الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - علوم الحديث:
هذا الفن لازم لفن الحديث المتقدم، فتزدهر بازدهاره، وتضعف بضعف الاعتناء به، وقد رأينا شروحا على متونه ومنظومات منه حين ازدهاره بين السوسيين، فهناك منظومة (نُخبة الفكر) لِمُحمد بن سعيد القاضي العباسي، ونظم (النقاية) التي تَجمع فنونا منها هذا الفن لِمحمد بن الحسن الأمانوزي الأديب، وشرح (الطرفة) في الاصطلاح للحضيجي وغير ذلك، مِمَّا لَم نستحضره الآن، وهناك ترجمة (الأربعين النووية)، و (رياض الصالِحين) للنووي أيضا للإلغيين إلى الشلحة.
6 - النحو. 7 - التصريف. 8 - اللغة:
العلوم التي يعتني بِها السوسيون كانت كلها أذنابا في أنظارهم لعلم اللغة العربية لِمكانتهم من العجمة، ولا مُفتاح لِهذه العلوم إلا إذا دخلوا من هذا الباب؛ ليمكن لَهم بِها أن يتفهموا ما يريدون، وقد قال قائلهم في ذلك -فيما سمعت- وتنسب لِمحمد بن يَحيى الأصاريفي:
العلم شيء حسن
…
فكن له ذا طلب
بالنحو فابتدئ وخذ
…
من بعده في الأدب
وإن أردت بعد ذا
…
جاها ونيل المطلب
فافهم أصول مالك
…
واحفظ فروع المذهب
وهذا ظاهر لا بد منه لكل السوسيين بطبيعة الْحَال؛ لِكونِهم أجانب عن لغة الضاد، ولكنهم لا يكادون يتذوقون حلاوة أساليب اللغة حتى يبقوا دائمين على مزاولتها شغفا بِها على حد قول القائل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وحين تكون اللغة والنحو والتصريف أول ما يسبق إلى أذواقهم، قلما ينسونَها، وإن شاركوا في غيرها، فيعضون عليها بالنواجذ ويكبون على تحصيلها والزيادة فيها، ثم بِمقدار إكبابِهم عليها تتزحزح العجمة عن ألسنتهم، وتتمكن روح الأساليب العربية في أذواقهم، حتى تأخذهم نعرة ربما تكون شديدة للعربية، كأنها إرث أجدادهم، وحتى يكادوا يَمرقون من
مساليخهم حنقا على من يلمزهم بالتقصير فيها، وفي دار الجرسيفي (1) على الفاسي أعظم دليل على هذا كما يوجد أيضا مثال آخر في مرادة شعرية وقعت بين المراكشيين وبين أبي فارس الرسموكي، ومُحمد بن سعيد العباسي وحلبتهما، فقد اشمأز هؤلاء حين أرسل إليهم المراكشيون أسئلة منظومة على قواف متعددة، فقالوا لَهم أجيبونا بالنثر، إن استعصى عليكم النظم، فتبادروا زمرا يُجيبون كلهم تلك القوافي المختلفة بِما لا يقل عنها أحكاما، فيجيب كل واحد على حدة (2)، ومثل هذه الحمية مَحمودة ما دامت في دائرة التنافس المحوط بأدب الخطاب.
للسوسيين طريقة معبدة منظمة في تعليم اللغة والنحو والتصريف، فمن سلكها منهم يضمن له الفوز، وما ذلك إلا لأنَّهم أتقنوا هذه الفنون الثلاثة إتقانا، ولشدة حرصهم عليها، ولأنَّهم كلا شيء في الميدان العلمي إن كانوا في هذه مقصرين، وقد أثنى اليوسي على الطريقة التي يسلكونَها في التصريف في فهرسته (3) عندما ذكر شيخه أبا فارس الرسْموكي، وكذلك شهد لَهم محمد العالِم بالتفوق (4)، وما لنا نذهب إلى البعيد وما في القريب يكفي، فقد أدركنا هذا الجيل الذي انقرض بسنوات (1349هـ)، ويعلم كل مطلع منصف أن العناية التي تلقاها هذه الفنون الثلاثة في جنوبي الأطلس، لا تلقاها في شماليه، من غير أن نستثني إلا أفرادا ينبغون بأنفسهم، وأما مَجالس الدراسة فلا، فقد أدركنا التسهيل، بل والكافية، مما يدرس عند الأدوزيين وغيرهم وما أكثر شروحهما هناك مَخطوطة، وعرفنا أناسا حفظوا منها أو حفظوها كلها، ثم لا يقرءون الألفية في الصفوف العليا إلا بالأشموني والصبان والموضح بِحواشيه تتبعا، والأساتذة يكون على ألسنتهم بلا مراجعة كل شواهدها، وكل القواعد التي تتعلق بالدرس فقد كان الحاج عابد البوشواري الهشتوكي على هذا النمط (5)، فقس كل هذا بِما كان معروفا في شمالي الأطلس قبل النظام الأخير، من كون الغالب الذي يَجب أن يتعالى إلى مثل هذه المنزلة، إنَّما هو نصابي فقط، يَملأ دلاءه بكثرة مُطالعة، ثم إذا صب
(1) نشرناه في كتاب (المعسول) في الفصل الثاني من القسم الرابع).
(2)
يوجد في (جوف الفرا) الذي جمعنا فيه بقايا أدبيات مما لم يدخل في المؤلفات الأخرى كما أن هناك (مجموعة فقهية) في الآثار الفقهية: حشرنا فيها ما لا يوافق أذواق الأدباء.
(3)
الحضيجي.
(4)
(نفحات الشباب) مخطوط.
(5)
حدثنا بذلك الشيخ سيدي الطاهر الأفراني، وتعجب من كثرة استحضاره لكل شواهد النحو خصوصًا ما في الأشموني، حتى لا يشذ عنه منها شاهد واحد.
شآبيبه الصيفية رجع جهاما، لا تبل منه بعد ولو قطرة، ثُم هو مع كل ذلك الاحتشاد، لا يتطاول إلى مثل التسهيل، وهذا كله لا يَخفى عن أحد عرف في الموضوع من الجانبين ما عرفنا، نعم أدركنا قليلين في الحمراء وفاس هُم النهاية في ذلك، ولكنهم أقلية على كل حال إزاء غيرهم، حتى إن الممتازين منهم في هذا الفن يعدون على الأصابع.
ثم يَجب أن يعرف أن هذه المزية وحدها لا تقتضي تفضيل جنوبي الأطلس على شماليه؛ لأن المزية لا تقتضي التفضيل، وما قيل في النحو والتصريف، يُقال في اللغة، فإن السوسيين لإتقانِهم التصريف إتقانا تامّا يعرفه كل من يلاقي السوسيين النجباء، ينفتح لَهم باب اللغة، ثُم كانوا لإكبابِهم على مراجعة القاموس والصحاح والمختار -وهي التي توجد عند غالبهم- عند كل شاذة وفاذة، أكثر من نعرفهم استحضارا لضبط الكلمات، وقد كانت خطبة القاموس مِمَّا يدرسونه ولا بد إزاء التحفة العاصمية.
أفلا يدل هذا على الاعتناء الذي نذكره؟ وأين هذا مِمَّا عرف عن غيرهم مِمن لا يَهتدون إلى استخراج كلمة من القاموس؟ حتى ليقع عليه من يُشار إليهم في مضحكات، لَم يزل شباب العصر الحاضر الماهر اليوم في هذا الفن يتداولونَها.
ثُم ليس المقصود من هذا كله إلا تبيين الحقيقة فقط، وإلا فسوس من المغرب الذي لا يتجزأ، ونعوذ بالله من أن يفهم من كلامنا ما لا يُراد منه، فحاشا أن نتخذ شعبنا الوحيد عِضين.
وبعد هذا كله، نعود فنقول: إن هذا الحكم لا يدل -كما ذكرنا قبل- على أن كل من بسوس بلغ هذه المرتبة ولا أن كل من لضم يكن من سوس غير بالغها، بل لا تزال سنة الكون تقضي قضاءها، فيوجد هنا وهناك نُجباء وبلداء، وإنَّما اتكأنا بِحكمنا على الغالب، وعلى ما هو سائر في الدراسة العامة لا غيرها من الْخَاصة.
إن من يتتبع رجال سوس يَجد في كثيرين منهم من ينص على إتقانه لِهذه الفنون: النحو، والتصريف، واللغة، كإبراهيم بن محمد بن عبد الله اليعقوبي الذي قال فيه معاصروه (1): آخر من أتقن علم التصريف، وكداود بن محمد السملالي الذي كتب في إعراب أوائل الأحزاب، وكمحمد بن إبراهيم
(1) الحُضَيْجِي.
البعقيلي الذي وصفه مطلع (1) بأنه آخر من يَحفظ كتاب سيبويه، ويستحضره فهما، وكيحيى الجلموسي الملقب بسيبويه عصره، ومُحمد بن عبد الله حفيد الشرحبيلي الأصناكي المتفوق في النحو، وكان متبحرا فيه، يعلن ذلك تحدثا بنعمة الله عليه، وأحمد بن عبد الله اليبوركي التملي الماهر في النحو والتصريف، وكثيرين غيرهم مِمن ألفوا في النحو، ومؤلفاتِهم مشهورة لا نُطيل بذكرها، وآخر النحويين الأفذاذ العربي إبراهيم الأدوزي، وعبد الله التوضوئي، والْمَحفوظ الرسْموكي ثم الرداني، والْحاج عبد الحميد شارحو الألفية أو مَحشو شروحه، فقد ذكروا عنهم في النحو أنَّهم بواقع، فيستحضرون التسهيل وشرح ابن عقيل عليه استحضارا بله غير ذلك، وما ذكرناه في النحو نذكر مثله في التصريف؛ لأنَّهما شيء واحد لا يتجزأ عندهم، فلهم فيه أيضا مؤلفات، وفي جبال جزولة إلى الآن من متقني هذا الفن إتقانا عجيبا عشرات، ولا يزالون أحياء إلى الآن.
وأمَّا اللغة؛ فلا ينبغي لنا أن نغر القارئ فيحسب أن هناك من لَهم في اللغة مثل هذه المكانة في النحو والتصريف؛ لأن مقصودنا فيما نسميه معرفة اللغة: هي إتقان التصريف الذي هو شطر اللغة، ثم طول الممارسة لِمراجعة القاموس والمصباح والمختار، حتى يتقن ضبط الكلمات الاسمية والفعلية إتقانا، حتى ربما يتلو واحد منهم في اليوم كله في كتاب من الكتب الأدبية كـ:(نفح الطيب) مثلا الذي لا يتعمد حشر الكلمات الحوشية، ثم هو مع ذلك لا تَخلو صفحة منه من كلمات غير معتادة كثيرا، فيمرق لسان التالي بلا تَهدج ولا تصحيف ولا غلط في ضبط الكلمات اللغوية فضلا عن الضبط النحوي، ثُم لا يتوقف أن استمر يتلو بِجهر بين جَماعة لا يستحيون أن يردوا على الغالط -كما هو ديدن الإلغيين الجريئين كلما سَمعوا لَحنا مِمن يتلو أمامهم- فيدوم على ذلك النهار كله من الصباح إلى المساء، ثُم لا يَخفى (2) عنه مِما يحتاج فيه إلى مراجعة إلا نَحو عشر كلمات، هذا ما أقصده؛ لأنني عرفت هذا وأدركته عيانا، وخالطت أربابه، ومارسته ولا شك أن هذا الذي ذكرته بِمثل ضرب هذا المثل دال لِمن أمعن النظر، وعرف كيف كان المغرب قبل الحياة الجديدة على سُمو وتمكن في النحو والتصريف واللغة؛ لأن التالي المطلق
(1) ابن مسعود.
(2)
اللهم إلا ما كان من الألفاظ التي أحياها هذا العصر في الصحافة، فكثيرًا ما يتوقفون فيها، كما يتوقفون في كل اصطلاحات هذا العصر من اللغة، ولكنهم أخيرًا صاروا يندمجون في معارف أهل العصر، بعد ما صارت الجرائد والكتب الحديثة تصلهم وبعد ما وصلت المذاييع لتلك الناحية فيسمعون كل ما يتصل بلغة هذا العصر.