المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٢

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر

‌باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر

ص: الداخل عليهما كان، والممتنع دخولها عليهما، لاشتمال المبتدأ على الاستفهام، فتنصبهما مفعولين. ولا يحذفان معا أو أحدهما إلا بدليل، ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين، ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان، فإن وقع موقعهما ظرف أو شبهه أو ضمير أو اسم إشارة امتنع الاقتصار عليه إن كان أحدهما، لا إن لم يكن ولم يعلم المحذوف.

ش: أفعال هذا الباب هي النوع الثالث من نواسخ الابتداء، وأخر بابها لأن جزأي الإسناد فيه مستويان في النصب، كما هما في باب الابتداء مستويان في الرفع، فجعلا طرفين في الترتيب، واكتنفا بأبى كان وإن، لأن أحد الجزأين فيهما مرفوع والآخر منصوب فلم يفترقا.

وقد تقدم بيان ما تدخل عليه كان وما لا تدخل عليه، فلذلك أحلت عليه، إلا أن مما لا تدخل عليه كان ما اشتمل من المبتدآت على استفهام نحو: أيهم أفضل؟ وغلام من عنده؟ فهذا النوع لا يمتنع دخول أفعال هذا الباب عليه كما امتنع دخول كان عليه، فلذلك قلت بعد الداخل عليهما كان والممتنع دخولها عليهما: لاشتمال المبتدأ على استفهام" فيقال في: أيهم أفضل؟ وغلام من عنده؟ أيهم ظننت أفضل؟ وغلام من ظننت عنده؟

ولا يحذف أحدهما إلا بدليل، لا يجوز لك في: ظننت زيدا منطلقا، أن تقتصر على منطلق، ولا على زيد، لئلا تذكر خبرا دون مخبر عنه، أو مخبرا عنه دون خبر. فإن دل دليل على المحذوف جاز الحذف. كقولك: قائما، لمن قال: ما ظننت زيدا؟ وزيدا، لمن قال: من ظننت قائما؟ قال عنترة:

ص: 72

ولقد نزلتِ فلا تظُنِّي غيره

مني بمنزلة المُحَبِّ المكرم

أي: فلا تظني غيره كائنا، وقال آخر:

كأن لم يكنْ بين إذا كان بعده

تلاقٍ ولكن لا إخال تلاقيا

أي لا إخال الكائن تلاقيا، أو لا إخال بعد البين تلاقيا. ومن المحذوف لدليل قول الشاعر:

وأنتِ غريمٌ لا أظن قضاءه

ولا العَنَزِيُّ القارِظُ الدهرَ جائيا

وقد يحذفان معا إن وجدت فائدة، كقوله تعالى:(والله يعلم وأنتم لا تعلمون). وكقوله تعالى: (أعنده علم الغيب فهو يرى). وكقولهم: من يسمع يخل. وكقوله:

بأيِّ كتابٍ أم بأيّةِ سُنّةٍ

ترى حبَّهم عارا عليّ وتحسب

فلو لم تقارن الحذف قرينة تحصل بسببها فائدة لم يجز الحذف، كاقتصارك على: أظن، من قولك: أظن زيدا منطلقا، فإنه غير جائز، فإن غرضك الإعلام بأن إدراكك لمضمون الجملة بظَنٍّ لا بيقين، فتنزل الظن من جملة الحديث منزلة: في ظني، فكما لا يجوز لمن قال: زيد منطلق في ظنِّي، أن يقتصر على: في ظنِّي، كذا لا يجوز لمن قال: أظن زيدا منطلقا، أن يقتصر على أظن. ولأن قائل: أظن أو أعلم دون قرينة تدل على تحدد ظن أو علم، بمنزلة قائل: النار حارة، في عدم الفائدة، إذ لا يخلو إنسان من ظن ما، ولا عِلْم ما. ومنع الاقتصار على أظن ونحوه

ص: 73

على الوجه المذكور هو مذهب سيبويه والمحققين ممن تدبر كلامه، كأبي الحسن بن خروف، ابن طاهر، وأبي علي الشلوبين. ومما يدل على ذلك من كلام سيبويه قوله في باب إضمار المفعولين اللذين تعدى إليهما فعل الفاعل: وذلك أن حسبت بمنزلة كان، إنما تدخلان على المبتدأ والمبني عليه، فيكونان في الاحتياج على حال، ألا ترى أنك لا تقتصر على الاسم الذي بعدهما، كما لا تقتصر عليه مبتدأ، فالمنصوبان بعد حسب بمنزلة المرفوع والمنصوب بعد ليس وكان في احتياجهما إلى المرفوع والمنصوب فكما لا يقتصر على ليس وكان دون المرفوع والمنصوب، لا يقتصر على حسب ومرفوعها دون المنصوبين، وهذا واضح، ويؤيده قوله في آخر الباب الذي يلي الباب المشار إليه، بعد ذكر حسب وأخواتها: والأفعال الأُخر إنما هي بمنزلة اسم مبتدأ، والأسماء مبنية عليها، ألا ترى أنك تقتصر على الاسم كما تقتصر على المبني على المبتدأ" يريد أنك تقتصر على ضربت، كما تقتصر على المبتدأ وخبره. ثم قال: فلما صارت حسب وأخواتها بتلك المنزلة جعلت بمنزلة إنّ وأخواتها إذا قلت: أني، ولعلي؛ لأن إن وأخواتها لا تقتصر على الاسم الذي يقع بعدها"، فجعل افتقار حسب وأخواتها مع فاعلها إلى الجزأين كافتقار إنّ ولعل ومع منصوبيها إلى الخبر، وهذا أيضا واضح، وفي هذا الكلام تسوية بين حسبت وأخواتها، فعلم أنه حين قال: لأنك قد تقول: ظننت فتقتصر، لم يقصد الإطلاق ولا الاختصاص، بل قصد التنبيه على أن بعض المواضع قد يقتصر فيه على الفعل ومرفوعه لقرينة تحصل بها الفائدة، واكتفى بظننت اختصارا واتكالا على العلم بمساواة غير ظننت بظننت.

وذهب ابن السراج والسيرافي إلى جواز الاقتصار على مرفوع هذه الأفعال مطلقا، وكأن الذي دعاهما لهذا أن الأخفش قال في كتابه المسمى بالمسائل الصغرى: تقول: ضربَ عبد الله، وظن عبد الله، وأعلم عبد الله، إذا كنت تخبر عن الفعل" هذا نصه. والذي عندي في هذا أن الأخفش لم يقصد جواز الاقتصار مطلقا، بل

ص: 74

مع قرينة محصلة للفائدة، كقولك لمن قال: من ظنني ذاهبا؟ ظن عبد الله. ولمن قال: من أعلمك أني ذاهب؟ أعلم عبد الله. ولذلك قال: إذا كنت تخبر، فإن الناطق بما لا فائدة فيه ليس بمخبر.

وأشرت بقولي: "ولهما من التقديم والتأخير ما لهما مجردين". إلى أن الأصل تقديم المفعول الأول وتأخير المفعول الثاني، وأنه قد يعرض ما يوجب البقاء على الأصل، وما يوجب الخروج عنه، كما يعرض في باب الابتداء، فإن لم يعرض موجب لأحد الأمرين جاز التقديم والتأخير. فمن موجبات البقاء على الأصل تساويهما في تعريف أو تنكير نحو: ظننت زيدا صديقك، وعلمت خيرا منك فقيرًا إليك. ومن موجبات الخروج عن الأصل حصر المفعول الثاني نحو: ما ظننت زيدا إلا بخيلا. وقد بينت أسباب البقاء على الأصل والخروج عنه في باب الابتداء مستوفاة، فأغنى ذلك عن استيفائها هنا، واكتفى بالإحالة عليها.

ثم قلت: "ولثانيهما من الأقسام والأحوال ما لخبر كان" أي لثاني مفعولي هذه الأفعال من ذلك ما لخبر كان، وإنما كان له ما قرر كذلك لتساويهما في الخبرية واستحقاق النصب. وقد ذكرت الأقسام والأحوال هناك، فلم تكن هنا حاجة إلى ذكرها.

وقد يقع بعد إسناد هذه الأفعال إلى فاعلها ظرف أو جار ومجرور أو ضمير أو اسم إشارة، فيمتنع الاقتصار عليه، إن كان أحد المفعولين لا إن لم يكن أحدهما، فالاقتصار على "عندك" إذا قلت: ظننت عندك، جائز إن جعل ظرفا لحصول الظن، وغير جائز إن جعل مفعولا ثانيا والآخر محذوف. والاقتصار على "لك" إذا قلت: ظننت لك، جائز إن جعل علة لحصول الظن، وغير جائز أن جعل مفعولا ثانيا والآخر محذوف. وكذا لو قلت: ظننته، أو ظننت ذاك مقتصرا، جاز إن عنى بالضمير واسم الإشارة المصدر، ولم يجز أن عنى أحد المفعولين ولم يفهم الآخر بدليل، كقول من قيل له: أظننته صديقك؟ نعم ظننته. وقال الفراء في: ظننته ذاك، ذاك إشارة إلى الحديث، أجرته العرب مجرى المفعولين، يقول القائل: كان من الأمر كذا كذا، فيقول المخبر: قد ظننت ذاك. قال ابن خروف: وهو قول لا بأس به. وقال أبو زيد في مصادره: خلت ذاك إخاله خالا. والأظهر أن يكون ذاك إشارة إلى الحديث لذكره المصدر بعد.

ص: 75

ص: وفائدة هذه الأفعال في الخبر ظَنٌّ أو يقين أو كلاهما، أو تحويل.

فالأول: حَجا يحجو، لا لغَلَبة ولا قصد ولا ردٍّ ولا سوق ولولا كتْم ولا حِفْظ ولا إقامة ولا بُخْل. وعدَّ، لا لحسبان، وزَعَم، لا لكفالة ولا رياسة ولا سِمَن ولا هُزال. وجعل، لا لتصيير ولا إيجاد ولا إيجاب ولا ترتيب ولا مقاربة. وهَبْ غير متصرف.

وللثاني: عَلِم، لا لعُلْمَة ولا عِرْفان. ووجد، لا لإصابة ولا استغناء ولا حزن ولا حِقْد. وألفى مرادفتها. ودرى لا لخَتْل، وتَعَلّمْ بمعنى اعلم غير متصرف.

وللثالث: ظن، لا لتُهْمة. وحسب، لا للون. وخال يَخال، لا لِعُجْب ولا ظَلَع. ورأى، لا لإبصار ولا رأيٍ ولا ضرب.

وللرابع: صَيّر وما رادفها من جعل، ووَهَب غير متصرف، ورَدّ، وتَرَك، وتَخِذ، واتَّخذ، وأكان.

وألحقوا برأي العلمية الحُلمية، وسَمِع المعلقة بعين، ولا يخبر بعدها إلا بفعل دال على صوت، ولا تُلْحَق ضَرَب مع المَثل على الأصح، ولا عَرَف وأبْصَر خلافا لهشام، ولا أصاب وصادف وغادر خلافا لابن درستويه.

ش: كل فعل لا يغني مرفوعه عن مخبر به صالح للتعريف والتنكير، أو جملة تقوم مقامه، فهو من باب كان. وكل فعل لا يغني منصوبه عن ثان مخبر به صالح للتعريف والتنكير، أو جملة تقوم مقامه، فهو من باب ظن. ويميز النوعين وقوعُ ثاني المعمولين بعد الضمير المسمى فصلا، أو اللام المسماة فارقة. فالوقوع بعد الفصل نحو:(ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق). و: (تجدوه عند الله هو خيرا). و: (وجعلنا ذريته هم الباقين) والوقوع بعد

ص: 76

اللام الفارقة نحو: (وإنْ كانت لكبيرة) و: (وإنْ كادوا ليفتنونك) و: (وإنْ وجدنا أكثرهم لفاسقين).

وأفعال هذا الباب أربعة أنواع: نوع مختص بالظن، ونوع باليقين، ونوع صالح للظن وصالح لليقين، ونوع للتحويل من وصف إلى وصف.

فمن الأول حجا كقوله:

قد كنت أحجو أبا عمرو أخا ثقة

حتى ألمت بنا يوما مُلِمّات

أراد: قد كنت أظن، فعداه إلى مفعولين هما في الأصل مبتدأ وخبر كما يفعل بأظن. ولحجا استعمالان آخران هي في أحدهما متعدية إلى مفعول واحد، وفي الآخر لازمة، فالأول أن يكون بمعنى غلب في المحاجاة، وبمعنى قصد، وبمعنى رد، وبمعنى ساق، وبمعنى كتم، وبمعنى حفظ. والثاني أن يكون بمعنى أقام، وبمعنى بخل.

ومن أخوات حجا الظنية عدّ لا بمعنى حسب، كقول الشاعر:

فلا تَعْدُد المولى شريكَك في الغنى

ولكنما المولى شريكُك في العُدم

وكقول الآخر:

لا أعُد الإقتار عُدْما ولكن

فَقْدُ مَنْ قد فقدتُه الإعدام

ومن أخوات حجا الظنية زعم الاعتقادية، كقول الشاعر:

فإن تَزْعُميني كنتُ أجهلُ فيكم

فإني شَرَيْت الحلمَ بعدك بالجهل

ص: 77

ومصدر زعم هذه: زَعْم وزُعْم وزِعْم، ويقال زعم بمعنى كفل، وبمعنى رأس فيتعدى إلى مفعول واحد مرة وبحرف جر مرة أخرى. ويقال: زعمت الشاة بمعنى سمنت، وبمعنى هزلت فلا يتعدى.

ومن أخوات حجا الظنية جعل الاعتقادية كقوله تعالى: (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) أي: اعتقدوهم. وهذه غير التي للتصيير وسيأتي ذكرها، وغير التي بمعنى أوجد كقوله تعالى:(وجعل الظلمات والنورَ) وغير التي بمعنى أوجب كقولهم: جعلت للعامل كذا، وغير التي بمعنى ألقى كجعلت بعض متاعي على بعض، وغير التي للمقاربة وقد ذكرت في بابها.

ومن أخوات حجا الظنية هَبْ كقول الشاعر:

فقلت أجِرْني أبا خالد

وإلا فَهَبْني أمرأ هالكا

ومن النوع الثاني علم كقول الشاعر:

علمتك الباذل المعروف فانبعثت

إليك بي واجفاتُ الشوق والأمل

واحترزت بقولي: لا لعُلْمة ولا عرفان، من عَلِم عُلْمَة فهو أعلم أي مشقوق الشفة العليا، ومن عَلِم الموافق عرف نحو:"لا يعلمون شيئا".

ومن أخوات علم ذات المفعولين وَجَد نحو: (تجدوه عند الله هو خيرا) وكقول الشاعر:

فلما بلغْنا الأمهاتِ وجدتُمُ

بني عمِّكم كانوا كرامَ المضاجع

ص: 78

ومصدرها وِجدان عن ابن برهان عن الأخفش، ووُجود عن السيرافي. ولوجد استعمالان آخران، هي في أحدهما ذات مفعول، وفي الآخر لازمة، فالأول: بمعنى أصاب، وكوجد فلان ضالته وجدانا ووجودا. والثانية بمعنى استغنى ومصدرها وَجْد ووُجْد وجِدَة، وبمعنى غضب ومصدرها مَوْجدة، وبمعنى حزن ومصدرها وَجْد.

ومثل وجد ذات المفعولين ألفى مرادفتها، كقول الشاعر:

قد جرّبوه فألَوْه المغيث إذا

ما الرَّوْعُ عمَّ فلا يُلْوَى على أحد

وكقول الآخر:

إذا أنتِ أُعْطِيت الغنى ثم لم تَجُد

بفضلِ الغنى أُلْفِيت مالك حامدُ

ومن ذوات المفعولين درى بمعنى علم كقول الشاعر:

دُرِيت الوفيَّ العهد يا عُرْوَ فاغتبط

فإن اغتباطا بالوفاء حميدُ

وأكثر ما تستعمل معداة بالباء كقولك: دريت به، فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى واحدٍ بنفسها، وإلى الثاني بالباء، كقوله تعالى:(قل لو شاء الله ما تَلَوْتُه عليكم ولا أدراكم به) ويقال: درى الذئب الصيد إذا استخفى له ليفترسه، فتتعدى إلى مفعول واحد، وإليه أشرت بقولي: لا لختل.

ومن أخوات علم ذات المفعولين تَعَلَّمْ بمعنى اعلم، ولم يستعمل لها ماض ولا مضارع، والمشهور إعمالها في أنّ كقول الشاعر:

تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا

على مُتَطَيِّر وهي الثُّبورُ

ص: 79

وقد نصبت مفعولين في قول الآخر:

تَعَلّمْ شِفاءَ النفس قَهْرَ عَدُوِّها

فبالغ بلُطف في التَّحَيُّلِ والمكر

ومن النوع الثالث ظن وحسب وخال، واستعمالها في غير متيقن مشهور، كقوله تعالى:(إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) وكقوله تعالى: (ويحسبون أنهم على شيء) وكقول الشاعر:

ظننتك إنْ شُبَّتْ لظى الحرب صاليا

فَعَرَّدتَ فيمن كان عنها مُعَرِّدا

وكقول الآخر:

وكنّا حسبنا كلّ بيضاءَ شَحْمةً

ليالي لاقينا جُذامَ وحِمْيرا

وكقول الآخر:

إخالك إنْ لم تَغْضضِ الطَرْفَ ذا هوى

يَسُومُك ما لا تستطيع من الوجد

والمصدر من حسب حُسبان، ومن خال خَيْلا وخالا وخِيلة ومَخالة وخَيَلانا وخيلانا.

وتستعمل ظن في المتيقن كثيرا، كقوله تعالى:(الذين يظنون أنهم ملاقو ربِّهم) ويقل ذلك في حسب وخال، كقول الشاعر:

ص: 80

حسبت التُقى والمجدَ خيرَ تجارة

رباحًا إذا ما المرء أصبح ثاقلا

ومثله:

شهدتُ وفاتوني وكنت حسبتني

فقيرا إلى أن يشهدوا وتغييبي

ومثال ذلك في خال قول الشاعر:

دعاني الغواني عمهن وخِلْتُني

لي اسمٌ فلا أدعى به وهو أول

ومثله:

ما خِلتُني زلتُ بعدكم ضَمِنا

أشكو إليكم خُمُوَّة الألم

أراد: ما زلت بعدكم ضمنا خلتني كذلك.

وإن أريد بظن معنى اتهم تعدت إلى واحد.

ويقال: حسبَ الرجل إذا حمّر لونه وابيض كالبرص، وكذا إذا كان ذا شُقْرة، فذا فعل لازم، وكذا خال بمعنى تكبر، والفرس ظَلَع، والمضارع منهما ومن المتعدي إلى اثنين يَخال، ومن أجل هذه قلت: لا لتهمة ولا للون ولا لعجب ولا ظلع.

ومن المستعمل للظن واليقين رأى، كقوله تعالى:(إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) أي يظنونه ونعلمه، وأنشد أبو زيد:

تَقُوه أيها الفتيان إني

رأيت الله قد غلب الجدودا

رأيتُ الله أكبرَ كل شيء

محاولةً وأكثرهم جنودا

ويقال: رأيت الشيء بمعنى أبصرته، ورأيت رأى فلان بمعنى اعتقدته، ورأيت الصيد بمعنى أصبته في رئته، فهذه متعدية إلى واحد. وإليها أشرت بقولي:"لا لإبصار ولا رأي ولا ضرب".

ص: 81

والنوع الرابع صير وأصار وما وافقهما، كجعل في قوله تعالى:(فجعلناه هباء منثورا) ووهب في قولهم: وهبني الله فداءك، أي جعلني، ذكره الأزهري عن ابن الأعرابي.

وردّ كقوله تعالى: (لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا). وكقول الشاعر:

رمى الحِدْثانُ نِسْوة آل سعد

بمِقْدار سَمَدْنَ له سُمودا

فرد شُعُورهن السود بيضا

وردَّ وجوههن البيض سودا

وترك كقول الشاعر:

وربّيْتُه حتى إذا ما تركتُه

أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُه

وتخذ كقوله تعالى: (لتخذتَ عليه أجرا) وكقول الشاعر:

تَخِذتُ غُراز إثْرَهم دليلا

وقَرُّوا في الحجاز ليُعْجزوني

واتخذ كقوله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) وقوله تعالى: (إن الشيطان لكم عدُوّ فاتَّخذوه عدوّا) قال ابن برهان: ذهب أبو علي في قوله

ص: 82

تعالى: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) وقوله تعالى: (لو أردنا أن نتَّخِذ لهوا) ونحوهما، إلى أن اتخذ في جميعه متعد إلى واحد، قال: وتعدى إلى اثنين في: (اتَّخذوا أيمانَهم جُنَّة) و: (لا تتخذوا عَدُوّي وعدوَّكم أولياء) ونحوهما. قال ابن برهان: يقال لأبي علي: ألم تقل في قوله تعالى: (اتخذوه وكانوا ظالمين) إن التقدير: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني للدليل، فكذا التقدير في "اتخذت بيتا" اتخذت من نسجِاه بيتا، وفي:"أن نَتخذ لهوا" لو أردنا أن نتخذ شيئا لهوا. ولا أعلم اتخذ إلا يتعدى إلى مفعولين الثاني منهما بمعنى الأول.

وألحق ابن أفلح بأصار أكان المنقولة من كان بمعنى صار، وما حكم به جائز قياسا، لكني لا أعلمه مسموعا.

وقد ألحقت العرب رأي الحُلمية برأي العلمية فأدخلتها على المبتدأ والخبر ونصبتهما مفعولين، ومنه قول الشاعر:

يُؤَرِّقُني أبو حَنَش وطَلْقٌ

وعمّارٌ وآوِنةً أُثالا

أراهم رُفْقَتي حتى إذا ما

تَفَرّى الليل وانخزل انخزالا

إذا أنا كالذي أجرى لورد

إلى آل فلم يدرك بلالا

فنصب بها اسمين معرفتين هما مبتدأ وخبر في الأصل، كما يفعل برأى بمعنى علم وبمعنى ظن.

ص: 83

ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى: (إني أراني أعصر خمرا) فأعمل مضارع رأى الحلمية في ضميرين متصلين بمسمى واحد، وذلك مما يختص به علم ذات المفعولين وما جرى مجراها.

وألحق الأخفش والفارسي بعلم ذات المفعولين سمع الواقعة على اسم عين، ولا يكون ثاني مفعوليها إلا فعلا يدل على صوت، كقوله تعالى:(سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) ويجوز حذفه إن علم كقوله تعالى: (هل يسمعونكم إذ تَدْعون) أي: هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون؟ ويجوز أن يكون مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيكون التقدير: هل يسمعون دعاءكم؟ ولا يقال على هذا الحذف بلا دليل نحو أن يقال: سمعت زيدا، على تقدير: سمعت دعاء زيد، إذ ليس تقدير الدعاء بأولى من تقدير غيره. فلو وجد دليل على تعيين المحذوف كما في الآية حسن الحذف.

وقد تضمن سمع معنى أصغى فتتعدى تعديته، نحو:(لا يَسَّمَّعُون إلى الملأ الأعلى). ومعنى استجاب فيعدى تعديته، نحو: سمع الله لمن حمده.

فإن وقعت سمع على اسم ما يسمع لم تتعد إلا إليه نحو: (إنْ تدعُوهم لا يسمعوا دعاءكم) و: (يوم يسمعون الصيحة بالحق) ومن هذا القبيل قول الشاعر:

سمعتُ الناس ينتجعون غَيْثا

فقلت لصيدَحَ انتجعي بلالا

لأنه أراد: سمعت هذا الكلام.

ص: 84

وألحق قوم بأفعال هذا الباب ضرب المتعلقة بالمثل، والصواب أن لا تلحق بها لقوله تعالى:(ضُرِبَ مثلٌ فاستمعوا له) فبنى ضرب المذكورة لما لم يسم فاعله واكتفت بمرفوعها، ولا يفعل ذلك بشيء من أفعال هذا الباب.

وألحق هشام الكوفي عرف وأبصر، وألحق ابن درستويه أصاب وصادف وغادر، ولا دليل على شيء من ذلك، فلا يلتفت إليه.

ص: وتسمى المتقدمة على صيّر قلبية، وتختص متصرفاتها بقبح الإلغاء في نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، وبضعفه في نحو: متى ظننت زيدٌ قائمٌ. وزيدٌ أظنُّ أبوه قائم. وبجوازه بلا قبح ولا ضعف في نحو: زيد قائم ظننت، زيد ظننت قائم، وتقدير ضمير الشأن أو اللام المعلّقة في نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، أولى من الإلغاء. وقد يقع المُلْغى بين معمولي "إنّ" وبين سوف ومصحوبها، وبين معطوف ومعطوف عليه، وإلغاء ما بين الفعل ومرفوعه جائز لا واجب خلافا للكوفيين، وتوكيد الملغى بمصدر منصوب قبيح، وبمضاف إلى الياء ضعيف، وبضمير أو اسم إشارة أقل ضعفا.

وتؤكد الجملة بمصدر الفعل بدلا من لفظه منصوبا فيلغى وجوبا، ويقبح تقديمه، ويقل القبح في نحو: متى ظنَّك زيد ذاهب؟ وإن جُعِل متى خبرا لظن رُفِع وعمل وجوبا. وأجاز الأخفش والفراء إعمال المنصوب في الأمر والاستفهام.

ش: المتقدمة على صير: رأى وحجا وما بينهما، وجملتها أربعة عشر فعلا، وسميت قلبية لقيام معانيها بالقلب، وقد نبهت على أن هَبْ وتَعَلَّمْ غير متصرفين، فإذا خص جواز الإلغاء بمتصرفاتها، علم أن هب وتعلم لا يلغيان، ولا يلغى ما يلغى غالبا إلا متوسطا أو متأخرا، ومن الإلغاء مع التوسط قول الشاعر:

أبالأراجيز يابنَ اللُّوْم تُوعدني

وفي الأراجيزِ خِلتُ اللؤمُ والخور

ص: 85

كذا رواه سيبويه رائية، والمشهور من رواية غيره:

وفي الأراجيز خلت اللؤم والفشل

على أن القصيدة لامية، قال ابن برهان: قال اللعين المنقري:

إني أنا ابنُ جَلا إن كنت تُنْكرني

يا رؤبُ والحيةُ الصماءُ والجبلُ

أبالأراجيز يابن اللؤم توعدني

وفي الأراجيز خلت اللؤم والفشل

ومن الإلغاء مع التأخير قول الشاعر:

آتٍ الموتُ تعلمون فلا يُرْ

هِبْكم مِنْ لظى الحروب اضطرامُ

ومثله:

هما سيدانا يَزْعُمان وإنما

يَسُودانِنا إنْ يَسَّرَتْ غنماهما

وحكم سيبويه بقبح إلغاء المتقدم نحو: ظننت زيدٌ قائمٌ، وبتقليل قبحه بعد معمول الخبر نحو: متى ظننت زيدٌ قائمٌ؟ وفي درجته الإلغاء في نحو: زيد أظن أبوه قائمٌ.

وأجاز سيبويه أن يقال: أظن زيد قائم، على تقدير: أظن لزيد قائم، على التعليق لام الابتداء مقدرة، وعلى ذلك حمل قول الشاعر: وإخال إنِّيَ لاحقٌ مستَتْبَع

فالكسر على تقدير: إني للاحق. ويجوز أن يحمل ما جاء من هذا على تقدير ضمير الشأن مفعولا أول، وما بعده في موضع المفعول الثاني. فيكون هذا نظير قول بعض العرب: إن بك زيدٌ مأخوذ، على تقدير: إنه بك زيد مأخوذ.

ومما ينبغي أن يحمل على هذا قول كعب بن زهير رحم الله كعبا:

أرجو وآمُل أن تدنو مَوَدَّتُها

وما إخال لدينا منك تنويلُ

التقدير: وما إخاله لدينا منك تنويل.

ص: 86

ومثال وقوع الملغى بين معمولي إنّ قول الشاعر:

إنّ المحب علمت مصطبر

ولديه ذنبث الحبِّ مُغْتَفَرُ

وقد تقع بين سوف ومصحوبها كقول الشاعر:

وما أدري وسوف إخال أدري

أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ

وقد تقع بين معطوف ومعطوف عليه، كقول الشاعر:

فما جنّةَ الفردوسِ أقبلت تبتغي

ولكن دعاك الخبزُ أحسب والتمرُ

وزعم الكوفيون أن إلغاء ما وقع من أفعال هذا الباب بين فعل ومرفوعه واجب، فلا يجوز عندهم نصب زيد في قولك: قام أظن زيدٌ، ويقوم أظن زيدٌ. والصحيح جواز النصب والرفع، فإذا نصبت فالفعل المتقدم مفعول ثان، وإذا رفعت فظاهر، وينشد بالنصب والرفع قول الشاعر:

شجاك أظنُّ رَبْعُ الظاعنينا

ولم تَعْبأ بعذل العاذلينا

ويقبح توكيد الملغى بمصدر صريح، نحو: زيد ظننت ظنا منطلقٌ، ويزيل بعض القبح عدمُ ظهور النصب نحو: زيد ظننت ظني منطلقٌ، ويكتسي بعض الحسن بكون المصدر ضميرا أو اسم إشارة نحو: زيد ظننته أو ظننت ذاك منطلق.

وقد ينوب عن الفعل مصدرُه منتصبا انتصاب المصدر المؤكد للجمل، فيجب إلغاؤه نحو: زيد منطلق ظنَّك، أو زيد ظنَّك منطلق، ويقبح تقديمه لأن ناصبه فعل يدل عليه الجملة، فقبح تقديمه، كما قبح تقديم حقا من قولك: زيد قائم حقا، ولذلك لم يعمل، لأنه لو عمل وهو مؤكد لاستحق التقديم بالعمل، والتأخير بالتأكيد، واستحقاق شيئين تقديما وتأخيرا في حال واحد محال، وكما قل القبح في تقديم: متى

ص: 87

تظن زيدٌ ذاهبٌ، يقل في: متى ظنك زيد ذاهب. فإن جعلت متى خبرا، وظنك مبتدأ، رفعته ووجب إعماله.

وأجاز الأخفش والفراء النصب والإعمال في الأمر والاستفهام، لأنهما يطلبان الفعل مطلقا نحو: ظنّك زيدا منطلقا، ومتى ظنَّك زيدا منطلقا، بمعنى ظُنّ ظنّك زيدا منطلقا، ومتى ظننت ظنَّك زيدا منطلقا؟

ص: وتختص أيضا القلبية المتصرفة بتعديها معنًى لا لفظا إلى ذي استفهام أو مضاف إليه، أو تالي لام الابتداء، أو القسم، أو "ما" أو "إن" النافيتين، أو "لا" ويسمى تعليقا، ويشاركهن فيه مع الاستفهام نظر وأبصر وتفكَّر وسأل وما وافقهن أو قاربهن، لا ما لم يقاربهن خلافا ليونس، وقد تعلق نسى.

ونصب مفعول نحو: علمت زيدا أبو مَنْ هو، أولى من رفعه، ورفعه ممتنع بعد: أرأيت، بمعنى أخبرني.

وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة.

ش: التعليق عبارة عن إبطال العمل لفظا لا محلا على سبيل الوجوب، بخلاف الإلغاء فهو إبطاله لفظا ومحلا على سبيل الجواز، ولا يكونان إلا في فعل قلبي متصرف، وقد ألحق في التعليق بالقلبية ما يأتي ذكره. وسبب التعليق كون المعمول تالي استفهام أو متضمنا معناه، أو مضافا إلى مُضَمَّنه، أو تالي لام الابتداء أو القسم أو ما أو إن النافيتين أولا، نحو:(وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) و: (ولتعلَمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذابا) ونحو: علمت غلام من أنت. و: (ولقد علموا لَمَن اشتراه) وكقول الشاعر:

ولقد علمتُ لتأتِيَنَّ مَنِيَّتي

إنّ المنايا لا تطيشُ سهامُها

ص: 88

وكقول الآخر:

وقد علم الأقوامُ لو أن حاتما

يريدُ ثراء المال أمسى له وفرُ

وكقوله تعالى: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) وكقوله تعالى: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) ومن أمثلة ابن السراج: أحسب لا يقوم زيد.

وسمى الإبطال على ذلك الوجه تعليقا لأنه إبطال في اللفظ مع تعليق العامل بالمحل وتقدير إعماله فيه، ويظهر ذلك في المعطوف نحو: علمت لزيدٌ صديقك وغيرَ ذلك من أمورك.

وعلق أيضا مع الاستفهام نَظَر بالعين أو القلب، وأبصر، وتفكر، وسأل، نحو:(فلينظر أيُّها أزكى طعاما) و: (فانظري ماذا تأمرين) و: (فستبصر ويبصرون بأيِّكم المفتون) و: (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) وكقول الشاعر:

حُزُقٌّ إذا ما القوم أبْدَوْا فُكاهة

تَفَكّر آإياه يَعْنُون أم قِرْدا

وكقوله تعالى: (يسألون أيانَ يومُ الدين).

وأشرت بما وافقهن إلى نحو: أما ترى أيُّ برق ههنا؟ بمعنى: أما تبصر،

ص: 89

حكاه سيبويه. وإلى نحو: (ويستنبئونك أحق هو) وأشرت بما قاربهن إلى نحو: (لنبلوهم أيهم أحسن عملا).

وأجاز يونس تعليق ما لم يوافقهن ولم يقاربهن، وجعل من ذلك قوله تعالى:(ثم لننزِعَنّ من كل شيعة أيُّهم أشد) فضمة الياء عنده ضمة إعراب، وعند سيبويه ضمة بناء، وأي موصولة. وقد مضى ذلك.

وعلق نسى لأنه ضد علم، والضد قد يحمل على الضد، ومنه قول الشاعر:

ومَنْ أنتمُ إنا نسينا من انتمُ

وريحكمُ من أيِّ ريح الأعاصر

ومثله قول الشاعر على أحد الوجهين:

لم أرَ مثل الفِتْيان في غَبَن الـ

.ـأيَّام ينْسَوْن ما عواقبُها

وإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو: علمت زيدا أبو مَنْ هو، اختير نصبه، لأن العامل متسلط عليه بلا مانع، ويجوز رفعه لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى، فكأنه في حيز الاستفهام، والاستفهام مشتمل عليه، وهو نظير قولهم: إنّ أحدا لا يقول ذلك، وأحدٌ هذا لا يقع إلا بعد نفي، ولكن لما كان هنا هو والمضمر المرفوع بالقول المنفي شيئا واحدا في المعنى، فتنزل بمنزلة واقع بعد النفي، ومثله قول الشاعر:

ولو سُئِلت عني نوار وأهلها

إذا أحد لم ينطق الشفتان

ص: 90

ومثال: علمت زيدٌ أبو مَنْ هو، بالرفع، قول الشاعر:

فوالله ما أدرى غريمٌ لويته

أيشتدُّ إن قاضاكِ أم يتضرع

الرواية: غريم بالرفع لما ذكرته، ولو نصب لكان أجود.

فلو كان الاسم المتقدم على الاستفهام بعد أرأيت بمعنى أخبرني تعين نصبه نحو: أرأيت زيدا أبو مَنْ هو؟ لأنه بمعنى ما لا يُعَلق.

قال أبو علي في التذكرة: أنبأ ونَبّأ ضمنا معنى أعلم فيوافقانه، ولا يمتنع بعد التضمين تَعديتهما بحرف الجر على الأصل، كما لا تمتنع الحكاية بمعنى تقول، وكما لا يمتنع أرأيت بمعنى أخبرني عن نصب مفعولين، لكن منع من التعليق، لا تقول: أرأيت زيدا أبو من هو، لأنه بمعنى أخبرني، فحفظ له من الحكمين أقواهما وهو الإعمال، فتقول: علمت أيَّ يوم زيدٌ قادم، فتنصب أيّ يوم بقادم على الظرفية، كما كنت تفعل لو لم تذكر علمت، لأن الاستفهام وما في حيزه في حكم المستأنف. وكذا تقول: علمت غلامَ من ضربت، فتنصب غلام من بضربت، لأن المضاف إلى المستفهم به مساو له في استحقاق التصدير، وتسلط ما بعده عليه.

وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي: "وللاسم المستفهم به والمضاف إليه مما بعدهما ما لهما دون الأفعال المذكورة" ومنه قوله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون) فنصب ينقلبون "أي منقلب" بعد سيعلم، كما ينصبه لو لم يكن بعده.

ص: والجملة بعد المعلَّق في موضع نصب بإسقاط حرف الجر إن تعدى به، وفي موضع مفعوله إن تعدى إلى واحد، وسادة مسد مفعوليه إن تعدى إلى اثنين، وبدل من المتوسط بينه وبينها إن تعدى إلى واحد، وفي موضع الثاني إن تعدى إلى اثنين ووجد الأول.

ص: 91

ش: مثال الكائنة في موضع نصب بإسقاط حرف الجر: (فلينظر أيُّها أزكى طعاما) ومثال الكائنة في موضع مفعول به ما يتعدى إلى مفعول واحد: أما ترى أيُّ برق ههنا. ومثال السادة مسد مفعولي ما يتعدى إلى اثنين: (ولتعلمن أيُّنا أشدُّ عذابا وأبقى) ومثال الواقعة بدلا من المتوسط بينها وبين المتعدي إلى واحد: عرفت زيدا أبو من هو. ومثال الكائنة في موضع ثاني مفعولي ما يتعدى إلى اثنين: علمت زيدا أبو من هو.

ص: وتختص القلبية المتصرفة، ورأى الحُلْمية والبصرية بجواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متصلين متحدي المعنى، وقد يعامل بذلك عَدِم، وفَقَد. ويمتنع الاتحاد عموما إن أُضْمِر الفاعل متصلا مُفَسَّرا بالمفعول.

ش: مما تختص به أفعال القلوب غير: هبْ، وتعلمْ، إعمالها في ضميرين متصلين لمسمى واحد، كعلمتُني فقيرا إلى العفو والرحمة، وظننتك مهملا، وكقوله تعالى:(كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ولا يُجرى غيرها مجراها، فلا يقال: ظلمتُني، ولا ظلمَه، موضع: ظلمت نفسي، وظلم نفسه.

وألحقت بأفعال القلوب في هذا الاستعمال رأي الحُلمية، كما ألحقت بها في نصب المبتدأ والخبر مفعولين، كقوله تعالى:(إني أراني أعصر خمرا) و: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا) وفُعِل ذلك أيضا برأى البصرية، كقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:"لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا من طعام إلا الأسودان" ومنه قول قطرى:

ص: 92

لا يركنَنْ أحدٌ إلى الإحجامِ

يوم الوغى مُتَخَوِّفا لِحمام

فلقد أراني للرماح دريئةً

من عن يميني تارة وأمامي

وقال عنترة:

فرأيتُنا ما بيننا من حاجز

إلا المِجنُّ ونصلُ أبيضَ مِقْصَل

وهذا في عدم وفقد شاذ، قال جران العود:

لقد كان لي عن ضربتين عَدِمْتُني

وعمّا ألاقي منهما متزحزح

وقال آخر:

ندمت على ما فات مني فقدتُني

كما يندم المغبونث حين يبيع

فلو اتحد مسمى الضميرين وأحدهما منفصل لم يخص اجتماعهما بفعل دون فعل نحو: إياك ظلمتَ، وما ظلمتَ إلا إياك.

فإن كان الفاعل ضميرا والمفعول ظاهرا واتحد المسمى حكم بالمنع مطلقا نحو: زيدا ظنّ ناجيا، وزيدا ضرب، تريد: ظنَّ نفسه، وضرب نفسه، فأضمرت الفاعل وفسرته بالمفعول. وإلى هذا أشرت بقولي:"ويمنع الاتحاد عموما إن أضمر الفاعل متصلا مفسرا بالمفعول" فلو انفصل الضمير جاز الاتحاد مطلقا نحو: ما ظنَّ زيدا ناجيا إلا هو، وما ظن زيدٌ ناجيا إلا إياه، وما ضَرَب زيدا إلا هو، وما ضرب زيدٌ إلا إياه.

فصل: ص: يحكى بالقول وفروعه الجُمَل، وينصب به المفرد المؤدي معناها، والمراد به مجرد اللفظ، وإلحاقه في العمل بالظن مطلقا لُغة سُلَيم، ويَخُص أكثرُ العرب هذا الإلحاق بمضارع الحاضر المخاطب، بعد استفهام متصل أو منفصل بظرف أو جار ومجرور، أو أحد المفعولين، فإن عُدِم شرط رُجع إلى الحكاية ويجوز إن لم يعدم.

ص: 93

ش: المراد بالقول نفس المصدر وحكاية الجملة به، كقوله تعالى:(وإن تَعْجَب فعَجبٌ قولهم: أئذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد) والمراد بفروعه الفعل الماضي وفعل الأمر والفعل المضارع واسم الفاعل واسم المفعول، لأنها كلها مشتقة من المصدر على الأصح، فكلها فروعه، وحكاية الجملة بالماضي كقوله تعالى:(وقالوا: سمعنا وأطعنا) وحكايتها بالأمر كقوله تعالى: (قولوا: آمنا بالله) وحكايتها بالمضارع كقوله تعالى: (يقولون: ربَّنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين) وحكايتها باسم الفاعل كقوله تعالى: (قد يعلمُ الله المعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم: هَلُمَّ إلينا) وحكايتها باسم المفعول كقول الشاعر:

نَواصَوْا بحُكْم الجود حتى عبيدُهم

مَقُول لديهم: لا زكا مالُ ذي بُخل

وينصب بالقول وفرعه المفرد الذي هو جملة في المعنى، كالحديث والقصة والشعر والخطبة. فيقال: قلت حديثا، وأقول قصة، وهذا قائل شعرا وخطبة.

وينصب أيضا بالقول وفروعه المفرد المراد به مجرد اللفظ، كقولك: قلت كلمة، ومن ذلك قوله تعالى:(سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي يطلق عليه هذا الاسم. ولو كان يقال مسمى الفاعل لنصب إبراهيم. وممن اختار هذا الوجه صاحب الكشاف ورجحه على قول من قال: التقدير: يقال له: هذا إبراهيم، أو يقال له: يا إبراهيم.

ومن إعمال القول في المفرد المراد به مجرد اللفظ قول أبي القاسم الزجاج في

ص: 94

الجمل: وإنما قلنا البعض والكل. قال ابن خروف: ونصب الكل والبعض على تقدير: وإنما قلنا هاتين الكلمتين، لأنك تقول: قلت كلمة، كما تقول:"قلت قولا. والقول يقع على ما يفيد وعلى ما لا يفيد" انتهى كلامه.

قال الشيخ رحمه الله: وبنو سليم يجرون القول وفروعه مُجْرى الظن وفروعه في نصب المبتدأ والخبر، وفتح أنّ الواقعة بعده، فمن نصب المبتدأ والخبر على لغة بني سليم قول الراجز:

قالت وكنتُ رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا

فنصب إسرائين بقالت مفعولا ثانيا، وجعل هذا مفعولا أول، وإسرائين لغة في إسرائيل. ومن فتح أنّ بعد القول على لغة سليم قول الشاعر:

إذا قلت أني آيب أهلَ بلدة

وضعت بها عنه الوّلِيّة بالهَجْر

هكذا أنشده أبو علي في التذكرة بالفتح على ما ذكرت لك. وهذا الاستعمال عند غير بني سليم لا يكون إلا في المضارع، المسند إلى المخاطب، مقصودا به الحال، بعد استفهام متصل، نحو قول الراجز:

متى تقولُ القُلُص الرَّواسِما

يَحْمِلن أمَّ قاسم وقاسما

ومثله قول عمرو بن معد يكرب:

علام تقول الرمحَ يُثْقِل عاتقي

إذا أنا لم أطعُن إذا الخيل كرّت

فلو انفصل الاستفهام بأنت ونحوه بطل الإلحاق ورجع إلى الحكاية، نحو: أأنت تقول: زيدٌ منطلق؟ فلو كان الفصل بظرف أو جار ومجرور لم يبطل الإلحاق،

ص: 95

كقول الشاعر:

أبَعْدَ بُعْد تقول الدارَ جامعةً

شملى بهم أم دوام البعد محتوما

وكذا الفصل بأحد المفعولين مغتفر أيضا، كقول الشاعر:

أجُهّالا تقولُ بني لُؤَيٍّ

لعَمْر أبيك أم متجاهلينا

والحكاية جائزة مع استيفاء شروط الإلحاق لأنها الأصل، ولذلك ينشد بيت عمرو بن معد يكرب الذي سبق بنصب الرمح ورفعه، فمن نصب فعلى الإلحاق، ومن رفع فعلى الحكاية.

ص: ولا يُلْحَق في الحكاية بالقول ما في معناه، بل ينوى معه القول خلافا للكوفيين، وقد يضاف قولٌ وقائلٌ إلى الكلام المحكي، وقد يغني القول في صلةٍ وغيرها عن المحكي لظهوره، والعكس كثير.

وإن تعلق بالقول مفرد لا يؤدي معنى جملة، ولا يراد به مجردُ اللفظ، حُكِيَ مُقَدّرا معه ما هو به جملة، وكذا إن تعلق بغير القول.

ش: المراد بما في معنى القول النداء والدعاء ونحوهما، فإذا جاء بعد شيء منهما مقول ففيه مذهبان: أحدهما: أن يقدّر قول يكون به المقول محكيا. والآخر: أن يحكى المقول بما قبله إجراء له مجرى القول دون حاجة إلى تقدير، وهو قول الكوفيين، والأول قول البصريين وهو الصحيح، لأن حذف القول استغناء عنه بالمقول مجمع عليه في غير محل النزاع، كقوله تعالى:(فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم) أي فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، فحذف القول لدلالة المعنى عليه، فحذفه في محل النزاع أولى: لأنه مدلول عليه بدلالتين: معنوية ولفظية، وأيضا بقاء المحكي وحذف القول نظير بقاء المفعول وحذف الفعل، وذلك في الكلام

ص: 96

كثير، فيلحق به النظير. وأيضا قد جاء بعد النداء وشبه ما نحن بصدده القول مصرحا به، فدل ذلك على صحة التقدير عند عدم التصريح. فمن مواضع التقدير قوله تعالى:(ونادى نوح ابنه وكان في مَعْزِل: يا بني اركب معنا) وقوله تعالى: (فأوحى إليهم ربُّهم: لنُهْلِكنَّ الظالمين) وقوله تعالى: (دعَوُا الله مخلصين له الدين: لئن أنجتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين) وقوله تعالى: (ونادَوْا يا مالك: ليقض علينا ربك) ومنه قول الراجز أنشده الفراء:

إني سأُبْدي لك فيما أبدي

لك شجَنان شَجَنٌ في نجد

وشجن لي في بلاد الهند

ومن مواضع التصريح قوله تعالى: (ونادى أصحابُ الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا: ما أغنى عنكم جمعكم) وقوله تعالى: (ونادى نوح ربه، فقال: ربِّ انّ ابني من أهلي) وقوله تعالى: (إذ نادى ربه نداء خفيا، قال: رب إني وهن العظم مني).

ومثال إضافة قول وقائل إلى الكلام المحكي قول الشاعر:

قَوْلُ يا لَلرِّجال ينهض منا

مسرعين الكهولَ والشُّبَّانا

وقول الآخر:

ص: 97

وأجبتُ قائلَ كيف أنتَ بصالحٌ

حتى مللتُ ومَلَّني عُوَّادي

ينشد بخفض صالح ورفعه، فمن خفضه فظاهر، ومن رفع فعلى تقدير: بقول أنا صالح، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو: أنا صالح، ثم حذف صدر الجملة وبقى عجزها.

ومثال إغناء القول عن المحكي قول الشاعر:

لنحن الألى قلتم فأنّى ملئتم

برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

أراد: نحن الذين قلتم تقاتلونهم، فاستغنى بالقول وحذف المحكي لدلالة ما بعده عليه، ولو فعل ذلك بغير صلة لجاز، كقولك: أنا قال زيد، ولو رآني لفر، تريد: أنا قال زيد يغلبني، ولو رآني لفر.

ومن الاستغناء في الصلة بالقول عن المحكي قول الشاعر:

لِمَ يا عمرو لم تَعُد بالذي قلـ

ـت فتلقاه إذ خذلت نصيرا

وأما الاستغناء بالمحكي عن القول فكثير، وقد تقدمت الإشارة إليه بقوله تعالى:(فأمّا الذين اسودت وجوههم: أكفرتم) ومثله: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب: سلام عليكم) ومثله: (والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أي يقولون: ما نعبدهم، وإلى نحو هذا أشرت بقولي: والعكس كثير.

وقد تقدم التنبيه على أن المفرد ينتصب بالقول وفروعه في موضعين، أحدهما: إذا كان بمعنى جملة كقلت حديثا. والثاني: إذا أريد به مجرد اللفظ كقلت لزيد عمرا، بمعنى أطلقت عمرا على المسمى بزيد. فإن علق بالقول مفرد بخلاف ذينك

ص: 98

فهو جزء جملة، فإما أن ينصب بفعل مقدر، وإما أن يرفع مبتدأ، ويجعل الخبر محذوفا، كقوله تعالى:(قالوا سلاما، قال سلام) فتقدير الأول: سلمنا سلاما. وتقدير الثاني: عليكم سلام. ويجوز في العربية رفعهما، ونصبهما، ورفع الأول ونصب الثاني، قال الشاعر:

مررنا فقلنا إيهِ سلْمٌ فسَلّمت

كما اكْتَلَّ بالبرق الغمامُ اللوائح

ولو تعلق المفرد الذي هو في التقدير بعض الجملة بغير القول ونوى تمام الجملة، لجيء به أيضا محكيا، كقولك قاصدَ محمدٍ منقوش على خاتم: قرأت محمدٌ، لأن مراد الناقش: صاحبه محمد، أو نحو ذلك، فإذا أوقعت عليه أو غيره مراعيا للقصد الأول، فإنما تحكي مقصوده. ولو علقت به رافعا وهو منصوب لجئت به منصوبا، لأن الحكاية مستولية عليه وعلى ناصبه المنوي، ومنه قول الشاعر يصف دينارا نقش فيه اسم جعفر البرمكي منصوبا:

وأصفرَ من ضربِ دار الملوك

يلوحُ على وجهه جعفرا

أراد الناقش: اذكر جعفرا، أو نحو ذلك. فأسند الشاعر يلوح إلى الجملة مراعيا لقصد الناقش.

فصل: ص: تدخل همزةُ النقل على عَلِمَ ذات المفعولين، ورأى أختها، فينصبان ثلاثة مفاعيل، أولها الذي كان فاعلا، ويجوز حذفه والاقتصار عليه على الأصح، وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله مطلقا، خلافا لمن منع الإلغاء والتعليق. وألحق بهما سيبويه: نبّأ، وزاد غيره: أنبأ وخَبّر وأخبر وحدّث. وزاد الأخفش: أظن وأحسب وأخال وأزعم وأوجد. وألحق غيرهم أرى الحلمية سماعا.

وما وضع للمفعول من ذي ثلاثة فحكمه حكم ظن إلا في الاقتصار على المرفوع.

ص: 99

ش: همزة النقل هي الداخلة على الثلاثي لتعديه إلى واحد إن كان دونها غير متعد، كجلس وأجلسه. ولتعديه إلى اثنين إن كان دونها متعديا إلى واحد، كلبست ثوبا، وألبسني إياه. ولتعديه إلى ثلاثة إن كان دونها متعديا إلى اثنين، كعَلِم زيد عمرا فاضلا، وأعلمته إياه فاضلا. فأول الثلاثة هو الذي كان فاعلا قبل النقل، والثاني والثالث هما اللذان كانا قبله أولا وثانيا، فلأول الثلاثة ما لأول مفعولي كسوت من جواز الاقتصار عليه والاستغناء عنه، لأن الفعل مؤثر فيه، فجاز فيه ما يجوز في كل مفعول أثر فيه فعله، ولأن الفائدة لا تعدم بالاقتصار عليه كما تعدم بالاقتصار على أول مفعولي ظننت، ولا تعدم بالاستغناء عنه كما تعدم بالاستغناء عن أحد مفعولي ظننت، فمثال الاقتصار عليه: أعلمت زيدا، إذا قصدت الإخبار بإيصالك إلى زيد علما ما. ومثال الاستغناء عنه: أعلمت دارك طيبة، إذا قصدت الإخبار بإعلامك أن داره طيبة دون غرض في تسمية من أعلمت. وزعم ابن خروف أنه لا يجوز حذف أول الثلاثة ولا الاقتصار عليه، ولا حجة له على ذلك إلا اتباع ظاهر كلام سيبويه في ترجمة تأولها الأكثرون.

والمجمع على تعديته إلى ثلاثة أعلم وأرى المتعديتان بدون الهمزة إلى اثنين. وألحق سيبويه نبّأ. وزاد غيره أنبأ وخبّر وأخبر وحدّث، ولا بد من تضمينها عند الإلحاق معنى أعلم، ولم يذكر أبو علي إلا أعلم وأرى ونبأ وأنبأ، وتابعه الجرجاني. وألحق الأخفش أظن وأخواتها المذكورة بعدها. ورد مذهب الأخفش بأن قيل: حق همزة التعدية أن تلحق بها ما لا يتعدى بما يتعدى إلى واحد بنفسه، وما يتعدى إلى واحد بما يتعدى إلى اثنين بنفسه، وليس في الكلام ما يتعدى إلى ثلاثة فيلحق بها متعد إلى اثنين، فمقتضى هذا ألا يعدى بالهمزة متعد إلى اثنين لعدم أصل ملحق به، لكن سمع تعدى أعلم وأرى إلى ثلاثة على خلاف القياس فقبل، ولم يلحق بعلم ورأى شيء من أخواتهما، لأن المسموع المخالف للقياس لا يقاس عليه.

وكذلك وافق الأخفش على منع: أكسيت عمرا ثوبا، ومستند هذا الرد قوي، ويلزم منه ألا تلحق نبأ وأخواتها، فإن ادُّعِيَ سماع بنحو قول الشاعر:

ص: 100

نُبِّئْت زُرْعةَ والسَّفاهةُ كاسمها

يهدى إليّ غرائب الأشعار

وبنحو قول الحارث بن حلزة اليشكري:

أو منعتم ما تُسألون فمن حِدِّثْتَموه له علينا العلاءُ

وبقول الآخر:

وخُبِّرتْ سوداء الغميم مريضةً

فأقبلت من أهلي بمصر أعودُها

فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها

أَؤُبرئُها من دائها أم أزيدها

وبقول الآخر:

ماذا عليك إذا أُخْبِرتني دَنِفًا

وغاب بعلُك يوما أن تَعُوديني

أجيب بأنه من باب النَصب لإسقاط حرف الجر، كما حكى سيبويه: نُبِّئتُ زيدا، وقال: يريد: نبئت عن زيد. وكما قال تعالى: (من أنبأك هذا) وقدر: من أنبأك بهذا. وقد حمل سيبويه على حذف حرفا الجر قول الشاعر:

نُبِّئت عبدَ الله بالجو أصبحت

كراما مواليها لئيما صَمِيمُها

أي: نبئت عن عبد الله، مع إمكان إجرائه مجرى أعلمت، فدل ذلك على أن تقدير حذف حرف الجر بعد نبأ راجح عنده، إذ ليس فيه إخراج شيء عن أصله، ولا تضمين شيء معنى غيره. وأيضا فإن النصب لحذف حرف الجر بعد نبأ مقطوع بثبوته فيما حكى من قول بعض العرب: نُبِّئت زيدا، مقتصرا عليه. وبعد أنبأ في قوله تعالى:(مَنْ أنبأكَ هذا) ولم يثبت الإجراء مجرى أعلم إلا حيث حذف حرف الجر، فكان الحمل عليه أولى. هذا في نَبَّأ مع كثرة استعمالها بالصورة

ص: 101

المحتملة، وأما أخواتها فيندر استعمالها بتلك الصورة، كقول الحارث بن حلزة في البيت السابق، فليجعل التقدير فيه: فمن حُدِّثتم عنه له علينا العلاء، والجملة بعد المنصوب حالية أو محكية بقول مقدر، وكذا يفعل بغيره. هذا أراه أظهر إن كان غيره أشهر، وأنشد ابن خروف في شرح كتاب سيبويه:

ونُبِّئت قيسا ولم أبله

كما زعموا خير أهل اليمن

ومما ينبغي أن يلحق بأعلم وأرى أرى الحُلمية كقوله تعالى: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) فإنه قد ثبت إجراء رأى الحلمية مجرى رأى العلمية، واستدللت على ذلك فيما سلف، فلزم من ذلك تعديتها إلى ثلاثة بهمزة النقل مع مساعدة الاستعمال، كما لزم ذلك في الفعلين الآخرين لصحة الاستعمال، وكان التنبيه عليها لثبوتها سماعا دون معارض أولى من التنبيه على ما لم يثبت إلا بما فيه معارضة واحتمال.

وأما أرى المنقولة من متعد إلى واحد فمتعدية إلى اثنين ثانيهما غير الأول، وهي على ضربين: أحدهما من الرأي كقوله تعالى: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) والثاني من رؤية البصر، كقوله تعالى:(من بعد ما أراكم ما تحبون).

ونبهت بقولي: "وللثاني والثالث بعد النقل ما لهما قبله" على أنه لا غنى لأحدهما عن الآخر بعد أن صارا ثانيا وثالثا. كما لم يكن لأحدهما غنى عن الآخر إذا كانا أولا وثانيا، مراعاة لكونهما في الأصل مبتدأ وخبرا، فإن دل دليل على أحدهما جاز حذفه، كما كان يجوز في الحال الأول. ومثال الحذف لدليل قولك لمن قال: من أعلمك زيد فاضلا؟ أعلمني عمرا، تريد: أعلمني زيد عمرا فاضلا، فأضمرت الفاعل عائدا إلى زيد، وحذفت فاضلا لدلالة ما تقدم عليه، كما كنت تحذف في قولك: علمت عمرا، إذا أجبت من قال: مَنْ علمت فاضلا؟

وللثاني والثالث أيضا من الإلغاء والتعليق بعد النقل ما لهما قبله، فمن الإلغاء

ص: 102

بعد النقل قول الشاعر:

وكيف أُبالي بالعدا ووعيدهم

وأخشى مُلِمّات الخُطُوب الصوايب

وأنت أراني الله أمنعُ عاصم

وأمنحُ مُسْتكفًى وأسمح واهب

فألغى أراني متوسطا. ومثله قول بعض من وثق بعربيته: البركةُ أعلمنا الله مع الأكابر.

ومن التعليق قوله تعالى: (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مُزِّقتم كل ممزَّق إنكم لفي خلق جديد) وقوله تعالى: (وما أدراك ما يومُ الدين) فعلق ينبئ وأدرى لأنهما بمعنى يعلم وأعلم، فتعليقهما لمعنى حروف يعلم وأعلم ومعناهما أحق وأولى. ومن تعليق أفعال هذا الباب قول الشاعر:

حَذارِ فقد نُبِّئت إنك لَلّذي

سَتُجزى بما تسعى فتسعدَ أو تشقى

ومنع قوم الإلغاء والتعليق في أعلم وأرى وأخواتهما مطلقا، وخص بعضهم ذلك بالمبني للفاعل وهو اختيار الجزولي، والصحيح الجواز مطلقا للدلائل المذكورة، قال الشلوبين في شرح قول الجزولي:"وحكم الثاني والثالث معا حكم الثاني من باب كسوت" يعني في الاقتصار عليهما، وفي ألا يلغى الفعل عنهما ولا يعلق، وهذا الذي قاله هنا هو المذهب الصحيح، وإن كان فيه خلاف لبعضهم، فقد منع بعضهم الاقتصار على المفعول الأول، وأجاز بعضهم الإلغاء عن المبتدأ والخبر، وليس هذان المذهبان مرضيين عند المحققين، هكذا زعم، ثم قال شارحا لقول الجزولي: وإذا بُنِيت للمفعول فحكم منصوبيها ما ذكر في منصوبيْ ظننت مطلقا، يعني في ألا يقتصر على أحدهما، وفيما ذكر في ظننت من الإعمال والإلغاء، قال: وليس

ص: 103

هذا الذي ذهب إليه من جواز الإلغاء في هذا الباب إذا بنيت أفعاله للمفعول بصحيح، لأن العلة في أن لم تلغ هذه الأفعال إذا بنيت للفاعل من كونها أفعالا مؤثرة، بخلاف ظننت وبابه، موجودة فيها إذا بنيت للمفعول كوجودها إذا بنيت للفاعل، فكيف توجد العلة ثم لا يوجد حكمها؟ ولكن غرّه ذكر سيبويه أرى وهو مضارع أرأيت بمعنى أظننت، فتخيل أن باقي أفعال الباب كأرى، قال: وإنما جاز إلغاء أرى وحدها لأنها بمعنى أظن. وأظن غير مؤثر، فجرت مجراها في الإلغاء، كما جرت مجراها في المعنى.

وحاصل قوله أمران: أحدهما: أن أعلم مؤثر، فلا يلغى، كما لا تلغى الأفعال المؤثرة. والثاني: أن أرى ألغى لأنه بمعنى أظن، فوافقه في الإلغاء كما وافقه في المعنى.

والجواب عن الأول أن يقال: من أجاز إلغاء أعلم لم يجزه بالنسبة إلى المعلِم، فيكون في إلغائها محذور، وإنما إجازه بالنسبة إلى المسند والمسند إليه، وهما غير متأثرين بأعلمن كما هما غير متأثرين بعلم، فلا يمتنع إلغاء أعلم عنهما، كما لم يمتنع إلغاء علم.

والجواب عن الثاني أن يقال: إلحاق أرى بأظن لأنه بمعناه ليس بأولى من إلحاق أعلمت بعلمت، بل الأمر بالعكس، لأن مفهوم علمت مستفاد من أعلمت كاستفادة مفهوم أظن من أرى، فالمناسبتان مستويتان، وبين أعلمت وعلمت مناسبتان أخريان وهما: رجوعهما إلى مادة واحدة، واستواؤهما في التصرف، بخلاف أرى وأظن فإنهما مختلفتان في المادة والتصرف. أما التخالف في المادة فظاهر، وأما في التصرف فلأن أرى لم يستعمل له ماض. فقد بان أن مناسبة أرى لأظن أضعف من مناسبة أعلمت لعلمت، وأرى قد جرت مجرى أظن، فإذا جرت أعلمت مجرى عملت كان ذلك أحق وأولى.

فقد ظهر أن المحقق من أجاز الإلغاء والتعليق في هذا الباب لا من منعه، والله أعلم.

فالصحيح أن أعلم وأخواتها مما يبنى للمفعول مساوية لظن وأخواتها، إلا في الاقتصار على المرفوع فإنه غير جائز في ظن وأخواتها لعدم الفائدة، وجائز في أعلم وأخواتها لحصول الفائدة.

ص: 104