الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طور الفترة بعد النهضة الأولَى 1118هـ - 1189 ه
ـ
كنا نتراءى قبل أن يَختتم دور تلك النهضة باعتناء مُحمد العالِم، أن فن الأدب كان حقّا في الحشرجة، بعد أن سقطت إيليغ أمام زحف المولى الرشيد، وبعد أن توالت النكبات على سوس بالْحُروب الهائلة الكثيرة، التي توالت بين ابن مِحرز وبين مولاي إسْمَاعيل، فلم يتمكن ابن مِحرز كل التمكن في سوس، حتى يستقر به القرار؛ ليمكن أن يظهر اعتناؤه بالعلم وتوابعه كالأدب، إن كان قدر له أن سيكون من أصحاب هذا الاعتناء، وإن كنا نقع على بعض ما يدل على أن منه اعتناء بالعلماء، فقد وقفنا على وثيقة كتبت إليه وقعها ثَمانية عشر عالِما يشهدون فيها بسيد من سلالة أخيار (1) يلفتون نظر ابن مِحرز إلى أن مقامه يستدعي التوقير والإجلال، وتوفير الكرامة، ولعل لِهذه الشهادة التي أقدم عليها هؤلاء العلماء الجزوليون دلالة على أن موقعيها يعلمون ما تلاقيه شهادتهم عند الأمير، ولا يندفعون ما لَم يكونوا آنسوا منه قبل تلك الساعة ما يشجعهم على ذلك، وأيّا كان فإن ما يدل على هذه النقطة لا يزال مسود الجو في نظر بَحثنا الناقص، ونَخاف أن يكون بعض العلماء أووا إلى ظل ابن مِحرز، ثُم ينالَهم بطش من المولى إسْمَاعيل يوم ينتصر عليه، كما رأينا مثل ذلك واقعا حقيقة يوم البطش بالْمَولى مُحمد العالِم، فتؤدي هذه الفتكات إلى انزواء العلماء، ومن بينهم من يتعاطى الأدب، على أن بروز مُحمد العالِم قد مَحا ما عسى أن يتبقى من عواقب ابن مِحرز، فأعلن راية التشجيع للعلم والأدب، فأزال الروعة، وهيبة الإمارة عن أفئدة العلماء والأدباء، ثم لَم نر من أهله من خلفه في هذا التشجيع حتى عبد المالك أخوه الذي كان في تارودانت سنوات (1136هـ) فإننا لَم نقع إلى الآن على ما يدل على أنه أخذ مأخذ صنوه مُحمد العالِم، وإن كان له أيضا في العالَم الأدبي ما له، وربّما يتراءى لَنا أنه رفعت إليه المقامة الأزاريفية (2)، ومقصودنا أن نُدرك أن للكوارث التي دارت في سوس بعد انْهِيار إيليغ، وفي أوقات المصادمات بين الأميرين ابن مِحرز ومولاي إسْمَاعيل، تأثيرا في تأخير الأدب، وقد صَرَّح في التاريخ بذلك فقال (3) من يُحدث عن إيليغ: «إن الأدب قد انطوى بعد انطوائِها
…
».
(1) وهو الشيخ عبد الله بن سعيد الأيْمُوري.
(2)
توجد في كتاب (المعسول) عند ذكر الإزاريفيين في (القسم الخامس).
(3)
(نفحات الشباب) هـ.
ويقول إبراهيم السجتاني وثلَّته: «إننا أعرضنا عن الأدب ورفع رايته؛ لإعواز أهله، والملتفتين إليه، وأقبلنا إلى الانْخراط في زُمرة الموثقين والعلماء، أصحاب الأبحاث الفقهية» (1). هذا كله كان ثُم لَم ينفع ما أسداه مُحمد العالِم نفعا متعديا؛ لأن الذين نعرفهم في حضرته من أساطين الأدب السوسي جرفوا كلهم بسيله، أو هلكوا عن قريب (2)، ثُم لَم يظهر من عملهم شيء بعد سنة (1118هـ) فبذلك يصح لنا الْحُكم بأن نَهضة الأدب السوسي الأولى كانت قد انْهَار بناؤها حقّا، بِمجرد ما انْهَارت إيليغ، وما كان ما رأيناه في عهد مُحمد العالِم إلا بقية لَم تنمح بعد، فاشتعلت جذوتُها ثانيا لِهذا الداعي الْخَاص، ثُم لَم تنشب أن انطفأت انطفاءها الا بدي، ثُم أسدل الستار دون الأدب السوسي المتموج، فلا نكاد نرى في زهاء ستين سنة بعد ذلك الدور إلا ظلمات بعضها فوق بعض، وقد عانى أُناس أن يبرزوا في الأدب فلم يَجدوا جوّا ملائما؛ لفقدانِهم التشجيع المطلوب ولإعواز أصمخة تصيخ، وما التشجيع للأدب ولا الإصاخة إليه، إلا من مقوماته التي لا يكون إلا بِها، فلا نعجب إذا آنسنا في هذه الفترة التي ليس فيها للسوسيين بلاط يَمتُّون إليه متّا عنصريّا بنسب قريب كالسعدي والإيليغي تقلص هذا الفن في المدرسة السوسية، حتى رأينا من كبار العلماء الجهابذة المدرسين إذ ذاك؛ كالأحمد بن العباسي، والصوابي، ومُحمد الحضيجي، ومسعود المرزكوني، وعبد الله الجشتيمي، وأحمد الظريفي، ومُحمد بن الحسن التُّغزيفتي، ومُحمد التَّاساكَاتي، وعلماء أدوز؛ كإبراهيم بن مُحمد، وابن المرابط، وكثيرين من أمثالِهم، وهم الأساتذة الأكفاء، وأقطاب الدراسة ما لا يسر من آثار لا تمت إلى الأدب بعرق، ولا تعيرها لفتة من بصر، ومتى خلت الدراسة من الاعتناء بالأدب، ثم فقد في منصب الرئاسة من يشجعون الأفراد المترامين إلى النبوغ والتحليق في جو الإجادة، فأنَّى يُمكن أن يكون له وجود بارز، أو يتطلب باحث أن يلقي له من بين الآثار ما يبهج ويقر العين.
ثُم لا يفهمن القارئ من تلك الفذلكة أن اسم الأدب وكل ما يَميل إليه قد انقطع من سوس، في هذه الفترة انقطاعا تامّا، فإن ذلك لا نرمي إليه، ولا نقصده بالعبارة المتقدمة، وإلا فإن الواقع والماثل بين أيدينا يُعلن أننا حُنْف الأرجل في هذا السير، لو كنا نسيره حقّا، وإنّما مقصودنا أن يُدرك القارئ أن تلك العناية التامة بالأدب في المدرسة، وفي المحافل الرياسية، وفي مَجالس الأنس، قد انقطعت موادها، فضؤلت إلى غاية بعيدة، وأما وجود بعض أثارات من الأدب في سوس؛ فإن عندنا ما يدل عليه، فإن بين أيدينا الآن من
(1، 2) عن كتاب (نفحات الشباب).
آثار هذا الطور للفقيه إبراهيم الظريفي الصوابي، وابنه مُحمد بن إبراهيم الولتيتي، ومُحمد بن أحمد بن إبراهيم الهوزيوي المتخرجين من تَمْجرت، وأحْمَد الجرسيفي المفتي، وعبد الواسع التِّركتي التملي، وأحمد بن عبد الله الماسجِّيني المتخرج من فاس، وأحْمَد بن إبراهيم الركني المتخرج من هناك أيضا، وإبراهيم بن عبد الله الأقاوي، وموسى بن أحمد الودريمي المتخرج من الْحَمراء، وعبد الله الأزاريفي (1) ما يدل على أنه لا يزال هناك بصيص يتراءى هنا وهناك -خصوصا ما قرأناه في ديوان مُحمد الهوزيوي المتقدم مِما قاله في الخليفة عبد السلام ابن سيدي مُحمد بن عبد الله مَمدوحه من قواف تَختلف قيمها، وتتفاوت ألوانَها، على المعهود من الأدب التامكروتي غالبا، مما يدل على ضعف كثير من قائله لتأثر من إلى تامكروت بالتصوف؛ ولذلك نرى في هذه الآثار نفسها ما يدل على ما قضينا به على شعر أبناء تلك الزاوية، فإن في كلام بعضهم ما يدل على أن اعتبار هذا الفن والميل إليه، واعتباره كعلم شريف، وفن له روعته قد انقطعَ إذ ذاك، يوجد هذا في مفتتح شرح العبدونية (2) للوديمي، كما يوجد في رسالة من أحمد بن عبد الله الماسجيني إلى الأمير المولى سيدي مُحمد بن عبد الله، وقد رفع إليه القصيدة الدالية (3)، كما ينادي بلسان الحال غالب هذه الآثار وروحها بأن غالبها -لا كلها- منسوج عن تكلف كثيف، فقلما يقع فيها الناظر على انسجام بيان تقبله الأذواق، ويستسيغه الأديب قار العين، مثلوج الفؤاد، ولا ريب أن ذلك إنَّما يقع من عدم المحاككة التي لا تكون إلا في المحافل الأدبية، لا في مَجالس الزوايا ولا في حلقات الفقهاء الأقحاح، على أن مَحافل الآداب مقفلة في هذا العهد بسوس، وربّما في المغرب كله، إلا عند أفراد قليلين جدّا، ثُم إن لِهذه الآثار اختلافا بيِّنا في المنازع، كما كان أصحابُها كذلك، فقد يتراءى من بعضهم أن له في الأدب يدا طولى في الوقت الذي تكون فيه بنات فكره من جهة أخرى تفضحه، فهذا أحمد الجرسيفي في رسالته (4) التي أجاب بِها الفاسي، قد تَمطى فيها تَمطيا حتى ليظن منه أنه ذو قريحة سيالة في القوافي، وأنَها تطاوعه كما طاوعه يراعه في ذلك الجواب المنثور إلى حد له غاية مغبوطة، مع أنه ذو نظم اطلعنا على بعضه (5) فوجدناه نظم فقيه مزجى البضاعة حتى
(1) آثار هؤلاء كلهم توجد بعضها في (مترعات الكؤوس) وبعضها في (المعسول).
(2)
في كتاب: (مترعات الكؤوس).
(3)
سترى أمامك القصيدة كلها.
(4)
المعسول في (الفصل الثاني) من (القسم الرابع).
(5)
يوجد بعضه في المجموعة الأدبية التي كنا أودعناها ما تقممناه من نفايات الأدبيات وغيرها وسميناها: (مجوف الفرا) وهي في جزئين.
لنشك في تلك الرسالة أن تكون له، لو لَم ينسبها له مطلع، فإنها تدل على أن صاحبها مطلع في الجملة على الأساليب العليا في البيان، ثُم جاء ذلك النظم بِما يدل على أنه وإن كان أديبا متضلعا في الفن لَم يعط ذلاقة اللسان إن مال إلى العروض، ومثل هذا رأيناه أيضا لأحمد بن إبراهيم الركني، وإبراهيم الظريفي، وابنه مُحمد، ثم هناك أيضا موسى الودريمي الذي تَخرج بالأستاذ الإفراني صاحب (الصفوة) في الجامع اليوسفي، وذكر أنه أخذ عنه كثيرا حتى تضلع في الأدب واستحضار ما يَحتاجه الأديب لحفظه كثيرا من المختارات نظما ونثرا، ويستحضر كل ما في (المسلك السهل) لشيخه، حتى يخال بأنه في الذروة العليا إن كان دخل في حلبة الصائغين، غير أن نثره في تلك الخطبة العبدونية (1) نفسها من البضاعة المزجاة بِحسب ما يقتضيه ما تلقاه، وإن كان ربّما لا يوجد في المغرب إذ ذاك أعلى من ذلك النفس، وفيها أيضا قواف له لَم تكن لَها روعة القائل المتمكن، وهناك أيضا لعبد الله الأزاريفي تلك المقامة (2) التي رفعها إلى أحد الأمراء، إن دلت على شيء فإنَّها تدل على أن صاحبها متضلع في اللغة، متمكن في معرفة أساليبها، وقد خدمه السعد في تلك المقامة إلى حد بعيد، وتتضمن قوافي يظهر منها أنه وسط في النزع بالقريض، ولو اطلعنا له على غير ذلك لربّما حكمنا له بأنه فذ ذلك العصر، نعم إن هناك شاعرا أعجبنا به إعجابا ما، وهو أحمد الماسجِّيني خريج فاس، فإن قصيدته تدل على تَمكن، وسنعرضها على القارئ، ولو لَم نعرف من أين تَخرج، ولو لَم يصرح هو بنفسه أنه لَم يَجد في سوس نَفاقا لسلعته بعد رجوعه، لربّما تغير حكمنا على هذا الطور متأثرين به، ولكن بعد أن علمنا أنه إنَّما استقى من (وادي الجواهر) وأنه لَم يقتبس من سوس إلا قليلا، وأنه من المفاخر أدركنا أنه لا تَختص بفخره سوس إلا بكونِها أول أرض مس جلده ترابَها، ثم إنها آوته بعد أن رجع إليها أبجر الحقائب، مَمخوض الوطاب، بأدب فاس العالي، وإن كنا نرى أن البذرة الأدبية الأولَى ربّما تلقَّحها من سوس قبل فاس.
وأمَّا عبد الواسع التِّيركتي التملي؛ فإننا ما ذكرناه هنا إلا لأننا وقفنا له على رسالة فيها من الأدب نفحة، وإن لَم يكن طيبها عاليا، وإلا فقد وقفنا له على ما يستحق أن لا يذكر به بين هذه الحلبة، ولكن نريد أن لا يظن أننا عنه غافلون، وأما إبراهيم الأقاوي؛ فإن ما يقوله ربّما عري مما يتذوقه الأدباء من القوافي، ولذوق الأدباء حاسة خاصة، وذلك وراء الوزن والمعنى واللفظ:
(1) في كتاب: (مترعات الكؤوس).
(2)
(المعسول) عند ذكر الأزَاريين في (القسم الخامس).
وما الخيل إلا كالصديق قليلة
…
وإن كثرت في عين من لا يَجرب
إذا لَم تشاهد غير حسن شياتِها
…
وأعضائِها فالْحُسن عنك مَغيب
ومنظومته هذه التي رأيناها خالية من روعة الأسلوب، ولطف المعنى، وقد يُحاول أن يعلو فتعوزه قوة الضليع المتمكن، وأمَّا أحمد بن إبراهيم فلا بأس بِما يقوله، وكان أريج (وادي الجواهر) الذي كان يتمتع به برهة، قد عاد عليه بروح تزوره أحيانا، وقد رأينا له قوافي لَم يعجبنا منها إلا بعض ما رفعه للمولى سيدي مُحمد بن عبد الله، وعندنا أيضا قواف لِمحمد بن إبراهيم الولتيتي، ولإبراهيم الظريفي أبيه، ولكلامهما تشابه، ويرمي ما اطلعنا عليه لَهُما من تغزل إلى نَحو ما لدى ابن أبي ربيعة، وإن كان ما لَهُما يغلب عليه التصنع، وكأن أدب تامجرت إذ ذاك يَميل إلى اختيار الشعر الرقيق على الشعر الجزل، ولكن الضعف يغلب عليه.
هذه نظرات عجلى على ما يقوله من وقفنا لَهم على آثار في زمن الفترة هذه، فإنَّها جهود فردية، وأقوالَهم من فورات وقتية؛ لإعواز النوادي الأدبية غاليا، وهي التي تشحذ الأفكار، وتنصب موازين القسط، فلا غرابة أن لَمسنا في مَجموع ذلك ضعفا غير قليل، وبذلك يصح حكمنا على هذه الفترة بأن الأدب السوسي فيها قد تراجع كثيرا جدّا، حتى لا نَجد بين المتخرجين فيه ذا يد جوالة غالية الوشي، جامعة بين العلم والفن، وبين السمو به إلى المثل العليا أن نزع بالقافية، فإن كان لنا أن نَختار من هذه الفترة سوسيّا نقدمه للعالِم الأدبي المغربي العام فلا نَجد نظيرا للماسجيني، ولكن هذا فيما يرجع إلى البيان العملي، وأمَّا إن أردنا أن نَجعل موضوع نظرتنا معرفة علم هذا الفن؛ فإننا نَجد أفرادا كالجرسيفي والودريمي خريج (ابن يوسف) الفذ، ثُم لا يُمكن لنا أن نشمل بِحكمنا كل الدراسة السوسية الخاصة والعامة، المجلسية والفردية في الحكم بعدم الاعتناء بِهذا الفن عمليّا غاية الاعتناء، فإننا إن أطلقنا هذا الحكم هكذا مُجازفون بلا شك، وإلا فمن أين تضلع الجرسيفي صاحب الرد على الفاسي ذلك التضلع حتى استحضر كثيرا من أشعار حلها نثرا في رسالته. ومن أمثال شتى وشحها بِها توشيحا، حتى أمكن له أن يقف كموقف ابن زيدون، يوم يكتب رسالته المشهورة عن ولادة إلى ابن عبدوس، وبين رسالة الجرسيفي وبين الرسالة الزيدونية تشابه كثير، وإن كان ما بين الرسالتين هو ما بين صاحبيهما.
وختاما نقول -ونَحن نَحمد الله على أن وفقنا للإنصاف: إن الأدب السوسي في هذا الدور إن نظرنا إليه نظرة الباحث عن آثار تصلح للنفاق في
سوق الأدب العام، ضئيل جدّا، حتى يكاد ينمحي لولا بقايا هنا وهناك، وإن نظرنا إليه نظرة الذي ينظر إليه كأثر لانتشار اللغة وعلومها؛ فإنه لا يزال موجودا، يدرس دراسة جافة قليلة من غير عناية خاصة به؛ فلذلك لَم تؤتِ أكلها كما ينبغي، فإن أردنا أن نتطلب علة لِهذا الفتور، زيادة على ما ذكرناه من فقدان التشجيع؛ نَجدها متجسمة في التصوف الناصري الغالب على المدرسة السوسية في هذا العهد، والأدب وأريحيته، والتصوف وتَجهمه إن تربى بِهما إنسان من صغره، لن يقترنا أبد الا بدين في نسق واحد (1)، هذا مع أن لِهذه المدرسة الناصرية التي ذكرناها وجعلناها علة فتور الأدب في سوس، وجهة أخرى في مدرستها بتامجروت إلى الأدب، أوَلَم يأتك أن أحد علماء تامجروت وهو يوسف بن مُحمد من أهل هذا العهد وما إليه، كان يَحفظ جل ديوان أبي فراس؟ أوَلَم يأتك أن أكثر الذين يصدرون عن تامجروت يكون بينهم أدباء؛ كاليوسي، والتجموعتي، والمكي صاحب الرحلة، والأديب الشفشاوني، والكنسوسي ونظرائهم، ولكن هذه الوجهة إن كانت هناك صاحبة نتائج، كما رأيناه في أشعار المكي الناصري نَحو أواسط القرن الثاني عشر وقبله بقليل، لا تكون غالبا في الاتساع والامتداد حتى يُمكن أن تُمازج كل من يأخذ من تامجروت من السوسيين إلا قليلين؛ كإبراهيم الظريفي، وابنه مُحمد الولتيتي المتقدمين، ومُحمد الهوزيوي.
كان لشيخ سوس وعلامته المتبوع مُحمد الحضيجي ازورار عن كل ما لا يَجمع القلب على الله، أفننتظر منه أن يَبتهل بالأدب، وبعلوم الأدب، غاية الابتهال، أم نترقب منه أن يؤسس لَنا نهضة أدبية، أو يُحاول إنعاشها؟ إن هذا طلب الأبلق العقوق، أو بيض الأنوق (2)، وكما يكون المتبوعون يكون التابعون، حتى يأتي من بينهم من يقدر أن يشق الطريق، ويهتك السجاف، فيأتي بنمط جديد سنة الله، ولن تَجد لسنة الله تبديلا، وهذا هو الذي وقع بين أتباع الحضيجي، فكما كان متبوعهم كانوا أيضا، تأثروا به، غير أنه نَجم من بينهم من التفتوا التفاتات إلى هذه الوجهة، حتى كان ما سنذكره في الطور الثالث إن شاء الله، فلنعرض على القارئ ما نراه يصلح، مما لا يزول معه الرضا من القراء عن الأدب السوسي. حتى في هذا الطور الذي
(1) من هنا نظن أن ابن الفارض والبرعي وأمثالهما من شعراء الصوفية المفلقين، قد حصلوا الأدب وتمكنوا فيه قبل أن يتصوفوا أو كانوا من الشذاذ في ذلك.
(2)
الإبلق العقوق: أي الفرس الذكر الحامل: والأنوق بفتح أوله: الرخمة ولا تضع بيضها إلا في قنن الأجيال، وهذا المثل من قول القائل:
طلب الإبلق العقوق فلما
…
لم يجده أراد بيض الأنوق
حكمنا عليه بطور الفتور في الأدب الذي يتردد بين الإجادة وغيرها، تردد الموج بين الْجَزْر والْمَد.
قال أحمد بن عبد الله الماسجيني في الأمير المولى مُحمد بن عبد الله يوم ألقي القبض على صالِح الثائر المشهور في أجادير، وألقاه في السجن، نأتي بِها كلها:
إن السعادة ألحفتك برودها
…
وثنت إليك قريبها وبعيدها
زفت إليك النصر هذا اليوم واتَّخـ
…
ـذت نَهار اليوم بشرا عيدَها
تَجني لك الأثْمَار من نَخل الْمُنى
…
وتنيل غيرك ليفها وجريدها
الله أكبر قد أتيت مظفرا،
…
أي البلاد تَرى تَرى مسعودها؟
كنا من الأوباش وسط مراجل
…
فارت يوالي المارقون وقودَها
كم حرمة نَهكوا وكم ذي شيبة
…
قد أرهقوه من البؤس صعودَها
والفتنة العمياء تَخبط خبطها
…
من ذا يرد عن الورى مَمدودها؟
لكن أتاها اليوم قصَّام القَرى
…
عنها يرضُّ عظامها وجلودَها (1)
ويدق أعناقا غلاظا بالربا
…
كانت لكل السيئات عمودَها
ويَهد من سور المصيبة ركنها
…
ويَجذ من أثل المفاسد عودَها (2)
يا طالَما رتع البغاة مراتع البغـ
…
ـي المبيدة لو تكون مبيدها (3)
واستمرءوا نَهب الضعاف بِحيفهم
…
يلحون شرخ بلادنا ووليدَها (4)
فيلممون وهم كطلسِ جوِّع
…
غض اللحوم بِحيفهم وقديدها (5)
حتى غدوا في ثروة ضموا لَها
…
منا طريفَ كنوزنا وتليدَها
لكن أتى في اليوم من يُردي العتا
…
ة على الملاحم عادها وثَمودَها
خضد الجبابرة الطغاة وشوكها
…
مستأصلا تَحت الثرى مَخضودَها
زأرَت أسود الْحقِّ فوق نِقَادها
…
فرأت مَخالب لا تَطيق أسودها (6)
فاهتم قائدها بِحرب دونَها
…
زعما وقد صدت هناك صدودَها
حتى إذا ما صرحت بأساؤها
…
ورأت بروقا لا تَخون رعودَها
ألقت يد استسلامها عن ذلة
…
قد عفرت آنافها وخدودَها
فهناك ألفى طالِح لا صالِح
…
من كان من فئة البلاء عنيدَها
(1) القصم: القطع، والقرى: بالفتح: الظهر، رض الشيء دقه.
(2)
جذ: قطعه، والأثل: شجر معروف بالبادية، والكلام فيه مجاز.
(3)
الضمير في مبيدها راجع إلى البغاة باعتبارها جمعًا، وكل جمع مؤنث، وقد تكر مثل ذلك فيما يأتي.
(4)
لحي الشجرة: قشرها، والشرخ من الناس: الكبير.
(5)
الطلس: جمع أطلس: الذئاب.
(6)
النقاد بالكسر جمع: نقد بالفتحتين: صفار الغنم.
إن السماء تطول كف مقصر،
…
نذل قصير إن يَمد مديدها (1)
فأتى فلاقى في الكبول جزاءه
…
فيصيخ يسمع في السجون نشيدَها
إن كان يألف أن يشم خلوقه
…
فليشمَمَن منها الغداة صديدَها
حيفا عظيما قد قطعتَ بصالِح
…
من أمة أضْحَى اللعين مَريدَها
لكن سيوف الحق تأمل أن تفي
…
بعهودها كيما تصون عهودَها
فتزور من ذاك العُتُلِّ غلاصما،
…
فدعاء قد ضخمت تَقُّط وريدها (2)
إن الشرار من البلاد جَميعها
…
تبقى متى ترجو لَها مصمودَها
فالحزم كل الْحزم في تطويقه
…
من بيض هاتيك السيوف حديدَها
بل مل إلى كل الشعاب وأهلها
…
فاملأ بِمن هُم مثله أخدودَها
هذي البلاد ولا أزيد لسيدي،
…
علما بِها قد رازها وحدودَها (3)
تبغي يدا عراكة كي تستر
…
د إلى السبيل رءوسها وعبيدَها
تركوا زمانا فاستنامَ جَماحهم
…
للعسف ينتقص القرى وعديدها
كل يرى أن لا أمارة فوقه
…
نسي الإمارة ربَّها وجنودها
حتى غدوا بين القبائل كالْمَلو
…
كِ زعامة تَعلي الحروب سدودَها
ولربما يتطاولون لرتبة،
…
شَمَّاءَ أمّا غُودرِوا وصعودَها
فالرأي أن ترقى الجنود إليهمُ،
…
ويد الصباح كما تَمد بنودَها
فتصول فيهم صولة هزازة،
…
فتطير زيغ قلوبَهم وكنودَها
كيما يروا هذي الإمامة فيهمُ
…
حق اليقين ثباتَها وخلودَها
فالبربري فؤاده من جرحه
…
فاجرح فئات البغي تلق جحودَها
فهمُ أسود السلم لكن أن تدُر:
…
حرب يكونوا في الشعاب قرودَها
…
يا خير من وخدت بِهم نوق إلى،
…
نصر عظيم الفتح تقطع بيدَها
هذي قصيدة وأمق مودوده
…
في أن تنال نفوسكم مودودَها
كانت طليعة عقدة في أيْمني
…
لكم تولى ودكم معقودَها
قد كنت أسمع عنكمُ مذ نشأتي
…
ما يستحث من القلوب بريدها
وودت لو أحظى برؤية حضرة
…
تُعيي النباهة أن تزفَّ نديدَها
حتى أتى في اليوم يوم ماجد
…
يدْني السعادة لي فشمت مَجيدَها
(1)
أن السماء: معمول: الفي في البيت قبله.
(2)
العتل: القصير، الفدعاء: المعوجة، نقط: تقطع.
(3)
يقال: راز الرجل يروزه روزًا: جرب ما عنده وخبره.
هذا مقام من ينال قيامه
…
أضى لراحته الزمان مَقودَها
فينال من رتب العلاء شفوفها،
…
ويقود من شيم الكرام شَرودَها
مولاي هذا العبد قال قصيده،
…
أتقول كف أبي الكرام قصيدَها؟
قولي يُجيد جهودَه ولعلها أيضا بلا أمر تُجيد جهودَها
وقال أحمد بن إبراهيم الركني في ذلك المولى أيضا من قصيدة مطلعها:
قلبي من الصبر الجميل سليب
…
جلد يعاني الكارثات صليب
ما سيم سلوانا بقولة عاذل
…
ألا يطير به جوى ووجيب (1)
يقول منها بعد أبيات في النسيب:
يا ليت شعري والأماني كلها
…
تُخطِي مداها مرة وتصيب
هل ترجع الأيام أيضا للذي
…
منه رداء العيش قبل قشيب؟
بزمان وصل كنت منه في الحمى
…
في جنة يندى بِها الأسكوب (2)
عندي الحبيب معانقي في روضة
…
لا ينتحيها حاسد ورقيب
والسعد قد شد الإزار يَحوطنا
…
منه سياج لا يرام مهيب
في كل وقت لذة نرتادها،
…
ومَراد ذياك اللذيذ خصيب
والشمس تشرق فوقنا بشعاعها،
…
وينوب عنها البدر حين تغيب
لَم ندر كيف الداجيات بِجونا
…
فكأنه عند الدجى مرهوب
فكأننا من تَحت ذيل ابن الذيـ
…
ـن مُجارهم عند الزمان رهيب
ويقول في مديحها يصف رجال الدولة على اختلاف أسنانِهم:
شرع من الأملاك من هو قارح
…
مَثَل لدى نار الوغى مضروب (3)
وفتى كما عقدت يداه إزاره
…
فالشبل نَجل الليث حيث يصيب (4)
(1) الوجيب: خفقان القلب.
(2)
الأسكوب: دفعة من المطر.
(3)
شرع بفتحتين: سواء.
(4)
حيث يصيب: حيث يذهب وأين أصاب فلان: أين ذهب، والقصيدة توجد كلها في الفصل الثاني من (القسم الرابع) من (المعسول) عند ترجمة سيدي أحمد الفقيه الركني وأٍسرته.
كفانا هذا القدر؛ لئلا نأتي بما ربّما تقذى به عين القراء من شعر مهلهل، ونسيب يغلب عليه التكلف، ولو كنا في مقام دراسة الأدب السوسي؛ لكانت لنا مندوحة في عرض النماذج على اختلاف أنواعها، وأمَّا نَحن في مقام البحث عن وجود هذا الأدب، وعن عدم وجوده؛ فلا نريد أن نأتي إلا بِما يدل على أن هذا الأدب له وجود مُحقق، بل تتراءى وراء وجوده روعة أحيانا وأسلوب.
والخلاصة عن الأدب السوسي في هذا الطور. أنه لو وجد من المشجعات ما وجده الطور الذي كان قبله؛ لَما آنسنا منه هذا الفتور الذي عم كل أرجاء سوس، ثم لا نقع إلا على جهود أفراد لقحهم النبوغ الفاسي أو المراكشي، أو التَّامْجروتي، أو على بعض أناس آخرين، يستفزهم لَمز اللامزين كالجرسيفي، فيأتي بِما يَحمده التاريخ للأدب السوسي، على تكلف فيه (1).
(1) كل ما لمحنا إليه من الآثار في هذا الفصل يوجد في كتبنا المتقدمة.