الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الاستثناء
ص: وهو المخرج تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك بإلّا أو ما بمعناها بشرط الفائدة. فإن كان بعض المستثنى منه حقيقة فمتصل، وإلّا فمنفصل مقدر الوقوع بعد لكن عند البصريين، وبعد سوى عند الكوفيين. وله بعد إلّا من الإعراب إن تُرك المستثنى منه وفرّغ العامل له ماله مع عدمها، ولا يفعل ذلك دون نهي أو نفي صريح أو مؤوّل. وقد يحذف على رأي عامل المتروك. وإن لم يُترك المستثنى منه فللمستثنى بإلّا النصب مطلقا، بها لا بما قبلها معدّى بها، ولا به مستقلا، ولا بأستثني مضمرا، ولا بأنّ مقدرة بعدها، ولا بإنْ مخففة مركبا منها ومن لا خلافا لزاعمي ذلك، وفاقا لسيبويه والمبرد.
ش: المخرج يتناول المستثنى وغيره كالمخرج بالتخصيص. وتقييد الإخراج بإلا أو ما في معناها مانع من تناول غير المستثنى، وذكر المخرج والإخراج في حد المستثنى والاستثناء مغن عن ذكر المُدْخل والإدخال، فإن المستثنى بعد النفي وإن كان مُدخَلا فيما خرج منه غيره فهو مخرج مما دخل فيه غيره باعتبار آخر.
ولمّا كان المستثنى يطلق على المتصل وهو ما لو يُسْتَثن لدخل نحو (فسوف يلقون غَيًّا إلّا مَن تاب) وعلى المنقطع وهو ما لو يُستثن لم يدخل نحو "ما لهم به مِن علْم إلّا اتّباعَ الظَّنِّ" ذكرت بعد المخرج تحقيقا أو تقديرا فإن الظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو في تقدير الداخل فيه، إذ هو مستحضر بذكره لقيامه مقامه في كثير من المواضع، فهو حين استثنى يخرج مما قبله تقديرا، وكذا الفائق ما قبله مع اتحاد الجنس نحو له عليّ ألف إلا ألفَيْن، ذكره الفرّاء فمثل هذا لم يكن داخلا فيخرج بإلا ولكنه في التقدير مخرج، لأن المقر إذا اقتصر على مقدار بمنزلة المنكر لغيره، فكأن قائل "له ألف إلا ألفين" قد قال: له على ألف لا غير
إلا ألفين، فبان بهذا أن ألفين مخرج تقديرا.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلّا مَن اتّبعك من الغاوين) لأن العباد الذين أضافهم تبارك وتعالى إليه هم المخلصون الذين لا سلطان للشيطان عليهم، فلم يكن الغاوون فيهم فيخرجهم الاستثناء، وتفاوُت ما بينهم وبين المخلصين أعظم من تفاوت ما بين ألفين وألف بكثير، دليل ذلك حديث:"بعث النار" أعاذنا الله منها. فمعنى الآية والله أعلم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم، إلا مَن اتبعك من الغاوين. ومنهم من تجعل "من اتبعك" متصلا على أن يراد بالعباد المخلصون وغيرهم، والانقطاع مذهب ابن خروف، والاتصال مذهب الزمخشري. ذكره الكشاف.
ومن المخرج تقديرا قوله تعالى (لا عاصِم اليوم من أمر الله إلّا مَن رحِم) على إرادة لا من يعصم من أمر الله إلا من رحم، وهو أصحّ الوجوه، فمن رحم مستثنى منقطع لم يدخل فيما قبله فيخرج بإلا. لكن يقدّر كونه مخرجا بتقدير لا أحد يعصم من أمر الله، وبأن العاصم يستدعي معصوما فكان بمنزلة المذكور فكأنه مثل لا معصوم عاصم من أمر الله إلا من رحمه الله والله أعلم.
ومن المخرج تقديرا المستثنى السابق زمانه زمان المستثنى منه كقوله تعالى: (ولا تَنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) فما قد سلف وإن لم يدخل في المنهي عن نكاحِه فمن الجائز أن تكون المؤاخذة به باقية فبيّن تعالى بالاستثناء عدم بقائها، فكأنه قيل الناكح ما نكح أبوه مؤاخذ بفعله إلا ما قد سلف فيتناوله
المخرج تقديرا. ومن المخرج تقديرا قولك لأفعلنّ كذا وكذا إلا حلُّ ذلك أن أفعل كذا وكذا مثل به سيبويه. ثم قال: فإن أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا (وهو مبنيّ) على، حِلّ، وحِلّ مبتدأ كأنه قال ولكن حلّ ذلك أن أفعل كذا وكذا.
قال السيرافي: إلا بمعنى لكن، لأن ما بعدها مخالف لما قبلها، وذلك أن أقوله والله لأفعلنّ كذا وكذا عقد يمين عقده على نفسه، وحلّه إبطاله ونقضه، فكأنه قال عليّ فعل كذا معقودا، لكن إبطال هذا العقد فعل كذا.
قلت وتقدير الإخراج في هذا أن يجعل قوله لأفعلنّ كذا بمنزلة لا أرى لهذا العقد مبطلا إلا فعل كذا، فهذا الاستثناء منقطع عمله. وجعل ابن خروف من هذا القبيل:(لست عليهم بمصيطر إلّا مَن تولّى وكفر فيُعذِّبه الله). على أن يكون "من" مبتدأ، ويعذبه الله خبر، ودخلت عليه الفاء لتضمن المبتدأ معنى الجزاء، وجعل الفراء من هذا قراءة بعض السلف:(فشَرِبوا منه إلا قليلٌ منهم) على تقدير إلا قليل منهم لم يشربوا واستحسن ابن خروف هذا الوجه.
قلت: ومن هذا النوع قوله صلى الله عليه وسلم: "ما للشيطان من سلاح أبلغ من النساء إلا المتزوّجون أولئك المطهّرون المبرّءون من الخنا" ويمكن أن يكون من هذا قراءة ابن كثير وأبي عمرو "إلّا امرأتُك إنّه مُصيبها ما أصابهم" على أن تكون
"امرأتك" مبتدأ وخبرها "إنه مصيبها ما أصابهم"، وبهذا التوجيه يكون الاستثناء في النصب والرفع من "فأسْر بأهلك" وهو أولى من أن يستثنى المنصوبُ من أهلِك والمرفوع من أحد.
ومن المخرج تقديرا: إن لفلان مالًا، إلّا أنه شقيّ، وما زاد إلّا ما نقص، وما نفع إلّا ما ضَرَّ ولا تكوننّ من فلان في شيء إلّا سلاما بسلام، وهي من أمثلة سيبويه.
ومن أمثلة غيره جاء الصالحون إلّا الطالحين، وجاء زيد إلا عمرا، وما في الأرض أخبث منه إلا إياه. فالمستثنى في هذه الأمثلة ليس مخرجا تحقيقا بل تقديرا، فكأنك قلت إنّ لفلان مالا فكأنك قلت عدم البؤس، ثم استثنيت من البؤس كونه شقيا، وإذا قلت ما زاد فكأنك قلت ما عرض له عارض، ثم استثنيت من العارض النقص، وإذا قلت ما نفع، فكأنك قلت ما أفاد شيئا إلا ضرّا. وإذا قلت لا تكون من فلان في شيء إلا سلاما بسلام، فكأنك قلت لا تعامله بشيء إلا متاركة. وإذا قلت جاء الصالحون فكأن السامع توهّم مجيء غيرهم ولم يعبأ بهم، فأزلت توهمه بهذا الاستثناء. وإذا قلت جاء زيد إلا عمرا فكأنك عرفت علم السامع مرافقة زيد لعمرو وقدّرت أنه توهّم أنك اقتصرت على زيد اتكالا على علم السامع بترافقهما فأزلت توهمه بالاستثناء. وإذا قلت ما في الأرض أخبث منه إلا إياه، فكأنك قلت ما يليق خبثه بأحد إلا إياه، وأسلك هذا السبيل فيما يرد من أمثال هذا.
قال ابن السرّاج: "إذا كان الاستثناء منقطعا فلا بدّ من أن يكون الكلام
الذي قبل إلّا قد دلّ على ما يستثنى فتأمل هذا فإنه يدِقُّ. فمن ذلك قوله عز وجل: (لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا من رحم) فالعاصم الفاعل، ومن رحم قد دلَّ على العصمة والنجاة، فكأنه تعالى قال والله أعلم، لكن مَن رحِمَ يُعصم أو معصوم وقال في ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضرّ، وإنما حسن هذا الكلام لأنه لما قال ما زاد دلّ على قوله هو على حاله، فكأنه قال هو على حاله إلا ما نقص، وكذلك قوله ما نقع هو على أمره إلا ما ضر".
والباء من قولي "بإلّا" متعلقة بالمخرج. واحترز بذلك من "إلّا" بمعنى "غير" كقوله تعالى (لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ) والتي بمعنى الواو كقوله تعالى (لئلا يكونَ للناس عليكم حُجّةٌ إلّا الذين ظلموا) أي ولا الذين ظلموا قاله الأخفش. والتي بمعنى "إنْ لم" كقوله تعالى: (إلّا تفعلوه تكن فتنةٌ)، والزائدة كالأولى من اللتين في قول الشاعر، أنشده ابن جني:
أرى الدهرَ إلّا مَنْجنونا بأهله
…
وما صاحِبُ الحاجاتِ إلّا مُعَلَّلا
أي أرى الدهر منجنونا بأهله يتقلب بهم فتارة يرفعهم وأخرى يخفضهم، كذا قال ابن جني. ثم قال: وعلى ذلك تأولوا قول ذي الرمة:
حراجيجُ لا تَنْفَكُّ إلّا مُناخةً
…
على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بلدا قَفْرا
أي ما تنفك مناخة، وإلّا زائدة. كل هذا قول ابن جني رحمه الله. فإلّا في هذه المواضع غير مخرجة شيئا.
ونبّهت "بأو ما بمعناها" على أن لإلّا أخوات تبيّن إن شاء الله تعالى. ثم بيّنت
أن المستثنى إن كان بعض ما استثني منه حقيقة فهو متصل نحو قام الرجال إلا زيدا، وإن لم يكن كذلك فهو منقطع ومنفصل، وقيّدت البعض بحقيقة احترازا من المنقطع المستعمل فإنه لا يكون إلا أن يُستحضر بوجه ما عند ذكر المستثنى منه، أو ذكر ما نسب إليه نحو (فإنَّهم عَدُوٌّ لي إلّا رَبَّ العالمين) لأن عبّاد الأصنام كانوا معترفين به لقوله (إنْ كنّا لفي ضلالٍ مُبين إذ نُسوِّيكم بربّ العالمين). ولأن ذكر العبادة مذكّر بالإله الحقّ. فبذا الاعتبار لا يكون المنقطع غير بعض، إلا أن المستثنى منه لا يتناولة وَضْعا، فإن تناوله بغير ذلك فله حظّ من البعضية مجازا. ولذلك قيل له مستثنى، فإن لم يتناوله بوجه من الوجوه لم يصحّ استعماله لعدم الفائدة كقول القائل: صهلت الخيلُ إلّا البعير ورغت الإبل إلّا الفرس، فلو قال: صوّتتْ الخيل إلّا البعير لجاز؛ لأن التصويت يُستحضر بذكره الخيل وغيرها من المصوِّتات، فكان ذلك بمنزلة الداخل فيما قبله. ونبّهت باشتراط الفائدة على أن النكرة لا يستثنى منها في الموجب ما لم تُفِد، فلا يقال: جاء قوم إلا رجلا، لعدم الفائدة، فإن دخلت فائدة جاز كقوله تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما). والضمير من قولي "وله بعد إلا من الإعراب" عائد على المستثنى منه إذا لم يذكر وفرّغ العامل لما بعد إلا نحو مما جاءني إلا زيد وما لقيت إلا عمرا، وما مررت إلا بعامر، فيعرب ما بعد إلا بما كان يُعرب به دونها، لأنه صار خلفا عن المستثنى منه حين تُرك وفرّغ عامله لما بعد إلا.
واحترز بالتفريغ من نحو ما قام إلا زيدٌ غلا عمرا، وما قام زيد إلا عمرا، فإن الأصل فيهما ما قام أحد إلا زيدا إلا عمرا، وما قام زيد ولا غيره إلا عمرا. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ثم أشرت إلى أنه لا يترك المستثنى منه ويفرّغ عامله لما بعد إلّا دون نهي أو نفي صريح أو مؤول، والنهي كقوله تعالى (ولا تقولوا على الله إلا الحقّ) والنفي الصريح كقوله تعالى (وما محمدٌ إلّا رسولٌ قد خلت
من قبله الرسلُ) ويدخل في النفي المؤول الاستفهام كقوله تعالى (هل يُهلكُ إلّا القومُ الظالمون) والشرط الذي فيه معنى النهي كقوله تعالى (ومَن يُوَلِّهم يومئذٍ دُبُرَهُ إلّا مُتحرِّفًا لقتال أو مُتحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) فإن معناه: لا تُولّوا الأدبار إلا متحرّفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة. ومن النفي المؤول: زيدٌ غيرُ آكلٍ إلا الخبزَ، وقوله تعالى (ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نورَه) لأن يأبى بمعنى لا يريد. ومنه (وإنّها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين) لأن المراد بالكبيرة هنا الصعوبة، فكأنه قيل لا تسهل إلا على الخاشعين.
والحاصل أن المستثنى منه لا يحذف مع إيجاب محض، لأنه يلزم منه الكذب، ألا ترى أن حقيقة قولك رأيت إلا زيدا: عمَّ نظري الناس إلا زيدا وذلك غير جائز. بخلاف لم أر إلا زيدا فإن حقيقته لم أر من الناس إلا زيدا وذلك جائز. فإن كان في الإيجاب معنى النفي لعومل معاملته نحو: عدمتُ إلا زيدا، وصمت إلا يومَ الجمعة، فإنهما بمعنى لم أجد ولم أفطر. ومن النفي بالمؤوّل قولهم: قلّ رجلٌ يقول ذلك إلا زيدا، وأقل رجل يقول ذلك إلا زيدا.
وأشرت بقولي "وربما حُذف عامل متروك" إلى قول الشاعر:
تَنُوطُ التَّميمَ وتأبى الغَبُو
…
ق من سنة النوْمِ إلّا نهارا
يصف امرأة بالتنعّم وكثرة الراحة، فهي تأبى أن تغتبق، أي تغتذي بالعشيّ لئلا يعوقها عن الاضطجاع للراحة. ثم قال: إلا نهارا، يريد لا تغتذي الدهر إلا نهارا. هذا معنى قول الفارسي. وأولى من هذا التقدير أن يكون أراد، وتأبى الغبوق والصبوح إلا نهارا، فحذف المعطوف وأبقى المعطوف عليه وهو كثير. ومما حمل على ذلك قوله تعالى (سرابيلَ تقيكم الحَرّ) أي الحرّ والبرد وقول امرئ القيس:
كأنّ الحصا مِن خَلْفِها وأمامِها
…
إذا نَجَلَتْهُ رِجْلُها خَذْفُ أعْسَرا
أراد إذا نجلته رجلها ويدها.
وقولي "وإن لم يترك المستثنى منه فللمستثنى بإلا النصب مطلقا" نبّهت به على أن المستثنى بإلا إذا ذُكر المستثنى منه يُنصب في الموجب وغيره، لكن في الموجب لا يشارك النصب، وفي غير الموجب يشاركه البدل راجحا، أو مرجوحا. والمراد بالموجب ما لم يشتمل عليه نهي أو نفي صريح أو مؤول، وغير الموجب ما اشتمل عليه بعض ذلك، وسيأتي الجميع مفصّلا إن شاء الله تعالى.
ثم قلت: "بها لا بما قبلها" مشيرا إلى الخلاف في ناصب المستثنى بإلّا، واخترت نصبه بها نفسها، وزعمت أني في ذلك موافق لسيبويه وللمبرد وللجرجاني وقد خفي كون هذا مذهب سيبويه على جمهور الشراح لكتابه. وأنا أستعين الله على بيان ما خَفى عليهم من ذلك بنصوص يعضد بعضُها بعضا، وبعد استيفاء ذلك أقيم الدلالة على صحته وفساد ما سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فمن ذلك قوله في الباب الثاني من أبواب الاستثناء بإلا يكون الاسم بعدها على وجهين: أحدهما ألّا تغيّر الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق، كما أن "لا" حين قلت: لا مرحبًا ولا سلامةً، لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق، فكذلك إلّا، ولكنها تجيء لمعنى كما تجيء لا لمعنى. والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه (عاملا فيه) ما قبله من الكلام، كما تعمل "عشرون" فيما بعدها إذا قلت:"عشرون درهما".
فجعل إلا نظيرة "لا" المحمولة على "إنّ" في أنّ ما تدخل عليه تارة تصادفه
مشغولا بعامل غيرها فتؤثر في معناه دون لفظه، وتارة تصادفه غير مشغول بعامل غيرها فتؤثر في لفظه ومعناه ثم صرّح بأن العامل في زيد من نحو قاموا إلا زيدا ما قبله من الكلام، فإما أن يريد بما قبله إلا وحدها أو الفعل وحده أو كليهما، فدخول "من" مانعٌ من أن يريد كليهما، لأنها للتبعيض لا لبيان الجنس.
فإن التي لبيان الجنس لا تدخل بعد "ما" إلا على نكرة كقوله تعالى (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء) وقوله تعالى: (واعملوا أن ما غنمتم من شيء) وقوله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) فلو كانت "من" في قول سيبويه لبيان الجنس لم تدخل على الكلام معرفا، بل كانت تدخل عليه منكرا، وإذا لم تدخل عليه إلا معرّفا فهي للتبعيض. ويلزم من ذلك انتفاء أن يريد ثبوت كليهما وثبوت إرادة الفعل وحده أو إلّا وحدها. وإرادة إلّا أولى لأنها قبل المستثنى لا قبل غيره والفعل قبله وقبل غيره فإرادته مرجوحة وإرادة إلّا راجحة، ولأنّ ما قبل الشيء إذا لم يُرَد به الجميع حمل على الذي يلي، ولهذا إذا قال النحوي: ياء التثنية مفتوح ما قبلها، وياء الجميع مكسور ما قبلها علم محل الفتحة والكسرة. ويعضد إرادة إلّا قوله:"تعمل عشرون فيما بعدها إذا قلت عشرون درهما" فجعل موقع المستثنى من عامله كموقع الدرهم من العشرين، فعُلِم أنه لم يُرد الفعل لأنه منفصل مُكتف بخلاف إلّا فإنها مثل العشرين في الاتصال وعدم الاكتفاء فكانت مرادة.
وأظهر من هذا قوله في خامس أبواب الاستثناء: "حدثنا يونس أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول مررت بأحد إلا زيدا، وما أتاني أحد إلا زيدا، ثم قال سيبويه: وعلى هذا ما رأيت أحدا إلا زيدا، فتنصب زيدا على غير رأيت، وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول، ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول، وعمل
فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم". فصرّح بأن نصب زيد في المثال المذكور على لغة مَن لا يُبْدِل، إنما هو بغير رأيت فتعيّن نصبه بإلا. ولم يكتف بذلك التصريح حتى قال: "ولكنك جعلته منقطعا عما عمل في الأول" فهذان تصريحان لا يتطرق إليهما احتمال غير ما قلنا إلا بمكابرة وعناد.
وقال في تاسع أبواب الاستثناء بعد أن مثل بأتاني القوم إلا أباك: "وانتصب الأب إذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة، وكان العامل فيه ما قبله من الكلام". قلت: فقد جعل علة نصب الأب عدم دخوله فيما دخل فيه ما قبله، والذي دخل فيه ما قبله إسناد المعنى إلى المعنى وتأثر اللفظ باللفظ، فلزم من ذلك ألا يكون لفظ الأب منصوبا بلفظ أتى، كما لم يكن لمعناه حظّ في معناه، وإذا لم يكن النصب بأتى تعيّن أن يكون بإلّا.
فحاصل كلام سيبويه أن إلّا هي الناصبة لما استثني بها إذا لم يكن بدلا ولا مشغولا عنها بما هو أقوى. ومن نسب إليه خلافَ هذا فقد تقوّل أو غلط فيما تأول، تغمّدنا الله وإياهم برحمته وأوزعنا شكر نعمته.
وأمّا المبرّد فحكى عنه السيرافي أن نصب المستثنى بعد إلّا بأستثني مضمرا، وكلامه في المقتضب بخلاف ذلك، فإنه قال في أبواب الاستثناء:"وذلك أنك إذا قلت جاءني القوم وقع عند السامع أن زيدا فيهم، فلما قلت إلا زيدا كانت إلا بدلا من قولك لا أعني زيدا أو استثنى ممن جاءني زيدا فكانت بدلا من الفعل" فهذا نصه.
بينا أن العامل "إلّا" وأنها بدل من الفعل، ولو كان الفعل عاملا لكان في حكم الموجود ولزم من ذلك جمع بين البدل والمبدل منه في غير إتباع ولا ضرورة. وممن قال بهذا القول من المتأخرين عبد القاهر الجرجاني وإذ قد بيّنت النصوص الشاهدة بأني فيما اخترته موافق لسيبويه، فلم يبق إلّا تبيين ما يدل على صحة ذلك فأقول مستعينا بالله تعالى:
العامل في الاسم على ضربين: قياسيّ واستحسانيّ، فالقياسي ما اختص به ولم يكن كجزء منه، وإلّا كذلك فيجب لها العمل، كوجوبه لسائر الحروف التي هي كذلك، ما لم تتوسط بين عامل مفرغ ومعمول فتلغى وجوبا إن كان التفريغ محققا نحو ما قام إلا زيد، وجوازا إن كان مقدرا نحو ما قام أحد إلا زيد، فإنه في تقدير ما قام إلا زيد، لأن أحدا مبدل منه والمبدل منه غالبا في حكم الساقط. وقد شبه سيبويه إلا فيما قام إلا زيد بلا في لا مرحبا، لأن كل واحدة منهما دخلت على كلام عمله بعضه في بعض فلم تغيّر منه شيئا، فكما لم يلزم من كون لا غير عاملة في لا مرحبا إبطال عملها في لا مرحبا بك عندنا، لا يلزم من كون إلا غير عاملة في ما قام إلا زيد إبطال عملها في ما قاموا إلا زيدا. فإن قيل قاعدة الدلالة على إلحاق إلا بالعوامل إنما هي دعوى اختصاصها بالاسم قلت ودخولها على الفعل ليس مانعا من اختصاصها بالاسم لأن كل فعل دخلت عليه مؤول باسم، ولذا قالوا في نشدتك اللهَ إلّا فعلت معناه ما أسألك إلا فِعْلك.
وقال سيبويه بعد أن ذكر قول العرب: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضرّ:"فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النقصان والضرر، كما أنك إذا قلت ما أحسنَ ما كلّم زيدا فهو بمنزلة ما أحسن كلامه زيدا، ولولا "ما" لم يجز الفعل بعد إلا في ذا الموضع كما لم يجز بعدما أحسن بغير ما".
فشبه إلا في طلبها الاسم ومابينتها الفعل المحض بفعل التعجب. قال ابن خروف: ومنعه لوقوع الفعل بعد إلا من غير ذكر "ما" حسن، وهو في الاستثناء بإلا يقبح، ولذلك قال في ذا الموضع. قلت فات ابن خروف أن يقول وذلك في موضع النصب، لأن كل مثال ذكره من الأمثلة التي دخلت فيها إلا على فعل مجرّد من "ما" فهو من باب الاستثناء، لكن الواقع فيه بعد إلا ليس في موضع نصب على الاستثناء. ثم قال ابن خروف: وقد قالت العرب: ما تأتيني إلا قلت حقا،
وما أتيتني إلا تكلمت بالجميل، وما زاد إلا نفع، وما قلّ إلا ضرَّ، وما تكلّم إلا ضحك، وما جاء إلا أكرمته كأنهم قالوا ما تأتيني إلا قائلا حقا، وما أتيتني إلا متكلما بالجميل، وما زاد إلا نافعا، وما قلّ إلا ضارا، وما تكلم إلا ضاحكا، وما جاء إلا مكرَما، فجميع هذه أحوال. فهذا نص سيبويه.
ونص أبو الحسن بن خروف في شرح الكتاب مبينا بأن الفعل لا يقع بعد إلا حتى يكون مؤولا باسم. ولو كان مطلق الدخول على الفعل مبطلا للاختصاص بالاسم ما أضيف الاسم إلى فعل، ولا وقع الفعل حالا، ولا مفعولا ثانيا لظنّ، ولا خبر كان أو "إنّ" لأن مواضع كل واحد من هذه المذكورات متسلط عليه عامل من عوامل الأسماء، فكما لم يبطل اختصاص هذه العوامل بالأسماء وقوع الأفعال في مواضع معمولاتها لتأوّلها بأسماء كذلك لا يُبْطل اختصاص إلّا بالأسماء دخولها على فعل مؤوّل باسم.
فإن قيل لو كانت إلا عاملة لم يقع الضمير بعدها إلا متصلا كما يقع بعد إنّ وأخواتها والأمر بخلاف ذلك قال الله تعالى (ضلَّ مَن تدعون إلّا إيّاه) وقد مضى أنهم قالوا في الاستثناء المنقطع ما في الأرض أخبث منه إلا إياه، فالجواب من خمسة أوجه:
أحدها أن المنصوب بإلا لما كان منصوبا لا مرفوعَ معه أشبه المنصوب على التحذير والنداء، فاستحق الانفصال إن كان مضمرا، كما استحق شبيهه. الثاني لما كان الانفصال ملتزما في التفريغ المحقق والمقدر التزم مع عدم التفريغ، ليجري البابُ على سَنَن واحد. الثالث أنّ "إلّا" لو استثنى بها في حكم جملة مختصر فكُرِه وقوعُه ضميرا متصلا لأنه مختصر بالنسبة إلى المنفصل، والاختصار بعد الاختصار إحجاف. الرابع أن إلا تشبه ما النافية في مرافقة الفعل معنى لا لفظا، وفي الإعمال تارة والإهمال تارة، ومعمول ما إذا كان مضمرا لا يكون إلا منفصلا، فألحقت بها
إلا الخامس أن إلا تشبه لا العاطفة في لزوم التوسط، وجعل ما بعدها مخالفا لما قبلها، ولا العاطفة لا يليها المضمر إلا منفصلا فجرت في ذلك مجراها، ومع ذلك فالمستحق بعد إلا النصب على الاستثناء شُبِّه بالمفعول المباشر عامله فكان له بذلك حظ في الاتصال إذا كان مضمرا فنبّهوا على ذلك بقول الشاعر:
وما أُبالي إذا ما كنتِ جارتَنا
…
ألّا يُجاورنا إلّاكِ دَيّارُ
وقول الآخر:
أعوذ بربّ العرش من فِئةٍ بَغَتْ
…
عليَّ فما لي عَوْضُ إلّاهُ ناصِرُ
وليس هذا ضرورة لتمكّن قائل الأول من أن يقول:
وما أبالي إذا ما كنتِ جارتنا
…
ألا يكونَ لنا خِلٌّ ولا جارُ
ولتمكّن قائل الثاني من أن يقول:
أعوذ برب العرش من فئة بغت
…
عليّ فما لي غيرُه عوضُ ناصرُ
وأيضا فإن المعروف في كلام العرب إيقاع المنفصل موقع المتّصل للاضطرار كقول الشاعر:
بالوارث الباعث الأمواتِ قد ضمِنَتْ
…
إيّاهم الأرضُ في دَهْر الدهارير
وأما وقوع المتصل موقع المنفصل للاضطرار فغير معروف. فلو لم يكن الأصل في الضمير المنصوب على الاستثناء بعد إلا الاتصال لم يَسُغ لقائلَيْ البيتين المذكورين أن يفعلا ما فَعَلا، كما لا يسوغ في المعطوف ولا في المفعول معه.
فإن قيل: لو كانت إلا عاملة لجرّت، لأن الجرّ هو اللائق بعمل الاسم الذي لا يشبه الفعل، ولذا حكم لعدا وخلا وحاشى بالحرفية إذا جَرَّتْ، وبالفعليّة إذا نصبَتْ.
فالجواب لا نسلّم أن اللائق بعامل الاسم الذي لا يشبه الفعل هو الجر خاصة، بل اللائق به عمل لا يصلح للفعل، وهو جر أو نصب لا رفع معه، فكان النصب أولى بالأربعة لأنه أخف من الجر، لكن منعت منه عدا وأختاها، لأنهن يكنّ أفعالا فيستوْجبْنَ النصب حينئذ، فلو عملته وهنّ أحرف لجُهلتْ الحرفية فتعين (الجر) بهنّ إذا كنَّ أحرفا، ولم يمنع من النصب بإلا مانع فعملت، وأيضا فإن إلا مخصوصة بكثرة الاستعمال والتعرض للتكرار، فأُوثِرتْ من بين أخواتها الحرفية بأخف الإعرابين. وإذ قد بيّنت أن الصحيح كون إلا عاملة نَقْلا واستدلالا فأذكر ما سوى ذلك من المذاهب مقرونةً بشُبهِها وبالحجج الواضحة والله المستعان.
وجملتها خمسة: أولها مذهب السيرافي، وهو أن النصب بما قبل إلا من فعل أو غيره بتعدية إلا. ويُبطل هذا المذهب صحة تكرير الاستثناء نحو قبضت عشرة إلا أربعة إلا درهما إلا ربعا، إذ لا فعل في المثال المذكور إلا قبضت، فإذا جُعل معدّى بإلا لزم تعديته إلى أربعة بمعنى الحطَّ، وإلى الدرهم بمعنى الجَبْر، وإلى الربع بمعنى الحطّ، وذلك حكم بما لا نظير له، فإنه استعمال فعل واحد معدّى بحرف واحد على معنيين متضادين. وكذا لو كررت إلا دون عطف في المعنى نحو قاموا إلا زيدا إلا عمرا فإن الثاني موافق للأول في المعنى، فلو جُعلا منصوبين بالفعل معدّى إليهما بإلا لزم من ذلك عدم النظير، إذ ليس في الكلام فعل معدّى بحرف واحد إلى شيئين دون عطف فوجب اجتنابه.
الثاني أن الناصب ما قبل إلا على سبيل الاستقلال ? وهو قول ابن خروف ? وهو أيضا حكم بما لا نظير له، وذلك أن المنصوب على الاستثناء بعد إلا لا مقتضى له غيرُها لأنها لو حذفتْ لم يكن لذكره معنى، فلو لم تكن عاملة فيه ولا موصلة عمل ما قبلها إليه مع اقتضائها إياه لزم عدم النظير فوجب اجتنابه.
والذي دعا ابن خروف إلى هذا الرأي انتصاب "غير" إذا وقعت موقع إلا المنتصب ما بعدها نحو قاموا غيرَ زيد، فنصبوها على الاستثناء بلا واسطة، قال فلو كان
المنصوب على الاستثناء مفتقرا إلى واسطة لم تنصب غير بلا واسطة، وجرَّأه على هذا أيضا قول سيبويه في باب غير:"ولو جاز أن تقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا".
والجواب عن نصب غير بلا واسطة أنه منصوب على الحال وفيه معنى الاستثناء، كما أن ما وصلتها في نحو قاموا ما عدا زيدا مصدر بمعنى الحال وفيه معنى الاستثناء.
هذا هو اختيار السيرافي في ما عدا وما خلا، وهو الصحيح، ولا يمنع من ذلك كونه معرفة، فإن وقوع المعرفة حالا لتأوّلها بنكرة سائغ شائع.
وذهب ابن خروف والشلوبين إلى نصْب ما وصلتها على الاستثناء، وهو غلط منهما، لأن المنصوب على معنى لا يقوم ذلك المعنى بغيره، ومعنى الاستثناء قائم بما بعد ما وصلتها، لا بها كما هو قائم بما بعد غير، فلا يصح القول بأنهما منصوبان على الاستثناء، لأنهما مستثنى بهما لا مستثنيان.
وقد ذهب أبو علي في التذكرة إلى ما ذهبت إليه من أنّ "غير" في قاموا غير زيد حال، وهو الظاهر من قول سيبويه في باب غير، بعد تمثيله بأتاني القوم غير زيد، فغير الزيدين جاءوا ولكنه فيه معنى إلا. هذا نصه.
والجواب عن قوله لو جاز أن يقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلا نصبا أن يحمل على حذف إلا وإبقاء عملها، أو على حذف غير وإقامة زيد مقامها في الإعراب كما فُعِل بكل مضاف إليه إذا حذف المضاف وأقيم هو مقامه.
الثالث أن الناصب بعد إلا مضمرا ? وهو قول الزجاج- عزاه إليه وإلى المبرد السيرافي. وهذا أيضا مردود، لمخالفته النظائر، إذ لا يجمع بين فعل وحرف يدل
على معناه لا بإضمار ولا بإظهار. ولو جاء ذلك لنصب ما ولى "ليت وكأن ولا" بأتمنّى وأشبّه وأنفي، وفي الإجماع على امتناع ذلك دلالة على فساد إضمار استثنى.
الرابع قول الفراء، عزاه إليه السيرافي، وهو إلّا مركبة من لا وإنْ المخففة من إنّن وهو قول فاسد من أربعة أوجه: أحدها أنه مبنيّ على ادّعاء التركيب، ولا دليل عليه فلا يلتفت إليه. الثاني أنه لو صح التركيب لم يصح العمل الذي كان قبله، لأن المعنى قد تغيّر معه، وكل تركيب يتغير معه المعنى يتغير معه الحكم، كتركيب إذ ما وحيثما، فإنه أحدث معنى المجازاة والعمل اللائق بها وأزال معنى الإضافة والعمل اللائق بها، فلو كانت إلا مركبة لم يبق عمل ما رُكِّبت منه لزوال معناه وتجدّد معنى الاستثناء. الثالث أنه لو صح التركيب من لا وإن المخففة لم يلزم نصب ما ولى إلا في موضع ما ولكان غير النصب به أولى كما كان قبل التركيب، بل كان اللائق به بعد التركيب امتناع النصب، لازدياد الضعف بالتركيب، وأمر ما ولى إلا بخلاف ذلك فبطل التركيب: الرابع لو صح التركيب وكون المنصوب منصوبا بعد إلا بإن على حد نصبه بإنّ لوجب ألا يتم الكلام بالمنصوب مقتصرا عليه كما لا يتم بعد إنّ، لأن العامل المنقوص لا ينتقص عمله.
وعزا السيرافي مذهبا خامسا إلى الكسائي، وهو نصب ما بعد إلا بأنّ مقدّرة، وهو قول في غاية من الضعف، لأنه مبني على ادّعاء تقدير ما لا دليل عليه ولا حاجة إليه. ولأنه لو سلّم تقدير أن يلزم أن يكون لها عامل يعمل فيها، لأنها مع ما تعمل فيه في تأويل مصدر فيجعل الذي عمل فيها عاملا فيما قدّرت من أجله ويستغنى عنها. وأيضا لو كانت أنّ مقدرة لم يتم الكلام بمنصوبها مقتصرا عليه كما لا يتم به إذا ذكرت، لأن العامل إذا حذف لا يختصر عمله.
ص: فإن كان المستثنى بإلا متصلا مؤخرا عن المستثنى منه المشتمل عليه نهي أو معناه أو نفي صريح أو مؤول غير مردود به كلام تضمن الاستثناء اختير فيه متراخيا النصب، وغير متراخ الإتباع إبدالا عند البصريين وعطفا عند الكوفيين. ولا يشترط في جواز نصبه تعريف المستثنى منه خلافا للفراء، ولا في جواز الإبدال عدم الصلاحية للإيجاب خلافا لبعض القدماء. وإتباع المتوسط بين المستثنى منه وصفته أولى من النصب خلافا للمازني في العكس. ولا يتبع المجرور بمن والباء الزائدتين ولا اسم لا الجنسية إلا باعتبار المحل.
ش: قد تقدم أن حكم المستثنى بإلا إذا ذكرتَ المستثنى منه النصب مطلقا، وأن المراد بالإطلاق الموجب وغير الموجب. والغرض الآن تبيين المواضع التي يشرك فيها بين النصب والبدل، فإذا أحصيت علم أن لما سواها النّصب متعيّنا.
وبدأت من المواضع المشاركة بما يكون فيه البدل راجحا، فلذلك قلت:"فإن كان المستثنى بإلا متصلا" فأخرت الكلام على المستثنى المنقطع، فإن النصب فيه راجح أو واجب، وكذلك المستثنى المقدَّم، ولذلك قلت "متصلا مؤخرا" وسنين ذلك (كله) إن شاء الله تعالى. وقيّدت المستثنى منه المجوّز فيه النصب والبدل، بالمشتمل عليه نهي أو معناه أو نفي صريح احترازا من الموجب نحو ذهبوا إلا زيدا، وستظفرون إلا عمرا، وقلت المشتمل عليه ولم أقل الكائن معه أو نحو ذلك تنبيها على أن النهي أو النفي قد يوجد ولا يكون له حكم، لكونه منقوضا نحو: لا تأكلوا إلا اللحم إلا زيدا، وما شرب أحد إلا الماء إلا عمرا، فإن هذا وأمثاله بمنزلة ما لا نهي فيه، إذ المراد كلوا اللحم إلا زيد، وشربوا الماء إلا عمرا. ومن هذا القبيل ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، ذكره أبو علي في التذكرة، وقال: لا يجوز كون قائم صفة لأحد، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف، ولا كونه حالا من التاء، لأن معنى ما مررت إلا قائما: مررت بقائما، ولو قلت مررت قائما بأحد لم يجز فكذا ما في معناه. وإذا بطل هذا نسب إلى أن قائما حال من أحد، وأخاك منصوب به لأنه بعد إيجاب.
وأشرت بالمشتمل عليه نهي أو معناه إلى قول عائشة رضي الله عنها "نهى عن قتل جِنّان البيوت الأبتر وذو الطُّفيتين" فغنه محمل على تقدير لا يقتل جنان البيوت إلا الأبتر. والنفي الصريح الظاهر، والمؤول كقوله تعالى (ومَنْ يغفر الذنوب
إلا اللهُ) و (مَن يقنطُ من رحمة ربِّه إلا الضّالُّون) فهذا وأمثاله استفهام في اللفظ ونفي في المعنى. فالله بدل من الضمير في يغفر، والضالون بدل من الضمير في يقنط. وأكثر ما يكون معنى النفي في الاستفهام إذا كان بهل أو مَن، وقد يكون الاستفهام بأيّ، ولذلك عطف بعدها بولا في قول الشاعر:
فاذهب فأيُّ فتًى في الناسِ أحْرَزَهُ
…
عن حتفه ظلمٌ دُعْجٌ ولا جَبَلُ
فلو قيل على هذا أيُّ الناس يَبْطَر بالغِنى إلا الجاهلون على الإبدال من فاعل يبطر لحسُنَ. ومن النفي المؤول: قلّ رجل يقول ذلك إلا زيد، بمعنى ما رجل يقول ذلك إلا زيد، وكذا أقلّ رجل (يقول) ذلك إذا قُصِد به النفي. ومن النفي المؤول قراءة بعض السلف "فشربوا منه إلا قليلٌ" لأن قبله:"فمَن شَرَب منه فليس مني" فبذلك صار شربوا منه بمعنى لم يكونوا منه. ومن النفي المؤول ما أنشد الأخفش من قول الشاعر:
لِدمٍ ضائعٍ تَغَيَّبَ عنه
…
أقْربُوهُ إلا الصَّبا والجَنُوبُ
ومن قول الآخر:
وبالصَّريمة منهم منزلٌ خَلَقٌ
…
عافٍ تغيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتَدُ
لأن تغيّب بمعنى لم يحضر، وتغيّر بمعنى لم يبق على حاله. وقولي "غير مردود به كلام تضمن الاستثناء" أشرت به إلى نحو أن يقول قائل: قاموا إلا زيدا، وأنت
تعلم أن الأمر بخلاف ذلك، فتدخل النفي وتأتي بالكلام مثل ما كان نطق به المردود عليه، فتنصب زيدا ولا ترفعه، لأنك لم تقصد معنى ما قام إلا زيد. وكذلك إذا قال: لي عندك مائةٌ إلّا درهمين، فأردت جحد ما ادّعاه فإنك تقول: مالك عندي مائة إلا درهمين، فيكون هذا بمنزلة قولك مالك عندي الذي ادّعيته. ولو رفعت الدرهمين مقرّا بهما جاحدا الثمانية والتسعين، لأن المستثنى المبدل مما قبله في حكم الاستقلال فكأنك قلت إذا رفعت مالك عندي إلا درهمان.
وإذا اجتمع في المستثنى بإلا جميع ما أشير إليه من الاتصال والتأخر وكونه مشتملا عليه نهي أو نفي صريح أو مؤوّل وكونه غير مردود به كلام وغير متراخٍ اختير إتباعه بدلا عند البصريين وعطفا عند الكوفيين. قال أبو العباس ثعلب: كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعه منفيّ؟ وأجاب السيرافي بأن قال: هو بدل منه عمل العامل فيه وتخالفهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية، لأن مذهب البدل فيه أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه، وقد يتخالف الموصوف والصفة نفيا وإثباتا نحو: مررت برجل لا كريم ولا لبيب. قلت: ولمقوّى العطف أن يقول تخالف الموصوف والصفة كما لو لم يتخالف، لأن نفي الكرم واللَّبابة إثبات لضدَّيهما، وليس لضدّيهما تخالف المستثنى والمستثنى منه، فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحدٌ إلا زيد يلزم منه عدم النظير، إذ لا بدل في غير محل النزاع إلا وتعلّق العامل به مساوٍ لتعلقه بالمبدل منه، والأمر في زيد وأحد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا، إذ ليس في الإبدال ما يشبهه. وإن جُعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالفة المعطوفات، بل يكون نظيرا لمعطوف بلا وبل ولكن، فكان جعلُه معطوفا أولى من جعله بدلا.
وإنما رجح الإتباع في غير الإيجاب على النصب لأن معناه ومعنى النصب واحد، وفي الإتباع تشاكل اللفظين. فإن تباعَدا تباعُدا بيّنا رَجَح النصب كقولك ما ثبت أحد في الحرب ثباتا نفع الناسَ إلا زيدا، ولا تنزلْ على أحد من بني تميم إن وافيتهم إلا قيْسا، لأن سبب ترجيح الإتباع طلب التشاكل وقد ضعف داعيه بالتباعُد.
والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يختلي خَلاها ولا يُعْضَد شوكُها" فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فقال: إلا الإذْخِر" وقد يكون من هذا "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيُه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" وإليه الإشارة بقولي "اختير متراخيا النصب وغير متراخ الإتباع".
وعلّل قوم هذا النوع بعروض الاستثناء. قال ابن السراج: فإن لم تقدر البدل وجعلته كقولك ما قام أحد، كلاما تاما لا يُنوى فيه الإبدال من أحد ثم استثنيت نصبت فقلت ما قام أحد إلا زيدا، يكون للزوم النصب بعد النفي سببان، التراخي وعروض الاستثناء. وجواز النصب عند الفراء مع صحة الإتباع مشروط بتعريف المستثنى منه كقوله تعالى (ما فعلوه إلا قليل منهم)، فالنصب في مثل هذا جائز بإجماع، لأن المستثنى منه معرفة بخلاف قوله تعالى (ولم يكن لهم شهداءُ إلّا أنفسهم) فإن الاستثناء فيه من نكرة، فيلزم فيه على مذهب الفراء الإتباع، ولا حجة له لأن النصب هو الأصل، والإتباع داخل عليه، وقد رجح عليه لطلب المشاكلة، فلو جُعل بعد ترجيحه عليه مانعا منه لكان ذلك إجحافا بالأصل، فضعف بهذا الاعتبار قول الفراء.
وقد يرد عليه أيضا قوله تعالى (ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك) في قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو، على أن يجعل امرأتك مستثنى من أحد لا من الأهل لتتفق القراءتان في الاستثناء من شيء واحد، ولأنه قد قد قيل إنه أخرجها معهم وأمر ألا يلتفت أحد منهم إلا هي فلما سمعت هوة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركاه حجر فقتلها. ويمكن في قراءة ابن كثير وأبي عمرو أن يجعل امرأتك مبتدأ، وأنه مصيبها
ما أصابهم خبره، والاستثناء منقطع. وقد روى سيبويه عن يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم يقول: ما مررت بأحد إلا زيدا، وما أتاني أحد إلا زيدا بالنصب بعد النكرة. وهذا يقتضي جواز ما ادّعى الفراء امتناعه، فرأيه في المسألة مردود، وباب الإصابة عنه مسدود. وحكى سيبويه عمّن لم يسمّه أن المنفي إذا جاز في لفظه الإيجاب لم يجز فيه إلا النصب على الاستثناء نحو ما أتاني القوم إلا أباك، لأنه بمنزلة أتاني القوم إلا أباك. وردّ ذلك سيبويه وهو بالردّ حقيق خالفه السماع والقياس، فمن السماع الدال على البدل قوله تعالى (ما فعلوه إلا قليل منهم) وفعلوه يقع في الإيجاب. وأما القياس فإنه يقتضي جواز البدل أيضا، وذلك لأن المسوغ للبدل فيما أجمع على جواز البدل فيه الصلاحية لحذف المستثنى منه وإقامة المستثنى مقامه، وذلك موجود في نحو: ما أتاني القوم إلا أبوك كما هو موجود في ما أتى أحد إلا أبوك، فوجب تساويهما في الحكم بجواز البدل، كما تساويا في تضمن المتبوع.
وإذا توسّط المستثنى بين المستثنى منه وصفته نحو ما فيها أحد إلا زيد خير من عمرو فالإتباع عند سيبويه والمبرد أولى من النصب. ومذهب المازني عكس ذلك، والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، لأن الصفة فضلة فلا اعتداد بالمقدم عليها، ولأن المستثنى في نحو ما جاء أحد إلا زيد إنما رجح اتباعه على نصبه، لأنه إذا أتبع تشاكل ما قبله لفظا ولم يختلف المعنى، فإذا أتبع وبعده صفة متبعة شاكل ما قبله ما بعده، فكان إتباعه متوسطا أولى من إتباعه غير متوسط. قال المبرد: وكان المازني يختار النصب ويقول: إذا أبدلت من الشيء فقد طرحته من لفظي وإن كان في المعنى
موجودا، فكيف أنعتُ ما قد سَقط. قال المبرد:"والقياس عندي قول سيبويه، لأن الكلام إنما يراد لمعناه، والمعنى الصحيح أن البدل والمبدل منه موجودان معا، لم يُوضعا على أن يسقط أحدهما إلا في بدل الغلط، فإن المبدل منه بمنزلة ما ليس في الكلام".
ولا يتبع المستثنى منه إن كان مجرورا بمن الزائدة على اللفظ، بل على المحلّ، وكذا المجرور بالباء الزائدة، وكذا اسم "لا" المحمولة على إنّ، فمثال الأول ما فيها من أحد إلا زيد، ومثال الثاني ليس زيد بشيء إلا شيئا لا يُعبأ به، ومثال الثالث لا إله إلا الله. فرفعت البدل من أحد لأنه في موضع رفع بالابتداء، ولم تحمله على اللفظ فتجرَّه، لأنه معرفة موجب، ومن الزائدة لا تجرّ إلا منكّرا غير موجب. ونصبت المبدل من شيء، لأنه في موضع نصب بليس، ولم تحمله على اللفظ فتجرَّه لأنه خبر موجب، ولا عمل للباء الزائدة في خبر موجب. ورفعت المبدَل من اسم "لا" لأنه في موضع رفع بالابتداء، ولم تحمله على اللفظ فتنصبَه لأنه معرفة موجب، ولا إنما تعمل في منكّر منفيّ.
ومن الاتباع على محلّ المجرور بالباء الزائدة قول الشاعر:
أبَنِي لبينى لستمُ بيَد
…
إلا يدًا ليست لها عَضُدُ
ص: وأجاز التميميون إتباع المنقطع المتأخّر إنْ صحّ إغناؤه عن المستثنى منه وليس من تغليب العاقل على غيره فيخص بأحد وشبهه خلافا للمازني. وإن عاد ضمير قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع على المستثنى منه العامل فيه ابتداء أو أحد نواسخه أتْبع الضمير جوازا وصاحبه اختيارا، وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو ما جاء أحد إلا زيد: وقد يجعل المستثنى متبوعا والمستثنى منه تابعا. ولا يقدم دون شذوذ المستثنى على المستثنى منه والمنسوب إليه معًا، بل على أحدهما. وما شذ عن ذلك فلا يُقاس عليه خلافا للكسائي.
ش: لغة بني تميم إعطاء المنقطع المؤخّر من مستثنيات إلّا في غير الإيجاب من الإتباع ما للمتصل فيقولون: ما فيها أحد إلا وتدٌ، كما يقول الجميع ما فيها أحد إلا زيد، ويقرءون (ما لهم به من علم إلّا اتّباعُ الظَّنّ) بالرفع، إلا مَن لُقِّن النصب. وعلى لغتهم قول الراجز:
وبلدةٍ ليس بها أنيسُ
…
إلّا أليعافيرُ وإلا العيسُ
ومثله قول الفرزدق:
وبنتَ كريم قد نَكحنا ولم يكنْ
…
لنا خاطِبٌ إلا السِنانُ وعامِلُهْ
ويلحق بهذا الإتباع إتباع أحد المتباينين للآخر نحو: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. وهما من أمثلة سيبويه، وما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه إخوانه إلا أنا. فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم. ولو لم يذكر الرجلان فيمن نفى عنه الإتيان والإعانة، لكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي ورفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يعرض له هذا الذي أكد به فذكره توكيدا، واستشهد سيبويه بقول الشاعر:
والحربُ لا يبقى لِجا
…
حِمها التخيّلُ والمَراحُ
إلّا الفتى الصبَّارُ في النْـ
…
نَجداتِ والفرسُ الوَقاحُ
وبقول الآخر:
عشيّةَ لا تُغْني الرماحُ مكانَها
…
ولا النبلُ إلا المشرفِيُّ المُصَمِّمُ
وشرط الإتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى. وهذا الشرط موجود في كل ما مثَّلتُ به. فإن لم يوجد الشرط تعيّن النصب عند الجميع كقوله تعالى (لا عاصِمَ اليومَ من أمر الله إلّا مَن رحم). فمن رحم في موضع نصب على الاستثناء، ولا يجوز فيه الإتباع، لأن الاستغناء به عما سبقه متكلف. ومن هذا القبيل قول الشاعر:
ألا لا مُجيرَ اليومَ ممّا قضتْ به
…
صوارمُنا إلا امرأ دانَ مُذْعِنا
وما أتبع من المنقطع عند التميميين ملتزم النصب عند الحجازيين. ولهذا أجمع القراء على نصب إلا اتباع الظن كما أجمعوا على نصب "ما هذا بشرا"، لأنه نزل بلغة الحجازيين إلا قليلا، فمن القليل المنزل بلغة التميميين (ومن يشاقّ الله) في سورة الحشر. و (مَن يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم) في قراءة غير نافع وابن عامر، فإن الإدغام في المجزوم والأمر لغة تميم، والفك لغة الحجاز ولذلك كثر نحو (ومَن يرتدد منكم عن دينه فيَمُتْ) و (وليُمْلِل الذي
عليه الحقُّ) و (ولْيُملل وَليُّهُ) و (يُحْبِبكم الله) و (يُمْددكم ربُّكم) و (مَن يغللْ يأت بما غلَّ) و (ومَن يشاقق) في النساء و (ومَن يُحادِدْ) و (ومَن يُضْلِل) و (استفْزِز) و (فلْيَمْدُدْ) و (واحْلُل عُقْدةً) و (اشْدُدْ به أزرِي) و (ومَن يحلل عليه غضبي) وهو كثير.
وزعم الزمخشري أن قوله تعالى (لا يعلمُ من في السموات والأرض الغيبَ إلا اللهُ) استثناء منقطع جاء على لغة تميم: لأن الله تعالى وإن صحّ الإخبار عنه بأنه في السموات والأرض فإنما ذلك على المجاز لأنه مقدّس عن الكون في مكان بخلاف غيره، فإذ أُخبر عنه بأنه في السموات أو في الأرض فإنه كائن فيهما حقيقة، ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجاز. والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل، وفي متعلقة بغير استقرّ من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى، وإلى المخلوقين بذكر ويُذْكر، فكأنه قيل لا يعلم مَن يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله. ويجوز تعليق في باستقر مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقدير لا يعلم من استقرّ ذكره في السموات والأرض الغيب إلا الله،
ثم حُذِف الفعل والمضاف واستتر الضمير لأنه مرفوع. هذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحدة، وليس عندي ممتنعا، لقولهم: القلم أحد اللسانين، والخال أحد الأبوين، وقوله تعالى (إنَّ الله وملائكتَه يُصَلُّون على النبيّ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الأيدي ثلاثة يدُ الله ويد المعطي ويد السائل).
وزعم المازني أن إتباع المنقطع من تغليب ما يعقل على ما لا يعقل. قال ابن خروف قاصدا هذا المذهب: "وهو فاسد، لأنه لا يتوهم ذلك إلا في لفظ أحد، والذي يبدل منه في هذا الباب وليس بلفظ أحد أكثر من أنْ يُحصى" انقضى كلامه. قلت: وقد يكون قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع اسم ظاهر ومضمر يعود إليه فيُخيَّر المستثنى بين إتباع الظاهر وإتباع المضمر مع ترجيح إتباع الظاهر وذلك في نحو ما أحد يقول ذلك إلا زيد، وما حسبتُ أحدا يفعل ذلك إلا زيدا، وما كان أحد يجترِئ عليك إلا زيد، فلك أن تجعل زيدا تابعا للمضمر ولك أن تجعله تابعا لما يعود إليه المضمر وهو أولى، لأن المسوِّغ للإتباع هو النفي وهو أقرب إلى المعود إليه منه إلى العائد، وجاز إتباع العائد لأن الذي عمل فيه خبر ما دخل عليه النفي، وإذا دخل نفي على ذي خبر فالخبر هو المنفي.
ومما أُتبع فيه الضمير مع كون الاستثناء منقطعا قول الشاعر:
في ليلةٍ لا نرى بها أحدا
…
يحكي علينا إلّا كواكبُها
فكواكبها تابع لفاعل يحكى، ونرى بمعنى نعلم، ويحكى بجملة وقعت مفعولا ثانيا، ولذلك جاز اتباع فاعلها. ومعنى يحكى علينا يخبر عنا، وحكم صفة المخبر
عنه بعد النفي حكم الخبر، أعني في التأثر بالنافي. وصحة إتباع ضمير يشتمل عليه كقولك: ما فيهم أحد تُحدِث عنده يدا إلا زيد، بالرفع على إتباع المبتدأ، وإلا زيد بالخفض على إتباع الضمير الذي اشتملت عليه الصفة، لأن المعنى ما اتخذت عنه أحد إلا زيد فلو كان الضمير في غير خبر وغير صفة مخبر عنه امتنع إتباعه، ولزم إتباع الظاهر كقولك ما شكر رجل أكرمته إلا زيدن وما مررت برجل أعرفه إلا عمرو، لأن المعنى ما شكر ممن أكرمتهم إلا زيد، وما مررت بمن أعرفهم إلا بعمرو، فلا تأثير للنفي في أكرمت ولا في أعرفه فهما متباينان، فلذلك امتنع اتباع معموليهما.
وهذا فصّلته منبها عليه بقولي "وإن عاد ضمير قبل المستثنى بإلا الصالح للإتباع على المستثنى منه العامل فيه ابتداء أو أحد نواسخه أتْبع الضمير جوازا وصاحبه اختيارا" ثم قلت: "وفي حكمهما المضاف والمضاف إليه في نحو ما جاء أخو أحد إلا زيد" أي في حكم الظاهر والمضمر المتقدم ذكرهما المضافُ والمضاف إليه. كما قلت ما فيهم أحد تخذت عنده يدا إلا زيدٌ وإلا زيدٍ.
ثم قلت: "وقد يجعل المستثنى متبوعا والمستثنى منه تابعًا" فنبّهت بذلك على قول سيبويه: حدّثني يونسُ أنّ قوما يوثَق بعربيّتهم يقولون مالي إلا أبوكَ ناصرٌ فيجعلون ناصرا بدلا. قال سيبويه: "وهذا مثل قولك ما مررت بمثلك أحدٍ" قلت: ومثل ما حكى يونس قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لأنّهمُ يرجونَ منه شفاعةً
…
إذا لم يكنْ إلّا النبيونَ شافِعُ
وأنشد الفراء:
مقَزَّعٌ أطلسُ الأطْمار ليس له
…
إلا الضّراءُ وإلّا صيدُها نَشَبُ
ثم قلت: "ولا يُقدّم المستثنى دون شذوذ على المستثنى منه والمنسوب إليه معا بل على أحدهما" فنبهت بذلك على جواز قام إلا زيدا القومُ، والقومُ إلا زيدا ذاهبون، وفي الدار إلا عمرا أصحابُك، وضربت إلا زيدا القومَ. ولهذا قلت والمنسوب إليه، لأن المنسوب إليه يتناول المسند نحو قام إلا زيدا القوم، والواقع نحو ضربت. وفُهم من ذلك امتناع إلا زيدا قام القومُ ونحوه، وذلك أن المستثنى جارٍ من المستثنى منه مجرى الصفة المخصصة (من) الموصوف بها، ومجرى المعطوف بلا من المعطوف عليه، فكما لا يتقدمان على متبوعهما كذا لا يتقدم المستثنى على المستثنى منه إلا إذا تقدّم ما يُشعر به مما هو المسند إليه، أو واقع عليه كقولك ضربت إلا زيدا القومَ وهو ضعيف لأن طلب الفعل لما هو فضلة ليس كطلبه لما هو عمدة، فتقدم ما يطلب المستثنى منه وهو عمدة بمنزلة تقدمه بنفسه، وليس كذلك ما يطلب المستثنى منه وهو فضلة.
وقال الأخفش: لو قلت أيْنَ إلا زيدا قومك، وكيف إلا زيدا قومك لجاز، لأن هذا بمنزلة أههنا إلا زيدا قومك.
قلت: وقد يكون المستثنى منه جائز التقديم فيقدّر وقوعه مقدّما ويقدّم لذلك المستثنى عليه وعلى ما عمل فيه وأسند إليه، فمن ذلك قول الشاعر:
خلا اللهِ لا أرجو سواك وإنما
…
أعدُّ عيالي شُعْبةً من عيالكا
قدّر أنه قال: سواك خلا اللهِ لا أرجو، فاستجاز مع المقدّر ما استجاز مع المحقّق. ومثله قول الآخر:
وبَلْدةٍ ليس بها طُوريّ
…
ولا خلا الجنِّ بها إنْسِيُّ
فقدّر أنه قال: ولا بها إنسيٌّ خلا الجن. وهو استثناء منقطع. وفي تقديم "خلا" إشعار بتقديم إلّا لأنها الأصلُ، ولا يقع الفرعُ في موضع لا يقع فيه الأصل. وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي:"دون شذوذ".
فصل: ص: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان، وموهم ذلك بدل ومعمول عامل مضمر، لا بدلان خلافا لقوم. ولا يمتنع استثناء النصف خلافا لبعض البصريين، ولا استثناء الأكثر وفاقا للكوفيين، والسابق بالاستثناء منه أولى من المتأخر عند توسّط المستثنى، وإن تأخّر عنهما فالثاني أولى مطلقا، وإن تقدّم فالأوّل أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى، وإن يكنه فهو أولى مطلقا إن لم يمنع مانع. وإذا أمكن أن يشترك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يُقتصَر عليه إن كان العامل واحدا، وكذا إن كان غير واحد والمعمول واحد في المعنى.
ش: قال ابن السّراج: "فإن استثنيت بعد الأفعال التي تتعدّى إلى مفعولين نحو أعطيت قلت أعطيت الناس دراهم إلا عمرا، ولا يجوز أن يقول إلا عمرا الدنانير، لأن حرف الاستثناء إنما يستثنى به واحد. فإن قلت ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا، وأردت الاستثناء لم يجز، فإن أردت البدل جاز، فأبدلت عمرا من أحد، ودانقا من درهم، كأنك قلت ما أعطيت إلا عمرا دانقا".
قلت وحاصل كلامه جواز أن يقال ما أعطيت أحدا درهما إلا عمرا دانقا، على أن يكون الاسمان اللذان هما بعد إلّا بدلين منصوبين على الاستثناء. وفي هذا ضعف بيّن، لأن البدل في الاستثناء لا بُدَّ من اقترانه بإلا، فكان بذلك أشبه شيء بالمعطوف بحرف. فكما لا يقع بعد حرف معطوفان كذلك لا يقع بعد حرف الاستثناء بدلان. فإن ورد ما يوهم ذلك قُدِّر ناصب للثاني، كما يُقدّر خافض للثاني في نحو:
أكُلَّ امرئٍ تَحْسبين امرأ
…
ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
واشترط بعض البصريين نقصان المخرج بالاستثناء عن الباقي، واشترط أكثرهم عدم الزيادة على الباقي فلا يجوز على القولين: عندي عشرة إلا ستة، ولا على الأول عندي عشرة إلا خمسة وهو على القول الثاني جائز، وكلاهما جائز عند الكوفيين، وهو الصحيح. وممن وافقهم ابن خروف واستدلّ بقوله تعالى:(قم الليلَ إلا قليلا نصفَه) قال فالقليل هو المستثنى وليس معلوم القدْر، فأبدل منه النصف على جهة البيان لمقدار القليل، والضمير عائد إلى الليل والمعنى قم نصْف الليل وأقلّ منه وأكثر منه. قال يخرج من هذا أن المستثنى النصف أو أقل منه أو أكثر منه (عائد إلى ضمير هذا المتقدم
…
أو الأقلّ) ولا محيص.
قلت ومن استثناء الأكثر قوله تعالى: (ومَن يرغبُ عن ملَّة إبراهيم إلّا مَن سَفِه نفسه)(ومن سفه نفسه) أكثر ممن لم يسفه، فإن المراد بمن سفه المخالفون لملّة إبراهيم وهم أكثر من الذين يتبعونها. ومن استثناء الأكثر قوله تعالى (فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون) لأن القوم الخاسرين هم غير المؤمنين لقوله تعالى:(إنّ الإنسانَ لفي خسر إلّا الذين آمنوا).
وإذا توسّط مستثنى بين شيئين يصلح استثناؤه منهما، فالاستثناء من السابق أولى، لأن تأخّر المستثنى عن المستثنى منه هو الأصل فلا يُعدل عنه إلا بدليل. فمن ذلك قوله تعالى (قم الليل إلا قليلا) فالقليل مستثنى من الليل لا من النصف لما ذكرته. والنصف بدل من القليل، وبذلك تبيّن مقدارُ المستثنى واستفيد من الخطاب التخيير
بين قيام النصف أو أقل منه أو أكثر منه، فلو قيل غَلبَ مائةُ مؤمن مائتيْ كافر إلا اثنين لجعل الاستثناء من الآخر مطلقا، أي فاعلا كان أو مفعولا مراعاة للقُرب.
وإلى نحو هذا أشرت بقولي: "فإن تأخر عنهما فالثاني أولى مطلقا". فإن تقدم المستثنى على شيئين يصلح للاستثناء من كل واحد منهما ولم يكن أحدهما مرفوعا ولا في معنى مرفوع فالاستثناء من الأول أولى، لأنه أقرب، وذلك نحو استبدلتُ إلا زيدا من أصحابنا بأصحابكم. فإن كان أحدهما مرفوعا فالاستثناء منه أولى وإن تأخر نحو ضرب إلا زيدا أصحابَنا أصحابُكم، وكذا إنْ كان أحدهما مرفوعا في المعنى دون اللفظ نحو مَلَّكتُ إلا الأصاغرَ عبيدَنا أبناءَنا. وإلى نحو هذا أشرت بقولي "فإن تقدم فالأول أولى إن لم يكن أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى وإن يكنه فهو أولى مطلقا". ثم قلت:"إن لم يمنع مانع" فنبّهت بذلك أيضا على نحو ضرب إلا هندا بنونا بناتنا، فتركت القرينة اللفظية في هذه الأمثة ونحوها لمنع المعنى من الحمل عليها. وإذا ذكر شيئان أو أكثر والعامل واحد فالاستثناء معلّق بالجميع إن لم يمنع مانع نحو اهجر بني فلان وبني فلان إلا مَن صلح؛ فمَن صلح مستثنى من الجميع إذ لا موجب للاختصاص. فلو ثبت موجب عمل بمقتضاه نحو لا تحدّث النساء ولا الرجال إلا زيدا. وقد تضمنت الأمرين آية المائدة (حُرّمتْ عليكم الميتةُ) إلى (إلا ما ذكَّيْتُم) فاشتملت على ما فيه مانع وهو ما أهلّ وما قبله، وعلى ما لا مانع فيه وهو ما بين به وإلّا، فما ذكيتهم مستثنى من الخمسة إذا كانت سببا لموته.
ويعلق الاستثناء أيضا بالجميع إن كان قبله جملتان أو أكثر والعامل غير واحد والمعمول واحد في المعنى نحو قوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات) إلى (إلّا الذينَ
تابوا) وإلى القسمين ونحوهما أشرت بقولي: "وإذا أمكن أن يشرك في حكم الاستثناء مع ما يليه غيره لم يقتصر عليه" إلى آخر الكلام.
واتفق العلماء على تعليق الشرط بالجميع في نحو لا تصحبْ زيدا ولا تَزُرْه ولا تُكلِّمْه إنْ ظَلمني. واختُلف في الاستثناء نحو لا تصحبْ زيدا ولا تزره ولا تكلمه إلا تائبا من الظلم، فمذهب مالك والشافعي تساوى الاستثناء والشرط في التعليق بالجميع، وهو الصحيح للإجماع على سدّ كل منهما مسدَّ الآخر في نحو اقْتُل الكافرَ إنْ لم يُسْلم، واقتلْهُ إلّا أن يُسْلِم.
فصل: ص: تكرّر إلا بعد المستثنى بها توكيدا فيبدل ما يليها مما يليه إن كان مغنيا عنه، وإلا عطف بالواو. وإن كُرّرت لغير توكيد ولم يمكن استثناء بعض المستثنات من بعض شغل العاملُ ببعضها إن كان مفرّغا ونصب ما سواه، وإن لم يكن مفرّغا فالنصب لجميعها إن تقدّمت، وإن تأخّرت فلأحدها ما له مفردا وللبواقي النصب، وحكمها في المعنى حكم المستثنى الأول. وإن أمكن استثناء بعضها من بعض استثنى كلٌّ مِن متلوّه وجُعِل كلُّ وتْر خارجا وكل شَفْع داخلا، وما اجتمع فهو الحاصل. وكذا الحكم في نحو له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة خلافا لمَن يُخرِج الأول والثاني. وإن قُدِّر المستثنى الأوّل صفة لم يعتدَّ به وجَعل الثاني أوّلا.
ش: تكرر إلا بعد المستثنى بها لتوكيد ولغير توكيد، وتكريرها للتوكيد إما مع بدل، وإمّا مع معطوف بالواو، فالأول كقولك ما مررت إلا بأخيك إلا زيد، تريد ما مررت إلا بأخيك زيدٍ، فأكّدت إلا الأولى بالثانية داخلة بين البدل والمبدل منه. والثاني كقولك ما قام إلا زيد وإلا عمرو. ومن الأول قول الراجز:
مالكَ من شيخِك إلّا عملُهْ
…
إلّا رسيمُهُ وإلا رَمَلُهْ
وقد يكون مثل إلا رسيمه وإلا رمله قول الفرزدق:
ما بالمدينة دارٌ غيرُ واحدةٍ
…
دارُ الخليفةِ إلا دارُ مَرْوانا
ومن الثاني قول الشاعر:
وما الدهرُ إلا ليلةٌ ونهارُها
…
وإلا طلوعُ الشمسِ ثم غيارُها
وإن كُرّرتْ مقصُودا بها استثناء بعد استثناء، فإما أن يكون المستثنى بها مباينا لما قبلها، وإمّا أن يكون بعضا له، فإن كان مباينا فإما أن يكون ما قبله من العوامل مفرّغا، وإما أن يكون مشغولا، فإن كان مفرّغا شغل بأحد المستثنيين أو المستثنيات ونصب ما سواه، نحو ما قام إلا زيدٌ إلا عمرا إلا خالدا، والأقرب بعمل العامل المفرّغ أولى. وإن كان مشغولا بالمستثنى منه فللمستثنيين والمستثنيات النصب إن تأخر المستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا أحدٌ. وإن لم يتأخر فلأحد المستثنيين أو المستثنيات من الإتباع والنصب ماله ما لم يُستثنَ غيره، ولما سواه النصب كقولك ما جاء أحد إلا زيدا إلا عمرا إلا خالدا، وما بعد الأول من هذا النوع مساوٍ له في الدخول إن كان الاستثناء من غير موجب، وفي الخروج إن كان من موجب.
وإن كان ما وَلى إلا المكرّرة بعضا لما قبلها نحو عندي مائة إلا خمسين إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة أخْرِج أولٌ وثالثٌ وما أشبههما في الوتْريّة، وأُدخل ثانٍ ورابعٍ وما أشبههما في الشفعية، فالباقي بعد الاستثناء في المثال المذكور بالعامل المذكور خمسةٌ وستّونَ، لأنا أخرجنا من المائة خمسين لأنها أول المستثنيات، فهي إذن وتر، وأدخلنا
عشرين لأنها ثانية المستثنيات فهي إذن شَفْع فصار الباقي سبعين، ثم أخرجنا عشرة لأنها ثالثة المستثنيات فهي إذن وتر فصار الباقي ستين، ثم أدخلنا خمسة لأنها رابع المستثنيات فهي إذن شفع فصار الباقي خمسة وستّين. وما زاد من المستثنيات عُومل بهذه المعاملة. وإلى نحو هذه الإشارة بقولي "استثنى كل من متلوه وجعل كل وتر خارجا وكل شفع داخلا وما اجتمع فهو الحاصل.
ثم قلت: وكذا الحكم في نحو له عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة فأشرت بذلك إلى قول السيرافي: فإن كان بعض المستثنيات أكثر من الذي قبله نحو له عليّ عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، فالفرّاء يستثني الثلاثة ويزيد على السبعة الباقية أربعة فيكون المقرّ به أحدَ عَشرَ. وغير الفراء يستثني من العشرة الأربعة بعد استثناء الثلاثة فيكون المقرّ به ثلاثة، وقول الفراء عندي هو الصحيح، فإنه جار على القاعدة السابقة، أعني جعل الاستثناء الأول إخراجا والثاني إدخالا. ثم قلت وإن قدّر الاستثناء الأول صفة لم يعتدّ به وجُعل الثاني أوّلا، فنبّهت بذلك على أن للمتكلم بذلك المثال أن يجعل إلا الأولى وما وليها مقصودا بها الوصف لا الاستثناء كالتي في قوله تعالى (لو كان فيهما آلهة إلا اللهُ لفسدتا) فعلى هذا التقدير يكونان في حكم المسكوت عنه، ويكون المستثنى الأول العشرين فكأنه قال عندي مائة إلا عشرين إلا عشرة إلا خمسة، والعشرون خارجة من المائة فتصير ثمانين والعشرة داخلة فتصير تسعين والخمسة خارجة، فالباقي إذن خمسة وثمانون.
فصل: ص: تؤوّل إلا بغير فيوصف بها وبتاليها جمع أو شبهه منكر أو معرّف بأداة جنسية، ولا يكون كذلك دون متبوع ولا حيث لا يصلح الاستثناء، ولا يليها نعت ما قبلها وما أوهم ذلك فحال أو صفة بدل محذوف خلافا لبعضهم. ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط، وماض مسبوق بفعل أو مقرون بقد. ومعنى أنشدك الله إلا فعلت: ما أسألك إلا فعلك.
ش: أصل "غير" أن تقع صفة، وأصل "إلا" أن يستثنى بها، ثم حُملت كل واحدة منهما على الأخرى فيما هي أصل فيه، ولأصالة غير في الوصفية جاز أن يوصف بها جمع وشبه جمع وما ليس جمعا ولا شبه جمع، كقولك جاء رجال غيرُ زيدٍ، وكقوله:
فكفى بنا فضلا على مَن غيرنا
…
حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيّانا
ورجل غيرُك أحبُّ إليّ. ولأصالته أيضا في الوصفية جاز أن يحذف الموصوف بها وتقام مقامه كما يحذف الموصوف بمثل وتقام مقامه. ولا يعامل بهذه المعاملة "إلا" الموصوف بها، فلا يوصف بها إلا جمع أو شبه جمع منكر أو معرف بالألف واللام الجنسية؛ فمثال الجمع المنكّر قوله تعالى (لو كان فيهما آلهةٌ إلا اللهُ لفَسَدَتا) فإلا الله صفة لآلهة، ومعنى الصفة في هذا الباب التوكيد لا التخصيص، فلا فرق في المعنى بين ثبوتها وسقوطها، ولذلك إذا قال المقِرُّ: له عندي عشرة إلا درهم، حكم عليه بعشرة كاملة، ولا يجوز أن يجعل إلا الله بدلا، لأن شرط البدل في الاستثناء صحةُ الاستغناء به عن الأول، وذلك ممتنع بعد "لو" كما يمتنع بعد "إنْ" لأنهما حرفا شرط والكلام معهما موجب. ولذا قال سيبويه:"لو قلت لو كان معنا إلا زيد لهَلَكْنا لكنت قد أحَلْتَ" أي أتيت بممنوع، فصح قول سيبويه أن "لو" لم يفرّغ العامل بعدها لما بعد إلا كما فرّغ بعد النفي، وإن كان ما يدلّ عليه من الامتناع شبيها بالنفي، ولو كانت مستحقة لتفريغ ما يليها من العوامل لكانت مستحقة لغير ذلك، ممّا يختص بحروف النفي كزيادة من في معمول ما يليها وإعماله في أحد وشفر ونحوهما، وكنصب جواب المقرون بالفاء. وقال السيرافيّ شارحا لقول
سيبويه "لكنت قد أحَلْتَ" لأنه يصير في معنى: لو كان معنا زيد لهلكنا، لأن البدل بعد إلا في الاستثناء موجب. وكذا "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" لو كان على البدل، لأن التقدير: لو كان فيهما الله لفسدتا. وحكى ابن السراج أن أبا العباس المبرد قال "لو كان معنا إلا زيد أجود كلام وأحسنه" وكلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه. أعني أن التفريغ والبدل بعد "لو" غير جائز، وأن "إلا" لا يوصف بها إلا حيث يصح بها الاستثناء، ولا يوصف بها إلا ما يُوصف بغير، وذلك النكرة والمعرفة التي بالألف واللام على غير معهود، نحو ما يحسن مثلك أن يفعل ذلك، وقد أمُرُّ بالرجل غيرِك فيكرمني. هذا كلام المبرد وهو موافق لكلام سيبويه ولكلام أبي الحسن الأخفش في كتابه. وقد قبل ما نَسَبَ ابنُ السرّاج إلى المبرد ابنُ ولّاد وردّ عليه. وقبله أيضا أبو علي الشلوبين قبول راض به. وأما ابن خروف فأنكر ثبوت ذلك عن المبرد وأنكر على ابن ولاد الاشتغال بردّ ما لم يصح ثبوته.
ومن شواهد الوصف بإلا وما بعدها قول الشاعر:
أُنِيختْ فألقتْ بلدَةً فوقَ بلدةٍ
…
قليل بها الأصواتُ إلا بغامُها
كأنه قال قليل بها الأصوات غير بغامها. قال السيرافي: وأما قوله قليل بها الأصوات إلا بغامُها ففيه وجهان: أحدهما قال سيبويه: وإذا كان على معناه فقد أثبت بها أصواتا قليلة وجعل إلا بغامها نعتا للأصوات. والوجه الثاني أن يكون "قليل" بمعنى النفي كأنه قال: ما بها أصوات إلا بغامها، وهو استثناء وبدل صحيح، كما تقول قلّ رجل يقول ذلك إلا زَيد. قال الشلوبين: لا يتصور البدل في هذا لأنه يئول إلى التفريغ وذلك فاسد؛ ألا ترى أنه لم يُرد أنْ يقول ما بها إلا بغامها، وكيف يقول ذلك وبها القائل والراحلة ورَحْلها، وإنما أراد ما بها صوت مغاير لبغامها، وقليل بها الأصوات في معنى النفي، وإنما وصفت الأصوات وهي معرفة ما في معنى غير وغير نكرة لأن التعريف بالألف واللام الجنسية وتعريفها كلا تعريف.
وكذلك ما هما فيه وصف بالجملة في قوله تعالى (وآيةٌ لهم الليلُ نسلخُ منه النهارَ) وكما وُصف ما هما فيه بغير في قولهم: إني لأمُرُّ بالرجل غيرك فيكرمني، وُصِفَ بإلّا الواقِعة موقعها وبما بعدها. ومن وَصْف ما فيه الألف واللام الجنسية وما بعدها قول الشاعر:
ويوم الحزن إذ حُشرتْ معدٌّ
…
وكان الناسِ إلا نحن دينا
أراد وكان الناس المغايرون لنا دينا. ومن وقوعها صفة لشبه الجمع المنكر معنى الشبيه بالمعرفة لفظا قول الشاعر:
لو كان غيري سُلَيمى الدهرَ غَيَّره
…
وقعُ الحوادثِ إلا الصارِمُ الذَكَرُ
أراد لو كان غيري غير الصارم الذكر غيّره وقع الحوادث. ومن وَصف ذي الألف واللام الجنسية بغير قوله تعالى (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر) فغير أولي الضرر بالرفع صفة "للقاعدون" وبالجر صفة للمؤمنين، ولا يَصح جعله بدلا لأنه لا يستثنى به غير ما قبله. ومن وصف ذي الألف واللام بغير قول لبيد:
وإذا أُقْرِضتَ خَيْرا فاجْزِه
…
إنما يجزى الفتى غيرُ الجَمَلْ
وحاصل هذا الفصل أن "إلا" الموصوف بها لا يُوصف بها مفرد محض ولا معرفة محضة، ولا تقع في غير موضع صالح للاستثناء، إلا أن يمنع منه مانعٌ من خارِج، فلا يجوز أن يقال: قام رجل إلا زيد، لأن "رجلا" مفرد محض، ولا يجوز جاء الرجال إلا زيد، على أن يكون الرجال مَعهودين لأن تعريفهم حينئذ محض، فلو قُصد الجنس ولم يمتنع وصفهم بإلا كما لا يمتنع وصفهم بغير كقوله تعالى (غير أولي الضرر). وقولي "ولا يليها نعت ما قبلها" أشرت به إلى قول أبي الحسن في كتاب المسائل. لا يفصل بين الموصوف والصفة بإلا. ثم قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب، تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قُبْح لجَعْلِك الصفة كالاسم. وقال أبو علي في التذكرة: تقول ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، لا يجوز كون قائما صفة لأن المعنى ما مررت قائما، ولو قلت مررت قائما بأحد لم يجز، وكذا ما في معناه. وإذا بطل هذا ثبت أن قائما حال من أحد وإذا ثبت ذلك تعيّن أن ينصب أخاك لأنه بعد إيجاب صحيح. وقد صرّح أبو الحسن وأبو علي بأن "إلا" لا تفصل بين موصوف وصفة. وما ذهبا إليه هو الصحيح، لأن الموصوف والصفة كشيء
واحد، وشيئان هنا كشيء واحد لا يختلفان بنفي الحكم عن أحدهما وإثباته للآخر كالمتوسّط بينهما "إلا"، ولأن الصفة توضّح موصوفها كما توضح الصلة الموصول، وكما يوضح المضاف إليه المضاف، فكما لا يقع "إلا" بين الموصول والصلة، ولا بين المضاف والمضاف إليه، كذا لا تقع بين الموصوف والصفة، ولأن إلا وما بعدها في حكم جملة مستأنفة والصفة لا تُستأنف فلا تكون في حكم مستأنف.
وقال الزمخشري: وإذا قلت ما مررت بأحد إلا زيد خير منه كان ما بعد إلا جملة ابتدائية واقعة صفة لأحد. وزعم في الكشاف أن (ولها كتابٌ معلومٌ) جملة واقعة صفة لقرية، ووُسّطت الواو بينهما لتوكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. وما ذهب إليه من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه:
أحدها أنه قاس في ذلك الصفة على الحال، وبين الصفة والحال فروق كثيرة، كجواز تقدّمها على صاحبها وجواز تخالفهما بالإعراب وجواز تخالفهما بالتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية، وامتناع ذلك في الواقع نعتا، فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية.
الثاني أن مذهبه في هذه المسألة مذهب لا يُعرف من البصريين والكوفيين مُعَوّل عليه فوجب ألا يلتفت إليه. الثالث أنه مُعَلَّل بما لا يناسب، وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما، وهو ضدّ لما يُراد من التوكيد فلا يصح أن يقال العاطف مؤكِّد.
الرابع أن الواو فصلت الأول عن الثاني، ولولا هي لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقهما؟
الخامس أن الواو لو صلحت لتوكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أوْلى المواضع بها موضع لا يصلح للحال نحو "إنّ رجلا رأيُه سديدٌ لسعيدٌ" فرأيه سديد جملة نُعت بها ولا يجوز اقترانها بالواو لعدم صلاحيتها للحال بخلاف "ولها كتابٌ معلومٌ" فإنها جملة يصلح في موضعها الحال لأنها بعد نفي، والمنفيّ صالح لأن يُجعل صاحب حال، كما هو صالح لأن يجعل مبتدأ. وإنما جاز أن يجعل صاحب الحال نكرة بعد النهي لشبهه بالنفي كقول قطريّ:
لا يَرْكَنَنْ أحدٌ إلى الإحْجامِ
…
.يومَ الوغى مُتَخَوِّفا لحِمامِ
فلْيجزْ ذلك بعد النفي فهو أولى وأحرى، لأن النهي لا يصحب المبتدأ ويصحبه النفي.
ومن أمثلة أبي علي في التذكرة: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، فجعل الحال من أحد لاعتماده على النفي، وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة، فلو كانت الواو تصلح لتوكيد لصوق الصفة بالموصوف لكان أولى المواضع بها ما لا يصلح للحال نحو إنّ رجلا رأيُه سديد لَسعيد، لأن المؤكد به حقيق بألا يصلح لغير توكيد.
وقولي "ويليها في النفي فعل مضارع بلا شرط" نبهت به على أنه لا يشترط في وقوع الفعل المضارع بعد إلا تقدم فعْل، بل وجود نفي قبلها كافٍ، فعلا كان ما ولى النفي أو اسما، فيقال ما زيد إلا يفعل، وما زيد إلا فاعل. ويشترط في وقوع الفعل الماضي بعدها تقدم نفي أو معناه وكون ما ولي النفي فعلا، فلفظ النفي كقوله تعالى (وما يأتيهم من رسول إلّا كانوا به يستهزئون) ومعنى النفي كقولهم: أنشدك اللهَ إلّا فعلتَ، بمعنى ما أسألك إلا فعلك. وقد يُغني اقتران الماضي بقد عن تقدم فعل كقول الشاعر:
ما المجدُ إلا قد تبيَّن أنه
…
بندًى وحِلْمٍ لا يزالُ مُؤَثّلا
وإنما أغنى اقتران الماضي بقد عن تقدم فعل لأن اقترانه بها يقرّبه من الحال فيكون ذلك شبيها بالمضارع. وإنما كان المضارع مستغنيا عن شرط في وقوعه بعد إلا لشبهه بالاسم، والاسم بإلا أولى لأن المستثنى لا يكون إلا اسما أو مؤوّلا باسم. وإنما أساغ تقدم الفعل وقوع الماضي بعد إلا لأن تقدم الفعل مقرونا بالنفي يجعل الكلام بمعنى كلّما كان كذا وكذا كان كذا وكذا فكان فيه فعلان كما كانا مع "كُلّما".
ص: ولا يعمل ما بعد إلا فيما قبلها مطلقا، ولا ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا به، وما ظُن من غير الثلاثة معمولا لما قبلها قدّر له عامل خلافا للكسائي في منصوب ومخفوض، وله ولابن الأنباري في مرفوع.
ش: الاستثناء في حكم جملة مستأنفة، لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدان فكأنك قلت جاء القوم ما فيهم زيد، فمقتضى هذا ألا يعمل ما بعد "إلا" فيما قبلها، ولا ما قبلها فيما بعدها على الإطلاق، كما لا يعمل ما بعد ما فيما قبلها ولا ما قبلها فيما بعدها، واستمرّ على ما اقتضته هذه المسألة في منع إعمال ما بعدها فيما قبلها نحو ما زيد إلا أنا ضارب، فلا يجوز إعمال ضارب في زيد لما ذكرت لك.
بل تقدّر هاء عائدة إلى زيد ويرتفع هو بالابتداء. وكذا استمر على ما اقتضته المناسبة من عدم إعمال ما قبلها فيما بعدها إلا فيما لا مندوحة عنه من إعمال ما قبلها في مستثنى منه نحو ما قام إلا زيد أحد، أو تابع له نحو ما مررت بأحد إلا زيدا خير من عمرو، أو مستثنى فرّغ له العامل نحو ما قام إلا زيدٌ. ولم تجُز الزيادة على هذه الثلاثة لئلا تكثر مخالفة الأصل ويترك مقتضى الدليل دون ضرورة، فلا يقال ما ضرب إلا زيد عمرا، ولا ما ضرب إلا زيدا عمرو ولا سار إلا زيد بعمرو. بل الواجب أن يؤخر المقرون بإلا استمرارا على مقتضى الدليل المذكور.
فإن ورد ما يخالف ذلك قدّر له عامل بعد إلا كقوله تعالى (وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا نُوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزّبر) أي أرسلناهم بالبيّنات فهذا مثال تأخر المجرور، ومثال تأخر المنصوب قول الشاعر:
وما كَفَّ إلا ماجدٌ ضَيْرَ بائِسِ
…
أمانيُّه منه أُتيحتْ بلا مَنِّ
أي إلا ماجد كفّ ضير بائس. ومثال تأخر المرفوع قول الشاعر:
تزَوّدت من ليلى بتكليم ساعةٍ
…
فما زادني إلا غراما كلامُها
ومثله قول الآخر:
وهل يُنبت الخَطّيَّ إلا وَشيجُه
…
وتُغرسُ إلا في منابتها النَّخْلُ
ومثله ما أنشد سيبويه من قول الآخر:
مَشائِيمُ ليسوا مصلحين عشيرةَ
…
ولا ناعبٍ إلا ببيْن غُرابها
وأجاز الكسائي الأوجه الثلاثة على تعليق المعمولات بما قبل إلا، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع خاصة. وفرّق بينه وبين غيره بأن قال: الدليل يقتضي ألا يتأخر مرفوع ولا غيره، لأن مسائل الاستثناء المفرَّغ فيها العامل لما بعد إلا حقيقة بأن تختم بالمستثنى. فإن كان الواقع بعده مرفوعا نُوي تقديمه واتصاله برافعه لأنه كجزء منه، وتأخره لفظا لا يمنع أن ينوى تقديمه فإنه الأصل. ويلزم من ذلك تقدير المستثنى مختوما به، وإن كان الواقع بعد المستثنى غير مرفوع لم يجز أن ينوى تقديمه، لأنه
متأخر بالأصالة وقد وقع في موضعه فيلزم من تجويزه منع كون المستثنى المفرغ له العامل غير مختوم به لفظا ولا تقديرا.
فصل: ص: يستثنى بحاشا وخلا وعدا، فيجررن المستثنى أحرفا، وينصبنه أفعالا. ويتعيّن الثاني، لخلا وعدا بعد "ما" عند غير الجرمي. والتزم سيبويه فعلية عدا وحرفية حاشا. فإن وليها مجرور باللام لم تتعين فعليتها خلافا للمبرد، بل اسميتُها لجواز تنوينها وكثر فيها حاشا وقلّ حشا وحاشْ. وربما قيل ما حاشى، وليس أحاشي مضارع حاشا المستثنى بها خلافا للمبرد. والنصب في (ما النساءَ وذكرَهُنَّ) بعدا مضمرة خلافا لمن أوّل "ما" بإلا.
ويستثنى بليس ولا يكون فينصبان المستثنى خبرا واسمها وبعض مضاف إلى ضمير المستثنى منه لازم الحذف، وكذا فاعل الأفعال الثلاثة. وقد يوصف على رأي المستثنى منه منكرا أو مصوب "أل الجنسية" بليس ولا يكون، فيلحقهما ما يلحق الأفعال الموصوف بها من ضمير وعلامة.
ش: من أدوات الاستثناء "حاشا وعدا وخلا" والمستثنى بهن منصوب أو مجرور، فإن كان منصوبا فهن أفعال مستحقة منع التصرّف لوقوعها موقع الحروف وتأديتها معناها. وإن كان المستثنى بهنّ مجرورا فهن أحرف جر.
وكون "حاشا" حرفا جارا هو المشهور، ولذلك لم يتعرّض سيبويه لفعليتها والنصب بها، إلا أنّ ذلك ثابت بالنقل الصحيح عمّن يوثق بعربيته، فمن ذلك قول بعضهم:"اللهم اغفر لي ولمن سمعني حاشا الشيطان وأبا الأصبغ". رواه أبو
عمرو الشيباني وغيره. وقال الأخفش: وأما حاشا فقد سمعت من ينصب بها، وأنشد ابن خروف في شرح الكتاب:
حاشا قُرَيْشًا فإن اللهَ فضّلهم
…
على البريّة بالإسلام والدِّين
وتعصّب بعض المتأخرين مانعا فعلية حاشا بقول بعض العرب: حاشاي ولم يقل حاشاني وأنشد:
في فتيةٍ جعلوا الصليب إلههم
…
حاشايَ إنِّي مسلمٌ معذورُ
والجواب أن هذا ورد على استعمالها حرفا، لأنه أكثر من استعمالها فعلا. ولو أن من قال حاشا الشطان فنصب بها دعته حاجة إلى استثنائه نفسه قاصدا للنصب لقال حاشاني كما يقال عساني. وإنما نظرت حاشا بعسى لتساويهما في عدم التصرّف وتأدية كل واحد منهما معنى حرف، وكما قيل في عدا عداني كقوله:
تملُّ الندامَى ما عداني لأنّني
…
بكلِّ الذي يهوى نَديمي مُولَعُ
وأجاز الفراء نصب المستثنى بحاشا وخفضه وقال: إذا استثنيت بما عدا وما خلا ضميرا لمتكلم قلت: ما عداني وما خلاني. ومن نصب بحاشا قال حاشاني، ومن خفض قال حاشايَ. وهذا نصّه. وقال بعض المتعصبين أيضا: لو كانت حاشا فعلا لجاز أن يوصل بها "ما" كما وُصلت بعدا وخلا. وهذا غير لازم، فإن من أفعال هذا الباب "ليس ولا يكون" ولم توصل "ما" بهما، وأيضا فإن الدليل يقتضي ألا توصل "ما" وغيرها من الحروف الموصولة بالأفعال إلا بفعل له مصدر مستعمل حتى يُقَدَّر الحرف وصلته واقعين موقع ذلك المصدر. ومعلوم أن أفعال هذا الباب ليس لها مصادر مستعملة. فإذا وُصل ببعضها حرف مصدري فهو على خلاف الأصل فلا يُبالى بانفراده بذلك، فيقال لمَ لمْ يوافقْه غيره، فإن موافقته تكثير
للشذوذ، ومخالفته استمرار على مقتضى الدليل، على أنه قد قيل ما حاشا في حديث ابن عمر من مسند أبي أمية الطرسُوسيّ عن ابن عمر قال "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسامةُ أحبُّ الناسِ إليّ ما حاشا فاطمةَ". ومن ورود الجر بحاشا وإن كان هو المجمع عليه قول الشاعر:
حاشا أبي ثوبان إنَّ به
…
ضَنًّا عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ
كذا أنشده أكثر النحويين والصحيح:
حاشا أبي ثوبان إن أبا
…
ثوبان ليس ببكمةَ فَدْمِ
عمرو بن عبد الله إن به
…
ضنا عن الملحاة والشتم
والبيتان للجميح الأسديّ، وقبلهما:
وبنو رواحة ينظرون إذا
…
نظر النديُّ بآنف خُثْم
ثم استثنى فقال حاشا أبي ثوبان. وقال المرزوقي رواه الضَّبيّ: حاشا أبا ثوبان، بالنصب.
وإذا وليها مجرور باللام فارقت الحرفية بلا خلاف، إذ لا يدخل حرفُ جر على حرف جرّ. وإذا لم تكن حرفا فهي إما فعل وإما اسم، فمذهب المبرد أنها حينئذ فعل والصحيح أنها اسم، فينتصب انتصاب المصدر الواقع بدلا من اللفظ بالفعل. فمن قال "حاشى الله" فكأنه قال تنزيها لله.
ويؤيد هذا قراءة أبي السمّال "حاشًى لله" بالتنوين، فهذا مِثل قولهم رعْيًا
لزيد. وقرأ ابن مسعود "حاشى الله" بالإضافة، فهذا مثل سُبْحانَ الله ومعاذَ اللهِ. وأما القراءة المشهورة "حاشى لله" بلا تنوين. فالوجه فيها أن يكون حاشا مبنيا لشبهه بحاشى الذي هو حرف، فإنه شبيه به لفظا ومعنى فجرى مجراه في البناء كما جرى "عن" في قوله: - من عن يميني تارة وأمامي ? مجرى عن في نحو رويت عن زيد وأعرضت عن عمرو. وقيل حاشا كثيرا وحاشا قليلا. واستدل المبرد على فعلية حاشا بقول النابغة: ولا أحاشِي من الأقوام من أحد
وهذا منه غلط لأن حاشا إذا كانت فعلا وقُصد بها الاستثناء فهي واقعة موقع إلا ومؤدية معناها، فلا تتصرف كما لا تتصرف عدا وخلا وليس ولا يكون، بل هي أحق بمنع التصرف، لأن فيها مع مساواتها الأربع شبها بحاشا الحرفية لفظا ومعنى.
وأما أحاشي فمضارع حاشيت بمعنى استثنيت وهو فعل متصرف مشتق من لفظ حاشى المستثنى بها كما اشتق سوّفت من لفظ سوف، ولويت من لفظ لولا، ولاليت من لفظ لا، وأيّهت من لفظ أيّها، وأمثال ذلك كثيرة. وفعلية عدا أشهر من حرفيتها ولذلك قال سيبويه:"وما جاء من الأفعال فيه معنى إلا فلا يكون وليس وعدا وخلا" ثم قال: وما فيه ذلك المعنى من حروف الإضافة وليس باسم فحاشا وخلا في بعض اللغات. وسوَّى المبرّد بين خلا وعدا في الفعلية ثم قال: وقد تكون خلا حرف خفض فتقول حاشى القوم خلا زيد مثل سوى زيد. وأنشد غيرهما في حرفية عدا والخفض بها:
تركنا في الحضيض بنات عَوْجٍ
…
عواكفَ قد خَضَعن إلى النُسورِ
أبحنا حَيَّهم، قَتْلا وأسْرا
…
عدا الشَّمْطاءِ والطفلِ الصغيرِ
ومن النصب بها وإن كان هو المشهور قول الراجز:
يا مَن دحا الأرضَ ومن طحاها
…
أنزِلْ بهم صاعقةً أراها
تحرّق الأحشاءَ من لظاها
…
عدا سُلَيْمى وعدا أباها
ومن الجر بخلا قول الشاعر:
خلا اللهِ لا أرجو سواكَ وإنما
…
أعُدُّ عيالي شُعْبةَ من عيالكا
هكذا رواه من يوثق بعربيته خلا الله، بالجر. واتفق النحويون إلا أبا عمرو والجرمي على وجوب نصب المستثنى بما عدا وما خلا كقول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطلُ
…
وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ
لأن "ما" مصدرية، ولا يليها حرف جر، وإنما توصل بجملة فعلية، وقد توصل بجملة من مبتدأ وخبر. وروى الجرميّ عن بعض العرب جرّ ما استثني بما عدا وما خلا، والوجه فيه أن تُجعل ما زائدة وعدا وخلا في حرفي الجرّ، وفيه شذوذ، لأنّ ما إذا زيدت مع حرف جر لا تتقدّم عليه، بل تتأخّر عنه نحو (فبِما رحمةٍ) و (عمّا قليل).
ومن كلام العرب: "كل شيء مهه ما النساءَ وذَكرهن" ومعناه: كل شيء يسير ما عدا النساء وذكرهن. فحذفوا عدا وأبقوا عملها. وزعم بعض الناس أن "ما" ههنا بمعنى إلا وليس بشيء.
وليس ولا يكون المستثنى بهما هما الرافعان الاسم الناصبان الخبر، فلذا يجب نصب ما استثنى بهما لأنه الخبر، ولوقوعهما موقع إلا التزم حذف اسمهما لئلا يفصلهما من المستثنى فيجهل قصد الاستثناء. ومن شواهد الاستثناء بليس قول النبي صلى الله عليه وسلم:"يُطْبع المؤمنُ على كل خُلُق ليس الخيانة والكذبَ" أراد إلا الخيانة والكذب، فأوقع ليس موقع إلا، [وتقول قام القوم ليس زيدا] وأصله: ليس بعضهم زيدا، وكذلك إذا قلت قاموا لا يكون زيدا، معناه إلا زيدا، وأصله لا يكون بعضهم زيدا. وكذا يقدّر أكثر النحويين فاعل عدا وخلا، وفيه ضعف؛ لأن قولك قاموا عدا زيدا إن جُعل تقديره جاوز بعضهم زيدا لم يستقم، إلا بأن يراد بالبعض مَن سوى زيد، وهذا وإن صحّ إطلاق البعض على الكل إلا واحدا فلا يحسن لقلته في الاستعمال.
فالأجود أن يجعل الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى منه، فيقدّر قاموا عدا زيدا، جاوز قيامهم زيدا ويستمرّ على هذا السنن أبدا إذا دعتْ إليه حاجة. وأما المرفوع بليس ولا يكون فلا يقدّر إلا بعضا مضافا إلى ضمير المستثنى منه، فلذلك لا يختلف اللفظ بهما، فيقال جاءني القوم لا يكون زيدا وأتوني ليس عمرا، ومررت بالنساء لا يكون فلانة وليس فلانة، والتقدير لا يكون بعضهم زيدا وليس بعضهم عمرا، ولا يكون بعضهم فلانة وليس بعضهم فلانة. وهذا هو القياس؛ ألا يتحمّل ليس ولا يكون ضميرا يطابق ما تقدّم، لأن الاستثناء مقدّر الاستئناف. وإن جعلتهما وصفا للمستثنى منه ألحقتهما ما يلحق الأفعال المتصرفة إذا وصفت بها من ضمير يطابق الموصوف ومن علامة تأنيث إن كان مؤنثا، ولا يكون الموصوف إلا نكرة أو معرّفا تعريف الجنس لا تعريف العهد، وذلك قولك أتتني امرأة لا تكون فلانة، وأتاني القوم ليسوا إخوتك، وهما من أمثلة أبي العباس مثّل بهما بعد أن قال: وإن جعلته وصفا فجيّد. وكان الجرميّ يختاره.
فصل: ص: يستثنى بغير، فتجرّ المستثنى معربةً بما له بعد إلا، ولا يجوز فتحها مطلقا لتضمّن معنى إلا خلافا للفراء. بل قد تفتح في الرفع والجر لإضافتها إلى
مبنيّ واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز. ويساويها في الاستثناء المنقطع "بَيْدَ" مضافا إلى أنّ وصلتها وتساويها مطلقا سوى، وينفرد بلزوم الإضافة لفظا، وبوقوعه صلة دون شيء قبله.
والأصحّ عدم ظرفيته ولزومه النصب، وقد تضم سينُه. وقد تفتح ويمد وقد يقال ليس إلّا، وليس غيرُ، وغيرَ، إذا فهم المعنى، وقد ينوّن، وقد يقال ليس غيرُه وغيرَه ولم تكن غيره وغيره وفاقا للأخفش. والمذكور بعد "لا سيَّما" منبّه على أولويته بالحكم لا مستثنى. فإن جُرّ فبالإضافة وما زائدة، وإن رُفع فخبر مبتدأ محذوف، وما بمعنى الذي، وقد توصل بظرف أو جملة فعلية. وقد يقال لا سيما بالتخفيف، ولا سواء ما.
ش: الاستثناء بغير حُمل على إلّا، والوصف بها هو الأصل. والاستثناء بإلا هو الأصل. والوصف بها وما بعدها حمل على غير، ولذلك لا يحكم على غير بأنها مستثنى بها حتى يكون موضعها صالحا لإلّا، فتقدّر إلا في موضعها وتنظر ما يستحقه الواقع بعدها من نصب لازم أو نصب مرجَّح عليه الإتباع، أو تأثر بعامل مفرّغ فتعطاه غير ويجرى هو على مقتضى الإضافة، فتقول جاءني القوم غيرَ زيد، بنصب لازم، وما جاءني أحد غيرُ زيد بنصب مرجح عليه الإتباع، وما لزيد علم غير ظنّ، بنصب مرجّح على الإتباع. وما جاءني غيرُ زيد بإيجاب التأثر بالعامل. فتفعل بغير ما كنت تفعل بالواقع بعد إلا.
وقد سبق تبيين الخلاف في نصب "غير" وترجيح كونها إذا نصبت حالا يؤدى معنى الاستثناء فأغنى ذكرُه ثَمَّ عن إعادته هنا. وأجاز الفراء بناء "غير" على الفتح عند تفريغ العامل، سواء كان المضاف إليه معربا أو مبنيا، فيقال على رأيه: ما جاء غيرَ زيد وما جاءك أحد غيرَك ولم يذكر في الاحتجاج لذلك من كلام العرب غير مضاف إلى مبني، وكان حامله على العموم جعل سبب البناء تضمّن غير معنى إلّا، وذلك عارض فلا يُجعل وحده سببا. بل إذا أضيف غير إلى مبني جاز بناؤها، صلح موضعها لإلا أو لم يصلح، لكن بناءها إذا أضيفت إلى مبني وصلح موضعها لإلا أقوى من بنائها إذا أضيفت إلى مبني ولم يصلح موضعها لإلا، فمثال الأول قول
الشاعر:
لم يَمْنعْ الشرْب منها غيرَ أنْ نطقتْ
…
حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أوقالِ
ومثال الثاني قول الشاعر:
لُذْ بقَيْسٍ حين يأبى غيرَه
…
تُلْفِه بَحْرًا مُفِيضا خَيْرَه
وقولي "واعتبار المعنى في المعطوف على المستثنى بها جائز" أشرت به إلى قول سيبويه: زعم الخليل ويونس أنه يجوز ما أتاني غير زيدٍ وعمرٌو، والوجه الجرّ، وذلك أن غير زيد في موضع إلا زيد وفي معناه محمولة على الموضع كما قال: فلَسْنا بالجبال ولا الحديدا
فلما كان في موضع إلا زيد وكان معناه كمعناه حملوه على الموضع. والدليل على أنك إذا قلت غير زيد فكأنك قلت إلا زيد أنك تقول ما أتاني غير زيد وإلا عمرو.
قلت إذا قيل ما أتاني غير زيد وعمرو بالرفع فلا يخلو أن يحكم لغير هنا بحكم إلا وتنزل منزلتها أوْلا. فإن لم يحكم لها بحكم إلا فسد المعنى المراد، وذلك أن المراد
إدخال زيد وعمرو في الإتيان، وأن يقال ما أتاني غير هذين، فإن لم تجعل غير بمنزلة إلا ورفع عمرو كان المعنى إخراجه من الإتيان وكأنه قيل ما أتاني غير زيد، وما أتاني عمرو. والمراد خلاف ذلك، فلزم ألا يصح المعنى حتى تنزّل "غير" منزلة "إلا" ويُعرب "عمرو" بإعراب ما بعد إلا وبإعراب ما بعد غير لا بإعرابها نفسه.
ومثال مساواة "بَيْدَ" لغير في الاستثناء المنقطع قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أفْصَح من نطق بالضاد بَيْد أني من قريش، واستُرضعت في بني سَعْد".
وقولي "وتساويها مطلقا "سوى" أردت بذلك أن سوى يستثنى به كما يستثنى بغير استثناء متصلا نحو قاموا سوى زيد، ونحو قول الشاعر:
كلُّ سعيٍ سوى الذي يُورث الفَوْ
…
زَ فعُقْباه حسرةٌ وخَسارُ
واستثناء منقطعا كقوله:
لم ألْف في الدار ذا نُطْقٍ سوى طَلَلٍ
…
قد كاد يعفو وما بالعهد مِن قِدَمِ
وتُساويها أيضا في الوصف بها كقول الشاعر:
أصابَهم بَلاءٌ كان فيهم
…
سوى ما قد أصاب بني النَّضيرِ
وتساويها أيضا في قبول تأثير العوامل المفرَّغة رافعةً وناصبةً وخافضةً في نثر ونظم كقول النبي صلى الله عليه وسلم "دعوتُ ربّي ألا يُسَلِّط على أمّتي عدوّا من سِوى أنفسهم" وقوله "ما أنتم في سواكم من الأمم إلا كالشَعرة البيضاء في جلد الثور الأسود
وكالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض". وكقول بعض العرب: أتاني سواكَ، رواه الفراء. ومن أمثلته أتيت سواك أي غيرِك، وكقول أبي دواد:
وكلُّ مَن ظنَّ أنّ الموتَ مُخطِئُه
…
معلَّلُ بسواء الحقِ مَكْذُوبُ
وكقول الآخر:
أأتركُ ليلى ليسَ بيني وبينها
…
سوى ليلةٍ إنّي إذَنْ لصَبُورُ
وكقول الآخر:
ولديك كفيلٌ بالمنى لمؤمِّل
…
وإن سواكَ مَن يُؤمِّلُه يَشْقَى
وكقول الآخر:
وإذا تُباع كريمةٌ أو تُشتَرى
…
فسواك بائِعُها وأنت المُشتري
وكقول الآخر:
ذِكْرك اللهَ عند ذكرِ سواه
…
صارفٌ عن فؤادِك الغفلاتِ
وكقول الآخر:
فلمّا صَرَّح الشَّرُّ
…
فأمْسَى وهْو عُرْيانُ
ولم يَبْقَ سوى العُدْوا
…
نِ دِنّاهُم كما دانُوا
وجعل سيبويه سوى ظرفا غير متصرف فقال في باب ما يحتمل الشعرُ مما لا يُحتمل في غيره: "وجعلوا ما لا يجري من الكلام إلا ظرفا بمنزلة غيره من الأسماء
وذلك قول المرار العجليّ:
ولا يَنْطقُ الفحشاءَ مَن كان منهم
…
إذا جلسوا مِنّا ولا مِن سوائنا
ثم قال: "فعلوا ذلك لأن معنى سواء معنى غير".
قلت: قد صرّح سيبويه بأن معنى سواء معنى غير، فلذلك يستلزم انتفاء الظرفية كما هي منتفية عن غير، فإن الظرف في العُرْف ما ضُمّن معنى "في" من أسماء الزمان أو المكان، وسوى ليس كذلك فلا يصح كونه ظرفا. وإن سُلِّم كونه ظرفا لم يُسلَّم لزوم الظرفية للشواهد التي تقدّم ذكرها نثرا ونظما، فإن تعلّق في ادعاء الظرفية بقول العرب: رأيت الذي سواك، فوصلوا الموصول بسواك وَحْدَه كما وصلوه بعِنْدي ونحوه من الظروف.
فالجواب أن يقال لا يلزم من معاملته معاملة الظرف كونه ظرفا، فإن حرف الجر يعامل معاملة الظرف ولم يكن بذلك ظرفا، وإن سُمّي ظرفا فمجاز، وإن أُطلق على "سوى" ظرف إطلاقا مجازيا لم يمتنع. وإنما يمتنع تسميته ظرفا بقصد الحقيقة. وإن كان ذلك مع عدم التصرف فامتناعه أحقُّ.
فإن قيل فلِمَ استُجيز الوصل بسوى ولم يُستجر بغير وهما بمعنى واحد، فعن ذلك جوابان: أحدهما أن هذا من النوادر كنصب "غُدْوةً" بعد "لدُنْ" وكإضافة "ذي" إلى تسلم في قولهم: اذهبْ بذي تَسْلَم. والثاني أن سوى لازمة الإضافة لفظا ومعنى فشبّه بعند وَلدي في ذلك مع كثرة الاستعمال، فعُومِل بالوصل به معاملتهما، ولم تعامل "غير" هذه المعاملة، لأنها قد تنفك عن الإضافة لفظا.
فإن قيل: فما موضع سوى من الإعراب بعد الموصول؟ قلت يحتمل أن يكون موضعه رفعا على أنه خبر مبتدأ مضمر، ويحتمل أن يكون موضعه نصبا على أنه حال، وقبله ثبت مضمرا، كما أضمر قبل أنّ في قولهم:"لا أفعل ذلك ما أنّ حِراء مكانه". ويقوّي هذا الوجه قول مَن قال: رأيت الذي سواكَ، بالنصب، ونظيره أيضا
قولهم: "كل شيء مههٌ ما النساءَ وذِكْرهنّ" ولنا أن نجعل سواك بعد الموصول خبر مبتدأ محذوف، على أن يكون مبنيا لإبهامه وإضافته إلى مبني كما فعل ذلك بغير في قوله:
لُذْ بقيْس حين يأبَى غيره
…
تلْفه بحرا مفيضا خيره
وقد يكتفى بإلا وبغير عن المستثنى إذا عُرف المعنى. ولم تستعمل العرب ذلك بعد غير "ليس" فيقال: قبضت عشرة ليس إلا، وليس غيرُ وغيرَ: فالأول على تقدير ليس غيرُ ذلك مقبوضا، والثاني على تقدير: ليس المقبوض غيرَ ذلك. ومن هذا القبيل قول سيبويه في باب مجاري أواخر الكلم من العربية: "وأما الفتح والكسر [والضم] والوقف فللأسماء [غير] المتمكنة المضارعة عندهم ما ليس باسم [ولا فعل] مما جاء لمعنى ليس غير"
وذكر ابن خروف أنه رُوي مضموم الراء ومفتوحها، والأخفش يراه معربا في الحالين، ويرى أن التنوين نُزع للإضافة، لأن المضاف إليه ثابت في التقدير، وذكر أن بعض العرب ينوّن غيرا لأنه في اللفظ غير مضاف. قال السيرافي: وينبغي أن يكون تنوينه على وجهين: الرفع والنصب. قلت: تنوين "غير" يؤول على أنه معرب، لأن تنوينه إما للصرف، وإما للتعويض من المضاف إليه. وأيهما كان لزم كون ما هو فيه معربا، لأن تنوين الصرف لم يلحق مبنيّا، وتنوين العِوَض يوجب للمنوّن ماله مع المضاف إليه من بناء أو إعراب، لأنه قام مقامه، ولذلك حُكم ببناء "إذْ" وإعراب "كل وبعض".
وذهب المبرد وأكثر المتأخرين إلى بناء غير في: ليس غير، لشبهها بقبْلُ وبعْدُ
في الإبهام والقطع عن الإضافة ونية المضاف إليه. وأجاز الأخفش أن يقال ليس غيرُه وغيرَه، ولم يكن غيرُه وغيرَه في موضع ليس غيرُ، وماله على ذلك دليل غير القياس.
قال السيرافي: الحذف الذي استعملوه بعد إلا وغير إنما يستعمل إذا كانت إلا وغير بعد ليس ولو كان مكان ليس غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف.
ومن النحويين من جعل "لا سيّما" من أدوات الاستثناء. وذلك عندي غير صحيح، لأن أصل أدوات الاستثناء هو إلا، فما وقع موقعه وأغنى عنه فهو من أدواته، وما لم يكن كذلك فليس منها.
ومعلوم أن إلا تقع موقع حاشا وعدا وخلا وليس ولا يكون وغير وسوى وغير ذلك مما لم يختلف في الاستثناء به. فوجب الاعتراف بأنه من أدواته، ولا سيّما بخلاف ذلك فلا يعدّ من أدواته، بل هو مضادّ لها، فإن الذي يلي لا سيما داخل فيما قبله ومشهود له بأنه أحق بذلك من غيره، وهذا المعنى مفوهم بالبديهة من قول امرئ القيس:
ألا رُبَّ يومٍ صالحٍ لكَ منهما
…
ولا سيَّما يومٌ بدارة جُلْجُل
فلا تردّد في أن مراده دخول يوم "دارة جلجل" فيما دخلت فيه الأيام الأخر من الصلاح وأنّ له مزية. وهذا ضد المستفاد بإلا. فلا سبيل إلى إلحاق "لا سيما" بأدوات الاستثناء.
وإذا ثبت هذا فلْتعلمْ أن "لا" من لا سيما هي العاملة عمل إنّ وسيّ اسمها وهو نكرة وإن أضيف إلى معرفة لأنه كمثل معنى وحكما و"ما" بعده زائدة إن جُرّ ما يليها.
وبمعنى الذي إن رُفع، وهو حين يُرفع خبر مبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة "ما". وحسّن حذف هذا المبتدأ ما حصل من الاستطالة بذكر دارة جلجل. ويجوز أن تجعل "ما" عوضا من المضاف إليه، ويوما منصوبا على التمييز، كما كان ينتصب بعد ذكر مضاف إليه كقولك لي مثلُه يوما وكقولهم على التمرة مثلُها زُبْدا. أشار إلى هذا الوجه الفارسيّ واستحسنه أبو علي الشلوبين ولا بأس به في كل ما وقع بعد لا سيما من صالح للتميز.
ويجوز أن يجعل "يوما" من البيت المذكور منصوبا على الظرف ويكون صلة لما، وبدارة جلجل صفة ليوما أو متعلقا به لما فيه من معنى الاستقرار. ويجوز أن يجعل بدارة جلجل صلة ما ويوما منصوبا لما فيه من معنى الاستقرار، فإن ما المذكورة قد توصل بظرف كقولك يعجبني الاعتكافُ ولا سيّما عند الكعبة، والتهجّد ولا سيّما قربَ الصبح. وقد توصل بجملة فعلية كقولك: يعجبني كلامُك لا سيما تَعِظُ به، فمن الأول قول الشاعر:
يَسُرُّ الكريمَ الحمدُ لا سيَّما لدى
…
شهادةِ مَن في خيره يَتقلَّبُ
ومن الثاني قوله:
فُقِ الناس في الحمْد لا سِيّما
…
يُنيلُك من ذي الجلال الرِضا
وقد تخفف "لا سيَّما" كقول الشاعر:
فِهْ بالعقود وبالأيمانِ لا سِيَما
…
عَقْدٌ وفاءٌ به من أعظمِ القُرَبِ
وقد يقال: لا سواما، بمعنى لا سيِّما.
كمل السِّفر الأول من شرح تسهيل الفوائد لمصنّفه جمال الدين بن مالك رحمة الله عليه. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا كثيرا