الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرَّحْمَن الرحيم
وصلى الله على سيدنا مُحمد وآله وصحبه
أحق ما يفتتح به كل من له إلْمَام بلمعة من المعارف، أن يَحمد الله على ما أولاه إيَّاه، وأن يُصلي على رجل العالَم القرشي الْهَاشمي الذي حرر الأفكار، وشحذ العقول، وهتك الأوهام، ونفى الخرافات، فهيأ الأفكار لاقتناص المعارف كما هي من غير أن تشوبَها شائبة من إلاهيات اليونان، وأساطير الكلدان، وأوهام البطالسة والرومان، وخرافات الهند وإيران، كما يَحق أن يترضى عن أولئك الرجال الذين تربوا بذلك الرجل العظيم في وسط تلك البادية القاحلة، فسادوا من تربوا في مدارس الإسكندرية ورومة وبيزانطة والمدائن وجُنْدَيْسَابُور، فكانوا خير علماء بعد أن كان تضرب بِهم في الجهالة الأمثال، ويسير بأحاديثهم المحققة أو المأفوكة الركبان، كما أصبحوا مقاديم قلبوا الكرة الأرضية ببسالتهم النادرة، بعد أن كانوا عند سواهم كالرعاديد، بل صاروا أشباه الملائكة نزاهة وعلو همَّة، وزهدوا فيما يَملكون، فضلا عما لا يَملكون، فظهروا بمظهر عجيب، ومبادئ تنسف الأوهام، بعد أن كانوا ما شاء الله أغوال الصحراء التي تتخبط القوافل، أو تنتهب فيما بينها حرَبا (1) وفتكا، إذا لَم تَجد من تنتهب ماله، أو تفتك به، كما يقول أحدهم:
وأحيانا على بكر أخانا
…
إذا ما لَم نَجد إلا أخانا
فلم تَمض إلا سنوات عليهم مع معلمهم العظيم، والنبي الذي بذ كل الأنبياء، حتى تقمصوا روحا وثابة سارية، هي بالكهرباء أشبه منها
(1) الحرَب بالتحريك: النهب.
بأرواح الناس، فحين واروا معلمهم صلى الله عليه وسلم -فداه أبي وأمي- أصبحوا أشد ما كانوا رباطة جأش، فلم يفت ذلك في أعضادهم، ولا وجد الشقاق متسربا إليهم، فلم تكن إلا عشية وضحاها، حتى وردت خيولهم دجلة فجيحون في الشرق، كما وردت نَهر بردى ثم النيل ثم وادي سبو في الغرب، ثم تسلقت جيوشهم جبال القوقاز والحملايا وتخوم ما وراء كاشغار، على حين أن فرقة أخرى منهم تتسلق جبال البرينات، وقد تخطت سهول الأندلس حتى كادت ترد مياه السين، كما تسلقت قبل ذلك جبال درن إلى ماسة حتى دخلت قوائمها في البحر المحيط، وهي تقول: هل من مزيد؟
شرقت كتائب معلمي العالَم -لا غزاته- وغربت، وشذبت بعدلها من قوانين الإنسانية وهذبت، ومهدت بِمساواتها بين أبناء آدم ما مهدت، حتى انقادت الأمم فدخلت في دين الله أفواجا، فترد من لغة ذلك الدين العدل صافيا عذبا زلالا، وتلقي من لغاتِها وراء أجاجا، فأقبلت على تلك اللغة تتحلى بها في المجامع، وتشمخ بإتقانِها في المحافل، هذا ورئيس من رؤساء تلك الكتائب في ناحية من دمشق يتوضأ، والبشارات تتوالى عليه، كأنما الدهر يقول له: ما غلبتني أنت وأصحابك إلا بما تستمدونه من هذا الوضوء، ثم في تلك الوقفات التي تفقونَها مستقبلين تدعون، وكل دعاء أحدكم: رب زدني علما - هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ - ومن كان مبدأه العلم والعمل، ونفع الإنسانية جَمعاء؛ فأحر به أن يسود العالَم كله بِمبادئه السامية.
كان الأذان شعار أولئك المعلمين، فأينما وصلته أرجلهم، ولامسته أيديهم؛ جللته ألسنتهم بكلمة الله العليا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكانت صخرة قرية: أنَامّْزْ وَّاسِيفْ من سملالة بِجبال جزولة -حيث الأطلس الصغير- أول ما تشرف هناك بتلك الكلمة بادئ بدء في جبال جزولة (2) فلو كان أسلاف هذه الأمة ممن تنسيهم الآثار الأعيان، ويتأخرون عن المقاصد بالوقوف مع الأنصاب؛ لكانت هذه الصخرة مكللة بالياقوت والجوهر، ومُجللة بالسندس والحرير، ولكن أنى يكون مِمَّن
(1) الوليد بن عبد الملك الأموي الذي كان يتوضأ يومًا، وقبل أن يتم وضوءه توارد عليه خبر فتحين عظيمين شرقًا وغربًا.
(2)
البعقلي في كراسة وذكر أن ذلك متواتر، والكتاب مخطوط، وقبر ذلك المؤذن لا يزال معروفًا إزاء تلك الصخرة.
عرفوا تلك الكلمة العليا حق المعرفة، من يلتفتون إلى الأحجار، وإن كانت ذات تاريخ مثل هذه الصخرة، بعد ما خاطب الفاروق الحجر الأسود بِما خاطبه به يوم استلمه:«إنك لا تنفع ولا تضر» ، وبعد أن استأصل الشجرة التي كانت تَحتها بيعة الرضوان، فاستأصل بذلك ما عسى أن يكون باقيا في نفوس من لَم ينسوا بعد (ذات أنواط).
أتم العصامي إدريس (172هـ) ما كان قبل مؤسسا (62هـ) ثم في (87هـ) بأيدي عقبة وابن نصير، فبث التعاليم، ونشر بِحسب الإمكان العلم العربي، فاستقبل به المغرب عهدا جديدا، لَم تقدر يد الشَّمَّاخ (1)، ولا حيلة البرمكي، أن تزعزعا أركانه، فإن الذين تلقوا شابا، لَم يسلخ إلا نَحو خَمسة وعشرين ربيعا، وليس معه إلا عبد واحد ثم رفعوه على العرش برضى منهم، ثم ناولوه الصولَجان، ثم وقفوا بين يديه مصطفين ينتظرون أوامره، لينفذوها في أنفسهم وفي أموالِهم، أولئك قوم ما أقدموا على ما أقدموا عليه، حتى عرفوا ما يصنعون، وقد خالطت التعاليم الجديدة بشاشة نفوسهم، وملأت أعمال قلوبِهم، فرموا العصبية الجنسية ظهريا، فاستقبلوا المنفعة المجسمة من أعمال أبناء تِهامة ونَجد بكلتا اليدين، فيرون أتم الشرف في أن يكونوا مرءوسين لأحد أولئك الأبناء، رغما عن كل الدسائس والمكر والخديعة التي تنالَهم بواسطة ابن الأغلب، القاضي بمكره على أميرهم ثم على مولاه الأمين، فلم يصعب عليهم أن ينتظروا وراء أميرهم المرموس نسمة أخرى مباركة من نسله، يسير بِها ذلك العهد الجديد سيره الطبيعي إلى المدى الذي هو لا بد مدركه، وإن كره البغداديون.
تأسست عاصمة الدين والعلم والحضارة (فاس الخالدة)(192هـ) فصارت منبع العلم، وميزان الدين، ومقياس الشعور، والحضارة في المغرب فكانت تأخذ من القيروان ثم من قرطبة من تأخذ، ثم تمد إلى القرى والقبائل الجبلية والصحراوية، من روحها وحضارتها وعلمها الجم ما ينمو مع الأيام، فلَم يَمض إلا زمن ليس بالكثير، بِحسب بيئة ذلك العصر، حتى رأينا المغرب يكتسي حلة عربية، وقد تأصلت فيه العلوم العربية، وتأسست لَها معاهد. وقد كانت (سبتة) تضاهي فاسا
(1) اسم الذي سم إدريس بن عبد الله برأي يحيا البرمكي وزير هارون الرشيد.
(2)
في كتاب (المرْقى في أخبار سيدي محمد الشرقي) أن في تادلة زوايا علمية في القرن الرابع، والكتاب مخطوط.