المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«فصل»: في ذكر مفسر ضمير الغائب - شرح التسهيل = تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد - ق ١ - جـ ٢

[بدر الدين الدماميني]

الفصل: ‌«فصل»: في ذكر مفسر ضمير الغائب

«فصل» : في ذكر مفسر ضمير الغائب

، وشيء من أحكام ضمير الغيبة، وسبب بناء المضمر، وذكر مراتبه، وما يفعل عند اجتماعهما.

«الأصل تقديم مفسر ضمير الغائب» عليه؛ لأن الواضع وضعه معرفة لا بنفسه بل بسبب ما يعود إليه، فإن ذكرته ولم يتقدمه ما يفسره بقي مبهمًا لا يعرف المراد به حتى يأتي / تفسيره بعد، وذلك على خلاف الأصل، وإنما حملهم على مخالفة مقتضى وضعه بتأخير مفسره عنه في بعض المواضع قصدهم التفخيم والتعظيم في [ذكر] ذلك المفسر، بأن يذكروا أولًا شيئًا مبهمًا حتى تتشوف نفس السامع إلى العثور على المراد به، ثم يفسروه فيكون أوقع في النفس، وأيضًا يكون ذلك المفسر مذكورًا مرتين: بالإجمال أولًا والتفصيل ثانيًا، فيكون آكد. «ولا يكون» المفسر المذكور «غير الأقرب» إلى الضمير مثل: جاءني زيد وبكر وضربته أي ضربت بكرًا، وينبغي أن يكون المراد بالأٌرب غير المضاف إليه، أما إذا كان الأقرب مضافًا إليه فلا يكون الضمير له إلا بدليل، وعليه قول المتنبي:

ص: 106

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن

يخلو من الهم أخلاهم من الفطن

فإن قلت: هذا إذا لم يمكن عود الضمير إلا إلى أحدهما، كما في قولك:

جاءني زيد وعمرو وأكرمته، وأما إذا أمكن عوده إلى أحدهما وعوده إليهما معًا، كما في قولك: جاء الزيدون والعمرون فأكرمتهم فهل الحكم كذلك؟

قلت: لم أر فيه بخصوصه نصًا، وينبغي أن يجري على مسألة ما إذا تعقب الاستثناء أو الصفة - مثلًا - أشياء معدودة، فمن قال: هناك بالعود إلى الأخير، يقول هنا كذلك:

ومن قال: هناك بالعود إلى الجميع - وهو الصحيح - بقول: هنا الضمير عائد لكل ما تقدم لا إلى الأقرب فقط فتأمله.

واستثنى المصنف مما ذكره الحالة التي تقدم فيها قرينة تدل على كون الضمير مرادًا به غير الأقرب فقال: «إلا بدليل» أي يدل على أن المراد الأبعد نحو: جاءني عالم وجاهل فأكرمته، ومنه:{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} ، فإن فاعل (جعلكم) ضمير غيبة يعود إلى أبعد مذكور، وهو اسم الله تعالى لوجود الدليل عليه.

ص: 107

قال ابن هشام: ومن خفي ما يتعلق بهذا الموضع جعل الزمخشري الضمير في: {[من] مثله} عائدًا إلى أبعد مذكور، وهو:{ما نزلنا} ، أو أقربه وهو:{عبدنا} هذا إن قدر الظرف صفة لـ (سورة) ، وعوده إلى الأقرب - وهو العبد - إن علقته بـ (فأتوا) ، وكثير يستشكل هذا التفريق.

وأجاب بعضهم: بأنه إذا عاد الضمير إلى {ما نزلنا} وعلق بـ {فأتوا} فالمعنى: فأتوا من منزل مثله بسورة. فيكون المطلوب منهم هو مماثلة ذلك المنزل لهذا المنزل، لا مماثلة سورة واحدة منه بسورة من هذا. والظاهر أن المقصود خلافه، بدليل بقية آي التنزيل في مثل ذلك انتهى.

قال التفتازاني في حاشية الكشاف: وفيه نظر، لأن إضافة المثل إلى المنزل لا تقتضي أن يعتبر موصوفه منزلًا، ألا ترى أنه إذا جعل صفة

ص: 108

لـ (سورة) لم يكن المعنى سورة من منزل مثل القرآن، بل من كلام؟ وكيف يتوهم ذلك والمقصود تعجيزهم عن أن يأتوا من عند أنفسهم بكلام مثل القرآن! ! ولو سلم فما ادعاه من لزوم خلاف المقصود غير بين ولا مبين؟ والجواب عن أصل الإشكال أن هذا الأمر تعجيز باعتبار المأتي به، والذوق شاهد بأن تعلق (من مثله) بالإتيان يقتضي وجود المثل ورجوع العجز إلى أن يؤتى منه بشيء، ومثل النبي عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية موجود، بخلاف مثل القرآن في البلاغة والفصاحة، وأما إذا كان صفة للسورة فالمعجوز عنه هو الإتيان بالسورة الموصوفة، ولا يقتضي وجود المثل، بل ربما يقتضي انتفاؤه حيث تعلق به أمر التعجيز، وحاصله أن قولنا: إئت من مثل الحماسة ببيت يقتضي وجود المثل، بخلاف قولنا: إئت ببيت من مثل الحماسة «وهو» أي المفسر بكسر السين «إما مصرح بلفظه» نحو: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} وهذا / هو الأصل.

«أو مستغنىً عنه بحضور مدلوله» أي مدلول المفسر.

«حسًا» أي حضورًا محسوسًا، ومثله المصنف بقوله تعالى:{قال هي راودتني عن نفسي} ، وقوله تعالى:{قالت إحداهما يا أبت استأجره} ، فاستغنى بحضور ما يعود عليه الضمير في (قال) و (هي) و (استأجره) عن ذكره لفظًا.

ص: 109

ونوزع بجواز عود الضمائر المذكورة إلى ما قبلها: فضمير (قال) يعود إلى يوسف، و (هي) إلى أهلك، و (استأجره) إلى موسى:«أو» مستغنىً عنه بحضور مدلوله «علمًا» نحو: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} ، إذ يعلم من الإنزال في ليلة القدر التي هي في رمضان أن المنزل [وهو] القرآن مع قوله تعالى:{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} . «أو» مستغنى عنه «بذكر ما هو له جزء» والضمير المنفصل عائد إلى المفسر بكسر السين والمتصل عائد إلى (ما) ، أي يذكر شيء يكون ما به التفسير جزءًا لذلك المذكور، كقول حاتم:

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

ص: 110

فالضمير في حشرجت وفي بها [عائد إلى] النفس [لكن] استغنى عن ذكرها بذكر ما هي له جزء وهو الفتى.

«أوكل» كقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها} فالضمير عائد إلى الكنوز، وقد استغني عنه بذكر ما هي له كل، وهو الذهب والفضة. «أو نظير» نحو: له على درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، فعاد الضمير إلى نظير المذكور لا إلى عينه، كذا قال المصنف وجماعة.

قال ابن الضايع: وهو خطأ، لأنه ليس الذي له عليك نصف درهم آخر، وإنما المراد [منه]: ومثل نصفه. فالضمير عائد على ما قبله لفظًا ومعنى، ومن هذا القبيل قوله تعالى:{وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} ،

ص: 111

أي من عمر معمر آخر كذا قال ابن قاسم وغيره.

وتحرير هذا المحل أن نقول: اختلف في معنى (يعمر) فقيل: يزاد في عمره، بدليل أنه قد قوبل بقوله تعالى:

{ولا ينقص من عمره} . وقيل: يجعل له عمر. وينبني على هذا أن المتكلم [فيه] في الآية هل هو شخص واحد أو شخصان؟ فعلى الثاني هو شخص واحد، قالوا: - مثلًا - يكتب عمره مائة، ثم يكتب تحته مضى يوم، مضى يومان، وهكذا. فكتابة الأصل هي التعمير، والكتابة بعد ذلك هي النقص قال:

حياتك أنفاس تعد فكلما

مضى نفس منها انتقصت به جزءا

والضمير في (عمره) حينئذٍ راجع إلى المذكور، والمعمر هو الذي جعل [الله] له عمرًا طال أو قصر.

وعلى [القول] الأول هو شخصان والمعمر الذي زيد في عمره، والضمير حينئذٍ راجع إلى معمر آخر؛ إذ لا يكون المزيد في عمره منقوصًا من عمره. وهذا قول الفراء والنحويين.

ص: 112

ويقال عليهم: هب أن العمر الثاني غير الأول، أليس قد نسب النقص من العمر إلى العمر، والمعمر - كما قلتم - هو الذي قد مد في عمره؟

ويجاب بأن الأصل حينئذٍ: وما يعمر من أحد.

قالوا: وإنما سمي معمرًا باعتبار ما آلت إليه حاله مثل قوله:

قتلت قتيلا لم ير الناس مثله ..................................

فالضمير جاء باعتبار الأصل المحول عنه اللفظ.

قال ابن هشام: وقد يكون شبيهًا بهذا عندي قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما} فإن الجمع هنا إنما صح - مع إرادة يد واحدة من كل منهما، لا مجموع يدي كل منهما - لما أريد بالأيدي الأيمان، فلما أطلقت اليد وأريد بها اليمنى، جاء الجمع باعتبار ما لحظ من المعنى الأصلي، لا باعتبار اللفظ.

«أو مصاحب بوجه ما» . نحو الاستغناء بمستلزم عن مستلزم كقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ، فـ (عفي) يستلزم عافيًا، فالضمير من قوله (إليه) عائد عليه. كذا في شرح

ص: 113

المصنف، وهو كلام نقله الواحدي في البسيط عن الأزهري ورده، ولا أستحضر الآن وجه الرد، وليس البسيط بموجود عندي الآن.

«وقد يقدّم الضمير المكمّل معمول فعل» نحو: ضرب غلامه زيد وغلامه ضرب زيد وضرب غلام أخيه زيد وغلام أخيه ضرب زيد. فهذه أربع صور شمله قوله: (المكمل معمول فعل) ، لأن المضاف إليه يكمل المضاف. والأولى والثالثة جائزتان باتفاق، [وحكى المصنف] في الثانية والرابعة المنع عن الكوفيين [والصحيح الجواز ونقله بعضهم عن الكوفيين] أيضًا على خلاف ما نقله المصنف عنهم. «أو شبهه» نحو: أضارب غلامه زيد؟ وأضارب غلام أخيه عمرو؟ . «على مفسر صريح» كما سمعته من الأمثلة تقديمًا «كثيرًا إن كان المعمول مؤخر الرتبة» كما في تلك المثل؛ لأن مرتبة المعمول فيها - وهو المفعول - التأخر عن الفاعل فهو بالنظر إلى الرتبة مقدم، فعاد الضمير عليه - وإن تأخر - لذلك. «وقليلًا إن كان مقدمها وشاركه صاحب الضمير في عامله» نحو: ضرب غلامه زيدًا.

ص: 114

قال المصنف: والنحويون إلا أبا الفتح يحكمون بمنع مثل هذا، والصحيح جوازه لوروده عن العرب، كقول حسان رضي الله عنه:

ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده الدهر مطعما

وأنشد أبياتًا أخرى، وهذه المسألة أجازها قبل المصنف الأخفش وابن جني من البصريين وأبو عبد الله الطوال من الكوفيين، والأكثرون على

ص: 115

المنع ويعدون ما ورد من ذلك شاذًا، ورام بعضهم تأويل الشواهد الدالة عليه وهو بعيد إذا تؤملت، والكلام في ذلك يطول.

واحترز المصنف بقوله: وشاركه صاحب الضمير في عامله. من نحو: ضرب غلامها جار هند، فصاحب الضمير الذي هو هند لم يشارك الفاعل الذي هو غلامها في العامل، ضرورة أن الأول مضاف إليه والثاني فاعل، ولا مشاركة بين عامليهما قطعًا، وإنما فرق بين الصورتين فأجيزت الأولى ومنعت الثانية؛ لأن صاحب الضمير إذا شاركه في عامله أشعر به؛ لأن الفعل المتعدي يدل على فاعل ومفعول، فإذا افتتح الكلام بفعل ووليه مضاف إلى ضمير علم أن صاحب الضمير فاعل [إن كان المضاف منصوبًا ومفعول إن كان المضاف] مرفوعًا، فإذا لم يشاركه في عامله لم يكن قبله ما يشعر به فيتأكد المنع.

«ويتقدم» الضمير على مفسره «أيضًا» مصدر آض إذا رجع، وهو هنا، إما مفعول مطلق حذف عامله، أي أرجع إلى الإخبار بتقدم الضمير على مفسره رجوعًا، ولا أقتصر على ما قدمت في ذلك. وإما حال حذف عامله وصاحبها، والتقدير أخبر أيضًا بتقدم الضمير على مفسره، أو أذكر أيضًا تقدم الضمير على المفسر، فيكون حالًا من ضمير المتكلم. «غير منوي التأخير: » حال من الضمير المستكن في (يتقدم). «إن جر برب» نحو: ربه [رجلًا]«أو رفع بنعم» نحو: نعم رجلًا. «أو شبهها» أي شبه نعم، نحو: {ساء

ص: 116

مثلًا} وهل الضمير الذي هذه حاله نكرة أو معرفة؟ اختار الرضي أنه نكرة استدلالًا بانتفاء شرط التعريف فيه، وهو تقدم المفسر. والمعروف عند النحاة أنه معرفة، لكن تعريفه أنقص مما كان في الأول، لأن التفسير يحصل بعد ذكره مبهمًا فقبل الوصول إلى التفسير فيه الإبهام الذي في النكرات، ولهذا جاز دخول رب عليه مع اختصاصها بالنكرات.

فإن قلت: فكيف حكم بكونه معرفة مع انتفاء تقدم المفسير، وهو شرط كما مر؟

قلت: قد يمنع كون هذا شرطًا في تعريفه، وإنما الشرط وجود المفسر له في الجملة تقدم أو لم يتقدم، ولو سلم فقد يقال: إنما حكموا ببقائه على وضعه / من التعريف لأنه حصل جبران ما فاته بذكر المفسر بعده بلا فصل، فهو كالمضاف الذي يكتسب التعريف من المضاف إليه، كما قاله الرضي من الاعتذار [عن النحاة] في هذا المقام.

قال: والجبران في (ربه رجلًا) ، و (نعم رجلًا) ، و (بئس رجلًا) ، و (ساء مثلًا) ظاهر؛ لأن الاسم المميز المنصوب لم يؤت به إلا لغرض التمييز والتفسير، فنصبه على التمييز قائم مقام المفسر المتقدم.

«أو» رفع «بأول المتنازعين» كقوله:

ص: 117

جفوني ولم أجف الإخلاء إنني

لغير جميل من خليلي مهمل

وفي جواز مثل هذا خلاف سيذكر في محله إن شاء الله تعالى.

«أو أبدل منه المفسر» بكسر السين نحو: ما حكاه الكسائي: اللهم صل عليه [الرؤوف] الرحيم. وحكى ابن كيسان: الإجماع على جواز هذه المسألة فيما نقله المصنف عنه. «أو جعل» المفسر بكسر السين «خبره» أي خبر الضمير المفسر - بفتحها - نحو: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} .

قال الزمخشري: هذا ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله: إن الحياة إلا حياتنا الدنيا. ثم وضع الضمير موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليها ويبينها. قال: ومنه:

هي النفس تحمل ما حملت ......................

ص: 118

وهي العرب تقول ما شاءت.

قال المصنف: وهذا من جيد كلامه، ولكن في تمثيله بـ (هي النفس

) و (هي العرب

) ضعف، لإمكان جعل النفس والعرب بدلين وتحمل وتقول خبرين.

قال ابن هشام في المغني: وفي كلام ابن مالك أيضًا ضعيف؛ لإمكان وجه ثالث في المثالين [لم يذكره] وهو كون (هي) ضمير القصة، فإن أراد الزخشري أن المثالين يمكن حملهما على ذلك، لا أنه متعين فيهما، فالضعف في كلام ابن مالك وحده.

قلت: ظاهره عبارة الزمخشري أن حمل المثالين على كون المفسر فيهما خبرًا متعين، ويكفي من حاول القدح في ذلك إبداء محتمل آخر كما صنع ابن مالك، أما أنه يلزم إبداء جميع المحتملات في هذا المقام فلا؛ لأن الغرض إبطال دعوى التعين، وهو حاصل بإبداء بعض ما يحتمله اللفظ.

وانتقد بعضهم قول المصنف: إن الآية من قبيل ما فسر فيه الخبر الضمير المخبر عنه، بأن الخبر إذا كان مضافًا لشيء أو موصوفًا بشيء وجعل مفسرًا كان المبتدأ الذي هو ضمير عائدًا عليه باعتبار ما قيد به من إضافة أو صفة، وحينئذٍ يصير التقدير: إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا. وهو غير جائز، قال: وليس في كلام الزمخشري دليل على ما ذهب إليه المصنف؛ لأنه قال: وضع (هي) موضع الحياة. ولم يقل: موضع حياتنا الدنيا، الذي هو الخبر. وقوله:

ص: 119

لأن الخبر يدل عليها ويبينها. يعني أن سياق هذا الكلام دل على أن المضمر هو الحياة، فيكون المفسر إذن هو السياق لا الخبر. «أو كان» الضمير المتقدم هو «المسمى ضمير الشأن عند البصريين» وليس هذا عندهم فقط هو اسمه، بل يسمونه ضمير الشأن وضمير القصة قال ابن الخباز: وضمير الأمر وضمير الحديث. فهذه أربعة أسماء بصرية «وضمير المجهول عند الكوفيين» ؛ لأنه لا يدرى عندهم على ماذا يعود، وتسمية البصريين أولى؛ لأنهم سموه بمعناه، والكوفيون إنما سموه باعتبار وصفه، وإنما ألزم كونه ضمير غيبة دون الفصل، فإنه يكون غائبًا وحاضرًا كما يأتي؛ لأن المراد بالفصل هو المبتدأ فيتبعه في الغيبة والحضور. والمراد بهذا الضمير الشأن أو ما هو بمعناه كما مر، فيلزمه الإفراد والغيبة كالمعود إليه، [فالمعود إليه] إما مذكر، وهو الأغلب نحو:{قل هو الله أحد} ، أو مؤنث نحو:{فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} .

ص: 120

قال الرضى الإستراباذي: وهذا الضمير كأنه راجع في الحقيقة إلى المسؤول عنه بسؤال مقدر / تقول: هو الأمير مقبل، كأنه سمع ضوضاء وجلبة فاستبهم الأمر فسئل ما الشأن والقصة؟ فقلت: هو الأمير مقبل، أي الشأن هذا، فلما كان المعود إليه الذي تضمنه السؤال غير ظاهر، اكتفي في التفسير بخبر هذا الضمير الذي يتعقبه بلا فصل؛ لأنه معين للمسؤول عنه ومبين له.

قال: فبان لك بهذا أن الجملة بعد الضمير لم يؤث بها لمجرد التفسير، بل هي كسائر أخبار المبتدأ، لكن سميت تفسيرًا لما بينته، والقصد بهذا الإبهام ثم التفسير تعظيم [الأمر] وتفخيم الشأن، فعلى هذا لابد أن يكون مضمون الجملة شيئًا عظيمًا فلا يقال - مثلًا - هو الذباب يطير. هذا كلامه. «ولا يفسر» ضمير الشأن «إلا بجملة» فأما المفرد فلا يكون مفسرًا له.

وفي الصحاح: وأما قول الشاعر:

ما هي إلا شربة بالجوأب

فصعدي من بعدها أو صوبي

ص: 121

وقول بنت الحمارس:

هل هي إلا حظة أو تطليق

أو صلف وبين ذاك تعليق

قد وجب المهر إذا غاب الحوق

فإن أهل الكوفة قالوا: (وهي) كناية عن شيء مجهول وأهل البصرة يتأولونها بالقصة انتهى بحروفه فقد نقل عن أهل البلدين جميعًا تفسير الضمير المذكور بمفرد وهو غلط.

«خبرية» لا إنشائية، فإن الإنشائية لا يفسر بها هذا الضمير، ووجه ذلك يفهم مما سبق إذا تأملت. «مصرح بجزأيها» جميعًا احترازًا من أن يحذف أحدهما فتمتنع المسألة حينئذٍ عند البصريين؛ لأن ضمير الشأن مؤكد لمدلول الجملة ومفخم له، وذلك مناف للحذف. «خلافًا للكوفيين» وللأخفش أيضًا «في نحو: ظننته قائمًا زيد» فإنهم يجعلون الهاء ضمير الشأن، وقائمًا مفعولًا ثانيًا لظننت، ويرفعون زيدًا بقائم، ويفسرون بقائم ومرفوعه ضمير الشأن، ولا يخفى أن هذا تفسير بمفرد.

ص: 122

فإن قلت: إنما تكون الصفة مع مرفوعها مفردة إذا لم تعتمد، وأما إذا اعتمدت نحو: ما قائم الزيدان، فهي ومرفوعها جملة، وهي هنا معتمدة؟

قلت: شرط المعتمد عليه أن يكون حرف نفي أو استفهام على ما سيجيئ، وهو مفقود في المثال، وقد يقال: إنما يتم هذا على رأي الشارطين لذلك، وأما على رأي الأخفش ومن قال بقوله، فلا.

ورد المصنف مذهب الكوفيين في المسألة المذكورة بأنه لم يثبت مثلها في لسان العرب، ولو سمع نظير هذا التركيب خرج على أن زيدًا مبتدأ مؤخر، وظننته قائمًا خبر [مقدم] والهاء عائدة على زيد.

قلت: التخريج خاص بهذا التركيب وليست المسألة مقصورة عليه عند الكوفيين، فمن مثلها عندهم: ظننته قائمًا الزيدان أو الزيدون، ولا يأتي هنا ذلك التخريج أصلًا. «و» خلافًا للكوفيين أيضًا في «إنه ضرب» بالبناء للمفعول «أو قام» على حذف المسند إليه من غير إرادة له [ولا إضمار] والبصريون يمنعون ذلك؛ لما تقدم ولامتناع حذف الفاعل ونائبه عندهم.

«وإفراده لازم» لأنه عائد إلى مفرد وهو الشأن أو الحديث أو الأمر. «وكذا تذكيره» لازم نحو: إنه زيد قائم. «ما لم يله مؤنث» نحو: إنها هند حسنة. «أو مذكر شبه به مؤنث» نحو: إنها قمر جاريتك. «أو فعل

ص: 123

بعلامة تأنيث» نحو: {فإنها لا تعمى الأبصار} «فيرجح تأنيثه» في هذه الصورة «باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن» والمعني بالقصة والشأن واحد، فأوثر في الصور المذكورة رعاية القصة؛ لمكان مناسبة لفظية يحسن بها الكلام، ولا عبرة بما ولي الضمير من مؤنث شبه به مذكر، فلا يقال: إنها شمس وجهك، ولا بتأنيث فاعل فعل ولي الضمير بلا علامة تأنيث، فلا يقال: إنها قام جاريتك.

فإن قلت: وقع في تلخيص المفتاح التمثيل بقولهم: هو أو هي زيد قائم مكان الشأن أو القصة، فأنث في غير الصور الثلاث، فما وجهه؟

قلت: المنقول عن البصريين جواز التذكير والتأنيث مطلقًا، لكن يستحسن التأنيث مع المؤنث والتذكير مع المذكر، كذا قال أبو حيان وغيره، وعلى ذلك يمشي ما في التلخيص من تجويز الوجهين، وإن كان التفتازاني اعترضه فقال:

واعلم أن الاستعمال على أن ضمير الشأن إنما يؤنث إذا كان في الكلام مؤنث غير فضلة، فقوله: هي زيد عالمٍ، مجرد قياس. والمنقول عن الكوفيين أن الضمير بحسب المخبر عنه إن مذكرًا فمذكر، وإن مؤنثًا فمؤنث، فلا يجوز عندهم كانت زيد قائم، ولا كان هند قائمة، وقول العرب: إنه أمة الله ذاهبة، يدفعه. «ويبرز» الضمير المذكور «مبتدأ» نحو:{قل هو الله أحد} .

ص: 124

«واسم ما» كقوله:

وما هو من يأسو الكلام وتتقى

به نائبات الدهر كالدائم البخل

فـ (هو) اسم (ما) ، والجملة بعده في محل نصب، على أنها خبرها، وإنما يتأتى الاستشهاد بذلك إذا ثبت أن قائله ممن يعمل (ما) إعمال ليس، ومنع بعضهم وقوع ضمير الشأن اسمًا لـ (ما)، [كما] نقله ابن قاسم في شرحه. «و» يبرز «منصوبًا في بابي إن» نحو:{وأنه لما قام عبد الله} . «وظن» كقوله:

علمته الحق لا يخفى على أحد

فكن محقًا تنل ما شئت من ظفر

«ويستكن في بابي كان» كقوله:

إذا مت كان الناس صنفان: شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع

ص: 125

«وكاد» كقوله تعالى: في قراءة حمزة وحفص - {من بعد ما كان يزيغ قلوب فريقٍ منهم} بياء الغائب في (يزيغ) ، وحينئذٍ يتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن وقلوب فاعل يزيغ بياء الغائب، وبابه الشعر. وأحسن المصنف في التعبير بكاد دون عسى، لأن الغالب في عسى اقتران خبرها بأن، وقد قيل: إنها حينئذ غير ناسخة، فلا يضمر فيها الشأن إذ ذاك، بل ولو قلنا بأنها ناسخة؛ لأن ضمير الشأن لا يفسر بأن وصلتها.

«وبني المضمر لشبهه بالحرف وضعًا» فيما هو موضوع منه على حرف واحد أو حرفين، ثم حمل البواقي عليه، ليجري الباب على سنن واحد. «وافتقارًا» من حيث إن الحرف مفتقر إلى غيره، والضمير كذلك؛ فإنه مفتقر إلى ما يفسره. «وجمودًا» من حيث هو لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر، وأما هما وهم ونحن فأسماء للاثنين والجماعة. «أو للاستغناء» هذا قسيم شبه الحرف، فدل على عدم انحصار علة البناء في مشابهة الحرف، وقد أسلفناه، والمراد أن الضمير بنى للاستغناء عن إعرابه. «باختلاف صيغه لاختلاف المعاني» ففقد موجب الإعراب فيها، وذلك أن المقتضي لإعراب الأسماء توارد المعاني المختلفة على صيغة واحدة، والمضمرات مستغنية باختلاف صيغها

ص: 126

لاختلاف المعاني عن الإعراب. «وأعلاها» أي أعلا المضمرات «اختصاصًا ما للمتكلم، وأدناها ما للغائب» وهذا مفهوم مما ذكره في أول باب المعرفة والنكرة؛ وإنما ذكره هنا ليفرّع عليه الحكم المفاد بقوله:

ويغلّب الأخص عند الاجتماع فتقول: أنا وأنت فعلنا، ولا تقول: فعلتما، وأنت وهو فعلتما، ولا تقول فعلا.

ص: 127