الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرضي، ومُحمد بن أحمد السملالي، ومنصور بن مُحمد المومني الأديب، وكذلك رجال المدرستين: الخضيجية والهوزيوئة، ثُم يتناقص الاعتناء به إلى هذا العصر، حتى لنجد كثيرين بارعين في فنون لا يندمون على عدم إلمامهم بِهذا الفن، وهذا هو الدليل الصريح على ما ذكرناه.
12 - الفقه:
إذا ما اعتز ذو علم بعلم
…
فعلم الفقه أولَى باعتزاز
فكم طيب يطيب ولا كمسك
…
وكم طير يطير ولا كباز
مضمون هذين البيتين اللذين حفظناهُما في الْخُطوة الأولى التي خطوناها في مَجالس الدراسة إلى تعلم الفقه، هو الْحَجر الأساسي في الاعتناء الشديد الذي كان لِهذا الفن، وكان من أول نشأته بِهذه المثابة؛ لأنه زبدة نظر طويل في الأدلة من القرآن والسنة، فكان عارفه يستدل بِمعرفته إيَّاه على أنه متقن لتلك الأدلة التي لا يتقنها إلا الْمُجتهدون الكبار في العصور الأولَى، وناهيك بِهذه المرتبة، ثم لَمَّا صار علما خاصّا يؤخذ بعد ما امتاز على حدة عن القرآن والحديث، كانت له أيضا هذه المثابة نفسها؛ لأنه قانون الأمة، ومصدر تشريعها، ثُم كان أكبر داع لرفعة شأن صاحبه.
وقد علمنا أن سوس لَم تدخل في غمار المشتغلين بِهذه العلوم إلا من مفتتح الْخَامس، على ما عندنا الآن من الأدلة التاريخية، فافتتحت عهدها بالشيخ مُحمد (وجاك) الذي وصفه أستاذه أبو عمران بأنه فقيه حاذق (1).
ثم رأينا آخرين متتابعين؛ كأبي يَحيى في السابع، والجزولي ابن عمه نزيل فاس في الثامن شارح (الرسالة) بشروح شتى، ثم احتفل الفقه في التاسع فظهر فيه كبار، كسعيد الكرامي شارح (الرسالة)، و (المختصر الحاجبي) الفرعي، وعبد الواحد الرجراجي شارح (المدونة)، وداود التملي صاحب (أمهات الوثائق)، ثُم نشأت بعدهم طبقة أخرى في العاشر؛ كالحسن بن عثمان التملي خريج الونشريسي، وأحمد التيرزكيني من تلاميذ ابن غازي، ومُحمد بن إبراهيم الشيخ التامانارتي الذي أحيا جزولة علما، وولديه إبراهيم ومُحمد العلامتين في الفقه وغيره، وأحفادهم الكبار في التفنن في علوم الشريعة، وأحمد بن علي الرجراجي الهشتوكي شارح (الرسالة) و (المدونة)، كما قيل، وحسين بن داود التاغاتيني الرسْموكي شارح (الرسالة)
(1) ابن خلدون وغيره.
أيضا، وشارح (المختصر الحاجبي) الفرعي، وشارح (نظم ابن جُماعة) الفقهي، وسعيد الهوزالي القاضي الجليل، صاحب أجوبة موجودة، وعلي بن أحمد الحياني التامانارتي نزيل درعة، وجامع (نوازل ابن هلال). ثُم تلتها طبقة أخرى كبرى في الْحَادي عشر، كعيسى السجتاني القاضي المفتي الكبير، صاحب الفتاوي المجموعة، وعبد الله بن يعقوب السملالي صاحب (الحاشية) على (المختصر) الخليلي، وشارح (جامع بهرام)، وعلي بن أحمد الرسْموكي الفقيه العزيز النظير في التمكن في كل العلوم، بله الفقه الذي أبقى فيه بالتأليف ما أبقى، وعبد الرحمن التامانارتي القاضي البارع، وعلي بن أحمد البرجي الرسْموكي جامع (الأجوبة البرجية) المشهورة الكبرى، وعبد الله بن إبراهيم التملي صاحب (أجوبة مَجموعة)، وعبد السميح الأمزالي صاحب (مَجموع كبير) في الفتاوي، ثُم تلتهم طبقة أخرى في الثاني عشر؛ كأحمد الرسْموكي الفقيه الفرضي نزيل الْحَمراء، صاحب المؤلفات الفقهية المشهورة، وأحمد بن مُحمد العباسي صاحب (الأجوبة)(1) المشهورة، وحاشية على (المختصر)، وأحمد الصوابي الذي له أيضا أجوبة فقهية، ومُحمد بن علي الهوزالي مترجم (خليل) إلى الشلحة، وأحمد أحوزي التملي ثم الدرعي، صاحب المؤلفات في الموضوع، ومُحمد بن أحمد الحضيكي شارح (الرسالة)، وله غيرها في الموضوع، ومُحمد بن مُحمد اليعقوبي السملالي العلامة في الفقه وغيره، وإبراهيم بن مُحمد اليعقوبي السملالي الفقيه البارع، وأحمد الجرسيفي المفتي، وكثيرين غيرهم. ثُم تلتهم طبقة أخرى في الثالث عشر؛ كإبراهيم التاكوشتي المرابط بين يدي بناني وطبقته عشرين سنة، ثم رجع بَحرا غطمطما يَخضع له كل السوسيين، حتى أكابر فقهائهم المبرزين، وهو الذي قال فيه الجشتمي:(وهو الذي في عصرنا نستفتي)، في رجزه المشهور، وكأحمد الهوزيوي شيخ الجماعة في عهده، وعمر بن عبد العزيز الجرسيفي خريج أبي العباس الهلالي، وصاحب الأفهام الغريبة، ومؤلف فقهيات جليلة، منها (النظائر) من المختصر، والقاضي مُحمد بن صالِح نزيل ردانة ومُحمد بن أحمد الأدوزي شارح (المرشد المعين)، وعلامة جزولة في عهده، ومُحمد بن إبراهيم الثوري
(1) في آخر هذه الأجوبة المطبوعة بفاس ما يأتي ملخصًا: أن بعض السوسيين ذهب بنسخة من هذه الأجوبة إلى محمد بن الحسن بناني، فبقيت عنده أيامًا، ثم ردها إليه، وقال له: هكذا يكون من عرف سيدي خليل، وليس عندي ما أقول، إلا أني محتاج إلى كثير مما في هذه الأجوبة، أقول: كثيرًا ما أسمع الثناء على الأجوبة من شيخنا سيدي الفاطمي الشرادي الذي طبعت على نسخته، وكذلك من الأستاذ سيدي عبد الرحمن الشفشاوني بقية السلف، وبركة الخلف.
الرسْموكي الخريت الذي لا يضل العجيب الشأن، صاحب مؤلفات شتى في الفقه مُحررة، ومُحمد الأمزاوري العبلاوي، المرجوع إليه من نَحو أبي زيد الجشتيمي فمن دونه، وعلي بن سعيد الإيلالني، وولده مُحمد الفذين في التفوق في هذا الفن، وعبد الله ابن الشيخ الحضيكي الذي لَم يتخرج إلا من سوس ولَم يعده، ثم قام بِمثل الدور الذي قام به الرهوني بعده؛ نَحو (حاشية بناني) فيتتبع منتقداته على الزرقاني، فيرد أو يصحح النقد (1)، وكَمُحمد الإزنكاضي الفقيه الماهر، ومُحمد بن يوسف، وابن عمه مُحمد بن أحمد القاضي اللذين نالا شفوفا في قرية (الرُّكن)، وكمحمد بن الحاج التازلتي التِّيملي، المفتي العزيز المثيل في الإفادة والإفتاء، وكأبي زيد الجشتيمي صاحب (الأرجوزة) الشهيرة في الفقه، وكالحسن بن الطيفور (السَّموجني) علامة تزنيت المحكم فيها، ومفتيها الذي يقبل ويرد بذهن غواص، مؤسس على القواعد الأصولية، وله (مَجموعة فقهية) كبرى، وكإبراهيم المحجوبي المتخرج من تارودانت ومن القرويين ومن الأزهر، فكان زينة عصره في مصره، وكأحمد (أضَرْضور) الفقيه الأصولي المجلي في حلبته، وكسعيد الشريف الكثيري الفقيه المحض القيوم على الفقهيات حق القيام، وكثيرين من أساطين هذا العلم في ذلك القرن. ثم تلتهم طبقة أخرى في النصف الأول من هذا القرن من الذين اندرجوا اليوم، فكان في مقدمتهم أحمد بن إبراهيم السملالي الساحلي، الذي كان بِمثابة الفقيه السباعي المراكشي، يُملي النصوص عن ظهر قلب لمستفتيه، وكان في جَمع النظائر الفقهية غريب الشأن، ومُحمد بن العربي الأدوزي مفتي ولتيتة في عصره، والْحاج أحمد الجشتيمي الفقيه المرجوع إليه في المعضلات، ومُحمد (أعْبو) الفذ العالي الكعب في الفقه، ومُحمد بن مسعود، والمحفوظ الأدوزي، وأبي فارس الأدوزي الذين تكونت منهم حلبة ما منها إلا مجل، حتى كانوا مضرب الأمثال، وأبناء الأعمش؛ كمحمد الكبير، ومُحمد المختار، وأحمد دجنا، وهو البيت الجاكاني التيندوفي، المستحضر غاية الاستحضار في الفن، حتى صار حديث الركبان ومضرب الأمثال، من تامانارت وما إليها إلى مدينة (تيندوف)، والحاج أحمد بن مُحمد اليزيدي المتخرج في كيفية الإفتاء بأحمد بن إبراهيم السملالي، فكان نسخة منه، فقلما يَحتاج إلى مراجعة، كأن نصوص شراح المختصر المتداولة عندهم نصب عينيه، وعلي بن عبد الله الإلغي المتصدر للقضاء والفتوى زهاء
(1)(الحُضَيْكِيون) للجشتيمي، وهو مخطوط.
خَمسة وأربعين عاما، لَم ينقض له حكم، ولَم ترد عليه فتوى، إلا تَحلة للقسم مع قلة ذلك جدّا في معاصريه، إلى كثيرين من معاصريهم.
هكذا كان فقهاء سوس، طبقا عن طبق، فإنَّهم لكثرتِهم ينبغ منهم أناس كمثل هؤلاء الذين ذكرنا بعضهم، فيكون لَهم شفوف عجيب في كل جيل، فدحضت بذلك مقالة عبد الله بن عمر المغضري الذي صدرت منه أواسط العاشر، وهو الذي قالَها بعد رجوعه من سوس إثر زيارته لِمحمد الشيخ السعدي إذ قيل له: كيف رأيت السوسيين؟ فكان مما قال: وفقهاؤهم ضعاف الفتاوي، فإن كان صادقا- وهو الظن به- فيمن أدركهم ورآهم؛ فقد تبدل الْحَال (1) عن ذلك، تَحت ظلال أواسط الدولة السعدية، ثم في عهد الدويلة التازروالتية، ثُم في عصر الدولة العلية العلوية، وكل من له اطلاع يعلم أن هذا الفن في المغرب كله، كان دائما بين مد وجزر، فكأن هذا الوصف، إن أردنا التدقيق مِما ينسحب أيضا على سوس الفقهية؛ لأنَّها دائما عضو من جسد المغرب الملتحم في الدراسة، فالقطب هو فاس ثُم الْحَمْراء، ومنهما تستقي كل طبقة طبقة، فمتى علت الدراسة هناك علت في الأطراف، وإن حدث فيها تأخر سرى التأخر في مَجموع المغرب، لا جميعه (2)؛ لأنه ربّما يكون في الأطراف أحيانا كفلتة من هو أعلى وأسنى مِمن في مَجالس فاس والْحَمراء؛ كما قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر.
ذلك ما يظهر لنا حول دراستنا للموضوع في القطر السوسي، فقد تراءى لنا أن هذا الفن وإن كان دائما يكب على تعاطيه وتفهمه غاية الإكباب، لَم يكن دائما في مستوى واحد، كما نرى مثل هذا عينه في فاس والْحَمراء، فيكون تأثر الأطراف مِما يقع منهما، وربّما يكون لَها تفوق عليهما على قلة ذلك في بعض الفترات، يقع كل ذلك مع عدم انقطاع البعثات السوسية إليهما وإلى (تامكروت) من الحادي عشر، بل وإلى الأزهر أحيانا من قديم.
(1) أن أول من قال أن حال السوسيين تبدل هو التامانارتي في (فوائده) بعد ما حكى هذه القولة.
(2)
رد الكرسيفي على الفاسي وهو منشور في (المعسول) وفي عرض جسوس علامة فاس ما كتبه على المختصر على العلامة الهلالي السجلماسي البدوي دليل لذلك، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (مقدمة ديوان محمد بن صالح الروداني) مخطوط، وقد نشرت هذه المقدمة في ترجمة محمد بن صالح بين مشيخة أبي زيد الجشتمي في (القسم الثالث) من المعسول.
لَم يزل هذا الفن في علوه مع تفاوت مراتب علوه، إلى أن مضى الربع الأول من القرن الماضي، فظهر لنا أنه بدأ يتقلص منه ذلك الاستبحار الذي نراه في الهوزيويين والحضيكيين ومن قبلهم، فلا نرى براعة إلا في أفراد غير كثيرين بالنسبة إلى من قبلهم، فتأخر بذلك سير هذا الفن عن الفنون العربية التي لَم تكن مرتبتها مائلة إلى الإسفاف بعد، وقد أدركنا من الجيل الذي عرفناه عدم إمعان كثير في هذا الفن، بِحيث يساوي مرتبة إمعانَهم في العلوم اللغوية العربية إلا عند الأدوزيين أو الجشتيميين، أو عند الأستاذ البونعماني ابن مسعود، فهؤلاء لا يزالون مكبين على فن الفقه، ويستحضرون كل ما في المعيار القديم، بله ما كتب في النوازل الأخرى في سوس، من فتاوي السوسيين المجموعة وغيرها، وأما غيرهم فيقتصر على ما هو أدون من ذلك بكثير، حتى أن فتاويهم لا تعدو نصوصها التي ينقلونَها ما في التسولي وما في التحفة والزقاقية والعمل، ومتن المختصر، وبعض شروحه، ولا نرى ذلك التوسع الذي نراه عند أولئك الذين نَجدهم يدعمون فتاويهم بنصوص مستقاة من المعيار والزرقاني وحواشيه، ثم يردفون ذلك بأصول مذهبية، يستشهدون فيها بكلام القرافي وصاحب المنهج وكلام مذيله، والشروح التي عليهما، وقد يتوسعون إلى سوق القواعد الأصولية العامة، حتى أننا رأينا لبعضهم فتيا واحدة على هذا المنهج الموسع خرج مؤلفا خاصا (1)، وما أكثر أمثال هذه المؤلفات عند من ذكرناهم من الأدوزيين والجشتيميين والبونعماني.
هذا هو الذي أدركناه، ثُم لَم تنشب طبقة الفقهاء الفطاحل الذين كانوا تيجان سوس الفقهية أن درجوا، فلم يَبق الآن وراءهم مِمن يُمكن أن يسدوا مسدهم إلا القليل جدا جدا، وإن كان لا يزال هنا وهناك من لَهم استبصار بالفن، ويعرفون كيف النزع في قسيه، ولكن الدراسة الفقهية اليوم من سوس في الغرغرة، كما وقع لغير هذا الفن، لإقفار المدارٍس، وانطواء الْهِمم، وفتور العزائم، لِما دبَّ إلى مَجموع قوى الأمة المغلوبة من الانْحلال تَحت هذا الاحتلال (2).
(1) لابن الطيفور الساموجني في رده على أبي العباس الجشتمي في مسألة الرهن يوجد فيما جمعناه في (المجموعة الفقهية) وهي مخطوطة.
(2)
نعم بعد ما تأسس المعهد في تارودانت يرجى الانبعاث في سوس إن شاء الله.