الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النهضة الأولَى 900 هـ - 1118 ه
ـ
كانت بذور هذه النهضة من بقايا العصور المتقدمة قبل العاشر التي تَحملها الْمَجَالس الدراسية، من الآثار المفلتة من العصر المريني المزدهر بالأدب، فقد رأينا من مشيخة بسوس مِمن لا يظن بِهم أن يهتبلوا بِهذا الفن اهتبال الأدباء الأريحيين الفكهين، آثارا تدلنا على أن ذلك إنّما تسرب إليهم مِمن قبلهم، من غير أن يسووا الأجنحة التي يقتضيها الطيران في ذلك الجو، فقد رأينا من الأستاذ الأديب سيدي علي بن مُحمد التيلكاتي والد الشاعر سعيد الحامدي الشهير أثرا أدبيّا في رسالة يدل على التفوق، وكذلك من الشيخ سيدي مُحمد بن إبراهيم الشيخ التامانارتي ولوعا بِهذه الناحية، يدل عليه بعض رسائله، وأثارة من بقايا خزانته التي زرناها. وقد علمنا من التاريخ أنه ذو إنشادات يتحين بها الموضوعات التي يتحينها بها من يكون له فكر أدبي، كما علمنا أنه يحث على الكتب الأدبية أمثال المقامات الحريرية، وأنه قيوم على تدريسها، وهي -بلا مرية- لا تكون مدروسة وحدها في هذه الناحية لظواهر أخرى أدركناها من حياته، ومن بيئة ذلك العصر تقتضي انتشار دراسة كتب أدبية أخرى إزاء المقامات، ثم مع ذلك ذو آثار موجودة، وقفنا على بعضها إلى شيخه الحسن بن عثمان التملي، وقد أخذ منا العجب كل مأخذ حينما رأينا ذلك الصوفي يحاول أن يحرر في الترسل الأدبي رسالة (1) إلى هذا، فعللنا ذلك بأن شيخه كان له المنزع نفسه، فأراد تلميذه أن يطرقه من الباب الذي يولج عليه منه بلا استئذان، وكذلك رأينا من أبي بكر بن أحمد التازولتي التملي أحد تلاميذ ابن عثمان أيضا أدبا جيدا، وتَمكنا في اللغة وترسلا وشعرا، كما رأينا أيضا ما يدل على أن آخرين من أقران هذه الطبقة من الجزوليين سائرون على هذا الذوق، فمن هنا حكمنا بأن بروز هذه النهضة الأولى التي وجدها السعديون فزادوها نشاطا، ورفعوها إلى الأوج، كانت قبلهم في سوس، ولكنها لا ميزة لَها فيما نعلم، ولا كان لَها ما كان لَها بعد هذا الحين من الشفوف، والاصطباغ بصبغة خاصة، أَوَلا ترى أن مُحمدا الشيخ السعدي الذي يصلح أن يكون على الحقيقة أول أمير سعدي، كان يَحفظ ديوان المتنبي كله، وسبب حفظه إيَّاه ما كتب
(1) في (القسم الثالث) من (المعسول) الذي فيه من الآثار ما وجدناه لكل أديب سوسي ذكر فيه.
به إليه أستاذ درعي متمثلا ببيت من ذلك الديوان (1)، ثم لا تنس أنه ممن أخذ عن ابن عثمان شيخ جزولة أول العاشر، أوَليس أن هذه المقدمة لا تنتج إلا أن بذرة حب الأدب التي كانت في مُحمد الشيخ إنَّما بدرت من بين أساتيذه الذين أخذ عنهم، كابن عثمان السوسي، وكغيره من غير السوسيين، ثم لَمَّا جاء السبب الخاص دعاه ذلك إلى حفظ ذلك الديوان:
إنَّما تنجح الْمَقالة في المر
…
ء إذا صادفت هوى في الفؤاد
وما حِفْظُ ذلك الديوان إلا عنوان لِميله الأدبي الذي لَم ينشب أن اصطبغت به الدولة، فنشأ في بيئته الشباب السعدي كالمنصور وأمثاله.
إذن بذور هذه النهضة كانت موجودة في سوس قبل الدولة السعدية، ثُم لَمَّا قامت هذه الدولة وقد رسخ في أدمغتها حب الأدب لذلك الذي بيَّناه، أخذت بضبع الأدب العربي بالمغرب كله، وكانت سوس من بين الأجزاء المغربية الممتازة في تلك الدولة، بل كانوا يعدونَها وطنا خاصّا، ويرون في أهلها شيعة خاصة يعتمدون عليها في حرسهم الخاص (2) من غيره؛ لِمكانة السوسيين من أول يوم من البيعة لأول أمير سعدي، ثُم ظهر الأدب السوسي مزدهرا بأيدي أدباء كبار؛ كمحمد بن علي الهوزالي النابغة، وكسعيد الحامدي (3)، وولده أحمد، وأبي بكر التازولتي، وسعيد الإيلالني، ومُحمد بن عيسى التِّملي، وداود الوجاني، وموسى الوجاني، وأمثالهم ممن نعرف ومن لا نعرف، فكانت قوافيهم تترقى في الإجادة، بِحسب طبع كل واحد منهم، وهم يستظلون من الدولة استظلال من يرى أنه إنّما يستظل بظل دوحته في بستانه الخاص، فقد دلت قوافيهم التي خلصت إلينا على قلتها جدّا على أنهم يقولون في هذه الدولة ما يقولون عن إخلاص.
ثُم جاءت أكف الدولة المفعمة لَهم مع ما امتازوا به كلهم أو امتاز به بعضهم من سمو المنزع، فزادتهم إخلاصا على إخلاص، وفيما يقولون ما يلفت نظر الباحث في الأدب المغربي العام إلى ذلك العصر لفتا خاصّا، فهناك أقوال (3) للحامدي أعجبنا ببعضها غاية الإعجاب، كما أن هناك أخرى لابن عيسى التملي تدل على ذلاقة وجزالة ومتانة أسلوب، وأما ما رأيناه لَهم في غير
(1) الاستقصاء.
(2)
نص على ذلك في مجموعة ديكاستري.
(3)
في (المترعات).
الإشادة بالعرش السعدي، فإن بعضه في موضوعه يكون من المنفسات الغالية في عالَم الأدب، وناهيك بنونية (1) داود الوجَّاني، فإنَّها في الوصفيات قيمة بِحسب بيئتها، ويزيدها قيمة على قيمة أنَّها انفردت بوصف واقعة وادي المخازن وحدها، دون كل شعراء المغرب إذ ذاك فيما نعلم، مع أنَّهم متوافرون في أنْحاء المغرب، ولو كان غالب ما تنفثه ألسنة الأدباء السوسيين في فجر هذه النهضة كثيرا بيننا؛ لاستطعنا أن نُدرك منتهى السمو الذي كان للأدب السوسي في هذه الخطوة الأولى، على أننا نقنع بالموجود، ونكتفي بِما نفهمه من ورائه.
ثُمَّ إن الأدب قد تَجاوزت آثاره ميدان المديح، ووصف الغزوات في مبدإ هذا الدور، إلى مَجالس الأنس، ووصف ليالي الشراب، ولا أدل على ذلك من بائية موسى الوجاني التي نذكرها فيما يأتي، كما أنه تَجاوز أيضا إلى الزهديات مع احتفاظه بروعته، وفي رائية لسعيد الحامدي أحسن مثال لِهذا، وهذا ما يدل على أن هذه النهضة قد ابتدأت خطوتِها الأولى واسعة غير ضيقة، فلا نعجب إذن أن رأيناها في عنفوانِها بلغت من طروق موضوعات شتى غاية ما يُمكن لَها في تلك البيئة.
انبثقت الدويلة الإيليغية، وقد تَمكنت هذه النهضة وبلغت قوتِها، وخالطت بشاشتها كل القلوب ذوات الأريحية، فلا عجب إذا رأيناها لَم تتأثر بسقوط دولة وقيام أخرى، فإن كان لا بد من تطلب علة لذلك؛ فإن ما يُمكن أن يكون علة واضحة لذلك موجود في أن التشجيع الذي كان الأدب استمده من الدولة السعدية كان عظيما جدّا، حتى تأصلت جذوره تأصلا ثابت العروق. فلم يسهل أن يتزلزل بسرعة، ثم وجد أيضا بكل سرعة من أول يوم تشجيعا جديدا من إيليغ، ولَم يكن بين قيام إيليغ سنة 1018هـ وبين إقفال البديع، بموت الذهبي سنة 1012هـ إلا سنوات قليلة جدّا، وهناك علة أخرى يُمكن أن يعلل بها ذلك، وهي أن حب الأدب تَملك بعض الأسر، فصار الأدب كالعلم عندها، تعتني به من عند نفسها، ولعل الأسرة التَّاعَاتينية واللكوسية المانوزية والتِّيلكاتية الحامدية وأمثالِها يصدق عليها هذا.
إننا بعد ما درسنا (إيليغ)(2)، وكيف إدارتها ومعاملاتها أدركنا أنّها تتبع خطوات البديع بقدر جهدها، وأن اعتناءها بالعلم والأدب وإكبار
(1) في (المترعات).
(2)
في كتاب (إيليغ قديمًا وحديثًا).
أهلها إكبارا أدبيّا، واحتراما خاصّا، أكثر مِما يقتضيه حالُها، إنّما تقفت فيه البديع من غير أن يكون لَها من العلم والأدب وذوقهما باع طويل كالبديع، ومن هنا نلمس إسراعها بالتشجيع للأدباء الذين يكونون دائما في الدول عنوان منتجاتها في حاشية أعمالِها، ومن آخر ما تعتني به خصوصا إن كانت دويلة بسيطة بدوية كدويلة إيليغ، فليحمد حينئذٍ الأدب السُّوسي هذا التقليد، فلولاه لأمكن أن يسقط شأنه منذ ارتفعَ شأن إيليغ، ففي أول يوم بويع فيه علي بودميعة (1021هـ) رأينا الشاعر أمحَّاولو الإيسي قام بقصيدة يلقيها على مسامع الحاضرين، فيها الإشادة بالأمير الجديد، وفيها تَمنيات من بينها الأخذ بالعلم والاهتمام بنشره، ولا مرية أن الشاعر إنّما يقصد العلم الديني، ولكن في ضمن هذا العلم كل علوم العربية إذ ذاك، ثُم رأينا هذا الشاعر تبوأ مركز الكتابة الأعلى في إيليغ، ثم يخلفه فيه ولده أحمد وهو شاعر أيضا، كما رأينا أحمد بن مُحمد الشاعر التاغاتيني يستقدم إلى إيليغ، ويؤمر بِملازمة الحضرة، ثُم لَحق الشاعر مُحمد بن الْحَسن اللكوسي المانوزي بإيليغ، وبَيْن يدي نَجواه قصيدة عينية، ثُم هناك من بَيْن قضاة الجماعة الشعراء والأدباء؛ كمحمد بن سعيد العباسي، وعبد العزيز الرسْمُوكي، وعبد الرحمن التامانارتي، نشأ أمثال سعيد بن مُحمد بن سعيد من النشء، فكان هؤلاء يقولون في كل مناسبة، يقولون تَهديدا لأعداء الدولة، ويقولون تَهنئة للأمير بعد أن نَجا مِمن يُحاول أن يغتاله، ويقولون فيه أمداحا خاصة، ويقولون في رثائه بعد وفاته، ويقولون في ليالي المولد النبوي، فتعارض قصيدة الفشتالي، النونية النبوية بلسان أحد شعراء الشباب (1)، وهذه الحركة الشعرية تدل على أن هناك اعتناء خاصا، ربّما فاق ما نظن، وإنما نُحاول أن نبقي مع ما يدل عليه ما اتصلنا به، ولَم نرد أن نتتبع الافتراضات كثيرا في الموضوع، ولا أن نتوسع في الاستنتاج إلى حد بعيد، خوف أن نقع فيما لا نَجد له دليلا مقنعا. لو تطلب منا دليل مقنع، على أننا وإن أبينا أن نتوسع في الإشارة بالأدب في إيليغ نَجد بين أيدينا نصّا صريحا من أحد رجالات إيليغ إذ ذاك، يقول: «إن الأدب قد انطوى منذ انطوى إيليغ في جبال جزولة حتى بقيت آثار الأدباء مرمية منبوذة
(1) كل ما لمحنا إليه هنا موجود في (المترعات) أو في كتاب (إيليغ) أو في (المعسول).
بالعراء (1) لا يهتبل بِها»، وهذا يدل دلالة واضحة على ما يتطلع إليه باحث يريد أن لا يرتاح حتى يبلغ المدى.
ثُم انبعث الأدب في تارودانت انبعاث الذبالة من السراج قبل أن تنطفئ بِمُحمد العالِم العلوي الْمَاجد، فقد أتيح له أن يَجمع له ثلة من بقايا هذه النهضة المتقدمة، وقد كان الفقهاء الذين يردون عليه يقدمون إليه قصائد لا تعجبه، ولا يرفع بِها رأسا، حتى انثالت إليه هذه الثلة المتصادقة التي هي كعقد منظوم بالْمَاس، فرأى العجب عِيانا، وخاض ما شاء بلاغة وبيانا، إننا نعلم أن إبراهيم السجتاني، وابن الْحَسن الإيلالني، وابن عبد الله الزدوتي الذين كانوا من بين الثلة المعجب مُحمد العالِم بذلاقة ألسنها. قد تَخرجوا كلهم من فاس، ولعل قائلا يقول: إذن أدب هؤلاء لَم يكن مستقى من أدب تلك النهضة السوسية القائمة أخيرا بإيليغ، بل كان مستقى من وادي الجواهر، فنقول مجيبين: إننا أولا وبادئ ذي بدء، وقبل كل شيء لسنا مِمن يترامون إلى جعل المغرب عِضين، ولا مِمن يرمون في كل ما يكتبونه إلى أن يَجعلوا هذا الشعب الموحد من قديم طرائق قِددا، وإنّما نَحن الآن في تبيين الواقع في هذه الزاوية من المغرب، ونقول ما كان يقوله من يريد أن يقوم مثل هذا المقام في نواح أخرى مغربية؛ لتستنير أجزاء المغرب كلها، ويتضح تاريخ كل جهة. فإن ذلك أدعى للحكم على كل المغرب عند الذين سيتصدون لذلك أيضا في مقام آخر. أقول هذا وأكرره، وأعلنه غاية الإعلان، ثم بعد ذلك أقول: إن كون هؤلاء الثلاثة تَخرجوا من فاس لا يدل ذلك وحده على أن أدبهم فاسي مَحض، لا يضم من بذور النهضة السوسية شيئا، بل الذي يصح أن يَحكم به أنهم تذوقوا الأدب في بلادهم، ثم عمدوا إلى كليتهم وكلية كل المغاربة، لا كلية أهل عقبة باب الحمراء وحومة الطالعة وحدهم؛ ليترقوا منها وليدركوا من أساتذتِها في كل فن ما يعوزهم في باديتهم، وذلك ديدن كل من يأخذ من السوسيين من فاس، من قديم الزمان إلى اليوم، ويؤيد هذا أننا نعلم أن الذي تخرج من بلده شاديا ثُم توجه إلى مثل القرويين لا يشتغل في القرويين إلا بتتميم العلم الذي كان شدا به قبل، وحال هؤلاء الثلاثة وغيرهم من كل أدباء سوس إذ ذاك -على الأقل- لا يَخرج عن هذا، أوَليست هذه هي
(1)(نفحات الشباب) مخطوط مبتور، وقد أدخل في (المعسول) في ترجمة داود الرسموكي في (القسم الخامس).
الحقيقة الناصعة المسلمة؟ على أن المقصود الذي نريده أن ما رآه مُحمد العالِم هناك من ذيول تلك النهضة، يوجد حتى في الذي يقدمه أولئك الفقهاء من قصائدهم، وهل يعتني فقيه بالقوافي إلا إذا أكبر الأدب وأعلى شأنه، وعلم أنه مفتاح القلوب، وخير ما يقدمه ذو علم أمامه؟ وهذا الذي يقدمه هؤلاء العلماء، مع ما عند الثلاثة المتقدمين يدل بِمجموعه على ما نرمي إليه، وأما رابع أولئك الثلاثة مُحمد بن أحمد التاغاتيني ابن ذاك الشاعر الإيليغي، فإنه شاعر نشأ تَحت ظل إيليغ، وسنرى ما يتكون منه أدبه، فندرك ما هي الكتب التي تستقى منها آداب ذاك العصر، وأية طريقة يسلكونَها حتى يتمكن المتأدب في الأسلوب العربي.
أبدأ مُحمد العالِم وهذه الثلةُ وأعادوا بِمجرد ما اتصلت الأسلاك، فكأنَّما نشرت في تارودانت مَجالس ما بين الكرخ والرصافة، وعادت إلى حياتِها الأفكار العبادية الأندلسية تتجارى في ميدانِها، وقد شاءت السعود أن يبقى بعض ما دار إذ ذاك، فحفظ لنا كتابا كتبه (1) أحد الأحياء إذ ذاك في ردانة، وكان أديبا ينزل عليه أولئك الأدباء ويُخبرونه بكل ما يروج في حضرة الخليفة، وما يكون بينه وبينهم من المساجلات التي تربوا أو تَماثل على الأقل -مساجلات (2) الأديب ابن الطيب العلمي الفاسي مِمن يَحيون في هذا العصر أيضا، ففي كتاب الرداني مساجلة في وصف مَجلس أنس، وأخرى في حلبة من فرسان العبيد يتسابقون في الميدان، وأخرى في هجو أولئك العبيد يوم انتبذ الأدباء بعد خروجهم من حضرة الخليفة في منتزه كانوا فيه وحدهم، وهي من الْمُفَاكَهات العجيبة الَّتِي لا يَملك الإنسان معها نفسه ضحكا، وهيتدل على أريحية عظيمة نعتادها من الأدباء دائما، وقد شهد مُحمد العالِم لِهذا الأدب السوسي الذي شاهده بأنه غريب لا يوجد له قرين إذ ذاك في الْمَغْرب، وكل هذا يوجد في ذلك الكتاب الأدبي الْحلو الذي كتبه الرداني كجواب لفاسي اقترحه عليه فأملاه من عنده، فأبقى به صحيفة أدبية سوسية مذهبة، لا يوجد لَها في مَجموعها على الحق والإنصاف مثيل إذ ذاك في الْمَغْرب وقد كان جامع هذا الكتاب ذا حافظة قوية، يَحفظ كل ما يعجبه، فكان ذلك هو السبب حتى أمكن له أن يُملي من عند نفسه بعد هذا الوقت بنحو ربع قرن
(1) هو كتاب (نفحات الشباب).
(2)
وهي الموجودة في كتابه المشهور في معاصريه (الأنيس المطرب) وهو مطبوع في فاس.
ما أودعه في كتابه من قصائد ومقطعات، وبعض نثر، وقد حكم بأن الأديب السوسي إذ ذاك وإن كان في منتهى اللطف والأريحية، والرقة ودقة الشعور كان نزيها متدينا عفيفا، لا يطبيه الْهَوى، ولا تؤديه أريحية الأدب إلى أن يتهتك، وهذا في نظرنا نَحن كما هو في نظر كل متدين مُحافظ على المروءة مِما يدل على سُمو وشفوف مِمن اتَّصف به. على حين أن غيرنا قد يرى في هذا غير ما نرى فيه -فاختر لنفسك (1) ما يَحلو- ولعل أحسن ما أمدنا به ذلك المؤلف ما أفادناه مِما يستمد منه الأدب إذ ذاك ذلاقته، وتَمكن تعاليمه في الألسنة، فقد وصف الثلاثة الأولين من تلك الثلة، بأنَّهم حفظوا كلهم المقامات الحريرية وحفظوا قصائد كثيرة للمتنبي، والبحتري، وأبي تمام، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وأبي نواس، وبشار، ومسلم، فضلا عن المعلقات، وقد استحضروا كثيرا من حَماسة أبي تَمام ومن الْحماسة المغربية مع معرفتهم للتاريخ، ثم وصف مُحمد بن أحمد الرسْموكي الذي كان مِمن نشأ تَحت ذيل الأديب الإيليغي بأنه كان فائقا على القدر، حافظا لأشعار العرب، ثم قال -ويظهر لي أنه أحفظ من الآخرين- لأن والده الأديب اعتنى به كثيرا، انظر إلى وصفه هذا الشاعر الإيليغي، بأنه أحفظ من أصحابه. فإن ذلك ينفعنا في الموضوع؛ لأن هذا الرسْموكي ما عرفت له رحلة إلى فاس، فإن كان من يريد أن يعترض علينا بذلك الاعتراض المتقدم حول أولئك الثلاثة، وإن ينازعنا فيما قلناه حول أخذهم أدبهم كله من فاس، فإنه لا يُمكن له إلا أن يسلم لنا هذه النتيجة التي حصلنا علينا بِهذا النص الواضح، فبذلك أدركنا من أين يستمد الأدب السوسي إذ ذاك، وكيف يتعلم المتأدب الأسلوب العربي، والعجيب ما ذكره من (الحماسة المغربية) وهو للجراوي من أدباء القرن السادس، فإنَّها غير مسموعة منذ ذلك العهد. فكيف وقع لَها حتى كانت معروفة متدارسة في هذه الزاوية المغربية في ذلك العصر، ثم لَم نَجد لَها أثرا اليوم، بل يَجهلها الغالب حتى أثار حديثها بعض الباحثين (2) أخيرا في الصحف، وما مدارسة الحماسة الجراوية في سوس إلا أخت مدراسة كتاب الزهراوي
(1) ابن الغارض:
نصحك علما بالهوى والذي أرى
…
مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو
(2)
العلامة ابن خلدون الصغير في بعض المجلات، ثم رأينا نسخة في يد الأخ العلامة سيدي عبد الله كنون الطنجي، صورت له من الأستانة.
الطبي (1) فكلتاهُما من الأعاجيب التي انفرد بِها سوس في ذلك العهد، ثُمَّ انطوى الكتابان معا حتى لا يوقع لَهما على نسخة إلا في الندور (2)، ثم إن هناك من بين من أخذوا أخذا كثيرا من إيليغ من يُمكن أن نتخذه أيضا كحجة على ما هنالك، وهو اليوسي الذي رأيناه ينقطع هناك ما شاء الله فيأخذ عن الجزوليين في إيليغ، ثم ما فارق تلك المدينة حتى أرسله أميرها أبو حسون بودميعة ليدرس بتارودانت، فيمكن أن يكون مرآة واضحة لإيليغ، فيتخذ أدبه وما يستمد منه في كتبه الأدبية كـ (أزهار الأكم)(والمحاضرات) وأمثالهما كمثال حي ماثل بين أعين الباحثين، فلو كان اليوسي إنّما أخذ من الإيليغيين وحدهم؛ لجزمنا بأنه هو مرآة صافية حقّا للأدب الإيليغي، ولكن رأيناه ربض أيضا كثيرا قبل هذا الوقت وبعده عند أناس دكاليين ودلائيين وغيرهم حتى تفوق.
ثم بعد هذا الحين ألقى رحله وقد استوفى عند الدلائيين الأدباء الكبار، على أن في كونه وقت عنفوان أخذه في إيليغ لدليلا واضحا لِما نريده، وأيّا كان فمما لا يمكن أن ينكر أن في أدب اليوسي جانبا غير قليل، إن لَم يكن هو الغالب عليه من التأثير الإيليغي، أوَليست هذه هي الحقيقة؟ ومن عرف كيف بعض أساتذته في الأدب واللغة هناك كعبد العزيز الرسْمُوكي، والقاضي مُحمد بن سعيد لا يَسْتبعد ذلك.
ثُم امتد الأدب السوسي الإيليغي إلى هذا المدى الذي يَجده مُحمد العالِم الذي كان في تارودانت خليفة لوالده في سنة (1109هـ) حتى ألقي عليه القبض بعد ثورته فقتل (1118هـ)، (على التحقيق) لا في (1116هـ)(كما في الاستقصا)، فبقتله ينتهي في نظرنا امتداد النهضة الأولى السوسية التي حاولنا أن نُبين تقلباتها، فقد بلغت أشدها في العهد السعدي، ثُم بقيت طلاوتِها في العهد الإيليغي، ثم لفظت نفسها مع انْهِيار عهد مُحمد العالِم العلوي، بعد إلقاء بعض روائعها في حضرته، فكان عمرها نَحو (200) سنة.
(1)(الحضيجيون).
(2)
هذا وقد وقفنا في ديوان محمد بن أحمد بن إبراهيم الهوزيوي على أن اليتيمة للتعالبي ونفح الطيب يروجان أيضًا في سوس في هذا القرن الثاني عشر، كما أننا وقفنا على مختلف كتب أدبية غريبة إذ ذاك في الخزائن التي ذكرنا غرائبها في كتاب (خلال جزولة).
ثُم لا بد لنا أن نسوق عن هذا الدور شذورا قليلة؛ ليشاركنا القارئ في بعض ما نَحكم به على ما قيل إذ ذاك، بعد ما نعلن إليه أن أنواع الشعر العربي كلها، نَجد لَها أمثلة فيما وقفنا عليه مِما بين أيدينا من الآثار الواصلة إلينا، ففيها المديح، والْهجاء الشخصي والسياسي، والغزل، والوصف للوقائع، والوصف لِمجالس المرح، والرثاء، والزهديات، والفخر، والاستنهاضات، ثم يوجد بين ذلك أبيات الحكمة، والتي ترسل مثلا، كل هذا موجود فيما عندنا، فلنسق ما يستلطف من بعض ذلك مُختارين. يقول مُحمد الهوزالي النابغة في مُحمد الشيخ، وفي جيشه العتيد الذي فتح به المغرب، نأتي بِها كلها، لا لأنها من نُخب ما عندنا عن ذلك العهد، بل لأنها ألَمَّت ببعض أمور تلفت النظر لا تَخفى عن لبيب:
ببيض السيوف وسمر العوالْ
…
توطد أركان أس المعالْ
يرى الخائضون لغمرتها
…
دماء الجروح كبنت الدوال
وعِثْير معترك قائم
…
خلوقا ومسكا ودهن الغوال (1)
ألذ معانقة عندهم
…
معانقة القرن عند النِّزال
وأفضل ألعوبة بينهم
…
تراشقهم في الوغى بالنبال
فإن يتمنَّ أخو خور
…
منادمة الشرب تَحت الظلال
تَمنوا منادمة الحرب في الـ
…
ـهواجر بين شداد الرجال
إذ الرعب خام به فَزع
…
أذابوا الحديد بحر الْمِصَال (2)
يزيدون في حربِهم مِرة
…
إذا ما تَمادى اللقا واستطال
همُ ما همُ جند سيدنا ال
…
أمِير مبيد فئات الضلال
إمام الهدى وسياج الْحِمَى
…
ورب الْحسام وإلف العوال
أغاث الأنام وضيم العدو
…
ينتف غثنونَهم والسبال (3)
لوى بالبلاد ومال العباد
…
بَحر الجلاد ورأي ومال
فعاث عثوا عظيما فلا
…
يزيد سوى جفوة ودلال
ففي كل يوم له طفرة
…
وفتك بِمعمعة واغتيال
تبحبح هذي البلاد بِما
…
له من جنود ومكر مُذال
تَمكن في الناس أجمعم
…
فيعرك عرك الرحى للثِّفال (4)
(1) العثير بكسر فسكون ففتح: الغبار.
(2)
خام عن الحرب: نكص، المصال: هو النضال وزنًا ومعنى، والفزع: الخائف.
(3)
العثنون: الشعرات التي تجتمع تحت الشفة السفلى والسبال اللحي.
(4)
الثقال بالكسر: ما يفرش للرحى عند الطحن.
وأصبح سكانها في ذهول
…
كأنْ لَم يكن بينهم من رجال
وقد استبيحت بسائطهم
…
ودب العدو لصوب الجبال
هناك بدا منكمُ يا بني الر
…
سول مداعسة والنِّزال (1)
تَماسون أهل الصليب كما
…
تفادونَهم بالظبا والإلال (2)
فرد إلى نَحرهم كيدهم
…
بِحرب زَبون وكيد مطال (3)
وجند قوي وبأس شديد
…
ورأي مُطاع ونسج احتيال
وأس الحروب على خدع
…
تصيد الأسود بِحوك السلال
فطهرت الأرض من رجسهم
…
بعزم بني المصطفى خير آل
فنلنا الأمان على ديننا
…
وأبنائنا وخدور العيال
جزيتم بني المصطفى بالتي
…
يُجازى بِها مَن يقيم المُمَال
فلا زلتمُ في ذرى عزة
…
تصون مَهابتكم والجلال
ولسعيد الْحَامدي بين القصائد التي وقفنا عليها قصيدة طنانة، يعتنى بها في سوس، فتشرح وتُدرس، يقول في غزلِها، وهي في مُحمد الشيخ:
إذا طيفها بالوجد ضافك لَم تكن
…
لتقريَ إلا بالدموع السواجم (4)
تبدت كلمح البرق ثُم تبرقعت
…
وأغرت دموعي بالشئون الشوائم (5)
فكم لوعة تنتابني وكأنّما
…
يسامرني منها سمير الأراقم (6)
ألام على حبي سعاد وليتنِي
…
حشوت غضا صدري صدوراللوائم
رأيت طريف الحب يقتل داؤه
…
فقل في تليد ذقتُه متقادم
ويقول في مديحها:
أمام إمام عوَّد الطعن بالقنا
…
وعلَّم حد السيف حز الغلاصم (7)
إذا ما الكماة ملت الطعن في القفا
…
أمل عليهم ضربها بالصوارم (8)
(1) المداعسة: المحاربة.
(2)
الظبا: جمع ظبة: حد السيف، ولإلال ج آلة بالكسر: الحربة.
(3)
حرب زبون: شديدة تدفع بعضها بعضًا من الكثرة.
(4)
سجم الدمع: سال.
(5)
شامة: لمحة بالطرف، والشؤون: مجاري الدموع.
(6)
الأراقم: الأفاعي، وفي ذلك تلميح لقول النابغة:
فبت كأني ساورتني ضئيلة
…
من الرقش في أنيابها السم نافع
(7)
الغلصمة: الحلقوم، والحَزُّ: القطع.
(8)
أمل أملي، والكمأة: الشجعان، والصوارم: السيوف.
بكل فتى يعطي الشجاعة حقها
…
إذا اصطحب الأحشاء تَحت الحيازم (1)
وكل كَمِيٍّ يَحتمي القرن قرنه
…
يرى ضربة الأقران ضربة لازم (2)
فإن خاف نِكْس أو تقاعس لَم يَخف
…
ملال ملول أو سآمة سائِم (3)
أخو العزم إن يعزم تلاشت همومه
…
وذو الْحَزم لَم تقرع له سن نادم
فلست ترى في الشرق والغرب مثله
…
سلوبا لأسلاب الأسود الغواشم
إذا ما الرعاء أصدروا الشاء أصدروا
…
صدور العوالي عن صدور الضراغم
عوارض موت لَم تَحم فوق بلدة
…
فتقلع إلا باصفرار البراجم (4)
وذي نَخوة أخنت عليه فعادلت
…
ولائده ولدانه في المقاسِم
ملكت على الأعداء بالسَّيفِ سيفهم
…
جهارا وكان السيف أعدل قاسم (5)
فأي حِمى لَم تستبح عَرض غربنا
…
فمَسَّه قد مست إلى مستغانِم؟
وأي حزون لَم تَجس بقنابل
…
وأي عزيز لَم تدس بالقوائِم؟ (6)
كأني بِمَلك الروم وافتك رسله
…
تعوَّذ منك أرضه بالتمائِم
إذا عظماء الروم تعنو فإنّما
…
عنت لعظيم في عيون العظائِم
قصار الجدود والعصائب والخطا
…
كمَ اطمعها طول العمى في العمائم
رأى وعصا الإسلام شقت لشقوة
…
رؤى ذلة أضغاثَها كل حالِم (7)
فأقدم في تعبيرها كل مرهفٍ
…
واحجم عن تعبيرها حدس عالِم
فأوطأك السعد المنير متونَها
…
وقد شكمت مرانَها بالشكائِم (8)
ويقول فيها:
وملحمة لقحت وهْي وليدة
…
فغادرتُها تدعي بأم الملاحِم
عواصف لَما أن عصفن على العدا
…
عطفن على الأرحام أرأف راحم
جناح جناب رفرفت رأفة به
…
قديم التحفي فيه ريش القوادم
إذا انتظر المكروب للكرب فرجة
…
أتيت مع التفريج أول قادم
فقد حزت بين الناس غير مُدافع
…
جمال قصي في سلالة هاشم
(1) الحيزوم ما تحْت الأضلاع.
(2)
الكمى: من لبس سلاحه كاملاً.
(3)
النكس بالكسر: الدنيء الذي لا خير فيه، والتقاعس عن الشيء: التباطؤ.
(4)
البرجمة من الإصبع: مفصل في وسطها، والعوارض: السحب التي تعرض في السماء.
(5)
سيف البحر بالكسر: ضفته وساحله.
(6)
القنابل: ج- قنبلة وهي الطائفة من الناس أو الخيل.
(7)
كل حالم: فاعل رأي.
(8)
المران بضم فتشديد: الرماح اللدنة في صلابة - والشكائم ج- شكيمة: الإنفة وهي من اللجام: الحديدية المعترضة في فم الفرس.
ويقول في آخرها:
سأنصف حر الشعر مني بِمجلس
…
حبيب بن أوس فيه والِي الْمَظالِم
ثناء كما هبت من المسك نفحة
…
يغادي بِها الأرواح روح النواسم
وإن مكان الشعر من كل ماجد
…
مكان الفصوص من حلي الخواتِم
ويقول أحمد التَّاغاتيني الرسْمُوكي في علي بودميعة التَّازروالتي من قصيدة:
ملك إذا اصطاد الملوك يعافرا
…
يصطاد أبطال الملوك الصيد
تتقصف الأعداء قبل لقائه
…
فرقا وإن هو لَم يفه بوعيد (1)
أموالَهم لِجنوده ورقابَهم
…
لسيوفه وجيافهم للبيد
حتى إذا ملك البلاد جميعها
…
كفل البنين بعطفه والجود
ذو مرة في حربه وقساوة
…
قصامة للصخر والْجلمود
لكنه في السلم لين كيفما
…
لا ينته كالخيزر الأملود (2)
ويقول سعيد العباسي من النبوية التي عارض بِها النبوية الفشتالية (3) المشهورة، بعد ما ذكر الشمائل النبوية فتلخص إلى مدح الأمير بودميعة:
فيا سعد من كانوا جوار نبيهم
…
إذا عنت الهيجاء طاروا كعقبان
يعلمهم من علمه فيسيمهم
…
بأخصب معلوم وأمرع عرفان
يُحدثهم فاهم لفيه بِما يرى
…
منَ اسرار هذي الكائنات بإعلان
فيا ليتنا كنا جلوسا إزاءه
…
وإلا وقوفا في مواقف عُبْدان
فنحظى بِما يَحظى به كل جالس
…
إلى خير مَخلوق وسيد أكوان
ولكن إذا ما فاتنا ذاك وانطوت
…
على الأمل المرجو أذيال حرمان
فهذا الإمام المجتبى نجله ففي
…
مَجالسه خير الأزاهير للجاني
يفيض علينا علمه بِحقائق
…
يعز سناها عن سوى يد رباني
نثافنه في كل وقت كأننا
…
نثافن أسكوبا يصوب بتهتان (4)
(1) يقال تقصف القوم: ضجوا في خصومة ووعيد.
(2)
الخيزر الأملود: الغصن الرطب وفيه تلميح لقول الشاعر:
أنا كالخيزر صعب كسره
…
وهو ليِّن كيفما شئت انفتل
هم سلبوني الصر والصبر من شأني
…
وهم منعوا من لذة الغمض أجفاني
(3)
الأسكوب بضم أوله: دفعة من المطر، وصاب المطر يصوب إذا نزل بكثرة وهو معنى التهتان.
فملء يديك من معارف جَمة
…
ومن أعطيات من يدي غير منان
فأين ابن شوز منه أين جليسه،
…
من الجالس البحر الخضم ابن هتان؟ (1)
نراه وديعا بيننا غير أنه
…
يثور إلى الْهَيجا كشمَّار أسنان
عليك به في السلم واحذر إذا بدا
…
دعاس الوغى منه فَدوكَس خفان (2)
لأصحابه أزهاره وثِماره
…
وأشواكه يوم النِّزال لأقران
فسل عنه أبناء الصحاري وسكان
…
التـ ـتنان وزيدانا وأبناء زيدان
فعندهمُ عنه حديث مسلسل
…
هزائِمهم ترويه عن كل ميدان
إذا احتفلوا واستجمعوا من قواهمُ
…
بدا منه فردا نَحوهم خير مطعان
يصاولِهم من كل جنب بعركة
…
مفتتة الأضلاع أبرغ فرسان
تكون له أرواحهم ولِجنده
…
فساطيطهم. والخيل قيدت بأرسان
ويقول عبد الله بن يوسف الوَداتوني في المولى إسْمَاعيل بعد رجوعه من الصحراء سنة (1089هـ) نأتي بالقصيدة برمتها؛ لِمَا تدل عليه من تَمكن في غريب اللغة مع البلاغة:
هواي على تلك المهاري الرواسم
…
بتلك الخدور المائلات القوائم (3)
صمدن إلى نَحر الفلا بدجنة
…
مَجررة أذيالَها بالقواتِم (4)
تبدت من آفاق الْهِضَاب كأنّما
…
تسوق رياح عاكرات الغمائم
كأن أعالي الْخُدور نواصعا
…
بياضا ظهور الورق بين الْحَمائِم
كأن بروق الْجو يبرقن فوقها
…
توالي ابتسامات الثغور البواسم
كأن سراب الدو يلمع بينها
…
وقد مد نور الشمس فوق الرواسم (5)
رجاء خلال الْجيش جيش مظفر
…
تضم خوافيه خيار الْمَقادِم (6)
تَحوم أمانيَّ الورى فوق جوه
…
كطير إذا ما سار سرن حوائم
يبين أمير المؤمنين أمامه
…
كساع بتبشير الأهالي بقادم
يصون طليعات الْخَميس ببأسه
…
كما صين ريش مُختف بالقوادم (7)
(1) قال الشاعر:
غدَوت جليس قعقاع بن شوْر
…
وهل يشقى لقعقاع جليس؟
ضحوك السن أن نطقوا بخير
…
وعند الشر مطراق عبوس
(2)
الفدوكس بفتحتين فسكون ففتحة: من أسماء الأسد، وخفان بالفتح مشدد: محل معروف بالأسود.
(3)
المهرية نوع من جياد النوق، والرسيم نوع من السير المسرع.
(4)
الدجنة بضمتين: الظلمة، والقوائم: المظلمات.
(5)
الدو: الفلاة.
(6)
جمع: مقدم.
(7)
الخميس الجيش، والفوادم من الجناح: الريشات الظاهرة من الجناح، عكس الخوافي.
خَميس تضيق الفيح من جنباته
…
كما امتد دون السَّيف خُضْر الْخَضارم (1)
حدائق أبطال سَنّورها لَها،
…
بِخضرته مثل الْحقول النواعم (2)
وشائعها عند الْحُدود مُسوَّر
…
من الأسل العسال بين الصوارم (3)
معودة شجعانه في لقائهم
…
كلوم العدا بين القفا واللهازم
إذا ما نَجا صوبا فمد جناحه
…
وأكنافه في صُلَّبَات البَلادم (4)
وقد ماج بالسمر اللدان الطوال، إذ،
…
تصافح راحات السما بالبراجم
تقدمه نَحو الأعادي. وإن هُمُ
…
من العز والعلياء أبناء دارم
عرمرم جيش الروع يوقع بالعدا
…
ولَمَّا يُلاقوا الْحَرب شر الْهَزائِم
يقلقهم حتى يغادر هامهم
…
بِما خامر الألباب ميل العمائم
فمن يَجده منهم تَجلَّده فما
…
حَمائله إلا خيوط التمائم
يساق بِخوف مزعج ولربما
…
يسوق حِمارا خوفه للضراغم (5)
فيغدو بنحس العضب يصدى صقيله
…
ويُمسي بسعد الطائرات الْحوائم
ألا أيها العربان ماذا لقيتمُ
…
من أروع خواض الدجى والسمائم؟
حسبتم فساح البيد تفلت جمعكم
…
وقد طاردتكم ضاريات القشاعم (6)
أردْت لكم تلك الفجاج كأنّها
…
سِمام خِيَاط حين تُغْشَى بعارم
يُخامركم طوفان بأس فلا يقي
…
خيامكمُ من سيله أيّ عاصم
إذا حَم أمر لا طواسين سدَّه
…
ولا عاصمات منه آي الْحوامم (7)
سدمتم وقد نادى الردى في خيامكم
…
وقرَّعتمُ مِما عرا سن نادم
ولكن على الباغي تدور الرحى إذا
…
تَحرش بالوَرد العبوس الطخارم (8)
…
هنيئا أمير المؤمنين بأوبة
…
منَ ارض المنايا والردى والملاحم
فضضت بِها بكرا تساء بعضلها،
…
وجارتها بالزف وسط المراحم
فلم يك كفئا للغواني سوى فتى
…
يقود لَها مَهر العلا بالعظائِم
عزمْتَ فنلت الفتح فذّا موفرا
…
على قدر أهل العزم نيل العزائم (9)
(1) سيف البحر بكسر السين: شاطئه، والخضرم: البحر العظيم.
(2)
السنور بفتح السين والنون والواو المشددة المفتوحة: درع الحرب.
(3)
الوشيع: ما يجعل حول الحديقة ليصونها من الشوك وغيره لمنع الداخلين.
(4)
البلدم بفتحتين بينهما ساكن: مقدم الصدر، وصلب كسكر: صليب.
(5)
الضراغم: الأسود، قال:(والعير يُقْدِم من خوفٍ على الأسَدِ).
(6)
القشعم: المسن من النسور.
(7)
في البيت ملاحظة البيت المشهورة لمحمد بن طلحة:
يُذْكرني حاميمَ والرمح شاجر
…
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
(8)
بضم الطاء: الغضبان، ويعني بالورد بالعبوس: الأسد.
(9)
تضمن لشطر من مطلع قصيدة للمتنبي مع تغيير قليل فيه.
دعتني بنات السكر خامر بشره
…
جوانِح صدري بالكئوس السواجم
لتهنئة أفضِي بِها لِمسامع
…
مشرَّبة بالمبهجات الدوائم
لعلي أرى لي من يديه ملاءة
…
أفوق بِها أهلي وكل العوالِم
على سيدي مني سلام كأنه
…
أحاديث ذاك الفتح من فم غانِم
وقال مُحمد بن الْحَسن الإيلالني في تَهنئة مُحمد العالِم يوم نزل بتارودانت:
سعد الزمان وطابت الأيام
…
لَمَّا بَدا من جيشك الأعلام
فالدهر عيد كله ومسرة
…
وتعانق وتَحية وسلام
فكأن رغد العيش حين حللت يا
…
خير الخلائق عندنا أحلام
سحت علينا الغاديات بغيثها
…
لَمَّا انْجَلت عن كفك الأكمام
من صافحته يَمين مولانا فقد
…
أعطته أوثق عهدها الأيام
ويقول بعد أبيات:
فزنا ورب البيت لَمَّا جئتنا
…
يا أيُّها العلامة الضرغام
هذي علومك للرواة وهذه
…
بيض الذكور لِمن همُ ظلام
أين الرواة فذا مرامهم بل أيـ
…
ـن الظالِمون فذلك الصمصام؟
هل جئتَ مولانا بِجيشك قائدا
…
في جانبيك حَمائل وحسام
أم جئتنا للدرس والتعليم في
…
أيْمانك الصفحات والأقلام
أم أنت نعمة ربنا الْمُهداة فيهـ
…
ـا كلُّ ما يحتفه الأنعام؟
فلتزهونَّ ردانة الغراء إذ
…
أضحى لَها بِمقامك الإعظام
ولتغبطنها فاس والْخضراء وال
…
أقطار حتى مصرها والشام
وقال فيه إبراهيم بن أحمد السجتاني من قصيدة:
حظينا بِخير الناس علما وحكمة
…
ورأيا سديدا حين يشتبه الأمرُ
وأفضل خريتي العلوم وكل ما
…
يسوِّده في ظهر مهرقهِ الْحبر (1)
وأفضل سوَّاس درى كيف يلتقي
…
غزال مع الضرغام لَم يعره ذعر
وأفضل مقدام إذا اشتجر القنا،
…
وماج بَحر الحرب جحفله الْمجر
به يُتقى في معمعان الوطيس إن
…
تَمعرت الشجعان وانقصف الصبر (2)
(1) الخريت بكسر الخاء والراء المشددة: الكثير المعرفة بالطريق، والمُهرق بضم الميم: القرطاس.
(2)
يقال: تمعَّر وجهه: إذا تغير وعلته صفرة أو زالت نضارته.
وقد قامت الهيجاء حق قيامها
…
ودارت رحاها والتظى وسطها الْجمر
وقد صابر الشجعان حتى لوى بِهم
…
إلى العجز رغما مَطعن الأسل المر (1)
وقد فلَّت الأسياف واندقت القنا.
…
وكدَّست الموتى وضاق بِها البَرُّ
وجف من أوساط الحلوق لعابها
…
وقد ضاقت الأضلاع وانتفخ السَّحر (2)
وقد قام ميزان الهزيمة فانثنى
…
عن الوالد البَرِّ ابنه البطل البَرُّ
هنالك مولانا يُضيء جبينه
…
حبورا كأن طافت براحته الْخمر
يقاوم فردا ثابت الجأش مقدما
…
كما خر نَحو السفح من قَنَّةٍ صَخر
يشايعه العزم الوطيد وقائم
…
من المشرفيات البواتر والْمهر
إلى أن يرد الجيش أدباهم وقد
…
تقسَّمهم حد المهند والأسر
وقال موسى الوجَّاني في إحدى ليالي المرح:
وليل مثل خافية الغراب
…
عليه من ملاءات الشباب
وأنجم جوه متلفعات
…
بأردية السواد من السحاب
قطعت إلى الصباح بغانيات
…
وأقداح تشعشع بالشراب
وأوتار لَها نغمات وحي
…
تبعثر من هم تَحت التراب
فحينا أرشف الصهبا وحينا
…
أميل إلى مراشفها العذاب
فكانت ليلة غراء صينت
…
من التنغيص من أهل الرِّقَاب
هل الأنس اللذيذ سوى غناء
…
ورشف الراح أو رشف الرضاب؟
وصوت العود يَحدو للتصابي
…
وتطويل العناق مع الكَعاب
فذا الأنس اللذيذ وما سواه
…
فليس سوى بوارق من سراب
وقالت الفئة الماثلة في حضرة مُحمد العالِم في وصف مَجلس شراب، قال مُحمد العالِم مفتتحا المساجلة على عادته مع الأدباء:
هذي الكئوس مشعشعات الراح
…
فانْهَض نلبِّ نداءها يا صاح
إبراهيم السجتاني:
ما عذر من ترك العقار بروضة
…
زهراء بين منادمات صباح
محمد بن الحسن الإيلالني:
فالوقت طابَ وبلبل الأغصان قد
…
ملأ الرياض بصوته الصَّداح
(1) لوى به: مال.
(2)
السحر بفتح أوله: الرئة.
محمد بن أحمد الرسْمُوكي:
والروض أزهر ورده بِخدوده
…
والياسمين بلونه الوضاح
مُحمد بن عبد الله الزدُّوتي:
فكأن مبيِّض الزهور مُنضرا
…
حبب الرحيق أعاليَ الأقداح
السجتاني:
وكأن مُحمر الشقائق وجنة
…
دعكت براحة ماجن مزاح
الإيلالني:
وكأن ذاك الورد في أشواكه
…
شاك تبدى في أتم سلاح
الرسْموكي:
وكأن هاتيك الغصون وميسها
…
بالرفق ميس من قدود ملاح
الزدوتي:
قم واسقنيها مثل عين الديك تحـ
…
ـفز للمكارم أنفس الشحاح
السجتاني:
من كف أغيد ردفه مترجرج
…
كالدعص بين تقلبات رياح (1)
الإيلالني:
أن مد يشفع ما يَمد بأعين نَجل مراض في الْجفون صحاح
الرسْمُوكي:
ما الراح إلا ما يدير مهفهف غنج وإلا فهْو دون قَراح (2)
(1) الدعص بالكس: كثيب الرمل المجتمع.
(2)
مهفهف: ضامر البطن دقيق الخصر، والقراح بالفتح: الماء الصافي العذب.
الزدْوتي:
كل الملذات العذاب توفرت
…
فانْهض ولب الأنس عند الراح
وقالوا أيضا في حضرته أول اتِّصالِهم به:
مُحمد العالِم مفتتحا:
خلياني سبق السيف العذل
…
حشو أذني صمم عمن عذل
السجتاني:
قضِي الأمر فأصبحت لقى،
…
بلحاظ لا ببيض وأسل
الزَّدوتي:
من يكن يشكو جراحات الظبا
…
فأنا أشكو جراحات المقل
الإيلالني:
فليزرني ليرى كيف الْهَوى
…
من يرى أن الْهَوى أمر جَلَل (1)
وقال النابغة سيدي مُحمد بن علي الهوزالي يُهنئ الذهبي على إبلاله من مرض:
تردّى أذى من سقمك البر والبحر
…
وضجت لشكوى جسمك الشمس والبدر
وبات الْهَوى خوفا عليك مسهدا
…
وأصبح مذعور الفؤاد الندى الغمر
فلما أعاد الله صحتك التي
…
أفاق بِها من غمه البدو والْحضر
تراءت لنا الدنيا بزينة حسنها
…
وعاد إلى أبانه ذلك البشر
وصار بك الإسلام في كل بلدة
…
يهنا ويدعى أن يطول لك العمر
وصحت لنا الآمال بعد اعتلالِها،
…
وعادت إلى الإيناع أغصانها الْخضر
كان يَحيى الْحاحي ثُم الراسلوادي يبكي على الدين، وعلى ما وقع في الشعب من نشوب أظفار المضللين فيه، فيقول في ذلك، فمما قاله:
(1) جلل: سهل يسير، وهو من الاضداد.
على مثل هذا يندب الدين نادبه
…
قدَ اجدب واديه وشَحت سحائبه
فلا فكر فيما قد عرانا وألحفت
…
على سرحها الغارات بغتا كتائبه
تبدد شرع المسلمين كأنه،
…
مفاصل شلو مزَّعته نواشبه (1)
غدا قِددا من بعد أن كان شاخصا
…
وحيدا تذود العابثين قواضبه
فلا عالِما يرثي لِحالته متى
…
تأتى له ما تَحتويه رواجبه
يُؤَوّل آيا نيراتٍ صريحة،
…
إلى ما ترى فيها مناه الكواذبه
وما قصده إلا التهام لقيمة
…
ونيل رضى فدم جهول يصاقبه (2)
إلى أن قال:
فلا آية يتلون حق تلاوة
…
تراءى بِها بين الكتاب عجائبه
ولا سنة مالت إليها عيونَهم
…
ليظهر منا للذي مال عائبه
بلى إن يكن كشف ورب كرامة
…
وصاحب وقت تب وقت وصاحبه
ومعلن تلبيس وزاعم أنه
…
ولي ومعصوم ولا حوب ثالبه
وإنه مهدي الزمان الأخير في،
…
يديه من التسديد ما هو ثالبه (3)
تَجئك من الركبان عن كل عالِم
…
عجائبه عن إفكه وغرائبه
يزيدك في تأويله وحديثه
…
بِما هو في الآي الصريحة كاذبه
فيتشح الإفك المزور باسْمه
…
فتخلب من كان الغرير خوالبَه
ويقول أيضا في أبيات يسخر فيها بعلي بودميعة، حين كتب إليه علي بأن بيعته تَمت عند ضريح الشيخ سيدي أحمد بن موسى، وأن الناس أعلنوا الدعاء على ذلك:
يريد ابن موسى خطة الملك بالدعا ولَمَّا يسم من سيفه في الطلى الْحَدَّا
ولَمَّا يُجِل بين الصفوف مَقانبا إذا حَملت في زحفها تصدم السُّدا (4)
وقد أجيب من إيليغ مرة بلسان أحمد أمحاولو الإيسي الكاتب الرسْمي، بعد ما عبئ جيش من إيليغ ليدب إلى يَحيى، يرد هذه السخرية إلى يَحيا فيلمزه بِمثل ذلك:
(1) الشلو: العضو من أعضاء اللحم، ومزع الشيء: فرقه، ونواشبه أي أكلته المفترسة التي انشبت وأدخلت فيه أظفارها.
(2)
الفدم كالضرب: الأحمق البليد، ويصاقبه: يقرب منه ويواجهه.
(3)
لا حوب ثالبه: لا ذنب ولا خطيئة تنقص منه.
(4)
جمع مِقنَب: جماعة من الخيل تجتمع للغارة.
تشب تنانير الوغى بالمكاتب
…
وتَهرب من إيقادها بالكتائب
ففي كل يوم منك شعر كأنّما
…
على الشعر تأسيس الأمور المصاعب
فلم نر إلا أن نُجيبك بالوغى
…
وبالجند جند الله أعظم غالبِ
فبارزهم إن كنت شَهْما كما نرى
…
كثيرا إذا راسلتنا بالمكاتب
مَحا السيف أسطار البلاغة وانْتَحى
…
إليك ليوث الغاب من كل جانب (1)
في هذا القدر من قوافي هذا العصر كفاية لِمن أراد أن يكون على معرفة تامة إجمالية في الذي وصله أدب العربي السوسي في هذا الدور، ثم إن هناك نتفا من رسائل نَمقت تندمج في الأدبيات، ولكنها- والحق يُقال- تنزل درجات عما ناله الشعر في الأسلوب والتفنن والانسجام، وإن كانت لَم تَخرج عن نَمط النثر المغربي العام في هذا الحين، فلنمر بذلك مر الكرام. ولنترك عرضه والاشتغال بالنظر إليه نظرة الناقد، لِمن سينصب نفسه لوزن أدب هذا الطور وغيره بِمزيان الحق، ولسنا نَحن الآن بصدد ذلك، وإنَّما نَحن بصدد العرض لبعض أدبيات، وبصدد أن نُحقق أن هناك في ذلك الطور هذا الأدب السوسي في الوجود، وأما تقدير قيمته في الفصاحة، ومتانة الأسلوب، وفي القدر الذي له من الابتكار؛ فنذره لغيرنا مِمن يتوفر على البحث والتنقيب والإمعان في الشاذة والفاذة، ثم لا علينا إن أصدر حكما له أو عليه.
(1) بيت قديم يوجد فيما كتبه أبو مسلم جوابًا عن رسالة من مروان الجعدي، كما هو مشهور.