الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ففاعل يشربها غير مذكور، ولكنه مفهوم، كأنه قيل: ولا يشرب الخمر شاربُها. وقد يغني عن الفاعل استحضاره في الذهن بذكر فعل ناصب لما لا يصح إلّا له، كقول الشاعر:
لقد عَلِمَ الضيفُ والمُرْمِلون
…
إذا اغْبَرَّ أفْقٌ وهَبّتْ شمالا
فأغنى عن إظهار الريح استحضارُها في الذهن بهبت ونصبه شمالا على الحال، فكان ذلك بمنزلة التصريح بالريح. ومثله قول الآخر:
وأُكْرِمُ الضيفَ والجارَ الغريبَ إذا
…
هَبَّتْ شآميةً واشْتَدَّتْ القررُ
فنصب شآمية وأضمر الريح. وإلى هذا الموضع وأشباهه أشرت بقولي "ويرفع توهم الحذف إن خفى الفاعل جعلُه مصدرا منويّا ونحو ذلك".
باب النائب عن الفاعل
ص: قد يُترك الفاعل لغرض لفظي أو معنوي جوازا أو وجوبا، فينوب عنه جاريا مجراه في كل ماله مفعول به، أو جار ومجرور أو مصدر لغير مجرد التوكيد ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل، أو ظرف مختص متصرف، وفي نيابة غير متصرف أو غير ملفوظ به خلاف. ولا يمتنع نيابة المنصوب بسقوط الجار مع وجود المنصوب بنفس الفعل، ولا نيابة غير المفعول به وهو موجود، وفاقا للأخفش والكوفيين.
ش: نيابة غير الفاعل عن الفاعل لغرض لفظي أشير بها إلى قصد الإيجاز كقوله
تعالى: (ومن عاقب بمثل ما عُوقب به ثم بُغي عليه)، وإلى موافقة المسبوق السابق كقول بعض الفصحاء: مَن طابتْ سريرتُه حُمِدتْ سيرتُه، وإصلاح النُظْم كقول الأعشى:
عُلّقتُها عَرَضا وعُلِّقَتْ رجُلا
…
غيري وعُلِّق أخرى غيرها الرجلُ
وكقول عنترة:
فإذا شربْتُ فإنّني مُسْتهلكٌ
…
مالي وعرضي وافرٌ لم يُكْلَمِ
ونيابة غير الفاعل عنه لغرض معنوي كقوله تعالى: (وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفا) وكقوله تعالى: (ضُرِبَ مثلٌ فاستعموا له) فترك الفاعل لكونه معلوما وناب عنه المفعول به. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، ونُصِرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عادٌ بالدَّبور". ومن النيابة عنه لغرض معنوي قول الرجل: نبّئت بكذا إذا لم يعرف من نبأه. ومنه ما يرد من قول بعض الرواة: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كَيْت وكَيْت: ومن الأغراض المعنوية أيضا ألّا يتعلّق مراد المتكلم بتعيين فاعل كقوله تعالى: (فإنْ أحْصِرتُم فما اسْتَيْسَر من الهدي)، و:(إذا حُيّيتُم بتحيّةٍ فحَيُّوا بأحسن منها) و: (إذا قيل
لكم تفسَّحوا في المجالس فافسحوا)، وكقول الشاعر:
وإنْ مُدَّت الأيدي إلى الزّاد لم أكن
…
بأعْجلهم إذْ أجْشَعُ القوم أعْجَلُ
ومنها تعظيم الفاعل بصون اسمه عن مقارنة اسم المفعول كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بُلي منكم بهذه القاذورة فليستتر" ومنها تعظيم المفعول بصون اسمه عن مقارنة اسم الفاعل كقولك أُوذِي فلانٌ، إذا عظّمته واحتقرت من آذاه. ومنها الستر على الفاعل خوفا منه أو خوفا عليه. وأشرت بقولي "جاريا مجراه في كل ماله" إلى أن النائب عن الفاعل يخلفه في الرفع ووجوب التأخر عن الرافع والتنزل منزلة الجزء منه وعدم الاستغناء عنه.
ثم نبّهت على أن النائب عن الفاعل إما مفعول به نحو ضُرِبَ زيد، وإما جارٌ ومجرور نحو غُضِب عليه، ولم يلزم من نيابة الجار والمجرور مخالفة، لأن الفاعل قد يكون مجرورا نحو:(كفى بالله شهيدا) وقيّدت المصدر الذي ينوب بكونه لغير مجرد التوكيد تنبيها على أن المصدر المسوق لمجرد التوكيد لا يقام مقام الفاعل، فلا يقال في مثل: ضلّ زيدٌ ضلالا: ضُلَّ ضلال، لعدم الفائدة بخلاف قام في الدار زيد قياما طويلا أو قومةً أو قومتين، فإن المصدر فيه مسوق لغير مجرد التوكيد فلا يخلو الإسناد إليه من فائدة. ونبّهت بقولي:"ملفوظ به أو مدلول عليه بغير العامل" على أن المنويّ مدلولا عليه بالعامل لا ينوب. وقد أجاز ذلك قوم من المتأخرين. ولا سبيل إليه، لأن الفعل لا يدل على المصدر المختص ولا المحدود، وإنما يدل على الذي لمجرد التوكيد، والذي لمجرد التوكيد لا فائدة في الإسناد إليه وهو ملفوظ به، فكيف إذا نُوي ولم يلفظ به.
فإن كان المصدر المنوي مدلولا عليه بغير الفعل جاز الإسناد إليه كقولك: بلى سير سيْرٌ لمن قال: ما سِير سَيْرٌ. ولو جاز الإسناد إلى المصدر المنوي مطلقا لم يمتنع أن يقال ابتداء ضُرِب أو نحو ذلك. وفي كلام الزجاجي إشعار بأن سيبويه يجيز ذلك، لأنه قال: وقد أجازه بعضهم على إضمار المصدر وهو مذهب سيبويه.
قال ابن خروف: لا يجيز أحد من النحويين ردّ الفعل إلى ما لم يُسمَّ فاعله على إضمار المصدر المؤكد، لا يجيز أحد قُعِد، وضُحِك من غير شيء يكون بعد هذا الفعل، ثم ادّعاؤه - يعني الزجاجي - أنه مذهب سيبويه (فاسد لأن سيبويه لا يجيز إضمار المصدر المؤكد في هذا الباب والذي أجاز سيبويه) لا يمنع بَشَر، وهو إضمار المصدر المقصود، مثل أن يقال لمتوقع القعود: قد قُعِد ولمتوقع السفر قد سُوفِر، أي قد قُعِد القعود وقد سُوفر السفر الذي ينتظر وقوعه، والفعل لا يدل على هذا النوع من المصادر والدال عليه فعل آخر. هكذا قال ابن خروف وهو الصحيح.
وقيدت الظرف الصالح للنيابة بكونه مختصا تنبيها على أن غير المختص لا يصلح للنيابة كوقت وزمن ومدة، فلا يقال في سرت وقتا: سير وقتٌ لعدم الفائدة، بخلاف سرت وقتا معينا وزمنا طويلا ومدة من النهار، فإن الظرف فيه مختص والإسناد إليه مفيد. وقيدته بالتصرف تنبيها على أن ما لا يتصرف لا يصلح للنيابة كسَحَر معينا، وثَمّ فلا يقال في أتيت سحرَ وجلست ثَمَّ: أُتي سحر وجُلس ثم؛ لأن الظرفية لا تفارقهما ولا يسند إليهما منصوبين حكما لمحلهما بالرفع، لأن الفاعل لم يُحكم له بمثل ذلك، وليس كذلك الحكم على المجرور بالرفع فإنه ثابت للفاعل كما سبق، فلم يلزم من معاملة النائب فيه محذور. وأجاز ابن السراج نيابة الظرف
المنوي وأجاز الأخفش نيابة الظرف الذي لا يتصرف نحو أن تقول جُلس عندك، ومذهبه في هذه المسألة ضعيف.
وأجاز هو والكوفيون نيابة غير المفعول به مع وجوده، وبقولهم أقول، إذ لا مانع من ذلك مع أنه وارد عن العرب، ومنه قراءة أبي جعفر:(ليُجزَى قومًا بما كانوا يكسبون) فأقام الجار والمجرور مقام الفاعل وترك قوما منصوبا وهو مفعول به، ومثل هذا القراءة قول الشاعر:
ولو وَلَدتْ قُفَيرةُ جَرْوَ كلبٍ
…
لسُبَّ بذلك الجرو الكلابا
فأقام الجار والمجرور مقام الفاعل ونصب الكلاب وهو مفعول به. ومثله قول الراجز:
أُتيح لي من العِدَى نذيرا
…
به وُقيتُ الشرَّ مُسْتطيرا
ومثله:
وإنما يُرضي المُنيبُ ربَّه
…
ما دام مَعْنيّا بذكرٍ قلبَهُ
ومثله في أحد الوجهين:
لم يُعْنَ بالعلياء إلا سيْدا
…
ولا شَفَى ذا الغَيِّ إلا ذو الهدى
وزعم ابن بابشاذ أن جرو كلب منادى والكلاب منصوب بولدتْ. قال ابن
خروف: فقد أفسد اللفظ والمعنى، وقال الأخفش في "المسائل" تقول ضُرب الضربُ الشديدُ زيدا وضُرب اليومان زيدا وضُرب مكانُك زيدا ووُضع موضعُك المتاعَ. ومن مسائله: أُعطِي إعطاءٌ حسنٌ أخاك درهما، ويا مضروبا عنده زيدا.
ص: ولا يمتنع نيابة غير الأول من المفعولات مطلقا إن أُمن اللبسُ ولم يكن جملة أو شبهها خلافا لمن أطلق المنع في باب ظن وأعلم. ولا ينوب خبر كان المفرد خلافا للفراء، ولا مميز خلافا للكسائي، ولا يجوز كين يقام ولا جُعل يفعل، خلافا له وللفراء.
ش: لا خلاف في جواز نيابة ثاني المفعولين من باب أعطى إذا أمن اللبس نحو أعطيت زيدا درهما، ولا في منعها إن خيف اللبس نحو أعطيت زيدا عمرا، فيجوز في المثال الأول أن يقال أعطى درهمٌ زيدا، لأن اللبس فيه مأمون. ولا يجوز في المثال الثاني أن يقال أُعطِي عمروا زيدا، لأن عمرا مأخوذ فيتوهم كونه آخذا. ومنع الأكثرون نيابة ثاني المفعولين جملة ولا ظرفا ولا جارا ومجرورا، وذلك مثل قولنا: في ظننت الشمس بازغة: ظُنّتْ بازغةٌ الشمسَ، وفي علمت قمر الليلة بدرا: عُلم بدرٌ قمرَ الليلة، وفي اتخذ الناس مقام إبراهيم موضع صلاة: اتُّخذ موضعُ صلاة مقامَ إبراهيم، فيجوز هذا وأمثاله، كما يجوز أُعطي درهمٌ زيدا وأُدخِلَ القبرُ الميتَ وكُسيت الجبة عمرا، لأن المعنى مفهوم واللبس مأمون. وإذا كان أمن اللبس مسوّغا لجعل الفاعل مفعولا والمفعول فاعلا في كلام واحد نحو خرق الثوبُ المسمارَ - وبلغتْ سوءاتِهم هجرُ - فجواز هذه المسائل وأشباهها أحق وأولى.
فلو خيف اللبس لم ينب إلا الأول نحو علم صديقُك عدوَّ زيد، فإن معناه عُلم المعروف بصداقتك أنه عدو زيد، فصداقة المخاطب مستغنية عن الإخبار بها وعداوة زيد مفتقرة إلى الإخبار بها فلو عكست لانعكس المعنى. وأكثر مسائل هذا الباب هكذا، ولذا منع الأكثرون نيابة الثاني مطلقا. ويجوز أيضا أن يقال في أعلمت زيدا كبشك سمينا: أُعلم كبشُك سمينا زيدا، لأن زيدا والكبش مستويان في المفعولية ومباينة الفاعلية فتساويا في قبول النيابة عن الفاعل على وجه لا يخل بفهم ولا يوقع في وهم.
وحكى السيرافي في شرح الكتاب أن الفراء يجيز كين أخوك في كان زيد أخاك، وزعم أنه ليس من كلام العرب. ورُد عليه بأن قيل هو فاسد لعدم الفائدة ولاستلزام وجود خبر عن غير مذكور ولا مقدر. وأجاز الكسائي في امتلأت الدار رجالا: امتلئ رجالٌ. وحكى خُذه مطيوبة به نفسٌ، ومَن الموجوع رأسُه والمسفوهُ رأيُه والموقوف أمره. وأجاز هو والفراء في كان زيد يقوم وجعل عمرو يفعل: كين يقام وجُعل يفعل، والمسند إليه ضمير المجهول عند الكسائي، ومستغنى عنه عند الفراء.
فصل: ص: يُضم مطلقا أول فعل النائب، ومع ثانيه إن كان ماضيا مزيدا أوله تاء، ومع ثالثه إن افتتح بهمزة وصل. ويحرك ما قبل الآخر لفظا إن سلم من إعلال وإدغام، وإلا فتقديرا بكسر إن كان الفعل ماضيا وبفتح إن كان مضارعا. وإن اعتلت عين الماضي ثلاثيا أو على انْفعل أو افْتَعل كُسر ما قبلها بإخلاص أو إشمام ضم وربما أخلص ضما، ويمنع الإخلاص عند خوف اللبس. وكسر فاء فعِل ساكن العين لتخفيف أو إدغام لغة، وقد تشم فاء المدغم، وشذ في تُفوعل تِفِيعلِ. وما تعلق بالفعل غير فاعل أو مشبه به أو نائب عنه منصوب لفظا أو محلا، وربما رفع مفعول به ونصب فاعل لأمن اللبس".
ش: النائب هو ما يسند إليه فعل ما لم يُسمّ فاعله، وكيفية صوغه لما لم يسم فاعله أن يُضم أوّله مطلقا، أي في مضيّ ومضارعة. وإن كان الماضي مفتتحا بتاء مزيدة ضم أوله وثانيه، وإن كان مفتتحا بهمزة وصل ضم أوله وثالثه، ويزاد إلى ذلك تحريك ما قبل الآخر لفظا أو تقديرا بكسر في الماضي وفتح في المضارع كقولك في ضَرب وتَعلّم واستخرَجَ: ضُرِب وتُعُلّم واستُخْرج. وفي يُضرب ويتعلّم ويستخرج: يُضرب ويتعلّم ويُسْتخرَج. فهذه أمثلة المحرك ما قبل آخره لفظا، وأمثلة المحرك ما قبل آخره تقديرا قيلَ وأُقيم واستُقيم ورُدَّ الشيءُ وأعدّ واستُعدّ ويقال ويقام ويستقام ويُرَدّ ويُعَدّ ويُستَعدُّ. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي:"ويحرك ما قبل الآخر لفظا إن سلم من إعلال وإدغام، وإلا فتقديرا".
ثم بنيت أن الحركة الملفوظة والمقدرة كسرة في الماضي وفتحة في المضارع. ثم بينت أن ما قبل العين المعتلة من الماضي الثلاثي الموازن لانفعل أو افتعل يكسر كسرة خالصة أو مشمة بضم نحو بيع المتاعُ وسيق الثمنُ وانقِيد إلى الحق واختير الصواب، فيحرك ما قبل العين بالكسرة التي كانت لها في الأصل، فإن كانت العين ياء سلمت لسكونها بعد ما يجانسها، وإن كانت واوا انقلبت ياء لسكونها بعد كسرة. ومن أشم الكسرة ضمة لم يغير الياء وهي ولغة إخلاص الكسر لغتان فصيحتان مقروء بهما.
وبعض العرب يخلص الضمة، فإن كانت العين واوا سلمت لسكونها بعد ما يجانسها، وإن كانت ياء انقلبت واوا لسكونها بعد ضمة، وعلى هذه اللغة قول الراجز:
ليْتَ وهل يَنفعُ شيئا ليتُ
…
ليتَ شبابا بُوعَ فاشتريتُ
ومنه قول الآخر:
حُوكتْ على نيربن إذ تُحاكُ
…
تَخْتبطُ الشَّوكَ ولا تُشاكُ
ولا يجوز إخلاص الكسر ولا إخلاص الضم إذا أُسند الفعل إلى تاء الضمير ونونه إلا بشرط ألا يلتبس فعل المفعول بفعل الفاعل. بل يتعين عند خوف الالتباس إشمام الكسرة ضما، ومثال ما يخاف الالتباس فيه قولك في بيع العبد بِعْت يا عبد، وفي عُوق الطالب عقت يا طالب. فإن هذا ونحوه لا يعلم كون المخاطب فيه مفعولا إذا أخلصت الكسرة مما عينه ياء، والضمة مما عينه واو، بل الذي يتبادر إلى ذهن السامع كون المسند إليه فاعلا والمراد كونه مفعولا، ولا يفهم ذلك إلا بالإشمام فيهما وبإخلاص الضمة في نحو بُعْتَ يا عبد، وبإخلاص الكسرة في نحو عِقْتَ يا طالب، فوجب اجتناب ما يوقع في اللبس. وإلى هذا أشرت بقولي "ويمنع الإخلاص عند خوف اللبس".
ومن العرب من يكسر فاء رُدَّ ونحوه بإخلاص وإشمام. وحكى الأخفش أن من العرب من يقول في تُعولِم تُعيلم، وهو في الشذوذ مشبه بقول بعض في ابنك وأخيك ابنؤك وأخْؤُكَ.
وقد يقال في فُعِل فُعْل تخفيفا دون نقل. وربما نقلوا فقالوا في عَلِم عِلْم. وإلى هذا أشرت بقولي "وكسر فاء فعل ساكن العين لإدغام أو تخفيف لغة".
وما تعلق بالفعل وليس بفاعل ولا شبيه به ولا بنائب عنه فمنصوب لفظا إن لم يدخل عليه حرف جر، ومحلا إن دخل عليه، وأمثلة ذلك بيّنة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
وقد يحملهم ظهور المعنى والعلم بأمن اللبس مع ألا يجهل المراد على الإتيان في جملة واحدة بفاعل منصوب ومفعول مرفوع كقولهم: خرق الثوبُ المسمارَ، وكسَر الزجاجُ الحجرَ، وكقول الشاعر:
مثلُ القنافد هدَّاجونَ قد بلغتْ
…
نجرانَ أو بلغتْ سوءاتهم هجرُ
فرفع هجر ونصب السوءات وهي البالغة وهجر مبلوغة، كما رُفع الثوب وهو
المخروق ونصب المسمار وهو الخارق. ومن هذا القبيل قول الراجز:
إنَّ سِراجا لكريمٌ مَفْخَرُهْ
…
تَحْلَى به العينُ إذا ما تَحْقِرُهْ
وحقه أن يقول يحلى بالعين، وقد حمل بعض النحويين على هذا قوله تعالى:(ما إنَّ مفاتِحه لَتَنوءُ بالعُصْبة) حكى ذلك الفراء ورجح كون الباء معدّية كما هي في قوله تعالى: (ذهب الله بنورهم) أي أذهب الله نورهم، وكما هي في قول الشاعر:
ديارَ التي كادتْ ونحنُ على منى
…
تَحِلُّ بنا لولا نجاءُ الركائِبِ
فصل: ص: يجب وصل الفعل بمرفوعه إن خيف التباسه بالمنصوب، أو كان ضميرا غير محصور وكذا الحكم عند غير الكسائي وابن الأنباري في نحو ما ضرب عمرو إلا زيدا، فإن كان المرفوع ظاهرا والمنصوب ضمير لم يسبق الفعل ولم يحصر فبالعكس، وكذا الحكم عند غير الكسائي في نحو ما ضرب عمرا إلا زيد، وعند الأكثرين في نحو ضرب غُلامُه زيدا، والصحيح جوازه على قلة".
ش: المرفوع بالفعل كجزئه، فالأصل أن يليه بلا فصل، وانفصاله بالمنصوب جائز ما لم يعرض موجب للبقاء على الأصل أو للخروج عنه، فيجب البقاء على الأصل عند خوف التباس المرفوع بالمنصوب نحو ضرب هذا ذاك، فالمرفوع في مثل هذا هو الأول إذ لا يتميز من المنصوب إلا بالتقديم، فلو تميز بقرينة لفظية أو معنوية لجاز التقديم والتأخير نحو ضرب موسى سلمى ولحقت الأولى الأخرى. ويجب أيضا البقاء على الأصل إذا كان المرفوع ضميرا غير محصور نحو ضربت زيدا وأكرمتك،
فتقديم المرفوع أيضا في مثل هذا واجب. وعبرت بالمرفوع ليدخل الفاعل واسم كان والنائب عن الفاعل.
وإذا كان مرفوع الفعل محصورا وجب تأخيره وتقديم المنصوب عند البصريين والكوفيين إلا الكسائي. ويستوي في ذلك المضمر والظاهر، فالمضمر كقوله تعالى:(لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو) والظاهر نحو لا يصرف السوءَ إلا اللهُ. فلو قلت لا يصرف إلا اللهُ السوءَ امتنع عند غير الكسائي فلو كان الحصر في غير المرفوع لزم أيضا تأخير المحصور إلا عند الكسائي وأبي بكر بن الأنباري نحو لا يرحم اللهُ إلا الرحماءَ، فلو قلت لا يرحم الرحماء إلا اللهُ لم يجز إلا عندهما.
وحجة من منع تقديم المحصور مطلقا حمل الحصر بإلا على الحصر بإنما، وذلك أن الاسمين بعد إنما لا يعرف متعلق الحصر منهما إلا بتأخره كقولك قاصدا لحصر المفعولية في زيد إنما يضرب عمرو زيدا، فالمراد كون الضرب الصادر من عمرو مخصوصا به زيد، ولا يُعلَم هذا إلا بتأخير زيد فامتنع تقديمه، وجعل المقرون بإلا متأخرا وإن كان لا يخفى كونه محصورا لو لم يتأخر ليجرى الحصر على سنن واحد. ولم يلزم الكسائي ذلك، لأن الاقتران بإلا يدل على المعنى، والتوسع عند وضوح المعنى أولى من التضييق بمنع أحد الاستعمالين. واعتبر ابن الأنباري تأخر المقرون بإلا لفظا أو تقديرا فأجاز تقديمه إذا لم يكن مرفوعا، لأنه وإن تقدم لفظا فهو مؤخر معنى، ولم يُجِز تقديمه إذا كان مرفوعا، لأنه إذا تقدم لفظا تقدم معنى فيلزم من تقديمه فوات تأخر المحصور لفظا أو تقديرا وذلك غير جائز. ويؤيد ما ذهب إليه أبو بكر قول الشاعر:
تَزَوّدتُ من ليلى بتَكليم ساعةٍ
…
فما زاد إلَّا ضِعْفَ ما بي كلامُها
ومثله في مفعول ما لم يُسمّ فاعله قول زهير:
وهلْ ينبتُ الخِطّيَّ إلّا وشيجُهُ
…
وتُغْرَسُ إلّا في منابتها النخلُ
ومما يجب فيه الخروج عن الأصل أن يكون المرفوع ظاهرا والمنصوب ضميرا غير محصور نحو أكرمك زيد والثوبُ كُسيَهُ زيد. فلو قصد حصر المنصوب تأخر وتقدم المرفوع نحو ما أكرم زيد إلا إيّاك والثوبُ ما كُسيَ زيدٌ إلا إياه، فلو قصد تقديم المنصوب على الفعل اهتماما به لقيل إياك أكرمَ زيدٌ، والثوب إياه كُسِيَ زيدٌ. وإلى هذا كله أشرت بقولي "فإن كان المرفوع ظاهرا والمنصوب ضمير لم يسبق الفعل ولم يحصر فبالعكس".
ومنع أكثر النحويين تقديم المرفوع الملابس ضميرا عائدا على المنصوب نحو ضربَ غلامُه زيدا، والصحيح جوازه لوروده في كلام العرب الفصحاء كقول حسان رضي الله عنه:
ولو أنَّ مَجْدا أخْلدَ الدهرَ واحدا
…
مِن الناس أبقى مَجدُه الدهرَ مُطْعِما
وكقول الآخر:
كسا حِلْمُه ذا الحلمَ أثواب سؤدد
…
ورَقَّى نداه ذا الندى في ذُرَى المجْد
فقدّم فاعل كسا وفاعل رقّى، وكلاهما مضاف إلى ضمير مفعول متأخر. وكقول الآخر:
ألا ليتَ شعري هل يلومَنَّ قومُه
…
زُهيرًا على ما جَرَّ مِن كلّ جانب
وكقول الآخر:
جزى بنُوه أبا الغيلان عن كِبَرٍ
…
وحُسنِ فعلٍ كما يُجزى سِنِمّارُ
وكقول الآخر: