المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٢

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب المفعول المسمى ظرفا ومفعولا فيه

‌باب المفعول المسمَّى ظرفا ومفعولا فيه

ص: هو ما ضُمّن من اسم وقت أو مكان معنى في باطّراد، لواقع فيه مذكور أو مقدّر ناصب له. ومبهم الزمان ومختصه لذلك صالح. فإن جاز أن يخبر عنه أو يجرّ بغير من فمتصرّف، وإلا فغير متصرّف. وكلاهما منصرف وغير منصرف، فالمتصرّف المنصرف كحين ووقت، والذي لا يتصرف ولا ينصرف ما عُيّن من سَحَر مجرد. والذي يتصرّف ولا ينصرف كغُدوة وبُكْرة عَلَمين. والذي ينصرف ولا يتصرف بُعَيْداتِ بين، وما عُيِّن من ضحى وضحوة وبكرة وسُحير وصباح ومساء ونهار وليل وعَتمة وعِشاء وعُشيّة. وربما مُنِعت الصرف والتصرّف. وألحق بالممنوع التصرف ما لم يضف من مركب الأحيان كصباحَ مساءَ ويومَ يومَ. وألحق غير خَثْعَم ذا وذات مضافين إلى زمان. واستقبح الجميع التصرّف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف.

ش: ما ضُمّن معنى في يتناول الحال والظرف ونحو السهل والجبل من قول العرب: مطرنا السهل والجبل. فخرج الحال بقولي "من اسم وقت أو مكان" وخرج السهل والجبل ونحوهما بقولي "باطراد" فإنه لا يقاس عليهما؛ إذ لا يقال مطرنا القيعان والتلول، ولا أخصبنا السهل والجبل بل يقتصر على ما سمع ولا يزاد عليه إلا ما عُضد بسماع ممن يوثق به، بخلاف المنصوب على الظرفية نحو جلست أمامَك فإنه مطرد، لجواز أن يخلف فيه الفعل والاسم غيرهما، ويتناول أيضا قولي "ما ضمن في" ما نصب بدخل من مكان مختص، وخرج بذكر الاطراد، فإن المطرد لا يختص بعامل دون عامل، ولا باستعمال دون استعمال، فلو نصب المكان المختص بدخل على الظرفية لم ينفرد به دخل. بل كان يقال مكثت البيت كما يقال دخلت البيت، وكان يقال زيد البيت فينصَب بمقدر كما يفعل بما تحققت ظرفيته، لأن كل ما ينتصب على الظرفية بعامل ظاهر يجوز وقوعه خبرا فينتصب

ص: 200

بعامل مقدر. ولذا قال سيبويه بعد أن مثّل بقُلب زيد الظهر والبطن ودخلت البيت: "وليس المنتصب هنا بمنزلة الظروف، لأنك لو قلت هو ظهره وبطنه وأنت تريد شيئا على ظهره وبطنه لم يجز" هذا نصّه.

وقد غفل عن الموضع الشلوبين فجعل أن نصب المكان المختص بدخل عند سيبويه على الظرفية. وهذا عجب من الشلوبين مع اعتنائه بجمع متفرقات الكتاب وتبيين بعضها من بعض. ونبهت بقولي "لواقع فيه ناصب له مذكور أو مقدر" أن الظرف منصوب بما دل على المعنى الواقع فيه وأن الدال على الواقع فيه قد يكون مقدران فالمذكور ظاهر، والمقدر كالعامل فيما وقع خبرا كزيد عندك.

ومبهم الزمان ومختصه صالحان للنصب على الظرفية، فمبهمه نحو صمت يوما، ومختصه نحو صمت الجمعة. وظرف الزمان ينقسم إلى متصرف وغير متصرف، فالمتصرف ما يجوز أن يخبر عنه أو يجرّ بغير "من". وغير المتصرف ما لا يعامل بذلك، فالإخبار عنه نحو العام سعيد، واليوم مبارك. والجر بغير من نحو:(ليجمعنكم إلى يوم القيامة) ونحو: (عن اليمين وعن الشمال قَعيدٌ) ونحو: "وعلى يمينه أسْوِدة وعلى يساره أسْودة". وبدخول إلى على متى يعلم أنها ظرف متصرف. فلذلك أجاز سيبويه أن يقال يومُ كذا بالرفع لمن قال متى سير عليه على تقدير أيُّ الأحيان سير عليه برفع أي. وقال سيبويه "والرفع في جميع هذا عربي كثير في لغات جميع العرب يكون على كم غير ظرف وعلى متى غير ظرف". هذا نصه.

ص: 201

ولا يحكم بتصرف ما جر بمن وحدها كعند وقبل وبعد، لأن من كثرت زيادتها فلم يُعتدّ بدخولها على الظرف الذي لا يتصرف بخلاف غيرها كمذ وحتّى وفي وإلى وعن وعلى. فلما بيّنت أن بعض الظروف متصرف وبعضها غير متصرف قلت "وكلاهما منصرف وغير منصرف" أي المتصرّف على ضربين: منصرف وغير منصرف، وغير المتصرّف كذلك، فالأقسام إذن أربعة.

فالمتصرف المنصرف كثير، لأنه على الأصل، وذلك كساعة وشهر وعام ودهر وحين وحينئذ ويومئذ، يقال سير عليه حينئذ ويومئذ، حكاهما سيبويه. والذي لا يتصرف ولا ينصرف "سحر" إذا جُرّد من الإضافة والألف واللام وقصد به معيَّن من ليلة معيّنة كقولك لأستغفرنّ هذه الليلة سحر. وكذا إن قصدا لتعيين ولم يذكر الليلة. والذي يتصرف ولا ينصرف غُدْوة وبُكرة علمين قصد بهما التعيين أو لم يقصد، لأن علميتهما جنسية فيستعملان استعمال أسامة وذُؤالة، فكما يقال عند قصد التعميم أسامة شر السباع، وعند التعيين هذا أسامة فاحذره تقول قاصدا التعميم غُدوة وقت نشاط، وقاصدا التعيين لا أشرب الليلة إلى غُدوة. وبُكرة في ذلك كغُدوة. وقد يخلوان من العلمية فينصرفان ويتصرفان، ومنه قوله تعالى:(ولهم رزْقُهم بُكرةً وعَشيَّا).

والذي ينصرف ولا يتصرف ما عينَ من سحر وبكرة وضحى وضحوة وصباح ومُسْي وليل ونهار وعَتمة وعشاء وعشيّة. وربما منعت عشية في التعيين الصرف والتصرف فساوت سحر. ذكر ذلك كله سيبويه في الباب المترجم بهذا ما يكون فيه المصدر حينا. وقال بعد أن ذكر ليلا ونهارا: إذا أردت ليل ليلتك ونهار نهارك تريد بليل ليلتك ظلامها وبنهار نهارك ضوءه. وكذلك قال في تفسير تعيين البواقي: إذا أردت سحر ليلتك وضحى يومك وصباحه ومساءه وعشاءه وبكرة يومك وضحوته وعتمة ليلتك. وذكر ما لا يتصرف بُعَيدات بين أي أوقاتا غير متصلة.

ص: 202

ومن الظروف التي لا تتصرف ما ركب نحو خمسة عشر كقولك فلان يتعهّدنا يومَ يومَ وصباحَ مساءَ أي كل يوم وكل صباح ومساء، فمثل هذا لا يستعمل إلا ظرفا. ومنه قول الشاعر:

ومَن لا يَصْرِف الواشينَ عنه

صباحَ مساءَ يضنوه خبالا

ومثله قول الآخر:

آت الرزقُ يومَ يومَ فأجْملْ

طَلَبا وابْغِ للقيامة زادا

فلو أضيف صدره إلى عجزه جاز استعماله ظرفا وغير ظَرف فمثال استعماله ظَرفا قول الشاعر:

ما بالُ جهلِك بعد الحِلْم والدّين

وقد علاك مَشيبٌ حينَ لا حينِ

أنشده سيبويه وقال: إنما هو حينَ حين، "ولا بمنزلة" "ما" إذا ألغيتَ. ومثال استعماله غير ظرف قول الآخر أنشده سيبويه أيضا:

ولولا يومُ يومٍ ما أرَدْنا

جَزاءكَ والقُروضُ لها جزاءُ

واعلم أنّ من الظروف التي لا تتصرف ذُو وذات مضافين إلى وقت كقولهم لقيته ذا صباح وذات مرّة وذات مرّة وذات يوم أو ليلة. وهذا النوع عند غير "خَثْعَم" لا يستعمل إلا ظرفا، وقد يستعمل عند خثعم غير ظرف كقول بعضهم:

عَزَمتُ على إقامةِ ذي صباح

لأمْرٍ ما يُسَوَّدُ مَن يَسُودُ

ص: 203

فلو قيل على هذه اللغة: سرى عليها ذاتُ ليلة، بالرفع لجاز، ولا يقال على لغة غيرهم من العرب إلا سرى عليها ذاتَ ليلة، بالنصب.

ويقبح عند جميع العرب ترك الظرفية في صفة "حين" حين حذف وأقيمت مقامه نحو سير قديما وحديثا، فلو قلت سير عليه قديمٌ أو حديثٌ لم يختلف في قبحه. فلو كان قيام الصفة مقام الموصوف غير عارض كقريب حسن ترك الظرفية. وكذا لو وصفت الصفة كقولك سير عليه قديمٌ أو حديثٌ لم يختلف في قبحه. فلو كان قيام الصفة مقام الموصوف غير عارض كقريب حسن ترك الظرفية. وكذا لو وصفت الصفة كقولك سير عليه طويل من الدهر، لأن وصفها يعطيها شبها بالاسم الجامد، كما أن كثرة جريانها مجرى الأسماء الجامدة تلحقها بها فلك أن تقول في سير عليه طويلا من الدهر وفي مرّ به قريبا: سير عليه طويل من الدهر ومرّ به قريب، فإن قريبا من الصفات التي كثر جريانها مجرى الأسماء، قال سيبويه بعد أن مثّل بسير عليه طويلا وحديثا وكثيرا وقليلا: ولم يجز الرفع لأن الصفة لا تقع موقع الاسم. ثم قال: وقد يحسن أن يقال سير عليه قريب، لأنك تقول لقيته مذ قريب، وربما جرت الصفة في كلامهم مجرى الاسم فإذا كان كذلك حسن. ثم قال: فإن قلت سير عليه طويل من الدهر كان أحسن. وإنما حسن بالوصف لأنه ضارع الأسماء، لأن الموصوفة في الأصل هي الأسماء. هذا نصه. وإلى هذا أشرت بقولي "واستقبح الجميع التصرف في صفة حين عرض قيامها مقامه ولم توصف" فعلم عدم القبح في تصرّف قريب من المثال المذكور، لأن إقامته مقام الموصوف غير عارضة بخلاف طويل وشديد ونحوهما، وعلم عدم القبح في تصرف ما وصف نحو سير عليه طويل من الدهر، لأن وصفه بالجار والمجرور أعطاه شبها بالأسماء المحضة كما تقدم.

ص: ومظروف ما يصلح جوابا لكم واقع في جميعه تعميما أو تقسيطا، وكذا

ص: 204

مظروف ما يصلح جوابا لمتى إن كان اسم شهر غير مضاف إليه شهر، وكذا مظروف الأبد والدهر والليل والنهار مقرونة بالألف واللام. وقد يقصد التكثير مبالغة فيعامل المنقطع معاملة المتصل. وما سوى ما ذكر من جواب متى فجائز فيه التعميم والتبعيض إن صلح المظروف لهما.

ش: المظروف هو ما يفعل في الظرف، فمنه ما يقع في جميعه ومنه ما يقع في بعضه، كما أن المُوعَى في الوعاء منه ما يملأ الوعاء ومنه ما لا يملؤه. فإن كان الظرف معدودا وهو المعبر عنه بجواب كم فلكل واحد من أفراده أو فرديه قسط من العمل إما في جميعه وهو المعبّر عنه بالتعميم وإما في بعضه وهو المعبّر عنه بالتقسيط؛ فالتعميم كقولك صمت ثلاثة أيام، والتقسيط كقولك أذّنت ثلاثة أيام، فهذان مثالان لما لا يصلح من العمل إلا لأحد القصدين. وقد يكون العمل صالحا للتعميم والتقسيط. فيجوز للمتكلم أن يقصد به ما شاء من المعنيين كقولك تهجدت ثلاث ليال، فمن الجائز أن يريد استيعابهنّ بالتهجُّد، وأن يريد إيقاع تهجد في بعض كل واحدة منهن.

وإذا كان الظرف اسم شهر غير مضاف إليه شهر كقولك اعتكفت رمضان فلجميع أجزائه قسط من العمل، لأن كل واحد من أعلام الشهور إذا أطلق فهو بمنزلة ثلاثين يوما، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له من ذنبه ما تقدّم وما تأخّر". ولم يقل من صام شهر رمضان، إذ لو قال ذلك لاحتمل أن يريد جميع الشهر وأن يريد بعضه، كما قال تعالى:(شهرُ رمضانَ الذي أُنْزِل فيه القرآنُ) وإنما كان الإنزال في ليلة منه وهي ليلة القدر.

ص: 205

وأجرى أبو الحسن بن خروف أعلام الأيام مجرى أعلام الشهور، فجعل قول القائل سير عليه الخميس مقصورا على التعميم، وقوله سير عليه يوم الخميس محتملا للتعميم والتبعيض. وفيما رآه نظر. ومثل رمضان وغيره من أعلام الشهور المجردة في استحقاق التعميم الأبد والدهر، والليل والنهار مقرونة بالألف واللام، فإذا قيل كان ذلك الأبد أو الدهر فلا يصلح أن يراد به غير التعميم إلا في قصد المبالغة مجازا، كما يقول القائل أتاني أهل الدنيا، وإنما أتاه ناس منهم. قال سيبويه:

"ومما لا يكون العمل فيه من الظروف إلا متصلا في الظرف كله كقولك سير عليه الليل والنهار والدهر والأبد. ثم قال: لا تقول لقيته الدهر والأبد وأنت تريد يوما فيه، ولا لقيته الليل وأنت تريد لقاءه في ساعة دون الساعات" هذا نصّه.

فصل: ص: وفي الظروف ظروف مبنية لا لتركيب، فمنها إذْ للوقت الماضي لازمة الظرفية، إلا أن يضاف إليها زمان، أو تقع مفعولا به وتلزمها الإضافة إلى جملة وإن علمت حذفت وعوض تنوين وكسرت الذال لالتقاء الساكنين لا للجر خلافا للأخفش. ويقبح أن يليها اسم بعده وفعل ماض. وتجيء للتعليل وللمفاجأة [وليست حينئذ ظرف مكان ولا زائدة خلافا لبعضهم].

وتركها بعد بينا وبينما أقيس من ذكرها وكلاهما عربي. ويلزم بينما وبينا الظرفية الزمانية والإضافة إلى جملة، وقد تضاف بينا إلى مصدر".

ش: لما فرغ من الكلام على معربات ظروف الزمان ومبنياتها المركبة شرع في بيان مبنياتها غير المركبة، فمنها "إذْ" ويدلّ على اسميّتها أنها تدل على الزمان دلالة لا تعرض فيها للحدث، وأنها يخبر بها مع دخولها على الأفعال نحو قدوم زيد إذ قدم

ص: 206

عمرو، وأنها تبدل من اسم نحو رأيتك أمس إذ جئت، وأنها تنون في غير ترنم.

ويضاف إليها بلا تأويل نحو (يومئذ تُحَدِّثُ أخبارَها) وأنها تقع مفعولا بها نحو قوله تعالى: (واذكُروا إذ أنتم قليلٌ مُسْتَضْعفون في الأرض).

ولبنائها سببان كل واحد منهما كاف لو انفرد، أحدهما وضعها على حرفين لا ثالث لهما بوجه.

الثاني لزوم افتقارها إلى جملة أو عِوَض منها وهو التنوين اللاحق في نحو يومئذ وحقّ تنوين العوض أن يكون عوضا من بعض كلمة: كتنوين يُعَيل مصغّر يَعْلَى فإنه عوض من لام الكلمة، وكتنوين جندل فإنه عوض من ألف جنادل، فلما كانت الجملة التي يضاف إليها إذ بمنزلة الجزء منها، وحذفت عوملت في التعويض منها معاملة جزء حقيقي، وفعل بذال "إذ" مع هذا التنوين ما فُعل بهاء صه مع تنوين التنكير فقيل إذٍ كما قيل صَهٍ. وزعم الأخفش أن كسرة إذ كسرة إعراب بالإضافة، وأظن حامله على ذلك أنه جعل بناءها ناشئا عن إضافتها إلى الجملة، فلما زالت من اللفظ صارت معربة. وردّ بعض النحويين عليه بقول العرب: كان ذلك إذٍ، بالكسر دون مضاف إلى إذ، ولم يغفل الأخفش هذا، بل ذكره وأنشد:

نَهْيتكَ عن طِلابِكَ أمَّ عَمْرو

بعافيةٍ وأنت إذٍ صحيحُ

ثم قال: أراد وأنت حينئذ صحيح، فحذف المضاف وأبقى الجر. وهذا منه غير مرضيّ لأن المضاف لا يُحذف ويبقى الجر به إلا إذا كان المحذوف معطوفا على مثله كقولهم: ما مثل أبيك وأخيك يقولان ذلك و"ما كل بيضاءَ شحمة، ولا سوداء تمرة"، فحذف "مثل" المضاف إليه أخيك، و"كل" المضاف إلى سوداء

ص: 207

لدلالة ما قبلها عليها، وإذ في البيت المذكور بخلاف ذلك فلا يحكم لها بحكمه. وأيضا فإن حذف المضاف وإعراب المضاف إليه بإعرابه أكثر من حذف المضاف وجرّ المضاف إليه، ومع أنه أكثر مشروط بعدم صلاحية الباقي لما صلح له المحذوف، كالقرية بالنسبة إلى الأهل. فلو صلح الباقي لما صلح له المحذوف امتنع الحذف، فلأن يمتنع عند ذلك حذف المضاف وبقاء المضاف إليه مجرورا أحق وأولى.

ومعلوم أن "إذ" من قولك حينئذ صالح لما يصلح له حينن فلا يجوز فيهما الحذف المذكور كما لا يجوز في غلام زيد. وأيضا فإن المضاف إلى إذ قد يبنى كقراءة نافع (وهم مِن فَزَعِ يومئذٍ آمنونَ) ولا علة لبنائِه إلا إضافته إلى مبني، فبطل قول من قال إن كسرة إذ كسرة إعراب. ولم أقيد الجملة التي تضاف إليها إذ بكونها اسمية أو فعلية ليشعر بذلك أن للمتكلم أن يضيفها إلى ما شاء منهما. ثم أشرت إلى استقباح تقديم اسم بعدها على فعل ماض نحو كان ذلك إذ زيد قام، فعُلم أن غير ذلك حسن نحو كان ذلك إذ قام زيد، وإذ زيد يقوم، وإذ يقوم زيد، كل ذلك حسن إذ لا محذور فيه، بخلاف إذ زيد قام فإنه قبيح، لأن مدلول غذ وقام من الزمان واحد، وقد اجتمعا في كلام فلم يحسن الفصل بينهما بخلاف ما سواه، فإن الذي يعد إذ في جميعه غير موافق لاذ في مدلولها، فاستوى اتصالها به وانفصالها عنه.

وتجيء إذ للتعليل كقوله تعالى (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلّا الله فأووا إلى الكهف ينشرْ لكم رَبُّكم من رحمته) وكقوله تعالى: (وإذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفكٌ قديمٌ). وكقوله تعالى: (ولن ينفعكم اليومَ إذْ

ص: 208

ظلمتم). ومثله قول الشاعر:

فأصبحوا قد أعاد اللهُ نعمتهم

إذْ هم قريشٌ وإذ ما مثلَهُمْ بَشَرُ

وأشار إليها سيبويه فقال في باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره في غير الأمر والنهي إنَّ أنْ في قولهم: أمّا أنتَ مُنطلِقا انطلقتُ بمعنى إذ، وإذ بمعنى أنْ إلا أن إذ لا يحذف فيها الفعل، وأما لا يذكر بعدها الفعل المضمر، هذا نصه.

وتجيء إذ أيضا للمفاجأة كقول عمر رضي الله عنه: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذْ طلع علنا رجلٌ" فهذا مثال وقوعها بعد بينما. ومثله قول الشاعر:

بينما هُنَّ بالأراكِ معًا

إذْ أتى راكبٌ على جَمَلِهْ

ومثله:

استَقْدر اللهَ خيرا وارضينَّ به

فبينما العُسْرُ إذ دارتْ مياسيرُ

ومثال تركها قول الشاعر:

بينا نحن نَرْقُبُه أتانا

معلِّقَ وفْضَة وزنادَ راعي

وتركها أقيس؛ لأن المعنى المستفاد معها مستفاد بتركها، وكلاهما مرويّ عن العرب نثرا ونظما. وكان الأصمعي يؤثر تركها على ذكرها. وحكى السيرافي أن

ص: 209

بعضهم يجعلها ظرف مكان، وأن بعضهم يجعلها زائدة والمختار عندي الحكم بحرفيّتها. وقد حدث لـ"بَيْن" إذ قيل فيها: بينما الاختصاص بالزمان والظرفية والإضافة إلى الجمل. وقد تضاف بينا إلى مصدر كقوله:

بَيْنا تعنّقه الكماة وروغه

يومًا أُتِيحَ له كمِيّ سَلْفَعُ

ويروى تعنّقه بالرفع على الابتداء والخبر محذوف.

ص: ومنها إذا للوقت المستقبل مضمنة معنى الشرط غالبا، لكنها لما يُتيقن كونُه أرجحُ بخلاف إنْ، فلذلك لم تجزم إلا في شعر، وربما وقعت موقع إذ، وإذ موقعها، وتضاف أبدا إلى جملة مصدّرة بفعل ظاهر أو مقدر قبل اسم يليه فعل، وقد تُغني ابتدائية اسم بعدها عن تقدير فعل وفاقا للأخفش. وقد تفارقها الظرفية مفعولا بها أو مجرورة بحتى، وتدل على المفاجأة حرفا لا ظرف زمان خلافا للزجاج ولا ظرف مكان خلافا للمبرد، ولا يليها في المفاجأة إلا جملة اسمية. وقد تقع بعد بينا وبينما".

ش: يدل على اسمية إذا أن فيها ما في إذ من الدلالة على الزمان دون تعرّض لحدَث، ومن الإخبار بها مع دخولها على الأفعال نحو قولك: راحة المؤمن إذا دخل الجنة. ومن وقوعها بدلا من اسم صريح نحو أكرمك الله غدا إذا جئتني. ومن وقوعها مفعولا به كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إني لأعلم إذا كنت عنّي راضية، وإذا كنت عليّ غَضبَى" وانفردت بدخول حتى الجارة عليها كقوله تعالى: (حتّى إذا جاءوها) كما انفرد "إذْ" بلحاق التنوين والإضافة إليها.

ص: 210

وإلى الحديث والآية أشرت بقولي: "وقد تفارقها الظرفية مفعولا بها أو مجرورة بحتى" وأكثر وقوع "إذا" مضمنة معنى الشرط ولذلك تقع الفاء بعدها على حدّ وقوعها بعد إنْ كقوله تعالى (إذا لقيتُم فئةً فاثْبُتوا) ولذلك أيضا كثر وقوع الفعل بعدها ماضي اللفظ مستقبل المعنى نحو إذا جئتني أكرمك. ولو جعلت مكان إذا حينا أو غيره قاصدا للاستقبال لم يجز أن تأتي بلفظ الماضي. وكان مقتضى تضمنها معنى الشرط أن يجزم بها، لكن منع من ذلك ثلاثة أمور:

أحدها أن تضمنها معنى الشرط ليس بلازم، فإنها قد تتجرد منه كقوله تعالى:(ويقول الإنسان أئذا ما متُّ لسوف أُخْرَجُ حيّا) وقوله تعالى (والنجمِ إذا هوى) وقد تتجرد من الظرفية مع تجردها من الشرط نحو إنني لأعلم إذا كنت عني راضية. الثاني أنها مضافة إلى ما يليها والمضاف يقتضي جرّا لا جزْما. وإذا جُزم بها في الشعر فليست مضافة إلى الجملة، وبناؤها حينئذ لتضمنها معنى إنْ. الثالث أن ما يليها متيقِّن الكون أو في حكم المتيقن نحو آتيك إذا انتصف النهارُ، وأجيئُك إذا دعوتني، بخلاف ما يلي إنْ فإنّ كونه وعدم كونه لا رجحانَ لأحدهما على الآخر، فلما خالفتها إذا لم يُجزم بها إلا في الشعر. وإنما جاز أن يُجزم بها في الشعر لأن فيها ما في إنْ من ربْط جملة بجملة وإن لم يكن ذلك لها لازما. ومن الجزم بها قول الشاعر:

ترفعُ لي خِنْدفٌ، واللهُ يرفعُ لي

نارًا إذا خَمدتْ نيرانُهم تَقِدِ

ومثله:

استغنِ ما أغناكَ ربُّك بالغنى

وإذا تُصِبْك خَصاصةٌ فتَجَمَّل

ومثله:

ص: 211

وإذا تُصبكَ خصاصةٌ فارْجُ الغنى

وإلى الذي يُعْطي الرغائبَ فارْغَبِ

وقد يراد بها المضي فتقع موقع إذ كقوله تعالى (ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم* ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) وكقوله تعالى: (وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا إليها). ومن ذلك قول الشاعر:

حلَلتُ بها وِتْرِي وأدركتُ تُؤْرَتِي

إذا ما تناسى ذَحْلَهُ كلُّ [غَيْهَبِ]

ومثله قول الآخر:

ما ذاقَ بُؤْسَ مَعيشةٍ ونَعيمَها

فيما مَضى أحدٌ إذا لم يَعْشَقِ

وقد تقع إذ موقع إذا كقوله تعالى: (يوم يجمع اللهُ الرُسُلَ فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علمَ لنا إنك أنت علَّامُ الغيوب * إذ قال اللهُ يا عيسى) فإذ هذه بدل من يوم يجمع (ويوم يجمع) مستقبل المعنى فيتعين كون المبدل منه مثله في الاستقبال. ومثله قوله تعالى: (فسوف يعلمون إذ الأغلالُ في أعناقهم)

ص: 212

ومثله قوله تعالى (يومئذ) و (بعد إذ أُنْزِلَتْ). ومن وقوع إذ موقع إذا قول الشاعر:

متى ينالُ الفتى اليقظانُ حاجتَه

إذ المُقامُ بأرضِ اللَّهْو والغَزَل

ولا يليها عند سيبويه إلا فعل ومعمول فعل، فإن كان اسما مرفوعا وجب عنده أن يرفع بفعل مقدر موافق لفعل ظاهر بعده كقوله تعالى:(إذا الشمسُ كُوّرتْ * وإذا النجومُ انكدرتْ) فالشمس مرفوع بكُوّرتْ مضمرا، والنجوم مرفوع بانكدرتْ مضمرا وكذا ما أشبههما، لا يجيز سيبويه غير ذلك. واختار الأخفش ما أوجبه سيبويه، وأجاز مع ذلك جعل المرفوع بعد إذا مبتدأ، وبقوله أقول، لأن طلب إذا للفعل ليس كطلب إنْ، بل طلبها له كطلب ما هو بالفعل أولى مما لا عمل له فيه كهمزة الاستفهام، فكما لا يلزم فاعلية الاسم بعد الهمزة لا يلزم بعد إذا. ولذلك جاز أن يقال إذا الرجل في المسجد فظُنّ به خيرا. ومنه قول الشاعر:

إذا باهليٌّ تحتَه حَنْظَلِيّةٌ

له ولدٌ منها فذاكَ المُذَرّعُ

فجعل بعد الاسم الذي ولى إذا ظرفا واستغنى به عن الفعل، ولا يفعل ذلك بمختص بالفعل. ومما يدل على صحة مذهب الأخفش قول الشاعر:

فأمْهلَه حتّى إذا أنْ كأنّه

مُعاطِي يدٍ في لُجّة الماءِ غامِرُ

فأوْلى إذا أنْ الزائدة وبعدها جملة اسمية، ولا يفعل ذلك بما هو مختص بالفعل، وأنشد ابن جني لضيغم الأسديّ:

إذا هو لم يَخَفْنِي في ابن عمِّي

وإنْ لم ألقَهُ الرجلُ الظلومُ

ص: 213

وقال: في هذا دليل على جواز ارتفاع الاسم بعد إذا الزمانية بالابتداء، لأن هو مضمر الأمر والشأن وضمير الشأن لا يرتفع بفعل يفسره ما بعده. قلت ومثل ما أنشده ابن جني قول الآخر:

وأنتَ امرؤٌ جَلْط إذا هي أرسلت

يمينُك شيئا أمسكَتْه شِمالُكا

لأن هي ضمير القصة.

ولما أنهيت الكلام على "إذا" الدالة على زمن مستقبل أخذت في الكلام على "إذا" المفاجأة، وقد اجتمعا في قوله تعالى:(ثُمَّ إذا دعاكم دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون) فالأولى الدالة على وقت الاستقبال، والثانية الدالة على المفاجأة. وهي عند المبرد والسيرافي ظرف مكان، وعند الزجاج وأبي علي الشلوبين ظرف زمان حاضر، وهذا هو ظاهر قول سيبويه، فإنه قال حين قصدها:

وتكون للشيء توافقه في حال أنت فيها، وذلك قولك مررت به فإذا زيد قائم. هذا نصه. وروى عن الأخفش أنها حرف دال على المفاجأة وهو الصحيح عندي ويدل على صحته ثمانية أوجه:

أحدها أنها كلمة تدلّ على معنى في غيرها غير صالحة لشيء من علامات الأسماء والأفعال.

الثاني أنها كلمة لا تقع إلا بين جملتين، وذلك لا يوجد إلا في الحروف كلكن وحتى الابتدائية. الثالث أنها كلمة لا يليها إلا جملة ابتدائية مع انتفاء علامات الأفعال ولا يكون ذلك إلا في الحروف. الرابع أنها لو كانت ظرفا لم يختلف من حكم بظرفيتها في كونها مكانية أو زمانية، إذ ليس في الظروف ما هو كذلك. الخامس أنها لو كانت ظرفا لم تربط بين جملة الشرط والجزاء في نحو (وإنْ تُصِبْهم سَيِّئةٌ بما قدَّمتْ أيديهم إذا هم يَقْنَطُونَ) إذ لا تكون كذلك إلا حرفا. السادس أنها لو

ص: 214

كانت ظرفا فالواجب اقترانها بالفاء إذا صدر بها جواب الشرط، فإن ذلك لازم لكل ظرف صدر به الجواب نحو إنْ تقم فحينئذ أقوم، فإنْ لم تقم فعند مقامك أقوم. السابع أنها لو كانت ظرفا لأغنت عن خبر ما بعدها، ولكثر نصب ما بعده على الحال كما كان مع الظروف المجمع على ظرفيتها، كقولك عندي زيد مقيما وهناك بشرٌ جالسا، والاستعمال في نحو مررت فإذا زيد قائم بخلاف ذلك. الثامن أنها لو كانت ظرفا لم تقع بعدها إنّ المكسورة غير مقترنة بالفاء كما لا تقع بعد سائر الظروف نحو عندي أنك فاضل، وأمر إنّ بعد إذا المفاجأة بخلاف ذلك كقوله: إذا إنَّه عبد القَفا واللَّهازم

فتعيّن الاعتراف بثبوت الحرفية وانتفاء الظرفية. ومثال وقُوعها بعد بَيْنا قول الشاعر:

وبَيْنا نَسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا

إذا نحن فيهم سُوقةٌ نَتَنَصَّفُ

ومثال وقوعها بعد بينما قول الآخر:

بينما المرْءُ في فُنون الأماني

إذا زائِرُ المَنُونِ مُوافِي

ص: ومنها مُذ ومُنذ وهي الأصل. وقد تكسر ميمهما ويضافان إلى جملة مصرّح بجزأيها أو محذوف فعلها بشرط كون الفاعل وقتا يجاب به متى أو كم. وقد يجران الوقت أو ما يستفهم به عنه حرفين بمعنى من إنْ صلح جوابا لمتى، وإلّا فبمعنى في. وقد يُغني عن جواب متى في الحالين مصدر معيّن الزمان أو أنّ وصلتها، وليسا قبل المرفوع مبتدأين بل ظرفين خلافا للبصريين. وسكون دال مُذ قبل

ص: 215

متحرك أعرف من ضمها، وضمها قبل ساكن أعرف من كسرها".

ش: منذُ أصل مُذْ بدليلين: أحدهما أن ذال مذ تضم لملاقاة ساكن كما يفعل بميم هم وليس ذلك إلا لأن أصلها منذُ، بالضم، فرُوجِع بها الأصل حين احتيج إلى تحريكها فقيل لم أره مُذ الجمعة، كما روجع الأصل في نحوهمُ القوم، ولو لم يكن الأصل الضم لقيل مذِ الجمعة كما قيل "قُمِ الليلَ" وقد يقال:

وهُمِ القضاة ومنهُمِ الحكّامُ

والثاني أن "بني غنيّ" يضمون الذال قبل متحرك باعتبار أن النون محذوفة لفظا لانية. فلو لم يكن الأصل منذ لم يصح هذا الاعتبار. ونظير هذا قولهم في لدن وقط بضم الدال والطاء بعد الحذف على تقدير ثبوت المحذوف. وبنو سليم يقولون منذ ومِذْ بكسر الميم.

وهما اسمان في موضع، وحرفا جرّ في موضع، ويتعيّن اسميتهما إن وليهما مرفوع أو جملة تامة، وتتعيّن حرفيتهما إن وليهما مجرور، ويجوز الأمران قبل أنّ وصلتها. وإذا وَليهما جملة تامة فهما عند سيبويه ظرفان مضافان إليها فإنه قال في باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء: ومما يضاف أيضا (إلى) الفعل (مذ) في قولهم ما رأيته مذ كان عندي ومنذ جاءني: وقال ابن خروف في الشرح: وأما مذ ومنذ فمن الظروف. وهما مضافان إلى الفعل عنده لا على حذف مضاف، ولولا ذلك لم يدخلهما في الباب. وقول السيرافي موافق لقوله، فمن زعم خلاف ذلك فقد خالف سيبويه بما لا دليل عليه.

وزعم الأكثرون أن الواقع منهما قبل المرفوع مبتدأ بمعنى أول المدة في مثل لم أره

ص: 216

مذ الجمعة، وبمعنى جميعها في مثل لم أره مذ يومان، وما بعده خبر، والصحيح عندي أنهما ظرفان مضافان إلى جملة حذف صدرها، والتقدير: مذ كان يوم الجمعة ومذ كان يومان، وهو قول المحققين من الكوفيين. وإنما اخترته لأن فيه إجراء مذ ومنذ في الاسمية على طريقة واحدة مع صحة المعنى فهو أولَى من اختلاف الاستعمال، وفيه تخلص من ابتداء نكرة بلا مسوغ إن ادُّعي التنكير، ومن تعريف غير معتاد إن ادُّعِي التعريف. وفيه أيضا تخلّص من جعل جملتين في حكم جملة واحدة من غير رابط ظاهر ولا مقدر.

ويعامل المصدر المعين زمانه بعد مذ ومنذ معاملة الزمان المعين في الرفع والجر فيقال ما رأيته مذ قدوم زيد، والأصل مذ زمن قدوم زيد، ومنذ زمان قدوم زيد، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، كما فعل في غير هذا المكان. وأجاز ابن كيسان أن يقال منذ جئت زيد غائب، كما يقال حين جئت زيد غائب. وقد يجران المستفهم به عن الوقت نحو مذ متى رأيته ومذ كم فقدته؟ وقد تقع أنّ وصلتها بعد مذ فيحكم لموضعها بما حكم للفظ المصدر لأنها مؤولة بمصدر. ومثال الإضافة إلى جملة مصرّح بجزأيها قول الشاعر:

ما زال مذ عقدتْ يداه إزارَه

فسَما فأدركَ خمْسَة الأشْبار

يُدْني خوافِقَ من خوافق تَلْتقِي

في ظِلّ مُعْتَرَكِ العَجاجِ مُثارِ

ومنه قول الآخر في منذ:

قالت أمامةُ ما لجِسْمك شاحِبا

منذُ ابتُذلْتَ ومثل مالك يَنْفَعُ

ومثله قول الآخر في الجملة الاسمية:

ص: 217

وما زلْتُ مَحمولا عليَّ ضغينةٌ

ومُضْطلِعَ الأضْغانِ مُذ أنا يافِعُ

وروى الكوفيون مذ ومِنذ بكسر الميم وجعلوا ذلك حجة على تركيبها من "مِنْ" و"ذو" الطائية؛ ولا حجة فيه لأن الأصل عدم التركيب. وإذا ولى مذ ساكن ضمت ذالها كقولك لم أر فلانا مذُ اليوم لأن أصلها منذ، محرك لالتقاء الساكنين ومضموم للإتباع، فلما حذفت النون سكنت الذال لئلا يلتقي في الوصل ساكنان، وكان أولى الحركات بها الضمة لأنها حركتها قبل أن تحذف النون. وبعض العرب يقولون مذِ اليوم بالكسر على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدم الكلام على ذلك.

ص: ومنها الآن لوقت حضر جميعه أو بعضه، وظرفيته غالبة لا لازمة؛ وبني لتضمنها معنى الإشارة أو لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد. وقد يعرب على رأي. وليس منقولا من فعل خلافا للفراء".

ش: مسمَّى الآن الوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كقوله تعالى: (فمَن يَسْتَمِعْ الآن يجدْ له شهابا رَصَدا) وكقوله تعالى: (الآن خفَّفَ اللهُ عنكم) وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقوا فيُوشِكُ الرجلُ أنْ يَمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بالأمس لأخذتها، وأما الآن فلا حاجة لي بها" ومثله قول علي رضي الله عنه "كان ذلك والإسلام قُلٌّ، فأما الآن فقد اتّسع نِطاقُ الإسلام فامرؤ وما اختار" ومثله قول الشاعر:

ص: 218

فلو أنها إحْدى يَدِيَّ رُزئتُها

ولكن يدِي ماتتْ على إثرها يَدِي

وليست ظرفيته بلازمة، بل وقوعه ظرفا أكثر من وقوعه غير ظرف، كقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع وجْبَة:"هذا حجر قد رُمِيَ به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوى في النار. الآن حين انتهى إلى قعرها". فالآن هنا في موضع رفع بالابتداء وحين انتهى خبره. وهو مبني لإضافته إلى جملة مصدرة بفعل ماض. ومن وقوع الآن غير ظرف قول الشاعر:

أإلى الآنَ لا يَبين ارعوا

ؤكَ بعد المشيب عن ذا التصابي

وبُني لتضمنه معنى الإشارة، فإن معنى قولك أفعل الآن: أفعل في هذا الوقت.

وجائز أن يقال بُني لشبهه بالحروف في ملازمة لفظ واحد، فإنه لا يثنى ولا يجمع ولا يُصغّر، بخلاف حين ووقت وزمان ومدة. وقيل بُني لتضمن معنى حَرف التعريف والحرف الموجود غير معتدّ به.

وضعف هذا القول بيّن، لأن تضمين اسم معنى اختصارٌ ينافي زيادة ما لا يعتدّ به، هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه?

وجعل الزمخشري سبب بنائه وقوعه في أول أحواله بالألف واللام، لأن حق الاسم في أول أحواله التجرد منهما ثم يعرض تعريفه فيلحقانه كقولك مررت برجل فأكرمني الرجلُ، فلما وقع الآن في أول أحواله بالألف واللام خالف الأسماء وأشبه الحروف. ولو كان هذا سبب بنائه لبني الجماء الغفير واللات ونحوهما مما وقع في أول أحواله بالألف واللام. ولو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحروف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيرهن وعدم ذلك مجمع عليه فوجب اطراح ما أفضى إليه.

ص: 219

وزعم بعض النحويين أن بعض العرب يُعرب الآن، واحتجّ على ذلك بقول الشاعر:

كأنهما مِلآنِ لم يَتَغَيَّرا

وقد مرّ للدارَيْنِ من بعدنا عصر

أراد من الآن. فحذف نون من لالتقاء الساكنين كقول الآخر:

ليس بين الحيّ والميْت سَبَبْ

إنّما للحيّ ملْمَيْت النَصبْ

وكسر نون الآن لدخول مِن عليها، فعلم أن الآن عند هذا الشاعر معربة. قلت: وفي الاستدلال بهذا ضعف لاحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء، ويكون في بناء الآن لغتان بالفتح والكسر كما في "شَتّانَ" إلا أن الفتح أكثر وأشهر. وزعم الفراء أن الآن منقول من آنَ بمعنى حانَ ثم استصحب فيه الفتحة التي كانت فيه إذ كان فعلا، وجعله نظير:"أعييتني مِن شَبَّ إلى دَبَّ" ونظير قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنهاكم عن قيل وقال" ولو كان الآن مثل هذه لم تدخل عليه الألف واللام كما لا يدخلان عليهما، ولاشتهر فيه الإعراب والبناء كما اشتهرا فيهما، فإنه يقال "من شُبٍّ إلى دُبٍّ"، وعن قيلٍ وقال، كما قيل من شبَّ إلى دبَّ، وعن قيلَ وقالَ.

ص: ومنها قط للوقت الماضي عموما ويقابله عَوْضُ ويختصّان بالنفي. وربما

ص: 220

استُغني قط دونه لفظا ومعنى، أو لفظا لا معنى. وقد ترد عوضُ للمضيّ، وقد تضاف إلى العائضَيْن أو يضاف إليه فيعرب. ويقال قَطُّ وقُطّ وقَطٍ وقَطْ. وعوضُ وعوِضَ.

ش: إذا قصد عموم وقت الفعل الماضي المنفي جيء بعد نفي الفعل بقَطُ أو قطٍ أو قطْن وإن قصد ذلك في الاستقبال جيء بعد نفي الفعل بعَوْضُ أو عوْضِ أو عوضَ، قال الشاعر:

يَرضى الخليطُ ويَرضى الجارُ منزلَه

ولا يُرى عَوْضُ صَلْدا يَرصدُ العِلَلا

وقد يضاف أو يضاف إليه فيعرب بإضافته كقولهم: لا أفعل ذلك "عوض العائضين" أي دهر الداهرين، والإضافة إليه كقول الشاعر:

ولولا نبلُ عوْضٍ في

خُظُبّايَ فأَوْصالِي

وقد تقع عوض موقع قط كقول الشاعر:

فلم أرَ عاما عوضُ أكثرَ هالِكا

ووجهَ غُلام يُشْتَرى وغُلامَهْ

وقد يقع قط مع فعل غير منفي لفظا ولا معنى كقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: "قَصَرنا بالصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنّا قط وآمنه". وقد يخلو من

ص: 221

النفي لفظا لا معنى، وأشير بذلك إلى ما في الحديث أن أبيّا قال: كأيّن تقرأ سورة الأحزاب؟ فقال عبد الله: ثلاثا وسبعين. فقال: "قط" أي ما كانت كذا قط.

وبني قطّ لتضمن معنى في ومن الاستغراقية على سبيل اللزوم، أو لشبه الحروف في الافتقار إلى جملة، وعدم الصلاحية لأن يضاف أو يضاف إليه، أو يسند أو يسند إليه. ويُبنى في التضعيف على حركة لئلا يلتقي ساكنان، وكانت ضمة حملا على قبلُ المنويّ الإضافة، أو لأنه لو فُتح لتوهّم النصب بمقتضى الظرفية، ولو كُسر لتوهم الجرّ بمن المضمن معناها، أو كان يعتذر عن زوال التنوين بكثرة الاستعمال.

ومَن بناه على الكسر راعى أصل التقاء الساكنين ولم يلتفت إلى توهم الجرّ، لأن الكسرة لا تكون علامة جرّ إلا مع تنوين أو إضافة أو ألف ولام. ولا واحد منها في قط فلا إيهام.

ومن قال قَطُ بالضم والتخفيف، فمخفّف ناوٍ للتضعيف فلذلك استصحب ما كان معه من الحركة. ومَن قال قَطْ بالتسكين خفّف ولم يَنْو التضعيف فعامله معاملة منذُ إذا قيل فيه مُذْ.

وبُني "عَوضُ" لأنه مثل "قط" فيما نسب إليه مما سوى الصلاحية لأن يضاف ويضاف إليه، وبني على حركة لئلا يلتقي ساكنان. ومن ضم فحملا على بَعْدُ، أو بتحريك آخره بحركة تجانس ما قبله.

ومن فتح كره اجتماع مُستثقلَيْن: الضمة والواو. ومَن كسرَ راعى أصل التقاء الساكنين. وأعرب حين يضاف ويضاف إليه لأنه عومل بما لم يعامل مُقابِله مما هو خاصّ بالأسماء فاستحق مزيّة عليه.

ص: ومنها أمسِ مبنيا على الكسر بلا استثناء عند الحجازيين، وباستثناء المرفوع

ص: 222

ممنوع الصرف عند التميميين، ومنهم من يجعل كالمرفوع غيره. وليس بناؤه على الفتح لغة خلافا للزجاجيّ فإن نكر أو كسر أو صغر أو أضيف أو قارن الألف واللام أعرب باتفاق، وربما بني المقارن لهما.

ش: إذا قصد بأمس اليوم الذي وليه اليوم الذي أنت فيه بناه الحجازيون في موضع الرفع والنصب والجر على الكسر، لتضمنه معنى الألف واللام، ولشبهه بضمير الغائب في التعريف بغير أداة ظاهرة، وكون حضور مسمّاه مانعا من إطلاق لفظه عليه ولشبهه بغاقِ وحَوْبِ في الانفراد بمادة مع التوافق في الوزن ? كذا- ووافق فيه الحجازيين أكثر التميميين في موضعيْ النصب والجر، ويختلفون في موضع الرفع. ومن لغة الحجازيين قول الشاعر:

اليومَ أعلمُ ما يَجيء به

ومضَى بفصْل قضائِه أمسِ

ومن لغة بني تميم قول الآخر:

اعتصِمْ بالرجاءِ إنْ عَنَّ يأسُ

وتناسَ الذي تضمَّنَ أمسُ

ومن بني تميم من يُسوّي المجرور والمنصوب بالمرفوع في الإعراب ومنع الصرف، وعليه قول الراجز:

لقد رأيتُ عجَبا مذ أمسا

عجائِزا مثلَ السعالِي خمْسا

وزعم أبو القاسم الزجاجي أن من العرب من يبني أمس على الفتح واستشهد بهذا الرجز، ومدّعاه غير صحيح، لامتناع الفتح في موضع الرفع. ولأن سيبويه

ص: 223

استشهد بالرجز على أن الفتحة في "مذ أمسَ" فتحة إعراب، وأبو القاسم لم يأخذ البيت من غير كتاب سيبويه، فقد غلط فيما ذهب إليه واستحق ألّا يُعوَّل عليه.

وإذا نكر أمس أو أضيف أو قارن الألف واللام أعرب بلا خلاف، لزوال سبب البناء، أعني تضمّن معنى حرف التعريف وشبه الضمير من الوجه المذكور. ومن العرب من يستصحب البناء مع مقارنة الألف واللام كقول الشاعر:

وإنّي وقفتُ اليومَ والأمسِ قبْله

ببابك حتى كادت الشمسُ تَغْرُبُ

فكسر السين وهو في موضع نصب، والوجه فيه أن يكون زاد الألف واللام بغير تعريف واستصحب معنى المعرفة واستدام البناء، أو تكون هي المعرفة وقد زال البناء لزوال التضمن ومشابهة ضمير الغائب فتكون الكسرة كسرة إعراب على تقدير باء حذفت كما حذفت مِن وبقي عملها في رواية من روى:

ألا رجلٍ جَزاهُ الله خيرا

وكما حذفت إلى وبقي عمَلها في قول الآخر:

إذا قيل أيُّ الناسِ شرُّ عصابة

أشارتْ كُلَيبٍ بالأكُفّ الأصابِعُ

فصل: ص: الصالح للظرفية القياسية من أسماء الأمكنة ما دلَّ على مقدار أو مسمّى إضافيّ محض أو جارٍ باطراد مجرى ما هو كذلك. فإن جيء بغير ذلك لظرفية لازمت غالبا لفظ في، أو ما في معناها ما لم يكن كمقعد في الاشتقاق من اسم الواقع فيه فيلحق بالظرف قياسا إن عمل فيه أصله أو مشارك له في الفرعية، وسماعا إن دلّ على قرب أو بعد نحو: هو منّي منزلة الشغاف، ومناط الثريا.

ص: 224

ش: قد تقدم الإعلام بأن المسمى ظرفا في النحو هو ما استغى فيه بمعنى في عن لفظها استغناء مطردا من اسم زمان أو مكان، وأن ذلك واقع من أسماء الزمان كلها مختصها ومبهمها. فلما استوفيت الكلام على أسماء الأزمنة أخذت في أسماء الأمكنة وبيان ما يصلح منها للظرفية القياسية وما لا يصلح، فبينت أن الصالح لها أربعة أنواع:

أحدها ما دل على مقدار كميل وفرسخ وبريد. والثاني ما دل على مسمّى إضافيّ محض، أي على مسمّى لا تعرفه حقيقة بنفسه، بل بما يضاف إليه كمكان وناحية وأمام ووراء وكجنابَتَيْ في قول العرب: هما خطّان جنابَتَيْ أنفها. يعنون خطين اكتنفا أنف الظبية، وكجنبَي في قول الشاعر:

نحنُ الفوارسُ يومَ الحنْو ضاحية

جَنْبَيْ فُطَيْمَةَ لا مِيلٌ ولا عُزُلُ

وكأقطار في قولهم: قومك أقطارَ البلاد، وكمسالَيْه في قول الشاعر:

إذا ما نَعَشْناه على الرَّحْل يَنثني

مُساليه عنه من وراء ومقدمِ

قال سيبويه: مسالاه: عطفاه، فصار كجنبَي فُطيمة. والثالث ما جرى باطراد مجرى ما هو كذلك، وذلك صفة المكان الغالبة نحوهم قريبا منك، وشرقِيَّ المسجد، قال الشاعر:

هَبَّتْ جَنوبا فذِكْرى ما ذكرتُكم

عند الصفاةِ التي شَرْقيَّ حوْرانا

ومن الجاري مجرى ما هو كذلك مصادر قامت مقام مكان مضاف إليها تقديرا

ص: 225

نحو قولهم هو قرب الدار ووزنَ الجبل. أي مكان مسامتته. والمراد هنا بالاطراد ألّا تختصّ ظرفيّته بعامل ما، كاختصاص ظرفية المشتق من اسم الواقع فيه.

الرابع ما دل على محلّ الحَدث المشتقّ هو من اسمه كمَقْعَد ومَرْقَعد ومصلّى ومعتكف، ولا يعمل في هذا النوع إلّا أصله كقولك قُعودي مَقْعَدَ زيد، أو مشارك له في الفرعية كقولك قعدت مقعد زيد، فلو قلت اعتكفت مقعد زيد أو قعدت معتكفك لم يَجُز، لأن العامل ليس أصلا للمذكور كقعود بالنسبة إلى مقعَد، ولا مشاركا له في الفرعية كاعتكفت بالنسبة إلى معتكَف. ولذلك عُدّ من الشواذّ هو مني مقعدَ القابلة ومعقد الإزار ومناط الثريّا ونحو ذلك، لأن العامل ليس أصلا للفعل ولا شريكا له في الرجوع إلى أصل واحد.

وأما الأول والثاني والثالث فظرفيتها غير مقيدة بعامل دون عامل، فيقال سرت ميلا، وعدوت فرسخا وسرت بريدا وجلست يمين الكعبة وأمام زيد وعند خالد ومع محمد وتلقاء بِشر ونحو ذلك. ومن العلماء من حكم باطراد ما دل على بعد أو قُرْب من نحو هو منّي منزلة الشغاف، ونحو قول الشاعر:

وإنّ بني حَرْب كما قد عَلمتُم

مناطَ الثُّريّا قد تعلّتْ نجومُها

على تقدير مكان موصوف بمثل مضاف إلى شغاف ومناط، ثم فُعل به ما فُعل بضربته ضَرْبَ الأمير اللصَّ، من حذف الموصوف وصفته وإقامة الثالث مقامهما، وهذا تقدير لائق ولكن القياس على نوعه لا يتّجه لقلّة نظائره، ومغايرة لفظ باقيه للفظ محذوفه، بخلاف ضربته ضرب الأمير اللص، فإن نظائره كثيرة ولفظ باقيه مماثل للفظ محذوفه.

ولكون هذا النوع مقصُورا على السماع قال سيبويه: وليس يجوز هذا في كل شيء، لو قلت هو منّي مجلسك ومتّكأ زيد ومَربط الفرس لم يجز" وإلى المسموع

ص: 226

من هذا النوع أشرت بقولي "وسماعا إن دلّ على قُرْب أو بُعْد نحو هو منّي بمنزلة الشغاف". وقيدت الإضافي بمحض احترازا من الإضافي الذي يدلّ بنفسه على معنى لا يصلح لكل مكان نحو جَوْف وباطِن وظاهر وداخل وخارج فإن هذه وما أشبهها من أسماء المكان المختصة إذا قصد بشيء منها معنى الظرفية لازَمَتْ لفظ في أو ما في معناها، إلّا أنْ يرد شيء بخلاف ذلك فيُحفظ كقوله تعالى:(لأقْعُدَنَّ لهم صراطَك المستقيم) و (اقعُدوا لهم كلَّ مَرْصَدٍ) وكقول العرب: "رجع فلانٌ أدراجَه" أي في الطريق الذي جاء فيه. وهم دَرج السَّيُول أي في حجارتها. قال الشاعر في المعنى الأول:

لمّا دعا الدَّعْوةَ الأولى فأسْمَعني

أخذتُ بُرْدَيَّ واسْتَمررْتُ أدراجي

وقال في المعنى الثاني:

أنَصْبٌ للمنيّة تَعْتَريهم

رجالي أم همُ دَرَجَ السُّيُّولِ

فهذا مما حفظ في الاختيار ولا يقاس عليه. وأما قوله:

لدْنٌ بهزّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ

فيه كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ

وقوله:

فَلَأبغَينكم قَنًا وعُوارِضا

ولأُقْبِلَنَّ الخيلَ لابَةَ ضَرْغَدِ

ص: 227

وقوله: قِلْنَ عُسْفانَ ثم رُحْن سِراعًا.

وقنا وعوارض وعسفان أمكنة مخصوصة.

وزعم قوم أن الطريق من الظروف القياسية، لأن لفظه صادِق على كل مكان، فإن كل مكان صالح أن يجعل طريقا، ولذلك عبر عن القفر الذي يعسل فيه الثعلب بطريق. وهذا الاعتبار فاسد لأن الطريق اسم لمكان مرور وذهاب ولا يطلق على المكان طريق لمجرد صلاحيته أن يكون طريقا كما لا يطلق عليه بيت لمجرد صلاحيته أن يكون بيتا، فالطريق إذن مكان مختص، كما أن البيت مختص. وممن قال إن الطريق حقيق بالظرفية القياسية ابن الطراوة، وزعم أنه يقال ذهبت طريقي، ومُرُّوا طرقاتكم، وقال أبو علي الشلوبين والردُّ عليه تكذيبه. قلت: ويناسب قول ابن الطراوة في الطريق حكاية السيرافي عن بعض النحويين أنه قال إنما قالت العرب ذهبت الشام؛ لأن الشام بمعنى اليسار فإنه يقال شامه إذا قابل يساره. وأجاز هذا القائل أن يقال ذهبت اليمن لأن اليمن بمعنى اليمين. ولم يُجز أن يقال في عُمان ومكة لأنه ليس فيهما ذلك المعنى. ويلزم هذا أن يجيز ذلك في العالية لأن فيها معنى فوق. هذا معنى قول السيرافي.

قلت: ولو كان قولهم ذهبت الشام لكونه بمعنى يسار لكان غير ذهبت أولى بذلك من ذهبت فكان يقال أقمت الشام كما يقال أقمت يسار الكعبة، ففي عدم معاملة غير ذهبت بهذه المعاملة دلالة على أن باعثهم على ذلك إنما هو كثرة الاستعمال، ولذلك شبهه سيبويه بدخلت البيت، وقال الفراء: العرب تعدّي ذهب وانطلق إلى جميع البلدان فيقال ذهبت الكوفة وانطلقت الغَوْرَ فعلى قول الفراء لا يختص ذهب بنصب الشام بل ينصب به كل بلد وكذا انطلق، ولا علّة لذلك إلا كثرة الاستعمال

ص: 228

كما فعل بدخل مع جميع الأمكنة المختصة، وفي فعل هذا بانطلق دلالة واضحة على أن الأصل في هذه الأفعال الثلاثة التعدي بحرف جر، إذ لا يوجد الفعل متعديا بنفسه.

فصل: ص: من الظروف المكانية كثير التصرف كمكان لا بمعنى بدل، ويمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال. ومتوسّط التصرّف كغيْر فوق وتحت من أسماء الجهات وبَيْن مجرّدا.

ونادر التصرف كحيث ووسْط ودُونَ لا بمعنى رديء. وعادم التصرف كفوق وتحت وعند ولدُن ومع وبَيْن بَيْنَ دون إضافة، وحوال وحول وحوالَي وحوليّ وأحوال وهُنا وأخواته. وبَدَل لا بمعنى بديل وما رادفه من مكان.

فحيث مبنية على الضم وقد تفتح أو تكسر، وقد تخلف ياءها واو، وإعرابها لغة فقعسية، وندرت إضافتها إلى مفرد، وعدم إضافتها لفظا أندر. وقد يراد بها الحين عند الأخفش.

وعند للحضور أو القرب حسّا أو معنى، وربما فتحت عينها أو ضمت. ولدن لأول غاية زمان أو مكان، وقلّما تعدم من. وقد يقال لدُنْ ولَدَن ولدنُ ولدْنِ ولُدْنِ ولُدْ ولد. (ولدًا ولُدُن) وإعراب اللغة الأولى لغة قيسية، وتجبر المنقوصة مضافة إلى مضمر ويجبر ما يليها بالإضافة لفظا إن كان مفردا، وتقديرا إن كان جملة. وإن كان "غدوة" نصب أيضا، وقد يُرفع، وليست لدى بمعناها بل بمعنى عند على الأصح: وتعاملَ ألفها معاملة ألف إلى وعلى فتسلم مع الظاهر وتقلب ياء مع المضمر غالبا. و"مع" للصحبة اللائقة بالمذكور وتسكينها قبل حركة وكسرها قبل سكون لغة رَبَعيّة، واسميتها حينئذ باقية على الأصح.

وتفرد فتساوى جميعا معنى وتبنى (لفظا) وفاقا ليونس والأخفش، وغير

ص: 229

حاليتها حينئذ قليل.

ش: كما انقسم ظرف الزمان إلى متصرف وغير متصرف انقسم ظرف المكان إليهما، فمن المتصرف ما كثر وقوعه ظرفا وغير ظرف كمكان. فإنك تقول إذا نويت ظرفيته اجلس مكانك. وتقول إذا لم تنو ظرفيته مكانك لائق بك. ومثل "مكان" في التصرف بكثرة "يمين وشمال وذات اليمين وذات الشمال" يقال في الظرفية: جلست يمينه وشماله وذهبت به ذات اليمين وذات الشمال. قال الله تعالى (وترى الشمسَ إذا طَلَعَتْ تزاورُ عن كهفِهم ذات اليمين وإذا غربتْ تقْرِضُهم ذات الشمال" ويقال في المجرد من الظرفية يمين الطريق أسهل وشماله أقرب، ودارُك ذات اليمين ومنازلهم ذات الشمال، قال الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيدٌ).

ومن المتصرف ما يكثر مجرده دون كثرة ظرفيته كأمام وقدام ووراء وخلف وأسفل، وهو المعنى بقولي:"متوسط التصرف" أي متوسط بين الكثرة والقلة، يقال في الظرفية كُنْ أمامَهم وقُدّامهم لا وراءَهم ولا خَلْفَهم ولا أسفلَ منهم. ويقال في التجرد من الظرفية أمامهم آمَنُ من ورائِهم، ويقال هم خَلْفٌ وأنت قُدّامٌ. وقال الشاعر:

فغَدَتْ كِلا الفَرجَين تحسِبُ أنه

مولى المخافةِ خلْفُها وأمامُها

وقرأ بعض القرّاء (والرّكبُ أسفلُ منكم) بالرفع. ويساوي أماما وما ذكره بعده "بَيْن" يقال في الظرفية جلست بين زيد وعمرو، قال الله تعالى

ص: 230

(لِيَحْكُمَ بين الناسِ فيما اختلفوا فيه) و (أنْ احكُم بينهم بما أنزل اللهُ) و (جعل بينكم مودّةً ورحمةً) و (ياليْتَ بيني وبينك بُعْدَ المشرقين). ويقال في التجرد من الظرفية هو بعيدُ بين المنكبين نقيّ بين الحاجبين. ومنه قول الشاعر:

يُديرونَني عن سالِم وأُديرُهم

وجِلْدَةُ بين العين والأنف سالمُ

ومنه قوله تعالى: (هذا فِراقُ بيني وبينك) وقوله تعالى: (لقدْ تَقَطَّعَ بينِكم) في قراءة غير نافع وحفص والكسائي، ومنه قوله تعالى:(إنما اتّخذتم من دون الله أوثانا مودّةٌ بينِكم) و (مودّةَ بينكم) قرأ الأولى أبو عمرو وابن كثير والكسائي، وقرأ الثانية حمزة وحفص، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر (مَوَدَّةً بينَكم). ومن تجرد بين عن الظرفية قول الشاعر:

لم يَتْرك النبل المخالف بينها

أخًا لأخ يُرْجى ومأثورة الهِنْد

بينها في موضع رفع بإسناد المخالف إليه، إلا أنه بني لإضافته إلى مبنيّ مع إبهامه.

ص: 231

وقد يكون بين ظرف زمان كما يكون ظرف مكان، فمن ذلك حديث ساعة الجمعة "وهي ما بين خروج الإمام وانقضاء الصلاة". ومن الظروف المكانية ما يندر تجرده من الظرفية، فمن ذلك "حَيْثُ" فكونه ظرفا هو الشائع كقوله تعالى (وامْضُوا حيثُ تُؤْمَرونَ) وكونه مجردا عن الظرفية قول زهير:

فشَدَّ ولم يَنْظُر بُيوتا كثيرةً

لدى حيثُ ألقتْ رحلها أمُّ قَشْعَمِ

وكقول الآخر:

إنَّ حيثُ استقلَّ مَن أنتَ راعيـ

ـهِ حمًى فيه عِزَّةٌ وأمانُ

وهو مبني على الضم في أكثر الكلام، وقد يفتح وقد يكسر، وقد يقال حوث، وسبب بنائه لزوم اقترانه إلى جملة يضاف إليها، وندرت إضافتها إلى مفرد كقول الراجز:

أما ترى حيثُ سُهَيْلٍ طالِعا

وكقول الآخر:

ونَطْعَنُهم تحتَ الحُبا بعد ضرْبَهم

ببيض المواضِي حيثُ ليّ العمائِمِ

وأندر من إضافته إلى مفرد إضافته إلى جملة مقدّرة، كقول الشاعر:

ص: 232

إذا رَيْدةٌ من حيثُ ما نفحَتْ له

أتاه برَيّاها خليلٌ يُواصلُهْ

أراد إذا ريدة نفحت من حيث ما هبّتْ له أتاه بريّاها خليل، فحذف هبتْ للعلم به وجعل ما عوضا كما جعل التنوين في حينئذ عوضا.

وروى إعراب حيث عن فقعس فيقولون جلست حيثَ كنت وجئت من حيثِ جئت. وأجاز الأخفش استعمالها بمعنى حين، وحمل على ذلك قول الشاعر:

لِلفتى عقلٌ يعيشُ به

حيثُ تَهْدِي ساقَه قَدَمُهْ

ولا حجة فيه لإمكان إرادة المكان.

ومثل حيث في ندور التجرد عن الظرفية وسْط بالسكون كقولك جلست وسْط القوم. فهذا كثير، أعني وقوعه ظرفا. وأما تجرده عن الظرفية فقليل لا يكاد يُعرَفِ. ومنه قول الشاعر يصف سحابا:

وَسْطُه كاليَراع أو سُرُج المَجْـ

ـدَلِ طوْرًا يَخْبُو وطورًا يُنيرُ

فوسطه مبتدأ خبره كاليراع. ويروى بالنصب على الظرفية ويحكم بأن وسْطه خبر مقدم، والكاف اسم في موضع رفع بالابتداء.

ومثل حيث في ندور التجرد عن الظرفية "دونَ" نحو قولك جلست دونَ موضع كذا، وزيدٌ دونَ عمرو قدْرا. قال سيبويه:

وأما دونك فإنه لا يرفع أبدا، وإن قلت هو دونكَ في الشرف، لأن هذا إنما هو مثل يعني أنه حين أريد به الانحطاط من علو الشرف تلازمه الظرفية لأن

ص: 233

استعماله بذلك المعنى مثل استعماله في المكان الأدنى، وقد جاء والمقصود به المكان خاليا عن الظرفية، وذلك نادر كقول الشاعر:

ألمُ تَريا أني حميتُ حَقيقتي

وباشرْتُ حَدَّ الموتِ والموتُ دونُها

بالرفع.

وظاهر كلام الأخفش يقتضي اطراد ذلك، فإنه حَكَم بأن "دونَ" من قوله تعالى (ومنّا دون ذلك) مبتدأ، ولكنه بُني لإضافته إلى مبنيّ. وغيره جعل التقدير: ومنّا ما دون ذلك، وقول الأخفش أولى بالصواب.

وحكى سيبويه أنه يقال هذا ثوب دونٌ إذا كان رديئا. فمن هذا احترزت بقولي "ودون لا بمعنى رديء".

ومن الظروف العادمة التصرف فوق وتحت، نص على ذلك الأخفش، فقال: اعلم أن العرب تقول فوقَك رأسُك فينصبون الفَوْق، لأنهم لم يستعملوه إلا ظرفا. ثم قال: وتقول تَحْتك رِجْلاك لا يختلفون في نصب التَّحْت. هذا نصه. وقد جاء جر فوق بعلى في قول أبي صخر الهذلي:

فأقْسمُ بالله الذي اهتزَّ عرشُه

على فوق سَبْع لا أعلّمه بُطْلا

وهذا نادر.

ومن الظروف العادمة التصرف "عند" ولا تستعمل إلا مضافة، ولا يفارقها النصب على الظرفية إلا مجرورا بمن، وهي لبيانِ كون مظروفها حاضرا

ص: 234

حِسّا أو معنى، وقد اجتمع الحضور الحسّي والمعنوي في قوله تعالى:(قال الذي عندَه علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبلَ أنْ يَرتدَّ إليكَ طَرْفُكَ * فلمّا رآه مُسْتقرّا عنده قال هذا من فضل ربّي). ومثال القرب الحسّيّ "ولقد رآه نزلةً أخرى عند سِدْرة المنتهى عندها جَنَّةُ المأوى". ومثال القرب المعنوي: (وإنَّهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) و (رَبّ ابن لي عندك بيتا في الجنّة) ومن القرب المعنوي قول الرجل عندي مائة، يريد أنه مالكها وإن كان موضعها بعيدا ومنه قوله تعالى:(ما عندَكم ينفَدُ). وقد يكون مظروفها معنى فيراد بها الزمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند الصَّدمةِ الأولى" وكسر عينها هو المشهور، ومن العرب من يفتحها، ومنهم مَن يضمّها.

ويُرادِفُها "لدَى" في قول سيبويه، وهو الصحيح لا قول مَن زعم أنها بمعنى لَدن لأن لدُنْ مخصوصة بما هو مبتدأ غاية، بخلاف لدى فإنها يراد بها ما يراد بعند كقوله تعالى: (وما كنتَ لديهم إذ يُلْقون أقلامهم أيُّهم

ص: 235

يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) فهذا موضع صالح لعند وللدى وغير صالح للدن. ولدُنْ لا تَصلح من مواضعها إلا فيما هو مبتدأ غاية. ولذلك اجتمعت عند ولدُن في قوله تعالى: (آتيناهُ رحمة من عندنا وعلَّمناه من لدُنّا عِلْما).

وبنيت "لدُن"(في أكثر اللغات) لشبهها بالحروف في لزوم استعمال واحد، وامتناع الإخبار بها وعنها بخلاف عند ولدى، فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا، فإنهما يكونان لابتداء الغاية ولغير ذلك، ويستعملان فضلة وعمدة، فاستعمالهما فضلة كثير، واستعمالهما عُمْدة كقوله تعالى (وعنده مفاتِحُ الغيب) و (عنده علم الساعة) و (ولدينا كتابٌ ينطِقُ بالحقِّ) و (ولدَيْنا مزيدٌ).

ولكون موضع لدُن صالحا لعِنْد شبّهتها قيسُ بها فأعربتها، وبلغتهم قراءة أبي بكر عن عاصم:"ليُنْذرَ بأسا شديدا من لدُنْه" إلا أنه سكَّن النون

ص: 236

وأشمّها ضما "من لدُنِه" ويقال في النصب على هذه اللغة "لَدْنَه ولَدُنَهْ، ويمكن أن يكون من هذه اللغة قول الراجز:

تنتهضُ الرِعدةُ في ظُهَيْرى

من لدُنِ الظُهْرِ إلى العصَيْر

قال أبو الفتح ابن جني: استعمال لدن دون "من" قليل. قلت: ولذلك لم تَخْلُ في القرآن من "مِن" وإلى ذلك أشرت بقولي "وقلّما تَعْدم مِن".

وفيها على غير اللغة القيسية تسع لغات: سكون النون مع ضم الدال أو فتحها أو كسرها. وكسر النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها، وفتح النون مع سكون الدال وضم اللام، وحذف النون مع سكون الدال وفتح اللام أو ضمها. وحذف النون مع ضم الدال وفتح اللام.

قال سيبويه: "وأما لدُ فهي لدُنْ محذوفة النون كما حذفوا من يكن، ألا ترى أنك إذا أضفته إلى مضمر رددته إلى أصله، تقول مِن لدُنه ومن لدُني. وإلى هذا أشرت بقولي "وتجبر المنقوصة مضافة إلى مضمر". ثم بينت أنها تلازم الإضافة فتجر ما يليها لفظا إن كان مفردا أو تقديرا إن كان جملة كقول الشاعر:

صَرِيعُ غَوانٍ راقَهُنَّ ورُقْنَه

لَدُنْ شَبَّ حتى شابَ سُودُ الذوائب

ص: 237

وإن كان ما وليها غُدْوة جاز الجر على القياس، والنصب على التمييز، أو على إضمار كان مضمَرا فيها اسمها كما قال سيبويه في قول الراجز:

من لدُ شَوْلًا فإلى إتْلائِها

وحكى الكوفيون رفع غدوة على تقدير لدن كان غدوة، وكل ذلك منبّه عليه. ومثال نصب "غُدْوة" قول الشاعر:

وما زالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الكلب منهم

لدُنْ غُدوةً حتى دَنتْ لغُروب

ثم بيّنت أن "لدى" لا ترادفَها، بل ترادف عند، صرّح بذلك سيبويه. ثم بيّنت أن ألفَ لدى تقلب ياء مع المضمر وتسلم مع الظاهر كما يفعل بألف إلى وعلى، وقرنت بذلك "غالبا" ليعلم أن بعض العرب يستغني عن هذا القَلْب مع المضمر كما يستغني عنه الجميع مع الظاهر، ومن ذلك قول الشاعر:

إلاكُم يا خُناعَةُ لا إلانا

عَزا الناسُ الضراعةَ والهوانا

فلو بَرّتْ عقولُكم نُصِرْتم

فإن دواءَ دائكم لدَانا

وذلكم إذا واثقتمونا

على قصْر اعتمادكم عَلانا

أراد إليكم لا إلينا، ولدينا وعلينا.

ومن الظروف العادمة التصرف "مَعَ" وهي اسم لمكان الاصطحاب أو وقته على حسب ما يليق بالمصاحب. ويدل على اسميته دخول مِن عليه في

ص: 238

قولهم ذهب من معه، حكاه سيبويه، ومنه قراءة بعض القراء (هذا ذِكْرٌ من معي وذكرٌ مِن قبلي). وكان حقه أن يبنى لشبهه بالحروف في الجمود المحض والوضع الناقص، إذ هو على حرفين بلا ثالث محقق العود. والمراد بالجمود المحض ملازمة وجه واحد من الاستعمال، إلا أنه أعرب في أكثر اللغات لمشابهته عند في وقوعه خبرا وصفة وحالا وصلة، ودالّا على حضور وعلى قرب، فالحضور كـ "نجِني ومَن مَعِيَ" والقرب (فإن مع العُسْرِ يُسْرا) وكقول الراجز: إنَّ مع اليومِ أخاهُ غَدْوا

وهو فائقه بتمام الوضع، فقد فاق هو بوجه من التمكن وهو الإفراد وتضمن معنى جميع في نحو. جاء الزيدان معًا، ورأيتُ العُمَرين معا، واختلف في فتحة العين من "معًا" قيل هي فتحة إعراب كفتحة دال رأيت يدًا، فيكون الاسم ثنائي اللفظ في حالي الإضافة والإفراد (أم) كفتحة تاء فتى، فيكون الاسم قد جبر ونقص حين أفرد، فالأول مذهب سيبويه والخليل، والثاني مذهب يونس والأخفش، وهو الصحيح، لأنهم يقولون الزيدان معا والعمرون معا فيوقعون "معًا" في موقع رفع كما ترفع الأسماء المقصورة، كقولهم فتى وهم عِدًى، ولو كان باقيا

ص: 239

على النقص لقيل الزيدان مع، كما قال هم يدٌ واحدة على مَن سواهم، وهم جميع.

ومن شواهد وقوع معا في موضع رفع قول الشاعر:

أفيقُوا بني حَرْبٍ وأهواؤنا معًا

وأرحامُنا موصولةٌ لم تُقَضَّبِ

ومثله قول الآخر:

حننْت إلى رَيّا ونفسُكَ باعدتْ

مَزارك من رَيّا وشَعْباكما معا

وإلى نحو هذين البيتين أشرت بقولي "وغير حاليتها حينئذ قليل"، وانتُصر للمذهب الأول بأن قيل لا نُسلّم بأن معًا في البيتين في موضع رفع، بل هو منصوب على الحال بعامل محذوف هو الخبر، والتقدير وأهواؤنا كائنة معا، وشعباكما كائنان معا. وهذا التقدير باطل بالإجماع على بطلان نظيره وهو أن يقال زيد قائما، على تقدير زيد كائن قائما. وانتُصر له أيضا بأن قيل القول بلزوم النقص هو الصحيح لأنه مسلتزم لموافقة النظائر. فإن حاصله حكم بنقصان اسم في الإفراد كما هو في الإضافة ونظائر ذلك موجودة كيد ودم وغد. والقول بكون "معا" مقصورا في الإفراد ثنائيًا في الإضافة مستلزم لما لا نظيرَ له، فلا يُصار إليه، فإن الثنائي المعرب إما منقوص في الإفراد والإضافة كيد، وإما متمّم في الإضافة وحدها كأب، فإن حُكم بأن "معا" مقصور في الإفراد منقوص في الإضافة لزم عدم النظير وثبوت ما هو بالنفي جدير.

والجواب أن يقال: مقتضى الدليل كون الإفراد مظنة جبر ما غيّر من الثنائيّات في إحدى حالتيه، لأن ثاني جزءَي ذي الإضافة متمّم لأولهما، ولذلك عاقب التنوين ونوني التثنية والجمع، بخلاف المنقوص المفرد فلا متمم له إلّا ما يُجبر به من ردّ ما كان محذوفا، فإذا جعلناه منقوصا في الإضافة مقصورا في الإفراد فعلنا بمقتضى

ص: 240

الدليل وسلكنا سواء السبيل، بخلاف باب أب فإن فيه شذوذا، ولذلك لم تجر العرب فيه إلا على سَنَن واحد، فمنهم مَن يُلزمه الجبر ويلحقه بباب عصا، ومنهم مَن يُلزمه النقص ويلحقه بباب يد، وأيضا ففي الحكم بأن معا غير ملازم النقص بيان لاستحقاق الإعراب إذ لا يكون بذلك موضوعا موضع الحروف الثنائية، بخلاف الحكم عليه بالنقص في حالتي إفراده وإضافته فإنه يلزم منه استحقاق البناء كسائر الأسماء الثنائية دائما دون جابر.

ومع ذلك قد ألغت "ربيعةُ" جبره في الإفراد لأنه جَبْر لمْ يتمحَض، ولذلك لم يُتّفَقْ على الاعتراف به بخلاف جبر باب يد، فيقال على اللغة الربعية ذهبت مع أخيك ومع ابنك بالسكون قبل حركة وبالكسر قبل سكون. وبعضهم يفتح قبل السكون، هكذا روى الكسائيُّ عن ربيعة، ولولا الكسر قبل السكون لأمكن أن يقال إن السكون سكون تخفيف لا سكون بناء. ومن الوارد بالسكون قول الشاعر:

فَرِيشى منكمُ وهوايَ مَعْكم

وإنْ كانتْ زيارتَكم لِماما

وقد خفى على سيبويه أن السكون لغة لأنه قال: وسألت الخليل ? رحمه الله ? عن معكم لأيّ شيء نصبتها؟ فقال: لأنها استعملت غير مضافة اسما كجميع ووقعت نكرة كقولك جاءا معا وذهبا معا وقد ذهبا معه، ومن معه، صارت ظرفا فجعلوها بمنزلة أمام وقدّام، قال الشاعر فجعلها كهلْ حين اضطر وأنشد لأعرابي:"ريشى منكم البيت". فذكر سبب إعرابها وتضمن كلامه أنها اسم على كل حال، وأن نقصها لم يزل بالإفراد ولذلك بيّن من كلامه الذي ذكرته.

وزعم قوم أن الساكن العين حرف، وليس بصحيح، لأن المعنى مع الحركة والسكون واحد فلا سبيل إلى الحرفية. وزعم النحاس أن النحويين مجمعون على

ص: 241

أن الساكن العين حرف. وهذا منه عجب، لأنَّ كلام سيبويه مشعر بلزوم الاسمية على كل حال، وأن الشاعر إنما سكّنها اضطرارا.

ومن الظروف العادمة التصرف "بَيْنَ بَيْنَ" كقول الشاعر:

نَحْمي حقيقتَنا وبَعْـ

ـضُ القوم يَسْقُط بين بَيْنا

والأصل بين هؤلاء وبين هؤلاء، فأزيلت الإضافة ورُكّب الاسمان تركيب خمسةَ عشرَ، فلو أُضيف الصدرُ إلى العجُز جاز بقاء الظرفية وزوالها، فبقاؤها كقولك: من أحكام الهمزة التسهيل بينَ بينَ، وزوالها كقولك: بَيْنَ بَيْنَ أقيس من الإبدال. فإن أضيف إليهما تعين زوال الظرفية ولذلك خطأ ابنُ جنّي مضن قال همزةُ بينَ بينَ بالفتح، وقال: الصواب أن يقال همزة بين بينٍ بالإضافة. والأصل وقوع "بين" مفردا ظرفا لمتوسط في مكان أو زمان ملازما للإضافة إلى ما يتوسط فيه منهما.

وإذا خلا من التركيب والوصل بما والألف لم يلازم الإضافة والظرفية. وقد تقدم التنبيه على ذلك.

ومن ظروف المكان العادمة التصرف الملازمة للإضافة حوال وتثنيته، وحول وتثنيته وجمعه، فالأول كقول الشاعر:

أهَدَموا بَيْتكَ لا أبا لكا

وأنا أمْشِي الدَّأَلَى حَوالَكا

والثاني كقول النبي صلى الله عليه وسلم "حَوالَيْنا ولا عَلينا" والثالث كقوله تعالى: (فلمّا أضاءتْ ما حوْلَهُ) والرابع كقول الراجز:

يا إبلي ما ذامُه فتابَيهْ

ماءٌ رواء ونَصِيُّ حَوْلَيهْ

ص: 242

والخامس كقول امرئ القيس:

فقالتْ سباكَ اللهُ إنّك فاضِحي

ألَسْتَ ترى السُّمّارَ والناسَ أحْوالي

ومن ظروف المكان العادمة التصرف "بَدَل" لا بمعنى بديل كقولك هذا بدل ذلك، أي هذا مكان ذلك، فلا يجوز حينئذ أن تستعمل غير ظرف، وكذا مكان إذا أردت به بدل. قال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه: البدل والمكان إذا استعملا بمعنى واحد لا يرفعان. فإن ذكر كل واحد منهما في موضعه ولم يحمل أحدهما على الآخر في المعنى رفعا نحو قولك: هذا مكانُك، يشير إلى المكان، وهذا بدلٌ من هذا فترفع، لأنك أشرت بهذا إلى البدل وهو هو. وإنما نصب البدل والمكان ولم يجز فيهما الاتساع حتى إذا أخرج كل واحد منهما عن موضعه فلزما طريقة واحدة. هذا نص ابن خروف.

ص: ويتوسع في الظرف المتصرف فيجعل مفعولا به مجازا، ويجوز حينئذ إضماره غير مقرون بفي والإضافة والإسناد إليه، ويمنع من هذا التوسع على الأصح تعدّي الفعل إلى ثلاثة.

ش: من ضروب المجاز التوسع بإقامة الظرف المتصرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه مقام المفعول المُوقع به الحدث كقول تعالى: (اشْتَدَّتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ) وقوله تعالى: (إنّا نخافُ مِن ربّنا يوما عَبوسًا قمطريرا) وكقول الشاعر:

أقول للحْيانٍ وقد صَفِرتْ لهم

وطابِي ويومِي ضِيّقُ الحَجْر مُعْوِرُ

والثاني كقولهم: وُلد له ستّون عاما، وصِيدَ عليه الليل والنهار كقول

ص: 243

الشاعر:

أما النهارُ ففي قَيْدٍ وسلْسلَةٍ

والليلُ في جوفٍ مَنْحوتٍ من الساجِ

يعني نفسه وكان مأسورا، فأخبر أن نهاره مقيد وليله مسجون مبالغة. ويضاف المصدر إلى الظرف المتوسَّع فيه على الوجهين، فإضافته على تقديره فاعلا كقوله تعالى:(بل مكرُ الليلِ والنهارِ إذْ تأمروننا) كان الأصل ليلكم ونهاركم ماكران ثم أضيف المصدر إلى المخبر عنه بمعناه مجازا، كما يضاف إلى المخبر عنه بمعناه حقيقة، وإضافته إليه على تقديره مفعولا به كقوله تعالى (للذين يُؤْلون من نسائِهم تربُّصُ أربعةِ أشهُر) أي إمضاء أربعة أشهر بتربّص. وكما أضيفَ إليه المصدر على تأويل الفاعلية وعلى تأويل المفعولية أضيف إليه بلفظ اسم الفاعل واسم المفعول، فمن الأول:

يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ

ومن الثاني: يا مسروق الليلة أهل الدار ? ذكرها سيبويه.

وإذا ثبت من كلامهم التوسع بجعل الظرف المتصرف فاعلا ومفعولا به ومضافا إليه على معنى الفاعلية والمفعولية لزم من ذلك جواز الحكم عليه في حال النصب بأنه مفعول به تجوّزا ما لم يمنع من ذلك مانع. وتظهر فائدة ذلك في إضماره مستغنيا عن لفظ "في" فإن الظرف أصله أن يكون مظروفا بلفظها فاستغنى عن لفظها بمعناها مع الظاهر، ولزوم الرجوع إلى الأصل مع الضمير، لأن الإضمار يردّ الشيء إلى أصله، ولذلك لزم مَن يقول: لدُ زيد أن يقول من لدنه، بردّ النون، ولزم

ص: 244

مَن يقول لم يكن صديقنا أن يقول أما الصديق فإن لا يكنه فمن يكنه، فيرد النون أيضا. ولزم من يقول قعدت حينا: الحين قعدت له فيرد اللام، ولا يستغني مع المضمر بمعناها كما استغنى مع الظاهر. ولزم مَن يقول المال لزيد بكسر اللام أن يقول له فيفتح، لأن فتحها هو الأصل. فعلى هذا يلزم من أضمر الظرف مقصودا به معنى الظرفية أنْ يقرنه بفي كقولك في: صمت اليوم: اليوم صمت فيه، فمن قال صمته علم أنه لم يقصد الظرفية وإنما قصد جعله مفعولا به توسّعا، فمن ذلك قول الشاعر:

ويومًا شَهِدْناه سُلَيْما وعامِرا

قليلا سِوى الطعْنِ النِهالِ نوافِلُهْ

ومنه:

فإنْ أنتَ لم تقدِرْ على أنْ تُهِينه

فدَعْهُ إلى اليوم الذي أنتَ قادِرُهْ

يا رُبَّ يومٍ لي لا أظَلّله

أرْمَضُ من تحتُ وأضْحى من عَلُهْ

وهذا التوسع في باب أعلم جائز على ظاهر قول سيبويه، فإنه قال في باب المفعول الذي يتعداه فعله إلى مفعول بعد أن مثل بأرى عبدُ الله أبا فلان، لو أدخلت في هذا الفعل الفاعل وبنيتَه له لتعداه فعله إلى ثلاثة مفعولين. ثم قال: واعلم أن الأفعال إذا انتهت ههنا فلم تجاوز تعدت إلى جميع ما تعدّى إليه الفعل الذي لا يتعدى الفاعل، وذلك قولك: أعطى عبدُ الله الثوبَ إعطاء جميلا، ونُبّئت زيدا أبا فلان تنْبيئا، وسرق عبد الله الثوبَ الليلةَ، لا تجعله ظرفا، لكن تجعله على قولك يا مسروق الليلة الثوبَ. هذا نصه.

ص: 245

قال ابن خروف في شرحه: أجاز سيبويه نصب الظرف مفعولا به بالمتعدي إلى ثلاثة، وإنما قاسه ولم يقس النقل، لأن النقل فيه نصب الفاعل ولا ينصب الفاعل إلا تشبيها بما ثبت أصله في الكلام، كما نصب الفاعل في حسن الوجه، تشبيها بضارب زيدا. ونصب الظرف على الاتساع ليس فيه تغيير عما كان عليه، وجميعه مجاز في متعدّ لواحد وأكثر. والنقل كله حقيقة فاقتصر فيه على السماع، بخلاف نصب الظرف على الاتساع فإنه مجاز فلا معنى لمراعاة التعدي وغير التعدي فيه. ومنعه قوم في باب أعلم قياسا على النقل.

قلت: جواز تعدي ذي ثلاثة إلى ظرف على أنه مفعول به يستلزم مشبّها دون مشبَّه به لأنه إذا فعل ذلك بما له مفعول واحد ومفعولان لم يعدم أصلا يحمل عليه بخلاف نصبه ما له ثلاثة، فإنه يلزم منه فرع لا أصل له ومشبَّه دون مشبَّه به فوجب منعه. ولأن جواز ذلك في باب أعلم مرتب على ما سمع من إقامة الظرف مقام فاعل الحدث الواقع فيه، ومقام ما يقع به إخبار عنه وإضافة إليه، ولم يسمع من ذلك شيء في باب أعلم، فلا يحكم فيه بجواز ذلك المجاز لعدم سماع ما يرتّب عليه.

ص: 246