الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيروان ومراكش وفاسا وغيرها، وبآخرين: منهم من كان عالِما وسطا، ومنهم من نَحسبه كذلك، ومنهم من لا نظنه إلا عابدا صوفيّا لا غير، كما أنه لولا دواع أخرى لأناس آخرين؛ لَمَا رأينا من التاسع إلى الآن شيئا، فكان الشكر الجزيل للدواعي الخاصة التي تعتني بوجهة يحفزها إليها حافز، إمَّا التاريخ العام الذي يترامى إلى نواح شتى، فلم نَحسب أنه جال قط في دماغ سوسيين إلى الآن.
النهضة العلمية السوسية بعد الثامن وأسبابها
رأينا فيما تقدم كيف كانت حالة سوس العلمية منذ اعتنقت الإسلام إلى الثامن، ولَم تكن بِحالة مبهجة، إمَّا لكونِها كذلك في الواقع، وإمَّا لأن سجوفا من الجهل الكثيف بالتفريط أسدلت دونَها، غير أن حالة تلك القرون إن لَم تكن سارة مبهجة؛ فقد جاء التاسع بفاتِحة خير، وطلع بفجر منير، وسفر عن وجه يقطر بشاشة وبشرا، حقّا كان القرن التاسع قرنا مَجيدا في سوس، ففيه ابتدأت النهضة العلمية العجيبة التي رأينا آثارها في التدريس والتأليف، وكثرة تداول الفنون، وقد تشاركت سملالة وبعقيلة ورسموكة، وآيت حامد وأقا، والجَرسيفيون، والهشتوكيون، والوادنونيون، والطاطائيون، والسكتانيون، والراسلواديون وغيرهم فيها، ثم جاء القرن العاشر، فطلع بِحركة علمية أدبية أوسع مِمَّا قبلها، تشده كل مطلع، فقد خرج العلماء إلى الميدان الحيوي، والمعترك السياسي، فشاركوا في الأمور العامة، واستحوذوا على قيادة الشعب، فكانوا سبب توطد الدولة السعدية، ثم جازتْهم هي أيضا بدورها، فكان منهم أفراد بين الكتاب والشعراء الملازمين للعرش، والسفراء ورؤساء الشرطة، وقواد الجند، والحرس الملكي الخاص (1) فزخرت سوس علما بالدراسة والتأليف، والبعثات تتوالى إلى فاس ومراكش، وإلى الأزهر، فكانت تئوب في ذلك العهد بتحقيقات اليسيتني، والونشريسي، وابن غازي، ونظرائهم، حتى كان كل ما يدرس في القرويين يكاد يدرس في سوس، قولة لا تنفج فيها وإنّها لَحقيقة ناصعة يقر بها كل مطلع (وما يوم حليمة بسر).
(1) من مجموعة لدوكاستري أنه لا يتولى في الحرس الخاص في عهد السعديين إلا الجزوليون.
ثُمَّ جَاء القرن الْحَادي عشر (1) بزبدة علمية عالية فطاحل العلماء، عادت فتاويهم قوية غير ضعيفة، ولو عاش عبد الله بن عمر المضغري؛ لرجع عن وصفه أهل سوس بضعف الفتاوي، وقد رد عليه أهل هذا العصر (2) بالْحَال والْمَقال، وناهيك بشيخ الْجَماعة: عيسى السكتاني، وعبد الله بن يعقوب السملالي، وعلي بن أحمد الرسموكي وسعيد الهوزالي، ومحمد بن سعيد المرغيتي الأخصاصي، ومحمد بن مُحمد التامانارتي، مفتين أقوياء الفتاوي، إلى فتاويهم يصار عند الاختلاف (3).
ثُمَّ جاءت دويلة (إيليغ) فأخذت بضبع العلم والأدب اقتداء (بالبديع)(4)، فأسندت المناصب القضائية في كل قبيلة إلى مستحقيها، وتستقدم إليها من تتزين (5) بِهم مَحافلها، وتعمر بِها مَجالس التدريس في مساجدها، فاتَّخذهم موضع الشورى، وأرباب المسامرة (6)، وقد تتبعت خطوات (البديع)، أو فاقتها في احترام العلم وأهله؛ بسبب البساطة التي كان لَها منها ما لَم يعهد مثله في (البديع) نحو العلماء، وللبساطة في هذا المقام ما ليس للألمعية الداعية إلى أن يفعل كل شيء سياسة، لا تدينا ولا تقربا إلى الله بذلك عن إخلاص.
وكما أشادت بالعلماء أشادت بالأدباء، فرأينا الشعراء الجزوليين يشيدون بِمجد إيليغ (واللُّهَى تفتح اللَّهى) وما كان العلماء والأدباء في حلبة إلا خلدوها، وقادوها إلى الفوز المبين، وجَميل الذكر الخالد، وقد حفظ التاريخ من أقوالِهم (7) قطعا وقصائد ومن تآليفهم (8) المتنوعات في الفنون ما يدل على ما لذلك الوسط من بلاغة في القول، وتَمكن في العلوم، وسمو في الفهوم، حتى قال قائل في مدح أمير (إيليغ) من قصيدة:
رِدِ المَساجدَ والمدارسَ كَالرِّيَا
…
ضِ وَقَدْ غَدَتْ مِنْ قَبْلِهِ كَالْبَلْقَعِ (9)
فصدق من إيليغ ما كان أحد الشعراء ذكره من قصيدة ألقاها يوم بيعة بُودْمِيعَةَ:
(1) يجب أن يعرف أن التقلص المعروف في العلوم عن ذلك العهد حتى ليقال لولا فلان وفلان لاندرس العلم، لم يكن حكمه منسحبًا على سوس لأننا نرى عيانًا فيه ببركة إيليغ علومًا زاخرة ومدارس مزدهرة، وفي الكتب التي تلي هذا ما يدل على ذلك.
(2)
ذكر صاحب (الفوائد) ذلك وقال أن الحال قد تبدل، وهذا الكتاب مخطوط.
(3)
كما صير إلى فتوى السكتاني عند الاختلاف حول كنيسة إيليغ، انظر الاستقصاء ج 3 - 182.
(4)
البديع قصر السعديين بمراكش.
(5)
يوجد هذا في قصيدة لأحمد التَّاغاتينني الرسموكي (إيليغ قديمًا وحديثًا) كتاب للمؤلف.
(6)
رسالة لِلجِشْتِيمي نشرناها أيضًا في كتاب (إيليغ قديمًا وحديثًا).
(7)
سيرى القارئ بعض ذلك عن قريب، والباقي في (المعسول) و (إيليغ قديمًا وحديثًا).
(8)
سيظهر ذلك عند ذكر بعض المؤلفات السوسية قريبًا.
(9)
من قصيدة كبيرة لمحمد بن الحسن المانوزي (المعسول) في (القسم الثالث).
فالمغرب الأقصى جَميعا ناظر
…
يوما تَجول عليه منك يَمين
فيرى العدالة كيف كانت والْهُدى
…
والعز بالإسلام كيف يكون
والعلم كيف يكون نشر ضيائه
…
في الناس حتى يعلم الْمسكين (1)
ثُمَّ جاءت الدولة العلوية السعيدة، فكانت سعد السعود على السوسيين، فقد تكاثرت المدارس، وزخرت بالطلبة، حتى أن معظم المدارس السوسية لا نراها أسست إلا في هذا العهد، فقد لاقى العلماء السوسيون في كل مناسبة ممن تسنموا العرش العلوي تنشيطا واحتراما زائدا، والبدوي الْحُر الأنوف قد يقوم التنشيط الأدبي عنده مقاما لا يُدركه التنشيط المادي، فتمشوا في ظلها الوريف، كما كانوا يتمشون في الدولتين قبلها، فكانت لَهم أولا جولة نظنها متسعة مع ابن محرز أميرهم العلوي ما شاء الله، ثم رأينا آخرين يتصلون بالمولى إسماعيل فيلاقونه بقواف طنانة، ثم كان اعتناء مُحمد العالِم بكل علماء جزولة الذين فتح لَهم الباب على مصراعيه، ويستقدمهم لِمجلسه الْخَاص، ثُم يُجيزهم بِجوائز كثيرة، مع تَحرير قراهم من الكلف المخزنية -مظهرا من تلك المظاهر الشتى التي دامت للعلماء السوسيين تَحت كنف هذه الدولة السعيدة، ولَم يكن اعتناء محمد العالِم مُختصا بالعلماء أرباب الفنون فقط، بل كانت له لفتة -لعلها أكبر من أختها- إلى الأدب وأهله، حتى أنه لَمَّا صادف في الأدب السوسي ما أعجبه؛ قال كلمته الخالدة:«إني لَم أفرح بقيادة سوس، كما فرحت بوجود مثل هؤلاء الأدباء فيه» . وقد شاء السعد أن تبقى نفحة تاريخية تدل على هذا الاعتناء العظيم بالعلم والأدب في عهد مُحمد العالِم، فحفظ لنا كتابا نعرف منه ما لم يكن لنا قط في حسبان، ولو شاء الله أن يطول ذيل هذا العهد السوسي في القرن الثاني عشر؛ لأبقى هذا الأمير العالم الأديب، حتى ينتعش الأدب، ويسترد قوته التي فقدها منذ ثل عرش (إيليغ)، وحتى يزداد العلم به رقيّا، ولكن العين التي لَم تُغادر ابن المعتز العالِم الأديب، ووزيره العالِم الأديب، وقاضيه العالِم الأديب، أبت أن تغادر مُحمدا العالِم الأديب للأدب الجزولي، حتى يرتفع به شأوه كرة أخرى إلى أعلى عليين، فيلحق أيضا فن الأدب بالفنون الأخرى التي لا تزال تزدهر إذ ذاك، ولكن إن ذهب مُحمد العالِم وعصره؛ فقد بقيت شهادته شهادة
(1) عن أخرى لمحمد (امْحتَاوْلُو) الإِيسِي، ونعجب من مثل هذه الغنة هنا وهناك، ولكن من عرف كيف يتقرب الملوك المؤسسون إلى الأمم بما تريده، لا يعجب كثيرًا، فهذا المولى الرشيد قد رجع إلى هذا التقرب بتعظيم العلم وأهله، حين بويع فزخر التاريخ بأخباره في ذلك. وتمام القصيدة في (إيليغ قديمًا وحديثًا).
خزيْمة للأدب الجزولي الذي أدركه، ولعلم العربية والنحو في تلك الجهة، وكفى بها شهادة (1).
ثُمَّ لَم يزل ملوك الدولة العلوية، يقدمون في سوس دائما علماءها قبل رؤسائها منذ هذا العهد، وعلماء سوس لا ينالون ذلك إلا عن جدارة؛ لأنَّهم يصبحون أحيانا حراس الوحدة المغربية في هذا الجانب، وسياجا متينا دون الثوار الذين يثبون في كل فرصة وجدوها، ألَمْ يأتك حديث الثائر (بوحلاس) فإنه لولا علماء جزولة؛ لأوشك أن يفوز بِمرامه، ولكن العالِمَين الأستاذ علي بن إبراهيم الأدوزي، والأستاذ مُحمد بن احمد التاساكاتي، قاوماه مقاومة عنيفة بكل ما أوتيا من جاه وصولة علمية، ومركز أدبي، فاستفزا مشاعر الناس حتى جندلاه (2).
ويذكر أن المولى سليمان الذي وقع هذا الحادث في مُفتتح إمارته، كان اتصل بالتاساكاتي حتى جازاه خيرا عن ذبه عن أمته، وكذلك قرأنا رسالة من المولى سليمان إلى العلامة عبد الله بن عمر التناني يأمره أن يقف بِجاهه عند القبائل حتى لا تتعدى على (تارودانت)، ثم لَمَّا جاش المغرب سنة:(1276) بالقضية التطوانية، قام علماء جزولة الأساتذة الْحَسن بن أحمد التِّيمكدشْتِى، والْحَاج أحْمَد الجشتيمي، وأحْمَد بن إبراهيم السملالي، والْحسين الأزاريفي، والعربي الأدوزي، ومُحمد بن علي اليعقوبي، ومُحمد بن صالِح التادرارتي البعمراني وأمثالهم، ينادون في الناس ليلبوا دعوة السلطان، لينفروا خفافا وثقالا للذود عن الكيان، وقد أطلعنا على الرسائل التي وجهها المولى مُحمد بن عبد الرحمن إلى هؤلاء العلماء يسميهم بأسمائِهم، وفي مثل ذلك ما فيه من الْجَانبين؛ من جانب العلماء الذين يقومون بالواجب، ويصدقون الناس نصيحة للأمير وللأمة جَمعاء، ومن جانب العرش الذي يقدرهم قدرهم، ويعرف لَهم المكانة التي يشغلونها عن جدارة، وكيف لا يَخلص العلماء للعرش العلوي، مع أنهم لَم يروا منه قط إلا الإحسان بالجميل، والاعتراف بالجميل من شيم الأبرار وهذا المولى عبد الرحمن لَم يكد أبو العباس التيمكدشتي يمثل بين يديه مسوقا في صفة الاعتقال، بيد القائد بومهدي، حتى تلقاه متبركا به، مستمطرا لدعواته، ثُمَّ
(1) على أن العلم الذي يقصد إذ ذاك، ويشاد به، هو العلم الديني. وهو الأصل الأصيل في مجد أدوار المسلمين، والكتاب الذي حفظ لنا ما حول محمد العالم، هو:(النفحات) والكتاب مخطوط مبتور.
(2)
(نزهة الجلاس، في أخبار أبي أحْلَاس) لمحمد بن أحمد الأدوزي المتوفي 1221هـ والكتاب مخطوط.
رده موفور الكرامة، مقضي كل الحاج، وأمثال هذه المعاملات لا تترك إلا القلوب الصافية، والسرائر الطاهرة، وهل يملك الإنسان إلا بعواطف الإحسان؟
ثم لَمَّا رَحل المولى الحسن إلى سوس رحلتيه سنة (1299هـ) وسنة (1303هـ) لاقى كل العلماء بتجلة ما مثلها تجلة، فأجاز وكتب الظهائر للقضاة، وقدَّم أرباب العلم على أرباب الرياسة، فتأتى له بذلك أن تفتحت له كل الأبواب، وغمرت مَحبته كل جوانح الأهالي، ولا ريب أنه أدرك أن بالمحاسنة لأمثالِهم قضاء أغراض شتى، أهمها إذ ذاك عنده الهدوء والانقياد ولو ظاهرا، حتى قال لنا من حضر إذ ذاك إنه لا يولي قائدا حتى يسأل عنه علماء سوسيين، يَحضرون دائما معه في ركابه هناك، في مقدمتهم سيدي أحمد بن إبراهيم السملالي ونظراؤه، ومثل هذا يسترق الإنسان، لا إنه يكسوه حلة الإخلاص فقط.
كان المولى الْحَسن حين انتصب خليفة لوالده على الجنوب رَحل إلى سوس نَحو (1280هـ) فوجد أمامه الحسين بن الْهَاشم التازاروالتي مستأسدا، يَهم بأمور كما زعموا، فأبى أن ينقاد، بل هم -كما يقال- بِمناوأته، فأمر كاتبه الفقيه الأستاذ مُحمد بن عبد الله الأساكي الإفراني أن يكتب جوابا عن رسالة وردت من المولى الحسن، وأن يغلظ فيه القول، فقال له الأستاذ: لا والله ما أنا بفاعل، أتريد أن أهد ديني بيدي، فأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن أسأت إلى ابن أميري وابن أمير المسلمين، فراجعه الحسين متشددا، فقال له: كف عني، فوالله لو خيرت بين قطع يدي وبين ارتكاب هذا؛ لاخترت قطع يدي، وهذه تبين لنا من هو العالِم الجزولي، ومن هو الرئيس الجزولي في الانقياد للعرش. ومن هنا نَجد السبب في الاتكال الكثير الذي يكون للعرش على أمثال هؤلاء العلماء، ثم لا يكون منه مثله للرؤساء، وهذه حقائق لا مرية فيها، وهناك مَجموعة (1) قصائد سوسية، قيلت في مولاي الحسن ولي العهد إذ ذاك، وهو في سوس.
فبمثل هذه المعاملات من الأمراء العلويين، أحرز العلماء السوسيون ما أحرزوه، فنشطوا إلى ما هُم بصدده؛ من بث العلم ورفع راية الإرشاد، والناس من ورائهم يَمشون، والسيادة الدنيوية تتشبث بأذيالِهم، وهُم
(1) تحت يدي نسخة منها. والأصل في خزانة القاضي سيدي عباس المراكشي. وهو مخطوط.
يصمدون إلى عملهم العلمي، لا يهتبلون بغيره، أفيعجب بعد هذا القراء أن شاهدوا العلماء يقومون بِما عليهم؟ فتكتظ المدارس في هذه الأجيال الأخيرة، كما كانت في الدولتين قبلها: السعدية، والإيلغية، فقد انطوتا وذهب عصرهما، ولكن نشاط العالِم الجزولي لَم ينطوِ، ولَم يذهب عصره، فالمعارف زاخرة، والمدارس طافحة، والبعثات إلى تامكروت وإلى فاس ومراكش، بل وإلى الأزهر أيضا تتوالى. والقبائل ترى كل واحدة منها أن من الواجب عليها إشادة مدرسة علمية خاصة بِها، يدرس فيها العلم العربي، فتقوم بِها بثلث أعشارها، وبأحباس من أثريائها -على قلة أحباسهم في هذا الميدان- وبأشياء أخرى من صميم أموال بينها، يدفعونها سنويا بنظام خاص، في يوم معين، يؤدى فيه للمدرسة كل ما تتوقف عليه، كالحطب والسمن والزيت وحبوب أخرى لِمن يشارطونه، زيادة على ما تقدم، مِمَّا يَجعله غالبهم مئونة للطلبة المنقطعين فقط، وكثيرا ما تَجد في قبيلة كبيرة، كهشتوكة، وبعمرانة وإيلالن وسكتانة أفخاذا تَختص كل واحدة منها بِمدرستها (1)، لأن إقامة المدارس وعمارتها بطلبة المعارف وبالتدريس للعلم العربي، صارت ميادين فَخر تتسابق إليه كل القبائل، حتى ليكون كبيضة الديك، وكالكبريت الأحمر؛ إن تَجد قبيلة سوسية كبيرة أو صغيرة، ليس لَها معهد علمي بسيط مشاد بين ظهرانِها، يؤمه من حَفظ القرآن من مساجد القرى، كما يؤمه الأفاقيون الذين ينزلون حيث يطيب لَهم النزول، في أية مدرسة شاءوا، فيجدون المئونة الكافية البسيطة المألوفة عند كل واحد منهم في داره، وبِها تربى، فكما يَجد بيتا للسكنى وحده على حدة يَجعل فيه ما يكون معه من المتاع والكتب، يكون في أمن تام. ويا ويح من تُحدثه نفسه أن يقرب بسوء مسجدا أو مدرسة أو حِمى أو حرما أيّا كان، فإن رجالات القبيلة لا تأخذهم عليه الشفقة ولا الرحْمَة، كما أنه يَجد بين يديه أستاذا لا يكلفه من ذات يديه نقيرا؛ لأنه يأخذ من مشارطته في المدرسة ما يأخذه، ثم يكون الجامع بين الأستاذ والتلميذ تلك العاطفة المتوارثة عند الشرقيين بين التلاميذ والأساتذة، فيسوقه ذلك إلى الاجتهاد، حتى يكون له في التحصيل ما قدر له، وهو يتدرج بِحسب العادة المتبعة في الفنون والمتون.
وجد العلماء من هذه المشارطات في هذه المدارس الكثيرة المنبثة في كل قبيلة، منبعا لِمالية يتكون لَهم بِها مركز في الهيئة الاجتماعية، ثم يضمون إلى
(1) بلغت هذه المدارس أزيد من مائتين، وقد ذكرها ليوطئ إحدى خطاباته يومًا.
ذلك ما يأخذونه عند كل قضية يفصلونَها؛ لأن أستاذ المدرسة بِمَنْزلة القاضي الرسمي للقبيلة، يقضي بالتحكيم بين الناس -فِي الْجِبَال التي لا قضاء رَسْميّا فيها- فقلما يتجاوز إلى غيره، إلا إذا كان مغمورا بأستاذ آخر أعلى منه شأنا، وأكبر منه سنّا، وأبسط جاها، فبذلك تنمو الثروة للأساتذة بسرعة، ويظهر عليهم رونق الغنى وأبَّهة السيد المرموق الذي يَجر ذيولا يغبطه عليها العامة الأميون، وكيف لا يستغنون بذلك، مع أن أجرة المشارطات مع ما يأتي وراء النوازل ليست بقليلة إذ ذاك، زيادة على ما يَجمع في هري المدرسة من الأعشار، ومما عسى أن يكون لَها من الأحباس، فإن إدارة ذلك غالبا في يد الأستاذ ثُم لا مراقبة عليه إلا من بعيد، وأعظم دليل على أن هذا كله مصدر عظيم للتمول المعتاد مثله في سوس، هو ما أدركناه وعرفناه بالمشاهدة، من أن غالب العلماء يَمتازون باكتناز الأموال، وبكثرة الوفر، على حين أن أمثالهم في مثل بيئتهم لا يزالون يتطلبون الكفاف ثُمَّ لا يَجدونه، حتى أن من لَم يتمول من العلماء لا بد أن يتعالى مركزه على أقرانه وجيرانه ممن لا يتصفونَ بوصفه، وقد غلب على الناس هناك أن ظنوا أن للعالم حقّا بلا ريب رزقين، وأن لغيره رزقا واحدا، يعتقدون ذلك اعتقادا، والسبب العقول هو ما ذكرناه من استغنائهم بالمشارطة، وبِما يتعاطونه من الفلاحة التي تتسع بِجاههم العلمي؛ لأن الناس يَخدمونَ لأجل العلم، ثُمَّ يضمون إلى ذلك أجرة القضايا التي يفصلونَها، وغالب الأساتذة يستحلون ما يأخذونه مِمَّن يَحكمون لَهم في الدعاوي، بِحجة أن للقضاة والعلماء الذين قد كرسوا حياتَهم في نفع المجتمع من هذه الناحية حقّا على المجتمع. فإن لَم يكن من بيت المال؛ ففي أموال من يشتغلون على حسابِهم في تصفية دعاويهم، أو قسم تركاتهم، أو تَحرير الأحكام بنصوصها لَهم، يأخذون منهم بالمعروف، وبقدر المال المشغول فيه، ثم بِحسب ما يتراضى الأستاذ والمحكوم له وراء ذلك كله، وقد يتجاوز بعضهم ويركب الشطط، ولكن الغالب يراعي خالقه، فيحفظ مروءته، تَمالأت بِحل ذلك- ما دام بالمعروف، وبرضى المحكوم له بالحق- غالب فتاويهم ونصوصهم، وصار ذلك معهودا، يدخل عليه أصحاب الدعاوى، يوم يَحكمون أستاذا في قضيتهم أو يقسمون أمامه ميراثهم، وقد رسخ في أذهان العامة حتى صار دينا معتقدا، وعادة مُحكمة: إن الخصومات لا يفصلها إلا الفقهاء، وويل لِمن تصدى لفصلها من العوام المستبدين على القبائل، وقليل ما هم، على أنه لا بد لَهم من الاتكاء على رأي فقيه كيفما كان الحال. وقصارى الرؤساء في الكثير الشائع أن يقفوا موقف المنفذين لِما يحكم به العلماء، وهذا عم كل القبائل السوسية، ولا نستثني منها واحدة، إلا ما
فيها القضاء الرسمي وهي قليلة جدّا -اللهم إلا إذا كانت القضايا من جنس ما تتمالأ عليه القبيلة من عوائدها، كعادتهم في قسمة الماء، وما يؤخذ من المفسدين من غرامات مالية، أباحها من قديم بعض العلماء، ففي هذه وأمثالِها ما يُطلقونَ عليه الأعراف، ومثل هذا لا يَخلو منه بلد، حتى فاس وهي ما هي، ولا مرية أن العوائد التي لا تصدم النص معتبرة، وهذا النوع (1) إن كان في بعض نواحي سوس فيندر فيه جدّا؛ لشدة وطأة أرباب العلم (2) لتمكن ناموسهم، فلا مرية أنَّهم يزدادون تَمكنّا وسموّا كلما ازداد القانون الشرعي تَمكنّا وسُموّا.
كثيرا ما تَجري على لسان المتظلمين هذه العبارة المشلحة: (أنا بالله وبالشرع)، فيكون كل من نادى بِها في مَجمع قبيلة يُعلن أنه غير راض إلا بِحكم الشريعة، فتدوولت الكلمة حتى صار المتظلم يقولُها من غير أن يعتبر مدلولَها الأصلي، وإنّما يعني أنه مظلوم (3)، وإنّما ذكرنا ذلك كله بإيضاح؛ ليُدرك القارئ الْمَنْزلة التي للعلماء في سوس من غير أن تساندهم قوة الحكومة ولا غيرها، وليدرك ما لِمنْزلة العلم العربي في جزولة وما له من الاعتبار، فذلك هو العلة التي استبحر بِها العلم العربي هناك، ولا يمكن استبحار علم بلغة أجنبية عن اللهجة العمومية كلهجة الشلحة في غالب سوس خصوصا الجبال إلا إذا وجد طرق السيادة والشرف الدنيوي والثروة مفتوحة منهوجة في كل جانب، حتى كان العلماء هناك إذا أطلقوا لا يتصورون إلا أغنياء، فاسمع لما يقوله الأستاذ ابن عربي الأدوزي في أرجوزته الأتائية أثناء (رحلته المراكشية) عندما يذكر أن اتِّخاذ أواني الأتاي متعين على الأثرياء المقصودين؛ لأنَّها من دواعي الكرم:
لذاك فالرجل ذو أموال
…
من عالِم أو حاكم أو وال
لا بد أن يتخذ الطَّبْلَةَ فِي
…
منْزلة لوارد ذي شرف
والطَّبْلَةُ يقصدون بِها الصينية التي تهيأ فيها الكئوس لشراب الأتاي على العادة، هذا وقد عهد من احترام السوسيين لعلمائِهم، ما هو معروف
(1) أي الذي يصدم النص.
(2)
كثيرًا ما نقصد بالعلم والعلماء الفقه والفقهاء اتباعًا للاصطلاح المغربي، ثم أن لفقهاء سوس من قديم مقاومة أي عرف يناقض الشرع، كما يوجد ذلك في مجموعة فتاوي عيسى السكتاني وغيرها.
(3)
من المضحك أن المحتلين الذين اجتهدوا في إزالة الشرع وأحداث العرف يثورون أولاً كلما سمعوا من ينادي بهذه الجملة ظنًّا منهم أنه يناوئهم في فكرتهم، ثم لم يهدأوا حتى عرفوا أن المقصود هو إعلان التظلم.
قديما وحديثا (1)، ولا يزال أحياء إلى الآن من كانوا من العلماء (2) رأسوا- قبل الاحتلال- الرياسة الأدبية بعلمهم، فقادوا الجيوش، ودبروا الأمور، وتصدروا المجامع، وساسوا الرعية، وقد كانوا كثيرين قبل (1352هـ)؛ وما ذاك إلا لأنَّهم استولوا على النواصي بقيامهم بِمَا هُو ملقى على كواهلهم، فأرشدوا العامة، وعلموا الْخَاصة، وترفعوا عن الدنايا، وقد غلب عليهم التعالي عن السفاسف، حتى صار من ليس ذلك مرتكزا فيه يتظاهر به حفظا لناموسه العلمي، ثم هُم مع ذلك لا يَخرجون غالبا عن الاقتصاد في كل شيء؛ في الملبس، والمأكل، والمشرب، والتعالي، بل يغلب عليهم التواضع والتصوف، حتى ليمعن في ذلك بعض الأجلاء منهم إمعانا يَخدش فيه؛ لأن الأنانية المصطعنة هي التواضع الزائف، ولا ريبَ أن ذلك التواضع الْخَالص، مِمَّا يزيدهم تَمكنا عند الناس.
تلك مرتبة العالِم الجزولي، وذلك هو مقام الفقيه السوسي، فإنه يَجد من المنشطات من خطوته الأولى إلى المعارف، ما يُحفزه حتى يتوقل الذروة من كل مَجد، إن قدر له أن يكون من الأمْجَاد، ثم إنه مع ذلك كله لا ينسى أن يؤدي للعلم حقه، من التحقيق والتدقيق، بِما في إمكان فقهاء البادية، ثُم هُم مع ذلك ينصفون من يرون لَهم عليهم مزية، وأدركوا أن لَهم عليهم تفوقا، فيقفون عند رأيهم في نازلة تَختلف فيها الأنظار، وربما رفعوها إلى الحواضر؛ ليتيقنوا الْحَق من غيره، وفي رد الـچـرسيفي (3) أواسط القرن الثاني عشر ما يصرح بذلك الصراحة المتناهية.
إن الطبع السوسي سريع التطور في كل ميدان دخله، فكما أنه استحال الرجل العامل السوسي بين عشية وضحاها في هذا العصر تاجرا مزاحما لغيره من الفاسيين والإسرائليين والأجانب، كذلك كان في الميدان العلمي منذ دخله بِجد وولوع في القرن التاسع، فإنه قد يتكشف عن بحاثة رحالة باقعة، وهل عرفت من هو أبو موسى الجزولي، وابن الوقاد الرداني، وأبو يحيى الجرسيفي، ومُحمد بن إبراهيم الشيخ، وأحمد التِّيزرْكِيني، وابن سليمان الرداني، وأبو مهدي السكتاني، وعبد الله الووكدمتي، والعباسي، والحيضجي، ومُحمد بن سعيد المرغيتي، وعبد الله السكتاني المسكالي، وأحمد البوسعيدي، والهشتوكي أحْوزِي، وعشرات فعشرات
(1) رحلة النقيب المكناسي إلى سوس (مخطوطة).
(2)
كالعلامة الطاهر الأفراني وأمثاله (كتب هذا 1357هـ، قبل أن يتوفى).
(2)
رسالة أدبية كأنها رسالة ابن زيدون عن ولادة المشهورة نشرت في الفصل الثاني من (القسم الخامس) من (المعسول) عند ذكر الجرسيفيين وتحتوي على جواب رسالة فاسي يلمز فيها السوسيين بأمور مسفة ومثار الرسالة قضية فقهية تجاذبوها.
أمثالَهم، في تلك القرون اندفعوا فَخالطوا في الميدان، ثُمَّ لَم يكن كل واحد منهم إلا مجليّا، تزخر ترجمته بِما تزخر به تراجم أقرانه من المغاربة الحضريين وغيرهم إذ ذاك وفي اليوم، واليوم أقرب ما يُقاس عليه أمس، طلع العصر الْحَديث، فلم تكد بارقة تومض في جو الحواضر حتى كان لسوس حظ من التفكير الْحَي الْمُتزايد مع الزمان، على حين أن نواحي من أطراف المغرب، كانت قبل مشهورة بالعلم كسوس أو أكثر؛ مثل درعة وتافيلالت، لزمت اليوم نوم عبود، فلا يسمع لَها ركز يدل على أن سلكا كهربائيا من التفكير وصلها.
كذلك تَمشت العلوم العربية في سوس تلك القرون متماسكة الْحَلقات متسلسلة تَحوطها جهود، وتبعثها قرائح، ويذكيها فكر وَقَّاد، ويَمدها الشعب والعرش بتنشيط مادي وأدبي عظيمين كما تقدَّم. ومَحافل فاس ومراكش والأزهر ثم تَامْجرُوت والزاوية الدلائية في الأجيال قبل الأخيرة، تلقح الأفكار، وتأخذ بالمقاويد من النبغاء، حتى ينالوا قصبات السبق، ولَم يزل ذلك كله في شفوفه إلى أن ولى صدر القرن الثالث عشر، فدب إليه ذبول، وخالطه بعض فتور، بعد ما انقرض أصحاب الحضيجي، الذين كانوا وحدهم أساتذة التدريس الذي كثر النفع به، وكانوا آخر من درسوا كتبا وفنونا في سوس، ثُم لَم نر لَها بعدهم ذكرا.
شاء السعد أن لا تذبل الزهرة بِهذه السرعة، فأحيا ما أحيا بالْمَدرسة الهوزيوية، ثُم التِّيمجيدشْتِيَّة، واليعقوبية الإِيلالْنِيَّة، والجِشْتِيمِيَّة، والأدوزية، والحسينية الططائية، فأدركت بِجهودها أن تبقى الذماء في فنون أقل مما كان قبلها، وأن تنعش ثانيا الروح العلمية الملففة في روح التصوف، فرأينا تراجعا إلى الميدان الأدبي من المدرسة الهوزيوية، بأحمد وبالشاعر محمد بن أحمد بن إبراهيم صاحب (الديوان)(1)، ثُم شاهدنا المدارس الْمُحمدية الْهشتوكية، والعمرية الْهشتوكية، والإِجْرَارِيَّة، والأدوزية، والبونعمانية، والبوعبدلية، والإيرازانية الراسلواديَّة، واليوفتركائية، والبوشواريَّة، ثُم الإلغية وأمثالَها، فقد زخرت بالعلوم، فرجع النشاط إلى الفقه والفرائض والْحِسَاب والنحو وعلم الأدب عند البعض في فنون قليلة غيرها، فأمكن للعلم العربي السوسي أن يتحرك ثانيا بعض التحرك، وأن يُحاول النهوض، لولا ما عراه من الخمود الساري على كل العلم العربي بالمغرب، منذ صدر الثالث عشر وكان للتيمكدشتيين في هذا الطور تاج
(1) اكتشفت ديوانه من خزانة تامجروت باعتناء البحاثة أبي المزايا الأستاذ الأخ سيدي إبراهيم الكتاني.