الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب تعدّي الفعل ولزومه
ص: إن اقتضى فعل مصوغا له باطراد اسم مفعول تام نصبه مفعولا به وسمي متعديا وواقعا ومجاوزا، وإلا فلازما. وقد يشهر بالاستعمالين فيصلح للاسمين، وإن علق اللازم بمفعول به معنى عدي بحر فجر، وقد يجرى مجرى المتعدي شذوذا أو لكثرة الاستعمال، أو لتضمن معنى يوجب ذلك. واطّرد الاستغناء عن حرف الجر المتعين مع أنَّ وأنْ محكوما على موضعهما بالنصب لا بالجر خلافا للخليل والكسائي. ولا يعامل بذلك لتعين الجار غيرهما خلافا للأخفش الأصغر، ولا خلاف في شذوذ بقاء الجر في: أشارت كليب بالأكف الأصابع.
ش: الفعل المتعدي هو الناصب مفعولا به دون حاجة إلى تقدير حرف جر.
فإن حسن تقدير حرف جر معدّ مع منصوبه بلا تأول قيل فيه متعدّ بإسقاط حرف الجر نحو قوله تعالى: (لأقْعُدَنَّ لهم صراطك المستقيم) وقوله تعالى: (أعَجِلْتُم أمرَ ربِّكم) وكقول الشاعر:
كأنِّي إذا أسْعَى لأظفرَ طائِرا
…
مع النَّجْم في جوِّ السماء يَصُوبُ
وكقول الآخر:
تَحِنَّ فتُبدي ما بها من صَبابةٍ
…
وأُخْفِي الذي لولا الأسى لقضاني
والأصل: على صراطك المستقيم، وعن أمر ربكم، ولأظفر بطائر، ولقضى عليّ، وإلى قضاني ونحوه أشرت بقولي "وقد يجرى مجرى المتعدي شذوذا" وإذا استعمل الفعل متعديا بنفسه تارة وبحرف جر تارة، ولم يكن أحد الاستعمالين مشهورا قيل فيه متعد بوجهين. ولم يحكم بتقدير الحرف عند سقوطه ولا بزيادة عند ثبوته نحو شكرته وشكرت له ونصحته ونصحت له. ويسمى أيضا المتعدي بنفسه مجاوزا وواقعا. وما لا بد له من حرف الجر فهو لازم. ولا يتميز المتعدي من اللازم بالمعنى والتعلق، فإن الفعلين قد يتحدان معنى وأحدهما متعد والآخر لازم كصدقته وآمنت به ونسيته وذهلت عنه وحببته ورغبت فيه واستطعته وقدرت عليه ورجوته وطمعت فيه وتجنبته وأعرضت عنه.
وإنما تميّزُ المتعدي بأن يتصل به كاف الضمير أو هاؤه أو ياؤه باطراد، وبأن يصاغ منه اسم مفعول تام باطراد نحو صدقته وحببته وأردته ورجوته فهو مصدّق ومحبوب ومراد ومرجوّ. وبهذا عُلم أن قال متعدّ لاطراد نحو قلته فهو مَقول. ولو قُصد هذان الأمران من ذهلت ورغبت وطمعت وأعرضت لم يُستغن عن الحرف كقولك ذهلت عنه ورغبت فيه وطمعت فيه وأعرضت عنه، فهو مذهول عنه ومرغوب فيه ومطموع فيه ومعرَض عنه، فلا يتأتى صوغ المفعول تاما بل ناقصا، أي مفتقرا إلى حرف الجر، فتعلم بذلك لزومه وعدم تعدّيه كما علمت بالتمام التعدي. وبهذا يُعلم صحة تقدير حرف الجر في قوله:"لأظفر طائرا"، لأنك لا تقول ظفرته فهو مظفور. وكذلك لا يقال في الصراط إلا قعدت عليه، لأن الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، وإذا ثبت أن اللازم هو المفتقر إلى حرف جر فليعلم أن الأصل ألّا يحذف حرف الجر.
فإن ورد حذفه وكثر قُبل وقِيس عليه، وإن لم يكثر قُبل ولم يُقس عليه، فمن الذي كثر قولهم: دخلت الدار والمسجد ونحو ذلك، فيقاس على هذا دخلتَ البلد والبيت وغير ذلك من الأمكنة. ومن المقتصر فيه على السماع توجّه مكةَ وذهب الشامَ، ومُطرنا السهلَ والجبلَ، وضُرِب فلانٌ الظهرَ والبَطْنَ فلا يقاس على هذه الأسماء وما أشبهها غيرها. وإلى دخلت البلد ونحوه أشرت بقولي "أو لكثرة الاستعمال". وأشرت بقولي "أو لتضمن معنى يوجب ذلك" إلى قول بعضهم: رَحُبكمُ الدخول، فإنه ضمّنه معنى وَسع فأجراه مجراه.
واطرد حذف حرف الجر مع أنّ وأنْ وإن تعيّن عند حذفه نحو عجبتُ أنْ يُبغَض ناصحٌ وطمعت أنّك تُقبل. فلو لم يتعيّن الحرف عند حذفه مع أنّ وأنْ لامتنع الحذف نحو رغبت أن يكون كذا، فإنه لا يُدرى هل المراد رغبت في أن يكون أو عن أن يكون، والمرادان متضادان معنى فيمتنع الحذف في مثل هذا.
ومذهب الخليل والكسائي في "أنّ وأنْ" عند حذف حرف الجر المطرد حذفه أنهما في محل جر، ومذهب سيبويه والفراء أنهما في محل نصب وهو الأصح، لأن بقاء الجر بعد حذف عامله قليل والنصب كثير، والحمل على الكثير أولى من الحمل على القليل. وقد يستشهد لمذهب الخليل والكسائي بما أنشده الأخفش من قول الشاعر:
وما زُرتُ ليلى أنْ تكون حبيبةً
…
إليَّ ولا دَيْنٍ بها أنا طالِبُهْ
وأجاز علي بن سليمان الأخفش أن يحكم باطراد حذف حرف الجر والنصب فيما لا لبس فيه كقول الشاعر:
وأُخفي الذي لولا الأسى لقضاني
والصحيح أن يتوقف فيه على السماع. قال سيبويه بعد أن حكى قولهم: عددتك ووزنتُك وكِلْتُك: ولا تقول وهبتُك، لئلا يتوهم كون المخاطب موهوبا، فإذا زال الإشكال نحو وهبتك الغلام جاز. وحكى أبو عمرو الشيباني: انطلقْ معي أهَبْك نَبْلا، يريد أهبُ لك. ولا خلاف في شذوذ حرف الجر وبقاء عمله كقول الشاعر:
إذا قِيلَ أيُّ الناسِ شَرّ قبيلةٍ
…
أشارتْ كُليبٍ بالأكُفِّ الأصابعُ
أراد أشارت إلى كليب فحذف إلى وأبقى عملها. ومثله:
وكريمةٍ من آل قيس ألفتُه
…
حتّى تبذّخ فارتقى الأعْلامِ
فحذف إلى وأبقى الجر.
فصل: ص: المتعدي من غير بابي ظن وأعلم متعد إلى واحد ومتعد إلى اثنين والأول متعد بنفسه وجوبا، وجائز التعدي واللزوم، وكذا الثاني بالنسبة إلى أحد المفعولين، والأصل تقديم ما هو فاعل معنى على ما ليس كذلك. وتقديم ما لا يُجر على ما قد يُجَر. وترك هذا الأصل واجب وجائز وممتنع، لمثل القرائن المذكورة فيما مضى".
ش: لما تقدم الكلام على ظن وأعلم وأخواتهما استثنيتهما بقولي "المتعدي من غير بابي ظن وأعلم" وبينت أن المتعدي مما سواهما لا يوجد منه متعد إلى أكثر من اثنين، بل هو إما متعد إلى واحد بنفسه أبدا كضرب وأكل مما لا يحتاج إلى حرف جر، وإما متعدّ بنفسه تارة وبحرف جر تارة كشكر ونصح، مما يقال له متعد بوجهين. وقد أشرت إلى ذلك من قبل هذا مجملا. ثم أشرت إليه الآن مفصلا. ثم بينت أن المتعدي إلى اثنين من هذا الباب إما متعد إليهما بنفسه نحو كسا وأعطى. وإما متعدّ إلى أحدهما بنفسه أبدا وإلى الآخر بوجهين نحو اختار وأمر تقول: كسوت زيدا ثوبا وأعطيته درهما، فلا تحتاج إلى حرف جر، ولا يجوز لك أن تأتي به. وتقول اخترت زيدا قومه وأمرته الخير، واخترته من قومه وأمرته بالخير. ومأخذ هذا النوع السماع.
والأصل تقديم المفعول الذي هو فاعل معنى على المفعول الذي ليس كذلك كزيد من مسألة أعطيت زيدا درهما، فإنه مفعول في اللفظ فاعل في المعنى لكونه آخذا ومتناولا، بخلاف الدرهم فإنه مفعول في اللفظ والمعنى فأصله أن يتأخر وأصل الآخر أن يتقدم. وكذا الأصل تقديم ما يتعدى إليه الفعل بنفسه أبدا وتأخير ما يتعدى إليه بوجهين، لأن علقة ما لا يحتاج إلى واسطة أقوى من علقة ما يحتاج إليها، فلذلك يقال أعطيت درهمه زيدا واخترت قومَه عمرا، ولا يقال أعطيت صاحبَه الدرهم ولا اخترت أحدهم القومَ، إلا على قول من قال ضرب غلامُه زيدا.
ومثال وجوب ترك الأصل ما أعطيت درهما إلا زيدا وأعطيت الدرهم صاحبه. ومثال امتناع ترك الأصل ما أعطيت زيدا إلا عمرا وأعطيت زيدا عمرا، فالأول والثاني نظيرا ما ضرب عمرا إلا زيد، وضرب زيدا غلامُه، والثالث والرابع نظيرا ما ضرب زيد إلا عمرا، وضرب موسى وعيسى. وإلى هذا أشرت بقولي "واجب وجائز وممتنع لمثل القرائن المذكورة فيما مضى". وما خلا من سبب الوجوب، وسبب الامتناع فجائز بقاؤه على الأصل نحو كسوت زيدا ثوبا، ومخالفته للأصل نحو كسوت ثوبا زيدا.
فصل: ص: يجب تأخير منصوب الفعل إن كان أنّ مشددة أو مخففة، وتقديمه إن تضمن معنى استفهام أو شرط أو أضيف إلى ما تضمنهما أو نصبه جواب أما. ويجوز في غير ذلك إن علم النصب تأخير الفعل غير تعجيبي ولا موصول به حرف ولا مقرون بلام ابتداء أو قسم مطلقا خلافا للكوفيين في منع نحو زيدا غلامُه ضرب، وغلامَه أو غلامَ أخيه ضرب زيد، وما أراد أخذ زيدٌ وما طعامك أكل إلا زيدٌ، ولا يُوقَع فعلُ مضمرٍ متصل على مفسره الظاهر، وقد يُوقَع على مضاف إليه أو موصول بفعله.
ش: لا يجوز في علمت أنّكَ منطلقٌ، ولا خِلت أن ستفعل: أنك منطلق علمتُ، ولا أن ستفعل خلتُ، لأن أن المشدّدة والمخفّفة منها لا يبتدأ بهما كلام. وعلى هذا نبهت بقولي "يجب تأخير منصوب الفعل إن كان أنّ مشددة
أو مخففة" ولا يعترض على هذا بقوله تعالى (إنَّ هذه أمّتكم أمةً واحدةً)، و:(أنَّ المساجد لله)، لأن الأخفش جعل تقديرهما: ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون، ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا. فإن جواز هذا مرتب على تقدير اللام وتقدير الجر بها، وهي عند سيبويه أقوى من جعل أن في موضع نصب كما يراه الخليل، ولو قُدِّر نصبا لم يجز تقديمها كما لا يقدم في علمت أن زيدا منطلق، فإن المنصوب بحذف حرف الجر فرع المنصوب بمتعدّ، فلا يقع إلا حيث يقع، ومنصوب الفعل يعم المفعول به والظرف وغيرهما، فإذا كان أحد أسماء الاستفهام أو الشرط وجب تقديمه على الفعل نحو مَن رأيتَ؟ وأيَّهم لقيتَ، ومتى قدمتَ وأين قُمتَ؟ ومَن تكرمْ يكرمْك وأيَّهم تدْعُ يُجبْكَ ومتى تُعنْ تُعَنْ. وكذا المضاف إلى شيء منها نحو غلامَ من رأيتَ، وفعْلِ أيهم استحسنت؟ وكذا المنصوب بفعل وقع جوابا لأمّا نحو (فأمّا اليتيمَ فلا تقهرْ). وما سوى ذلك من منصوب بفعل متصرّف فجائز تقديمه عليه، إن ظهر النصبُ، أو أغنى عن ظهوره قرينة نحو زيدا ضرب عمرو، وحبارى صاد موسى. فإن كان الفعل صلة حرف أو مقرونا بلام الابتداء أو القسم وجب تأخير ما يتعلق به نحو من البِرّ أن تكُفَّ لسانَك وإن اللهَ ليُحبُّ المحسنين، ووالله لأقولنّ الحقَّ.
فإن خلا الفعل من ذلك جاز تقديم منصوبه عليه مطلقا خلافا للكوفيين في منع زيدا غلامُه ضربَ وغلامَه ضرب زيدٌ وغلامَ أخيه ضرب زيد، وما أراد أخذ زيدٌ، وما طعامَك أكل إلا زيدٌ. فإن الكوفيين يمنعون هذه المسائل وأشباهها، وهي جائزة لثبوت استعمالها، فمثال زيدا غلامُه ضرب قول رجل من طيّء في كعب بن زهير وأخيه رضي الله عنه ورحم كعبا:
كعبًا أخوه نهى فانقاد مُنْتهيا
…
ولو أبى باءَ بالتخليد في سَقَرا
ومثال غلامَه ضرب زيدٌ قول الشاعر:
رأيَه يَحمدُ الذي ألفَ الحزْ
…
مَ ويشْقى بسعيه المغرورُ
ومثال غلام أخيه ضرب زيد قول الآخر:
شر يومَيْها وأغواه لها
…
رَكِبتْ عَنْزٌ بِحِدْج جَمَلا
ومثال ما أراد أخذ زيد قول الشاعر:
ما شاء أنشأ ربّي والذي هو لم
…
يشأ فلستَ تراه ناشئا أبدا
ومثال ما طعامَك أكل إلا زيد قول الشاعر:
ما المرءَ ينفعُ إلا ربُّه فعلا
…
مَ تُستمالُ بغير الله آمالُ
ولا يوقع فعل مضمر متصل على مفسّره الظاهر نحو زيدا ضرب، على أن يكون زيد ضرب نفسه فيسندض رب غلى ضمير يفسره لفظ زيد منصوب به، فلا يجوز هذا، لأن جوازه يستلزم توقف مفهومية ما لا يُستغنى عنه وهو الفاعل على مفهومية ما يُستغنى عنه وهو المفعول.
فلو كان الفاعل ضميرا منفصلا جاز إيقاع فعله على مفسره الظاهر نحو ما ضرب زيدا إلا هو، لأن الضمير المنفصل فيما نحن بسبيله مقدر قبل ظاهر مبدل منه الضمير، فتقدير ما ضرب زيدا إلا هو: ما ضرب زيدا أحدٌ إلا هو، فقيام الضمير المنفصل مقام الظاهر المقدّر سَهَّلَ إيقاعَ فعلِه على مفسره الظاهر فحُكِم بالجواز. وقد يُوقَع فعل ضمير متصل على مضاف إلى مفسر الضمير نحو غلام هند ضَرَبتْ، ففاعل ضَرَبَتْ ضمير هند وجاز هذا لأنه في تقدير ضربتْ هند غلامَها، ومثله قول الشاعر:
أجَلَ المرء يَسْتحثُّ ولا يَدْ
…
رِي إذا يبتغي حصولَ الأماني
يريد المرء في وقت ابتغاء الأماني يستحثّ أجله ولا يشْعر.
وقد يوقع فعل ضمير متصل على موصول بفعل مسند إلى مفسر الضمير نحو ما أراد زيد أخذه، فما في موضع نصب بأخذ، وزيد فاعل أراد وهما صلة لما، وفاعل أخذ ضمير زيد، وجاز هذا لأن التقدير أخذ زيد ما أراد. ومثله قول الشاعر:
ما جَنت النفسُ مما راقَ منظره
…
رامتْ ولم يَنْهَها بأسٌ ولا حَذَرُ
ص: يجوز الاقتصار قياسا على منصوب الفعل مستغنى عنه بحضور معناه أو سببه أو مقارنه أو الوعد أو السؤال عنه بلفظه (أو معناه) وعن متعلقه، وبطلبه وبالرد على نافيه أو الناهي عنه أو على مثبته أو الآمر به. فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال فهو لازم. وقد يجعل المنصوب مبتدأ أو خبرا فيلزم حذف ثاني الجزءين.
ش: المقصود هنا التنبيه على حذف الفعل وفاعله والاقتصار على المفعول به، لأن الباب له، لكني ذكرت لفظا صالحا للمفعول به وغيره من منصوبات الفعل، لأنها كلها متساوية في صحة النصب بفعل محذوف كقولك: زيدا، لمن قال: مَن ضربت؟ وكقولك: حين ظلم، لمن قال: متى، وكقولك: ضربا يردعه، لمن قال أيّ ضرب ضربته، وكقولك تأديبا، لمن قال: لمَ ضربته، وكقولك مكتوفا، لمن قال كيف ضربته؟ ولغير المفعول به مواضع يستوفى فيها بعون الله بيان ما يحتاج إليه.
ومثال الاستغناء عن لفظ الفعل بحضور معناه قولك لمن شرع في إعطاء: زيدا بإضمار أعْطِ، ولمن شرع في ذكر رؤيا: خيرا لنا وشرّا لعدونا، بإضمار رأيت، ولمن قطع حديثا: حديثك بإضمار تمّم أو نحو ذلك. ومثال الاستغناء بسبب الفعل قول الشاعر:
إذا تَغَنّى الحمامُ الوُرْقُ هَيَّجَني
…
ولو تَسلّيتُ عنها أمَّ عمّارِ
بإضمار ذكرت، لأن التهيج سبب التذكر وباعث عليه. ومثال الاستغناء بحضور مقارنة قولك لمَن تأهب للحجّ: مكة بإضمار أراد مكة، ولمن سدّد سهما: القرطاسَ، بإضمار تصيب، وللمواجهين مطلع الهلال إذا كبّروا: الهلالَ، بإضمار رأوا. ومن هذا القبيل قول الشاعر:
لنْ تراها ولو تأمّلْت إلا
…
ولها في مَفارِقِ الرأسِ طيبا
بإضمار ترى، لأن رؤية الشخص مقارنة لرؤية ما يشتمل عليه، فاستغنى بفعل إحداهما عن الأخرى. وينبغي أن يكون ترى المضمر بمعنى تَعْلم، لأنه إذا كان بمعنى تُبصر يلزم من ذلك كون الموصوفة مكشوفة الرأس. وينبغي أيضا أن تجعل الفعل المضمر خبر مبتدأ محذوف لئلا تكون واو الحال داخلة على مضارع مثبت، وذلك غير جائز عند الأكثرين. وما أوهمه قُدّر قبله مبتدأ. ومثل هذا البيت قول الآخر:
وجَدنا الصالحينَ لهم جزاءٌ
…
وجَنّاتٍ وعَيْنا سَلْسَبيلا
أي لهم جزاء ووجدانا لهم جنات، فأضمر، لأن الموجودين متقارنان فاستغنى بفعل أحدهما عن الفعل الآخر. ومن هذا القبيل قول الآخر:
فكَرّتْ تبْتغيه فوافَقَتْه
…
على دمِه ومصرعِه السباعا
أي ووافقت على دمه فأضمر، لأن الموافقتين مقترنان فاستغنى بفعل أحدهما عن فعل الأخرى. ويروى فصادفته. ومن هذا القبيل قول الآخر:
تذكّرتْ أرضا بها أهلُها
…
أخوالَها فيها وأعمامَها
أي وتذكرت أخوالها فيها وأعمامها، فأضمر لأن التذكرين مقترنان فاستغنى بفعل أحدهما عن فعل الآخر. ومن هذا القبيل قول الآخر:
قد سالَم الحياتُ منه القدما
…
الأفْعُوان والشُجاعَ الشجعما
أراد قد سالم الحيات منه القدم وسالمت القدم الأفعوان الشجاع الشجعم فحذف لأن المسالمتين مقترنتان فاستغنى بفعل إحداهما عن الأخرى. ويروى: قد سالم الحياتِ منه القدما – على جعل الحيات مفعولا والقدمان فاعلا، وحذفت النون كما حذفت نون:
هما خُطَّتا إمّا إسارٌ ومنَّةٌ – بالرفع. ومثال الاستغناء بالوعد قولك زيدا لمن قال سأطعمُ من احتاج، بإضمار أطْعِمْ. ومثال الاستغناء بالسؤال عن الفعل بلفظه قولك لمن قال: هل رأيت أحدا، بلى زيدا بإضمار رأيت. ومثال الاستغناء بمعناه دون
لفظه قول من قال: بلى وجاذا، حين قيل له أفي مكان كذا وجذ بإضمار أعرف، لأن قوله أفي مكان كذا وَجْذ بمعنى أتعرف فيه وجذا. ومثال الاستغناء عن الفعل المسئول عن متعلقه قوله تعالى (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربُّكم قالوا خيرا) فنصب خيرا بأنزل مضمرا.
ومثال الاستغناء عن الفعل في طلب قولهم: ألا رجل إما زيدا وإما عمرا، يريدون اجعله زيدا أو عمرا. ومنه قولهم:"اللهمَّ ضَبُعا وذِئْبا" بمعنى اجمع فيها ضبعا وذئبا. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد على نافيه قولك لمن قال ما لقيت أحدا: بلى زيدا بإضمار لقيت. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد عن الناهي عنه قولك لمن قال لا تضرب أحدا: بلى من أساء بإضمار أضرب. ومثال الاستغناء عن الفعل في الرد على الأمر به قولك لمن قال تعلّمْ لغة: لا بل نَحْوا بإضمار تعلّمْ. ومثال الاستغناء عن الفعل في الردّ على مثبته قولك لمن قال ضرب زيد عمرا: لا بل عامرا بإضمار ضربَ، فهو ردّ على وفق اللفظ.
وأما الردّ على وفق المعنى دون اللفظ فكقوله تعالى: (وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيمَ) أي بل نتبع ملة إبراهيم، فأضمر نتبع لأن معنى كونوا هودا أو نصارى اتبعوا ملة اليهود وملة النصارى، فالإظهار والإضمار جائزان في أمثال هذه المسائل قياسا.
فإن كان الذي اقتصر فيه على المفعول مَثَلا أو جاريا مجرى المثل في كثرة الاستعمال امتنع الإظهار ولزم الاقتصار، والمثل كقولهم "كلَّ شيء ولا شتيمةَ حُرّ" أي ايت ولا ترتكب، و"هذا ولا زَعماتك" أي ولا أتوهم. و"كليهما
وتَمْرا" أي أعطني وزدْني. والجاري مجرى المثل قولهم حسبك خيرا لك، ووراءك أوسع لك، وقوله تعالى (فآمنوا خيرا لكم) و (انتهوا خيرا لكم) قال سيبويه: وحذفوا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه في الكلام، ولعلم المخاطب أنه محمول على أمر حين قال انته فصار بدلا من قوله: ائت خيرا. قال ونظير ذلك من الكلام: ائته أمرًا قاصدا، فإنما قلت: ائته وائت أمرا قاصدا، إلّا أن هذا يجوز فيه إضمار الفعل يعني أن قول من قال ائته أمرا قاصدا ليس مثال ائته خيرا لك في كثرة الاستعمال فيلزم إضمار الفعل فيه كما التزم إضمار الفعل في ذلك.
وقد غفل الزمخشري عن كلام سيبويه فجعل "انتهوا خيرا لكم" وائته أمرا قاصدا سواء.
ومذهب الكسائي أن "خيْرا" منصوب بيكُنْ محذوفا والتقدير: يكن الانتهاء خيرا لكم. ورد عليه الفرّاء بأن قال: لو صحّ هذا التقدير لجاز أن يقال ائته أخانا على تقدير تكُنْ أخانا. وزعم هو أن التقدير: ائته انتهاءً خيرا، فحُذف المصدرُ وأقيمتْ صفتُه مقامه. وهذا القول مردود بقولهم: حَسْبُك خيرا لك: فإن تقدير مصدر ههنا لا يَحْسن، وبقولهم وراءَك أوسع لك فإن أوسع صفة لمكان لا لمصدر. ومثله ما أنشد سيبويه من قول الشاعر:
فواعديه سرحتى مالكٍ
…
أو الرُّبا بينهما أسْهلا
وأسهل بمعنى مكان سهل. وأجاز السيرافي أن يكونا مكانا بعينه، وعلى كل حال لا يصلح أن يراد به المصدر ولا أن يراد به ما قدّر الكسائي. وإذا بطل قول
الكسائي وقول الفراء تعيّن الحكم بصحة القول المذكور وهو قول الخليل وسيبويه. وقد جعل سيبويه من المنصوب باللازم إضماره قول ذي الرمة:
ديارَ ميّةَ إذ ميٌّ تُساعِدنا
…
ولا يُرى مثلها عُرْبٌ ولا عَجَم
قال سيبويه: كأنه قال: اذكر ديارَ ميّة، ولكنه لا يذكر "اذكر" لكثرة ذلك في كلامهم. وقال سيبويه:"ومن العرب من يرفع الديار كأنه يقول تلك ديار فلانة" وقال أيضا "ومن العرب من يقول "كلاهما وتَمْرا" كأنه قال كلاهما لي وزدْني تمرا، وكلُّ شيءٍ ولا شتيمةَ حُرّ" كأنه قال: كل شيء أمَمٌ ولا شتيمةَ حُرّ، وترك ذكر الفعل بعد لا". هذا نصه. وإلى هذا أشرت بقولي "وقد يجعل المنصوب مبتدأ وخبرا".
وقد تناول قولي "فإن كان الاقتصار في مثل أو شبهه في كثرة الاستعمال" نحو إيّاي وكذا بإضمار نَحِّ ونحو إيّاك وكذا بإضمار اتّق، وهذا المسمَّى تحذيرا، ولا يلزم إضمار الناصب فيه إلّا مع إيّاك وأخواتها، ومع مكرّر نحو الأسَدَ الأسَدَ، ومع معطوف ومعطوف عليه نحو:"مازِ رأسك والسيف" ولا يحذف العاطف بعد إياك إلا والمحذور مجرور بمن نحو إياك من الشرِّ، وتقديرها مع أنْ كافٍ نحو إياك أن تسيء، على تقدير إياك من أن تسيء، وحذفت "من" لأن مثل هذا في أن مطرد فلو وقعت الإساءة موقع أن تسيء لم يجز حذف من إلا في الضرورة كقول الشاعر:
وإياك إياكَ المِراءَ فإنَّه
…
إلى الشَّرِّ دَعّاءٌ وللشَّرِّ آمِرُ
أراد إيّاك أنْ تُمارِي، ثم أوقع موقع أن تمارى المراء فعامله معاملة ما هو واقع
موقعه. ويجوز أن يكون نصب المراء بفعل مضمر غير الذي نصب إياك، وعلى كل حال فلا يجوز مثل هذا إلا في الشعر.
وليس العطف بعد إياك من عطف الجمل خلافا لابن طاهر وابن خروف، ولا من عطف المفرد على تقدير: اتّق نفسَك أن تدْنوَ من الشر، والشرَّ أن يدنو منك، بل هو من عطف المفرد على تقدير: اتَّق تلاقي نفسِك والشرَّ، فحُذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا شك أنّ هذا أقلُّ تكلّفا فكان أولى. ويساوي التحذير في كل ما ذكرته الإغراء نحو: أخاك، بإضمار الزم وشبهه.
فصل: ص: يُحذف كثيرا المفعول به غير المخبر عنه والمخبر به والمتعجب منه والمجاب به والمحصور والباقي محذوفا عامله، وما حذف من مفعول به فمنوي لدليل أو غير منويّ، وذلك إمّا لتضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم أو للمبالغة بترك التقييد، وإمّا لبعض أسباب النيابة عن الفاعل".
ش: الغرض الآن بيان ما يجوز حذفه وما لا يجوز (حذفه) من المفاعيل، فاسثنيت المخبر عنه قاصدا المفعول القائم مقام الفاعل، والأول من مفعولي ظنّ وأخواتها والثاني من مفاعيل أعلم وأخواتها، فإن الكلام على ذلك قد تقدّم.
واستثنيت أيضا المفعول المتعجب منه كزيد من قولك: ما أحْسنَ زيدا: فإن بيان ما يحتاج إليه يأتي في بابه إن شاء الله تعالى. وما سوى ذلك من المفاعيل يجوز حذفه إن لم يكن جوابا كقولك زيدا، لمن قال مَن رأيتَ، ولا محصورا كقولك ما رأيتُ إلا زيدا، ولا محذوفا عامله كقولك خيرا لنا وشرّا لعدوّنا، فهذه الأنواع الثلاثة من المفاعيل لا يجوز حذفها، وما سواها يجوز حذفه، والمحذوف على ضربين: أحدهما ما حذف لفظا ويراد معنى كالعائد إلى الموصول في قوله تعالى: (فَعّالٌ لما يريد). والثاني ما يحذف لفظا ومعنى، والباعث على ذلك إما تضمين الفعل معنى يقتضي اللزوم، وإمّا قصد المبالغة، وإما بعض أسباب النيابة عن الفاعل.
فالأول كتضمين جرح معنى غاب. ومنه قول الشاعر:
فإنْ تعتذر بالمَحْل من ذي ضُروعها
…
إلى الضَّيْف يَجْرِحْ من عراقيبها نَصْلِي
وكتضمين أصلح معنى لطف في قولك أصلح اللهُ في نفسك وأهلك، ولو لم يُضَمَّن معنى لَطف لقبل أصلح الله نفسك وأهلك. ومنه – والله أعلم- قوله تعالى:(وأصلحْ لي في ذرَّتي) والثاني كقولك فلان يُعطي ويَمنع ويصل ويَقطع. فإن حذف المفعول في هذا وأمثاله مبالغة تُشعر بكمال الاقتدار وتحكيم الاختيار. ومنه – والله أعلم – قوله تعالى: (له ملك السموات والأرض يحيي ويُميتُ) والثالث مرتّب على الأسباب الداعية إلى حذف الفاعل وإقامة غيره مقامه فمن ذلك الإيجاز كقوله تعالى: (واسمعوا وأطيعوا) ومن ذلك مشاكلة المجاور كقوله تعالى: (وأنَّ إلى ربِّك المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى * وأنه هو أمات وأحيا). ومن ذلك إصلاح النظم كقول الشاعر:
وخالدٌ يَحْمدُ ساداتُنا
…
بالحق لا يُحْمَدُ بالباطِلِ
أرادوا خالدٌ تحمدُه ساداتُنا فحذف الهاء ليستقيم الوزن. ومن ذلك حذف المفعول لكونه معلوما وهو كثير كقوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) وكقوله
تعالى: (وإنْ تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم) وكقوله تعالى (مَن اتَّقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) وكقوله تعالى (إنّه من يتّق ويصبر فإنّ الله لا يُضيع أجر المحسنين) وكقوله تعالى: (فلا صدَّق ولا صلَّى ولكن كذَّب وتَولَّى). ومن ذلك حذفه لكونه مجهولا كقولك ولدتْ فلانة إذا عرفتَ ولادتها وجهلت ما ولدته. ومن ذلك الحذف لكون التعيين غير مقصود كقوله تعالى: (ومَنْ يظلم منكم نُذِقْه عذابا كبيرا). وكقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا ذبحتُم فأحْسنوا الذِبْحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". ومن ذلك حذفه تعظيما للفاعل كقوله تعالى: (كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورُسلي). وعكس ذلك قولهم شُتِم فلان إذا كان المشتوم عظيما والشاتم حقيرا. وقد يُحذف المفعول خوفا منه كقولك أبغضتُ والله ولا تذكر المُبْغَض خوفا منه.
فصل: ص: تدخل في هذا الباب على الثلاثي غير المتعدي إلى اثنين همزة النقل فيُزاد مفعولا إن كان متعديا، ويصير متعديا إن كان لازما، ويُعاقب الهمزة كثيرا ويُغني عنها قليلا تضعيفُ العين ما لم تكن همزة. وقلّ ذلك في غيرها من حروف الحلق".
ش: احترزت بقولي "في هذا الباب علم، لأن همزة النقل فيه أوصلت علم ورأى إلى مفعول ثالث، وقد مضى الكلام على ذلك مستوفى. والغرض الآن