "من سبيل الموزون من الكلام أن تتساوى أجزاؤه في الطول والقصر والسواكن والحركات، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزوناً. . . "وليس في القرآن على الوزن الذي وصفناه أولاً، وهو الذي شرطنا فيه التعادل والتساوي في الأجزاء، غير الاختلاف الواقع في التقفية. ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذي بينا، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإن فائدته تتم بوزنه" - 84.
* * *
الباقلانى لم يزد هنا على ما سبقه إليه الجاحظ في رده على من زعم أن في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} شعراًَ، لأنه في تقدير:
* مستفعلن مفاعلن *
قال في (البيان والتبيين) :
"أعلم إنك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل: * مستفعلن فاعلن * كثيراً وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعراً. ولو أن رجلاًَ من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن * مستفعلن مفعولان * فكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد إلى الشعر، ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام؟ وإذا جاء المقدار الذي يُعلم إنه من نتاج الشعر والمعرفة بالأوزان والقصد إليها كان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذلك شعراً. . . وسمعتُ غلاماً لصديق لي، وكان قد سقى بطنه، وهو يقول لغلمان مولاه: اذهبوا إلى الطبيب وقولوا قد اكتوى.
"وهذا الكلام يخرج وزنه على خروج: فاعلاتن مفاعلن، مرتين. وقد علمتَ أن هذا الغلام لم يخطر على باله قط أن يقول بيت شعر أبداً. ومثل هذا كثير، ولو تتبعته في كلام حاشيتك وغلمانك لوجدته".
والجاحظ لا يسوق هذا الكلام، ردًّا على وصف قريش للقرآن بالشعر وإنما يرد على من التقطوا بعض آيات قرآنية زعموا أنها في وزن الشعر.
لكن يوهنه عندي، هذا التنظير بكلام العامة والسوقة، من الحاشية، والغلمان وباعة الباذنجان. فما هانت القضية إلى المدى الذي يساق فيه مثل هذا، في الاحتجاج لنفي الشعر عن البيان الأعلى.
مازلت أقول: "إن مثل هذا في كلام الباقلانى عن الوجوه التي يحتملها "ماحكاه القرآن عن الكفار من قولهم إنه شاعر، وإنه هذا شعر" لا موضع له. من حيث أرى أن الكفار من قريش، ما قصدوا إلى أن فيه بعض فقرات موزونة وزن الشعر، ولا خطر لهم على بال أن يتعلقوا بآيات فيه على وزن بيت أو بيتين من قصيد أو رجز، ولا بلغ بهم عقم الطبع وفساد السليقة، أن بيت أو بيتين له بمثل ما يجرى على ألسنة العامة في مبتذل الكلام.
وإنما هو سحر البيان، عرفه للقرآن مشركو قريش من قبل أن يسمع غيرهم من سائر العرب كلمات منه، وكان "الوليد بن المغيرة" يتحدث عن سليقة أصلية مرهفة حين لفت قومه إلى أنهم ما إن يقولوا إن القرآن شعر حتى ينكر العرب عليهم ذلك، وإنما غاية ما يبلغون من وصفه أن يقولوا ما نصح لهم به: إن محمداً جاء بكلام هو السحر يفرق بين الرجل وأخيه وزوجه وولده.
وهم قد عرفوا سحر الكلام، وأسر البيان.
ولا شيء غير هذا أفهمه من نص الحوار الذي دار بينهم أول المبعث، ورواه ابن إسحاق في (السيرة النبوية) .
وهو أيضاً ما عنوه حين وصفوه بسجع الكهان، ناظرين فيه إلى ما ألفوا من وقعه على وجدانهم وسيطرته على أفئدتهم، وذلك ما نعرض له بمزيد تفصيل في الحديث عن "السجع ورعاية الفاصلة" في النظم القرآني.
* * *
وإذ كانت صفة الشعر هي أقرب ما تعلقوا به، حرص القرآن على أن ينفي عن المصطفى عليه الصلاة والسلام هذه الشاعرية، لا ذمًّا للشعر كما ذهب الباقلانى في الفصل الذي عقده "في نفي الشعر من القرآن"د
ولكن لأن الشعر مظنة الالتباس بالمعجزة البيانية، نفاذاً إلى الوجدان العربي وسلطاناً على عقولهم وأفئدتهم وضمائرهم.
وأول ما نزل من ذلك، آية "يس" المكية:
ونص الآية صريح في أنها تحديد لصفة القرآن وبيان لمهمته ورسالته، وليست إعلاناً عن موقف عداء للشعر.
بعدها نزلت آية "الصافات" ترد على من جادلوا في المعجزة:
ثم آية الأنبياء:
وآية الطور:
وكل هذه الآيات مكيات، وكذلك آية "الحاقة" التي نزلت في أواخر العهد
المكي تحسم بأسلوب رادع، ذلك الجدلَ العقيم في صفة المعجزة والرسول:
وأما الآيات المدنية من سورة الشعراء المكية:
فلم تأت في سياق نفي الشعر عن القرآن والاحتجاج للمعجزة كما وهم الباقلانى (ص 76) وإنما نزلت في شعراء الأحزاب من قريش، أخذوا مكانهم في المعركة بين الوثنية والإسلام، يَكذبون ويُضلون ويستهوون الغاوين. وليس المقصود بالذم فيها مطلقَ الشعراء بل تمضي الآيات بعدها فتستثنى الشعراء المؤمنين الذين يتقون الله فيما يقولون، وينتصرون للحق دفعاً لما سيموا من ظلم المشركين، وقد وعد الله هؤلاء الشعراء المتقين بنصرهم على الظالمين:
* * *
والسؤال الذي يعرض هنا هو:
لم جاءت معجزة النبي العربي بهذا البيان الذي تعلق المشركون في وصفه، بالشعر وبالسحر والكهانة، لما رسخ في يقينهم من سلطانه الذي لا عهد لهم بما يشبهه في كلام البشر، إلا أن تكون أخذةَ السحر وأسرَ الشعر وسيطرة الكهانة؟
ولم لم يؤيد الله رسوله المصطفى بآية من مثل ما جاء به الرسل الأولون كما اقترح الكفار من قومه وهم يحادونه ويجادلونه؟
التفت "الشريف المرتضى" - في: طيف الخيال - إلى ارتباط معجزة النبي العربي بمكان البيان في قومه.
وأزيد الموقف إيضاحاً، بما أطمئن إليه، والله أعلم، مما هدى إليه النظر في تاريخ الأديان المقارن من أن معجزات الأنبياء سايرت تدرج البشرية في مراحل تطورها من قديمها البدائي إلى عصر رشد الإنسان.
فلقد نلحظ أن موسى عليه السلام تلقى رسالته وقد آن للبشرية أن تجاوز عصر السحر. فكانت معجزته التي غلبت أفانين السحرة في زمنه وتحدت براعة المهرة منهم، ليؤمن المرتابون أن ما جاء به "موسى" ليس في طاقة البشر، ويصدقوا بنبوته فيهديهم برسالته إلى عصر جديد.
لكن اليهود ما لبثوا أن زيفوا الرسالة الموسوية وحرفوا كلمات الله عن مواضعها:
ومضى حين من الدهر ضجت البشرية فيه من شر عصابات من يهود، وتزييفهم رسالة نبيهم فكانوا كما قال الله فيهم:
حتى تقلى "عيسى عليه السلام" رسالته وقد آن للبشرية أن تنتقل من عصر عبادة الأبطال البديل من عصر تعدد الآلهة. وإذ كانت البطولة في ذلك الزمن تقترن بالخوارق، جاءت معجزة المسيح الخارقة، لكي يؤمن الناس بنبوته المؤَّيدة بما يجاوز خوارقهم البطولية، فيتبعوه وهو يخلصهم من عبادة الأبطال ويهديهم إلى التوحيد.
لكن معجزة المسيح الخارقة، ما لبث أن التبست على كثير من أتباعه، فقالوا بإلوهيته وهو الذي بعث لينسخ عصر الشرك وعبادة البشر، ويدعو عبادة الخالق وحده.
ومضت ستة قرون على مبعث المسيح عليه السلام، أنهكت فيها البشرية المتدينة بالصراع الذهبي بين القائلين بلاهوتية السيد المسيح والقائلين بناسوتيته، وآن العقيدة الدينية أن تتحرر من كل شائبة تمس التوحيد وهو جوهر الدين كله. فاصطفى الله لختام رسالاته "محمد بين عبد الله" بشراً سوياً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وتجوز عليه أعراض البشرية وعواطفها وهمومها، مثلما تجوز على سائر البشر.
وكانت المعجزة الكبرى الشاهدة على نبوة هذا البشر الرسول، كتاباً عربياً مبيناً يعيى العرب أن يأتوا بمثله، لكي يصدقوا بنبوته ويتبعوه وهو يقودهم برسالته إلى عصر الإنسان الذي لا يقر بالعبودية لغير خالقه.
وإذ جاء الإسلام مصدقاً لما بين يديه من رسالات الله ومهيمناً عليها بما نقى من جوهر الدين الحق، اختتمت به الرسالات بعد أن شارفت الإنسانية في تطورها مرحلة رشدها، وصارت أهلاً لأن تحتمل أمانة إنسانيتها وتكاليف وجودها الحر.
وما ينبغي أن يتعلق بالوهم، تجاهلُ المعجزات الأخرى للمصطفى عليه الصلاة والسلام التي تواتر بها الخبر. وإنما الأمر أن موضوع هذه الدراسة خاص بإعجاز القرآن.
وليس صحيحاً أن المعتزلة أبطلوا سائر المعجزات غير القرآن، فالحق أنهم أثبتوها معجزة ودلالة على النبوة، وعدُّوها - بالنسبة إلى من لم يشاهدوها، ممن جاءوا بعد عصر المبعث - فرعاً على ثبوت النبوة، لكنهم لم يتعلقوا بها في الاحتجاج والرد على المخالفين. يقول "القاضي عبد الجبار" بعد احتجاجه لثبوت المعجزة القرآنية على وجه الإلزام:
"ولهذه الجملة لم يعتمد شيوخنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، على المعجزات التي إنما تُعلم بعد العلم بنبوته صلى الله عليه وسلم. لأن ثبوت ذلك فرع على ثبوت النبوة، فكيف يصح أن يستدل به على النبوة؟ وجعلوا هذه المعجزات مؤكدة وزائدة في شرح الصدور فيمن يعرفها من جهة الاستدلال.. فأما من يشاهد ذلك - ممن عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم فحاله فيها كحاله مع القرآن، في إنه يمكنه الاستدلال بها كما يمكنه ذلك في القرآن، لأن ثبوتها بالمشاهدة أخرجها من أن يكون عِلمُ المشاهِد لها كالفرع على النبوة، فصح أن يستدل بها على النبوة، ولذلك أعتمد شيوخنا في تثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، على القرآن، لأن عِلْمَ المخالف به كعلم الموافق، من حيث ظهر نقله - والتحدي به - على وجه الشياع. وهذا هو الذي ذكره شيخنا أبو علي في (نقض الإمامة) على ابن الراوندي، وفي غيره.
"فأما من شنع وزعم أنهم أبطلوا سائر معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، فكلامه يدل على جهل. لأن شيوخنا أثبتوها معجزة ودلالة، لكنهم لم يجوزوا الاعتماد عليها في مكالمة المخالفين".
ثم أفرد القاضي عبد الجبار، فضلاً "للكلام في إثبات سائر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن، وبيان دلالتها على نبوته".
ونقل فيه عن شيوخه، أن "من هذه المعجزات ما يُعلم باضطرار، مما حدث في المجامع العظيمة وحصل النقل فن متظاهراً. . . وقد ذكر أبو هاشم في مواضع، فأما شيخنا أبو علي فقد ذكر ذلك في (نقض الإمامة) على ابن الراوندي".
* * *