الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب
باب الحال
ص: وهو ما دل على هيئة وصاحبها، متضمنا ما فيه معنى "في" غير تابع ولا عمدة، وحقه النصب، وقد يجر بباء زائدة.
ش: ما دل على هيئة يعم الحال نحو: جئت ماشيا، وبعض الأفعال نحو تربّعت وبعض أسماء المعاني نحو: رجعت القهقرى، وبعض الأخبار نحو زيد متكئ، وبعض النُعوت نحو مررت برجل راكب. فخرج بعطف صاحبها الفعل وأسماء المعاني وخرج بتضمن معنى "في" ما ليس معناها في نفسه، ولا في جزء مفهومه، مما هو دال على هيئة وصاحبها نحو بنيت صومعة. وخرج بتخصيص معنى في مما تضمنه المذكور، ما معنى في لمجموعه لا لجزء مفهومه نحو دخلت الحمام، فإن معناه دخلت في الحمام، فليس بعض الحمام أولى بفي من بعض، بخلاف قولك جئت ماشيا، وزيد متكئ، ومررت برجل متكئ، فإن معناه جئت في حال مشي، وزيد في حال اتكاء، ومررت برجل في حال اتكاء، فمعنى في مختص بجزء مفهوم المذكور، فشارك الحال في هذا المعنى بعض الأخبار وبعض النُعوت، فأخرجتهما بقولي "غير تابع ولا عمدة".
ولا يعترض على هذا بما لا يجوز حذفه من الأحوال نحو ضربي زيدا قائما، فيظن أنه قد صار بذلك عمدة، فإن العمدة في الاصطلاح ما عدمُ الاستغناء عنه أصيلٌ لا عارض، كالمبتدأ والخبر. والفضلة في الاصطلاح ما جواز الاستغناء عنه أصيل لا عارض كالمفعول والحال. وإن عرض للعمدة جواز الاستغناء عنها لم تخرج بذلك
عن كونها عمدة. وإن عرض للفضلة امتناع الاستغناء عنها لم تخرج بذلك عن كونها فضلة.
وأشرت بقولي: "وقد يجر بباء زائدة" إلى قول رجل من فصحاء طيء:
كائِنْ دُعيتُ إلى بأساءَ داهمةٍ
…
فما انبعثتُ بمَزْءُود ولا وَكِل
ص: واشتقاقه وانتقاله غالبان لا لازمان، ويغني عن اشتقاقه وصفه أو تقدير مضاف قبله أو دلالته على مفاعلة أو سعر أو ترتيب، أو أصالة أو تفريع أو تنويع أو طور واقع فيه تفضيل. وجعل "فاه" حالا من كلمته فاه إلى فيّ أولى من أن يكون أصله جاعلا فاه إلى فيّ، أو من فيه إلى فيّ. ولا يقاس عليه خلافا لهشام.
ش: كون الحال بلفظ مشتق، وبمعنى منتقل كجئت راكبا وذهبت مسرعا أكثر من كونه بلفظ جامد، أو معنى غير منتقل، لأن اللفظ المشتق الدال على معنى منتقل أكثر في الكلام مما ليس كذلك.
ومن ورودِ الحال بلفظ غير مشتق قوله تعالى (فانْفِروا ثُباتٍ) و (فما لكم في المنافقين فئتين) و (فتمَّ ميقاتُ ربِّه أربعين ليلةً) و (هذه ناقةُ الله لكم آيةً).
ومن ورودها دالة على غير معنى منتقل قوله تعالى (وهو الذي أنزل إليكم
الكتاب مُفصَّلا) و (خُلِق الإنسانُ ضعيفا) و (يوم أُبعثُ حَيّا) و (طِبتم فادخلوها خالدين). ومن كلام العرب: خلق الله تعالى الزرافةَ يديها أطولَ من رجليها.
وقد اجتمع الجمود وعدم الانتقال في قولهم: هذا خاتمك حديدا، وهذه جُبّتك خَزّا، وهما من أمثلة سيبويه. وإنما كان الحال جديرا بوروده مشتقا وغير مشتق، ومنتقلا وغير منتقل، لأنه خبر في المعنى والخبر لا حجر فيه، بل يرد مشتقا وجامدا، ومنتقلا ولازما، فكان الحال كذلك، وكثيرا ما يسميه سيبويه خبرا وقد يسميه مفعولا وصفة؛ فمن تسميته خبرا قوله: هذا باب ما ينتصب لأنه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء قدمته أو أخرته، وذلك فيها عبد الله قائما، وعبد الله فيها قائما.
ومن ذلك قوله: هذا باب ما ينتصب خبره وهي معرفة لا توصف ولا تكون وصفا وذلك قولك مررت بكلٍّ قائما. ومن ذلك قوله في باب ما يختار فيه الرفع والنصب لقبحه أن يكون صفة، ألا ترى أنك تقول: هذا مالُك درهما، وهذا خاتمك حديدا، ولا يحسن أن تجعله صفة، فقد يكون الشيء حسنا إذا كان خبرا، وقبيحا إذا كان صفة.
ومن تسميته مفعولا فيه قوله: هذا باب ما ينتصب من الأسماء التي ليست صفات ولا مصادر لأنه حال يقع فيه الأمر فينتصب لأنه مفعول فيه، وذلك قولك: كلمته فاه إلى فيّ، وبايعته يدًا بيد. ومن تسميته صفة قوله بعد أن مثل بأما صديقا مصافيا فليس بصديق مصاف: والرفع لا يجوز هنا، لأنك قد أضمرت
صاحب الصفة وحيث قلت أما العلم فعالم لمْ يتضمن مذكورا قبل كلامك هو العلم، فمن ثَم حسن في هذا الرفع ولم يجز الرفع في الصفة، ولا يكون في الصفة الألف واللام. ومراده بالصفة هنا الحال.
وأكثر ورود الحال مستغنيا عن الاشتقاق إذا كان موصوفا كقوله تعالى: (فتمثَّلَ لها بشرًا سَوِيًّا). أو مقدرا قبله مضاف كقول بعض العرب "وقع المُصْطرعان عِدْلَيْ عَيْر". وكقول الشاعر:
تضوّعَ مِسْكا بطنُ نَعْمان أنْ مَشَتْ
…
به زينبٌ في نِسْوة خَفِرات
أو دالا على مفاعلة كقولهم: كلمته فاه إلى فيّ، أو بايتعه يدا بيد، أو دالا على سعر كقولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، والبر قفيزا بدرهم، والدار ذراعا بدرهم.
أو دالّا على ترتيب نحو ادخلوا رجلا رجال، وتعلم الحساب بابا بابا. أو دالا على أصالة الشيء كقوله تعالى:(أأسْجُد لمَنْ خلقت طينا) ونحوه هذا خاتمك حديدا، وهو من أمثلة سيبويه. أو دالا على فرعية الشيء كقوله هذا حديدك خاتما. أو دالا على نوعه هذا تمرك شهريزا، وهذا مالك ذهبا. أو دالا على طَوْر واقع فيه تفضيل نحو ذا بُسْرا أطيب منه رطبا.
ومذهب سيبويه في كلمته فاه إلى فيّ أنه نصب نصب الحال، لأنه واقع موقع مشافها ومؤد معناه. ومذهب الكوفيين أن أصله كلمته جاعلا فاه إلى فيّ. ومذهب الأخفش أن أصله كلمته من فيه إلى فيّ. وأولى الثلاثة أوّلها، لأنه قول يقتضي تنزيل جامد منزلة مشتق على وجه لا يلزم منه لبس ولا عدم للنظير، وذلك موجود بإجماع
في هذا الباب وغيره فوجب الحكم بصحته. ومن نظائره المستعملة في هذا الباب بايعته يدا بيد، وبعت الشاء شاة ودرهما، والبرّ قفيزا بدرهم، والدار ذراعا بدرهم. فلا خلاف في أن يدا وشاة قفيزا وذراعا منصوبة الحال لا نصب المفعول به، ولا نصب المسقط منه حرف الجر، فإذا أجري ذلك المجرى كلمته فاه إلى فيّ توافقت النظائر وأُمن الضائر، بخلاف تقديرنا جاعلا أو من فلا نظير له في هذا الباب، وفي التقدير ضعف زائد، وهو أنه يلزم منه تقدير من في موضع إلى، ودخول إلى في موضع مِن، لأن مبدأ غاية كلام المتكلم فمه لا فم [غيره] المخاطب. فلو كان معنى من مقصودا لقيل كلمته من فيّ إلى فيه، على إظهار مِن، وكلمته فيّ إلى فيه على تقديرها.
وأجاز القياس عليه هشام الكوفي، فيقال على رأيه ماشيته قدمه إلى قدمي، وكافحته وجهه إلى وجهي. وذكر ابن خروف أن الفراء حكى حاذيته ركبته إلى ركبتي، وجاورته بيته إلى بيتي، وصارعته جبهته إلى جبهتي، بالرفع والنصب، ولا يرد شيء من ذلك، ولكن الاقتصار فيه على السماع أولى، لأن فيه إيقاع جامد موقع مشتق، وإيقاع معرفة موقع نكرة، وإيقاع مركب موقع مفرد. وأجاز أكثر البصريين بعد سيبويه تقديم فاه على كلمته لتصرّفه، ومنع ذلك الكوفيون وبعض المتأخرين من البصريين.
فصل: ص: الحال واجب التنكير، وقد يجيء معرفا بالأداة والإضافة. ومنه عند الحجازيين العدد من ثلاثة إلى عشرة مضافا إلى ضمير ما تقدم. ويجعله التميميون توكيدا، وربما عومل بالمعاملتين مركب العدد، وقضهم بقضيضهم. وقد يجيء المؤول بنكرة علما.
ش: لما كان الغالب اشتقاق الحال وتعريف صاحبه، لأنه مخبر عنه به ألزموه
التنكير، لئلا يتوهم كونهما نعتا ومنعُوتا. وأيضا فإن الحال فضلة ملازم للفضلية فاستثقل واستحق التخفيف بلزوم التنكير. وليس غيره من الفضلات ملازما للفضلية، لجواز صيرورته عمدة بقيامه مقام الفاعل كقولك في ضربت زيدا: ضُرِب زيدٌ. وفي اعتكفتُ يومَ الجمعة: اعتُكِف يوم الجمعة وفي اعتكفت اعتكافا مباركا: اعتُكف اعتكافٌ مبارك. وفي قمت إجلالا لك: قيم إجلال لك، فلصلاحية ما سوى الحال من الفضلات لصيرورته عمدة جاز تعريفه بخلاف الحال.
فإن قيل بعض التمييز بعد فعل قد يدخل عليه مِن فيصلح حينئذ أن يقام مقام الفاعل كقولك امتلأ الكوز من ماء: امتلئ من ماء، ومع ذلك لا يجوز تعريف التمييز. قيل مثل هذا في التمييز نادر فلا يعتد به فيحكم بجواز تعريفه. على أن الكسائي حكى عن العرب مطيوبَة بها نفسي فأقاموا التمييز مقام الفاعل. وإذا كان التمييز مستحقا للزوم التنكير مع أنه قد ندر قيامه مقام الفاعل فالحال بلزوم التنكير أحق، إذ لا تفارقه الفضلية بوجه.
وقد يجيء الحال معرفا بالألف واللام أو بالإضافة، فيحكم بشذوذه وتأوله بنكرة، فمن المعرف بالألف واللام قولهم: ادخلوا الأول فالأول، أي مترتبين، وجاءوا الجماء الغفير أي جميعا، وأرسلها العراك أي معتركة. ومنه قراءة بعضهم (ليُخرجَنّ الأعزُّ منها الأذلَّ). ومن المعرف بالإضافة قولهم: رجع عوده على بدئه، وجلس وحده، وفعل ذلك جهدَه وطاقته، والمعنى رجع عائدا وجلس منفردا وفعل جاهدا ومطيقا. ومن المعرف بالإضافة مؤولا بنكرة قولهم تفرقوا أيدي
سبا أي متبددين تبددا لا بقاء معه. ومن هذا القبيل قول بعض نساء الصحابة رضي الله عنهم: "وما لنا أكثر أهل النار" فإن أفعل التفضيل عند سيبويه إذا أضيف إلى معرفة تعرف. نص على ذلك في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة وذلك قولك: "هذا أول فارسٍ مقبلٌ". وقد وقع هنا حالا مع أنه مضاف إلى معرفة فيتأول بنكرة كما فعل بغيره من المعارف المتضمنة أحوالا. ويجوز أن تكون المرأة أرادت: وما لنا ترانا أكثر أهل، فحذفت لأنها قالت ذلك بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم "تصدّقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" والرؤية هنا كانت بصرية فضمنها معنى العلم فتتعدى إلى مفعولين. ومن وقوع المعرف بالإضافة حالا لتأوله بنكرة قول أهل الحجاز: جاء القوم ثلاثتهم وأربعتَهم، والنساء ثلاثهن وأربعهن إلى عشرتهم وعشرهن؛ النصب عند الحجازيين على تقدير جميعا، ورفعه التميميون توكيدا على تقدير جميعهم. وذكر الأخفش في "الأوسط" أن من العرب من يقول جاءوا خمسة عشرهم وجئن خمسة عشرتهن. وحكى سيبويه النصب والرفع في جاءوا قضَّهم بقضيضهم، ومعناه جاءوا جميعا. ومن وقوع الحال معرفة مؤولة بنكرة قول العرب: جاءت الخيل بدادِ، فبدادِ علم جنسي وقع حالا لتأوله بنكرة كأنهم قالوا: جاءت الخيل متبددة.
فصل: ص: إن وقع مصدر موقع الحال فهو حال لا معمول حال محذوف، خلافا للمبرد والأخفش، ولا يطرد فيما هو نوع للعامل نحو أتيته سرعة خلافا للمبرد، بل يقتصر فيه وفي غيره على السماع إلا في نحو أنت الرجل علما، وهو
زهير شعيرا، وأما عِلْما فعالم. وترفع تميم المصدر التالي أما في التنكير جوازا مرجوحا، وفي التعريف وجوبا. وللحجازيين في المعرّف رفع ونصب. وهو في النصب مفعول له عند سيبويه. وهو والمنكّر مفعول مطلق عند الأخفش.
ش: قد تقدم التنبيه على أن الحال خبر في المعنى، وأن صاحبه مخبر عنه، فحق الحال أن يدل على نفس ما يدل عليه صاحبه كخبر المبتدأ بالنسبة إلى المبتدأ. وهذا يقتضي ألا يكون المصدر حالا لئلا يلزم الإخبار بمعنى عن جثة، فإن ورد عن العرب شيء منه حُفظ ولم يُقس عليه، كما لا يقاس على وقوع المصدر نعتا.
فمن ورود المصدر حالا قوله تعالى (ثم ادْعُهنّ يأتينك سَعْيًا) و (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سِرًّا وعلانيةً) و (ادْعوه خوفًا وطمعًا) و (إنّي دعوتهم جهارًا)، وقتلته صبرا، ولقيته فُجاءه، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضا ومشيا. فهذه في عدم القياس عليها بمنزلة الواردة نُعوتا في نحو رجل رضًى وعدْل وصوْم وفِطْر وزور، إلا أن جعل المصدر حالا أكثر من جعله نعتا.
والأخفش والمبرد يريان أن المصادر الواقعة مواقع الأحوال مفاعيل مطلقة، وأن قبل كل واحد منها فعلا مقدرا هو الحال، وليس بصحيح، لأنه إن كان الدليل على الفعل المضمر نفس المصدر المنصوب فينبغي أن يجيزوا ذلك في كل مصدر له فعل ولا يقتصروا على السماع، ولا يمكن أن يفسره الفعل الأول، لأن القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجاءة، ولا الإتيان على الركوب.
وقد اطرد ورود المصدر حالا في نحو هو الرجل علما وأدبا ونبلا، أي الكامل في حال علم وحال أدب وحال نبل. ومذهب ثعلب في هو الرجل علما ونحوه أن المصدر فيه مؤكد على تأول الرجل باسم فاعل من معناه. واطرد أيضا ورود المصدر
حالا في نحو هو زهير شعرا، وحاتم جودا، والأحنف حلما، ويوسف حسنا، أي مثل زهير في حال شعر، ومثل حاتم في حال جود ومثل الأحنف في حال حلم، ومثل يوسف في حال حسن. ومن هذا القبيل قول الشاعر:
تخبّرنا بأنك أحوذِيٌّ
…
وأنت البْسكاءُ بنا لُصُوقا
واطرد أيضا ورود المصدر حالا عند سيبويه في نحو أما علما فعالم يريد مهما يذكر إنسان في حال علم فالذي وصفت عالم، كأنه مُنكِر ما وصفه به من غير العلم، فصاحب الحال على هذا التقدير المرفوع بفعل الشرط المحذوف، وفعل الشرط المحذوف هو ناصب الحال. ويجوز أن يكون ناصبه ما بعد الفاء وصاحبه ما فيه من ضمير، والحال على هذا مؤكدة، والتقدير مهما يكن من شيء فالمذكور عالم في حال علم. فلو كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله تعين نصب ما ولى أمّا بفعل الشرط المقدّر نحو قولك أما علما فلا علم له، وأما علما فإن له علما، وأما علما فهو ذو علم.
وبنو تميم يلتزمون رفع المصدر بعد أمّا إذا كان معرفة، ويجيزون رفعه ونصبه إذا كان نكرة، والنصب عندهم أكثر. والحجازيون يجيزون نصب المعرفة ورفعه، ويلتزمون نصب المنكّر. وسيبويه يجعل المنصوب المعرف مفعولا له. والأخفش يجعل المنصوب مصدرا مؤكدا في التنكير والتعريف، ويجعل العامل فيه ما بعد الفاء إن لم يقترن بما لا يعمل ما بعده فيما قبله، فتقدير أمّا علما فعالم في مذهب الأخفش: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم علما، فلزم القائل أن يقدم علما والعامل فيه ما بعد الفاء، كما لزم تقدم المفعول به في (فأمّا اليتيمَ فلا تقهر)، والتقدير مهما يكن من شيء فاليتيم لا تقهر، أو فلا تقهر اليتيم. وقال سيبويه في أما الضرب فضارب مثل قول الأخفش في أما علما فعالم. وأجاز بعض النحويين أن يكون
المنصوب بعد أما من المصادر مفعولا به في التنكير والتعريف، والعامل فيه فعل الشرط المقدر فيقدر متعديا على حسب المعنى، فتقدير أما علما فعالم على هذا: مهما تذكر علما فالذي وصفت عالم.
قلت: وهذا القول عندي أولى بالصواب، وأحق ما اعتمد عليه في الجواب: لأنه لا يخرج فيه شيء عن أصله، ولا يمنع من اطراده مانع، بخلاف الحكم بالحالية، فإن فيه إخراج المصدر عن أصله بوضعه موضع اسم فاعل، وفيه عدم الاطراد لجواز تعريفه، وبخلاف الحكم بأنه مصدر مؤكد فإنه يمتنع إذا كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله. وأما الحكم بأنه مفعول به فلا يعرض مانع يمنع منه في لفظ ولا في معنى، فكان أولى من غيره، ومما يؤيده الرجوع إليه على أحسن الوجهين في قول الشاعر:
ألا ليت شعري هل إلى أمّ مالك
…
سبيلٌ فأما الصبرُ عنها فلا صبرا
فيروى بالرفع على الابتداء، وبالنصب على تقدير مهما تذم الصبر عنها فلا صبر، هذا تقدير السيرافي وهو أسهل من جعل الصبر مفعولا له، وإن كان هو قول سيبويه.
والنصب لغة الحجازيين والرفع لغة تميم. ويؤيده في المصدر مجيئه فيما ليس مصدرا نحو أما قريشا فأنا أفضلها، رواه الفراء عن الكسائي عن العرب. وتقديره مهما تذكر قريشا فأنا أفضلها، أو تصف قريشا فأنا أفضلها. ومثله ما رواه يونس عن قوم من العرب أنهم يقولون: أما العبيدَ فذو عبيد، بالنصب وتقديره عندي: مهما تذكر العبيد فهو ذو عبيد، ومهما تذكر العبد فهو ذو عبد، فلو كان تالي أما صفة منكرة نحو أما صديقا فصديق تعيّنت الحالية وكان العامل فعل الشرط المقدر، ويجوز أن يكون العامل الصفة التي بعد الفاء، ويكون الحال مؤكدا، وكذلك يجوز الوجهان في أما صديقا فليس بصديق. ومنع المبرد في هذا إعمال صديق، لاقترانه بالباء، وغيره لا يمنع ذلك، لأن الباء زائدة فوجودها كعدمها. وزعم الأخفش أن صديقا
منصوب بيكون والتقدير أما أن يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق. وردّ المبرد قوله، ولم يذكر حجة الرّدّ. والحجة أنا إذا قدرنا أن يكون لزم كون أن وصلتها في موضع نصب على المذهب المختار. وينبغي أن يقدر قبلها أن يكون آخر ويؤدي إلى التسلسل والتسلسل محال.
فصل: ص: لا يكون صاحب الحال في الغالب نكرة ما لم يختصّ أو يسبقه نفي أو شبهه، أو تتقدم الحال، أو تكن جملة مقرونة بالواو، أو يكن الوصف به على خلاف الأصل، أو يشاركه فيه معرفة.
ش: قد تقدم أن الحال خبر في المعنى وأن صاحبه مخبر عنه، فأصله أن يكون معرفة كما أن أصل المبتدأ أن يكون معرفة. وكما جاز أن يبتدأ بنكرة بشرط حصول الفائدة وأمن اللبس، كذلك يكون صاحب الحال نكرة بشرط وضوح المعنى وأمن اللبس. ولا يكون ذلك في الأكثر إلا بمسوّغ؛ فمن المسوغات تخصّص صاحب الحال بوصف كقوله تعالى (فيها يُفْرق كل أمرٍ حكيم* أمرًا من عندنا) وكقول الشاعر:
نجّيت يا ربِّ نُوحًا واستجبت له
…
في فُلْك ماخرٍ في اليمّ مشحونا
وعاشَ يدعو بآياتٍ مُبَيَّنَةٍ
…
في قومه ألفَ عامٍ غير خَمسينا
وتخصّصه بالإضافة كقوله تعالى (وقدَّر فيها أقْواتها في أربعة أيّام سواءً للسائلين) ومثله (وحشرنا عليهم كل شيء قُبُلا) في قراءة غير نافع وابن عامر.
ومن المسوغات أن يكون قبل صاحب الحال نفي كقوله تعالى (وما أهلكنا من قريةٍ إلّا ولها كتابٌ معلومٌ)، فلها كتاب معلوم جملة حالية مقرونة بواو الحال، وصاحب الحال قرية، وحسن جعله صاحب حال مع أنه نكرة محضة تقدم النفي عليه، كما حسّن الابتداء به في نحو: ما قرية إلا لها كتاب معلوم. وقد مضى في باب الاستثناء الكلام على هذه الآية، وإبطال رأي الزمخشري فيها. وأن من أمثال أبي علي في التذكرة: ما مررت بأحد إلا قائما إلا أخاك، فجعل قائما حالا من أحد لاعتماده على المنفي، وأبطل جعله صفة بعد أحد، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف.
ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة وقوعه بعد نهي أو استفهام، وإليهما أشرت بقولي "ما لم يختص أو يسبقه نفي أو شبهه". ومن مجيء ذلك بعد النهي قول قطري:
لا يَركنَنْ أحدٌ إلى الإحجام
…
يومَ الوغى مُتخوِّفا لحِمامِ
ومن مجيء ذلك بعد الاستفهام:
يا صاحِ هل حُمّ عيش باقيا فترى
…
لنفسك العذرَ في إبعادها الأملا
ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة تقدم الحال كقولك: هذا قائما رجل. قال سيبويه بعد تمثيله بهذا المثال: (لما لم يجز أن توصف الصفة بالاسم وقبح أن تقول فيها قائم فتضع الصفة موضع الاسم كما قبح مررت بقائم وأتاني قائم، جعلت
القائم حالا وكان المبني على الكلام الأول ما بعده. ثم قال: وحمل هذا على جواز فيها رجل قائما، وصار حين أُخّر وجه الكلام فرارا من القبح. وأنشد لذي الرمة:
وتحت العوالي في القَنا مُسْتَظِلَّةً
…
ظباءٌ أعارَتْها العُيونَ الجآذرُ
وأنشد لغيره:
وبالجسم منّي بيّنا لو علمته
…
شحوبٌ وإنْ تستشهدي العينَ تَشْهَدِ
وأنشد غير سيبويه:
وما لام نفسي مثلَها لي لائمٌ
…
ولا سَدَّ فقْري مثلُ ما ملكتْ يدي
قلت: أشار سيبويه بقوله: حمل هذا على جواز فيها رجل قائما، أي أن صاحب الحال قد يكون نكرة دون مسوغ.
ومن المسوغات التي ذكرتها نحو قوله فيها رجل قائما، لكن على ضعف لإمكان الإتباع فإذا قدم الحال زال الضعف لتعذر الإتباع، وكان هذا بمنزلة قولنا في الاستثناء: ما قام أحد إلا زيد. فإن النصب مع تأخر المستثنى ضعيف لإمكان الإتباع. فإذا قدم المستثنى لزم النصب في المشهور من كلامهم لتعذر الإتباع. فظهر من كلام سيبويه أن صاحب الحال الكائن في نحو فيها رجل قائما هو المبتدأ. وذهب قوم إلى أن صاحبه الضمير المستكن في الخبر. وقول سيبويه هو الصحيح، لأن الحال خبر في المعنى، فجعله لأظهر الاسمين أولى من جعله لأغمضهما. وزعم ابن خروف أن الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا لا ضمير فيه عند سيبويه والفراء، إلا إذا تأخر، وأما إذا تقدم فلا ضمير فيه؛ واستدل على ذلك بأنه لو كان فيه ضمير إذا تقدم لجاز أن يؤكد وأن يعطف عليه وأن يبدل منه، كما فعل ذلك مع التأخر.
ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة كون الجملة مقرونة بالواو كقوله تعالى (أوْ كالذي مَرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها)، وكقول الشاعر:
مضى زمنٌ والناسُ يستشفعون بي
…
فهلْ لي إلى ليلى الغداةَ شفيعُ
لأن الواو رفعت توهم كون الجملة نعتا.
ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة توقي الوصف بما لا يصلح للوصفية كقولهم: هذا خاتم حديدا، وعندي راقود خلا. ظاهر كلام سيبويه أن المنصوب في هذين المثالين وأشباههما منصوب على الحال، وأن الذي سوغ ذلك مع تنكير ما قبله التخلص من جعله نعتا مع كونه جامدا غير مؤول بمشتق، وقد تقدم أن ذلك يغتفر في الحال، لأنه بالإخبار أشبه منه بالنعوت. والمشهور في غير كلام سيبويه نصب ما بعد خاتم وراقود وشبههما على التمييز، فلو كان ما قبله معرفة لم يكن إلا حالا نحو هذا خاتمك حديدا وهذه جبتك خزا.
ومن مسوغات جعل صاحب الحال نكرة اشتراكها مع المعرفة نحو قولك هؤلاء ناس وعبد الله منطلقين وقد جعل سيبويه لهذه المسألة بابا فقال: هذا باب ما غلبت فيه المعرفة النكرة، ثم قال: وذلك قولك هذان رجلان وعبد الله منطلقين. فنصب منطلقين على الحال والعامل فيه التنبيه.
ص: ويجوز تقديم الحال على صاحبه وتأخيره إن لم يعرض مانع من التقديم، كالإضافة إلى صاحبه، أو من التأخير كاقترانه بإلا على رأي، وكإضافته إلى ضمير ما لابس الحال، وتقديمه على صاحبه المجرور بحرف ضعيف على الأصح لا ممتنع.
ولا يمنع تقديمه على المرفوع والمنصوب خلافا للكوفيين في المنصوب الظاهر مطلقا، وفي المرفوع الظاهر المؤخر رافعه عن الحال. واستثنى بعضهم من حال المنصوب ما كان فعلا، ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه إلا أن يكون المضاف جزأه أو كجزئه.
ش: نسبة الحال من صاحبه نسبة الخبر من المبتدأ، فالأصل تأخيره وتقديم صاحبه، كما أن الأصل تأخير الخبر وتقديم المبتدأ. وجواز مخالفة الأصل ثابت في الحال، كما كان ثابتا في الخبر ما لم يعرض موجب للبقاء على الأصل أو الخروج عنه.
فمما يوجب البقاء على الأصل الإضافة إلى صاحب الحال مع كون الإضافة مخصّصة نحو عرفت قيام زيد مسرعا. ومما يوجب الخروج عن الأصل اقتران صاحب الحال بإلا نحو ما قام مسرعا إلّا زيد، فإن ورد نحو ما قام إلّا زيد مسرعا أضمر ناصب الحال بعد صاحبها كقول الراجز:
ما راعني إلّا جناحٌ هابِطا
…
حول البيوت قَوْطَهُ العُلابِطا
أراد ما راعني إلا جناح راعني هابطا، وجناح اسم رجل، ومما يوجب الخروج عن الأصل إضافة صاحب الحال إلى ضمير يعود إلى ملابس الحال بإضافة نحو جاء زائر هند أخوها، أو بغير إضافة نحو جاء منقاد العمرو صاحبه. وإذا كان صاحب الحال مجرورا بإضافة محضة لم يجز تقديم الحال عليه بإجماع، لأن نسبة المضاف إليه من المضاف كنسبة الصلة من الموصول. فإن كانت الإضافة غير محضة جاز تقديم الحال على المضاف كقولك: هذا شارب السويق ملتوتا الآن أو غدا، لأن الإضافة في نية الانفصال فلا يعتدّ بها. فإن ورد تقديم حال ما جر بإضافة محضة حمل على وجه لا خلاف في جوازه كقول الراجز:
نحنُ وطِئْنا خُسَّئًا دِياركم
…
إذْ أسْلمتْ كُماتُكم ذِمارَكم
فقد يتوهم سامع هذا أن خسّأ بمعنى بعداء مزدجرين كقوله تعالى (كُونوا قِرَدةً خاسئين) فيجعله حالا من ضمير المخاطبين، ويقول قد تقدم حال المضاف إليه على المضاف وليس كذلك. ولكن خسّأ جمع خاسِئ بمعنى زاجر من قولهم خسأتُ الكلب، أي أبعدته وزجرته، فهو حال وصاحبه الفاعل من وطئنا. وقد يتوهم أن فُرَّارا من قول الشاعر:
ليستْ تُجرِّحُ فُرَّارًا ظُهورُهم
…
وفي النُّحورِ كُلُومٌ ذاتُ أبْلادِ
حال من الهاء والميم، وظهورهم مرفوعة بتجرّح على أنه مفرغ وليس كذلك، بل تجرح مسند إلى ضمير الجماعة الموصوفة وهو صاحب الحال، وظهورهم بدل بعض من كل. وهذا توجيه لا تكلف فيه.
وإذا كان صاحب الحال مجرورا بحرف لم يجز عند أكثر النحويين نحو مررت بهند قائمة فيخطئون مَن يقول مررت قائمة بهند، ودليلهم في منع ذلك، أن تعلق العامل بالحال ثان لتعلقه بصاحبه، فحقه إذا تعدى لصاحبه بواسطة أن يتعدى إليه بتلك الواسطة، لكن منع من ذلك خوف التباس الحال بالبدل، وأن فعلا واحدا لا يتعدى بحرف واحد إلى شيئين، فجعلوا عوضا من الاشتراك في الواسطة التزام التأخير. وبعضهم يعلل منع التقدم بالحمل على حال المجرور بالإضافة. وبعضهم يعلل بأن حال المجرور شبيه بحال عمل فيه حرف جر مضمن معنى الاستقرار نحو زيد في الدار متكئا، فكما لا يتقدم الحال على حرف الجر في هذا وأمثاله، لا يتقدم عليه نحو: مررت بهند جالسة.
وهذه شبه وتخيلات لا تستميل إلّا نفس مَن لا تثبّت له، بل الصحيح جواز التقديم في نحو مررت بهند جالسة، وإنما حكمت بالجواز لثبوته سماعا، ولضعف
دليل المنع. أما ثبوته سماعا ففي قوله تعالى (وما أرْسلناك إلا كافّة للناس) وفيه ثلاثة أقوال: أحدها أن كافة صفة لإرسالة فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وهو قول الزمخشري. والثاني أن كافة حال من الكاف وهو قول الزجاج والتاء فيه للمبالغة. والثالث أن كافة حال من الناس، والأصل للناس كافة، أي جميعا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب أبي علي وابن كيسان، أعني تقديم حال المجرور بحرف، حكاه ابن برهان وقال:"وإليه نذهب، كقوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافّةً للناس) وكافة حال من الناس وقد تقدم على المجرور باللام، وما استعملت العرب كافة قط إلا حالا". كذا قال ابن برهان. وكذلك أقول، ولا يلتفت إلى قول الزمخشري والزجاج؛ أما الزمخشري فلأنه جعل كافة صفة ولم تستعمله العرب إلا حالا، وهذا شبيه بما فعل في خطبة المفصل من إدخال باء الجر عليه. وإضافته، والتعبير به عما لا يعقل.
وليته إذ أخرج كافة عن استعمال العرب سلك به سبيل القياس، بل جعله صفة موصوف محذوف، ولم تستعمله العرب مفردا ولا مقرونا بالصفة أعني إرسالة، وحق الموصوف المستغنى بصفته أن يعاد ذكره مع صفته قبل الحذف، وألا تصلح الصفة لغيره، والمشار إليه بخلاف ذلك فوجب الإعراض عما أفضى إليه.
وأما الزجاج فبطلان قوله بيّن أيضا؛ لأنه جعل كافة حالا مفردا ولا يعرف ذلك من غير محل النزاع، وجعله من مذكر مع كونه مؤنثا، ولا يتأتى ذلك إلا بجعل تائه للمبالغة وبابه مقصور على السماع، ولا يتأتي غالبا ما هي فيه إلا على أحد أمثله المبالغة كنسّابة وفَروقة ومِهذارة، وكافة بخلاف ذلك، فبطل أن تكون منها،
لكونها على فاعلة. فإن حملت على رواية حملت على شاذ الشاذ، لأن لحاق تاء المبالغة لأحد أمثلة المبالغة شاذ ولما لا مبالغة فيه أشذ فيعبر عنه بشاذ الشاذ، والحمل على الشاذ مكروه فكيف على شاذ الشاذ. وإذا بطل القولان تعين الحكم بصحة القول الثالث وهو أن يكون الأصل (وما أرسلناك إلا للناس كافة) فقدم الحال على صاحبه مع كونه مجرورا. ومن أمثلة أبي علي في التذكرة زيدٌ خيرَ ما تكون خيرٌ منك، على أن المراد زيد خير منك خيرَ ما تكون، فجعل خير ما تكون حالا من الكاف المجرورة وقدّمها، وهذا موافق لقول ابن برهان.
ومن تقدم الحال على صاحبه المجرور بحرف قول الشاعر:
فإنْ تكُ أذْوادٌ أُصِبْنَ ونسوةٌ
…
فلن يذهبوا فِرْغًا بقتل حبالِ
أراد فلن يذهبوا بدم حبال فرغا. وحبال اسم رجل. ومن ذلك قول الشاعر:
لئِنْ كان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صاديًا
…
إليَّ حبيبًا إنّها لحَبيبُ
أراد لئن كان برد الماء حبيبا إليّ هيمان صاديا. ومن ذلك قول الآخر:
تسَلّيت طُرًّا عنكم بعدَ بينكم
…
بذِكْراكُم حتّى كأنكمُ عندي
أراد تسليت عنكم طرا. وربما قدم الحال على صاحبه المجرور وعلى ما يتعلق به الجار، كقول الشاعر:
غافِلا تعْرِضُ المنيَّة للمرْ
…
ء فيُدعَى ولاتَ حين إباءِ
أراد تعرض المنية للمرء غافلا. ومثله:
مَشغوفةً بك قد شُغِفتُ وإنّما
…
حُتم الفراقُ فما إليك سبيلُ
أراد شغفت بك مشغوفة.
وإذ قد بيّنت دلائل السماع مستوفاة، فلْأبيّن ضعف شبه المنع، فمن ذلك ادعاء أن حق الحال إذا عُدي العامل لصاحبه بواسطة أن يُعدّى إليه بتلك الواسطة، فيقال لمدّعي ذلك: لا نسلم هذا الحق حتى يترتب عليه التزام التأخير تعويضا، بل حق الحال لشبهه بالظرف أن يستغنى عن واسطة، على أن الحال أشد استغناء عن الواسطة، ولذلك يعمل فيها ما لا يعدى بحرف الجر كاسم الإشارة وحرف التنبيه والتشبيه والتمني. ومن الشُّبَه التزام التأخير إجراء لحال المجرور بحرف مجرى حال المجرور بإضافة فيقال لصاحب هذه الشبهة المجرور بحرف كالأصل للمجرور بالإضافة، فلا يصلح أن يحمل المجرور بحرف عليه، لئلا يكون الأصل تابعا والفرع متبوعا، وأيضا فالمضاف بمنزلة موصول والمضاف إليه بمنزلة صلة، والحال منه بمنزلة جزء صلة، فوجب تأخيره، كما يجب تأخير أجزاء الصلة، وحال المجرور بحرف لا يشبه جزء صلة فأجيز تقديمه إذ لا محذور في ذلك.
ومن الشبه تشبيه مررت بهند جالسة بباب زيد في الدار متكئا، وإلحاق أحدهما بالآخر، فيقال للمعتمد على هذا: بين البناءين بَون بعيد، وتفاوت شديد، فإن جالسة من قولنا مررت بهند جالسة منصوب بمررت وهو فعل متصرف لا يفتقر في نصب الحال إلى واسطة، كما لا يفتقر إليها في نصب ظرف أو مفعول له أو مفعول مطلق، وحرف الجر الذي عداه لا عمل له إلا الجر ولا جيء به إلا لتعدية مررت، والمجرور به بمنزلة منصوب فيتقدم حاله، كما يتقدم حال المنصوب، ولكونه بمنزلة المنصوب أجرى في اختيار النصب "أزيدا مررت به" مجرى أزيدا لقيته. وأما متكئا في المسألة الثانية فمنصوب بفي لتضمنها معنى الاستقرار، وهي أيضا رافعة ضميرا عائدا على زيد وهو صاحب الحال فلم يجز لنا أن نقدم متكئا على في لأن العمل لها وهي عامل ضعيف متضمن معنى الفعل دون حروفه، فمانع التقديم في نحو زيد
في الدار متكئا غير موجود في نحو مررت بهند جالسة. وربما قدم الحال في نحو زيد في الدار متكئا.
وإذا كان صاحب الحال منصوبا أو مرفوعا جاز تقديم الحال عليه ظاهرا كان أو مضمرا عند البصريين نحو لقيت راكبة هندا، وجاء مسرعا زيد. ومنع الكوفيون تقديم حال المنصوب إذا كان ظاهرا لئلا يتوهم كون الحال مفعولا وكون صاحبه بدلا. فإن كان الحال فعلا لم يمنع بعضهم تقديمه لزوال المحذور، أعني توهم المفعولية والبدلية. والصحيح جواز التقديم مطلقا، لأن راكبة من قولنا لقيت راكبة هندا يتبادر الذهن إلى حاليته، فلا يلتفت إلى عارض توهم المفعولية. ومن شواهد تقديم حال المنصوب قول الشاعر:
وصلتُ ولم أَصْرِم مُسِئينَ أسْرتي
…
وأعْتَبْتُهم حتى يُلاقوا وَلائيا
أراد وصلت أسرتي مسيئين. ومثله قول الحارث بن ظالم:
وقطّع وصلها سَيْفي وإنّي
…
فجَعْتُ بخالدٍ طُرًّا كِلابا
ومن تقديم المنصوب فعلا قول الشاعر:
لن يراني حتى يرى صاحبٌ لي
…
أجْتَني سُخْطَهُ يشيبُ الغُرابا
أراد لن يراني صاحب لي أجتني سخطه حتى يرى الغراب يشيب. وأجمعوا على جواز تقديم حال المرفوع إذا كان ضميرا كقوله تعالى (خُشَّعًا أبصارُهم يخرجون من الأجداثِ) وكقول الشاعر:
مُزْبِدًا يَخْطِرُ ما لم يرَني
…
وإذا يخلو له لحْمِي رَتَعْ
فإن كان المرفوع ظاهرا لم يجز عند الكوفيين تقديم حاله. وبعض العلماء يزعم أن الكوفيين لا يمنعون تقديم حال المرفوع الظاهر إذا كان الفعل متقدما نحو قام مسرعا زيد، وإنما يمنعون تقديم حال المرفوع إذا كان الفعل متأخرا نحو مسرعا قام زيد. والصحيح جواز تقديم حال المرفوع مطلقا، فمن تقديمه والفعل متقدم قول الشاعر:
يطيرُ فِظاظا بيْنهم كلُّ قَوْنَس
…
وتَتْبَعُها منهم فَراشُ الحواجبِ
ومثله:
فسقى بلادَك غيرَ مُفسِدها
…
صَوْبُ الغمام وديمةٌ تَهْمى
ومثله:
تَرحَّلَ من أرض العراق مُرقّشٌ
…
على طَرَبٍ تَهوي سِراعًا رواحِلُهْ
ومثله:
فما كان بين الخير لو جاء سالمًا
…
أبو حَجر إلا ليالٍ قلائلُ
ومن تقديمه والفعل متأخر قول العرب: "شَتَّى تَئُوبُ الحَلَبَةُ" أي متفرقين
يرجع الحالبون. ومثله قول الشاعر:
سريعًا يهونُ الصعْبُ عند أولي النّهى
…
إذا برجاءٍ صادقٍ قابَلوا اليَأسا
وحق المجرور بالإضافة ألا يكون صاحب حال كما لا يكون صاحب خبر، لأنه مكمل للمضاف وواقع منه موقع التنوين. فإن كان المضاف بمعنى الفعل حسن جعل المضاف إليه صاحب حال نحو عرفت قيام زيد مسرعا، وهو راكب الفرس عريا.
وإلى هذين المثالين ونحوهما أشرت بقولي "ولا يضاف غير عامل الحال إلى صاحبه" فعلم أن إضافة عامل الحال إلى صاحب الحال جائزة، وأن إضافة ما ليس عاملا في الحال إلى صاحبها غير جائزة، إلا ما استثني. ومن إضافة عامل الحال إلى صاحبها قوله تعالى (إلى الله مرجعُكم جميعا) ومثله قول الشاعر:
تقول أبنتي إنّ انطلاقَك واحدًا
…
إلى الرَّوْع يومًا تاركي لا أباليا
قلت إلا أن يكون المضاف جزءه أو كجزئه. فأشرت بكون المضاف جزء ما أضيف إليه إلى نحو قوله تعالى (ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ إخوانا) وأشرت بكون المضاف كجزء ما أضيف إليه إلى نحو قوله تعالى (أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حنيفًا) وإنما حسن جعل الذي أضيف إليه جزؤه أو كجزئه صاحب حال، لأنه قد يستغنى به عن المضاف، ألا ترى أنه لو قيل في الكلام: نزعنا ما فيهم من غل إخوانا، واتبع إبراهيم حنيفا لحسُنَ، بخلاف الذي يضاف إليه ما ليس بمعنى الفعل وما ليس جزءا ولا كجزء، فإنه لا سبيل إلى جعله صاحب حال، لو قلت ضربت غلام هند جالسة أو نحو ذلك لم يجز بلا خلاف.
فصل: ص: يجوز تقديم الحال على عاملها إن كان فعلا متصرفا، أو صفة
تشبهه، ولم يكن نعتا ولا صلة لأل أو حرف مصدري، ولا مصدرا مقدرا بحرف مصدري، ولا مقرونا بلام الابتداء أو القسم. ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف أو صلة لأل أو حرفا مصدريا أو مصدرا مقدرا بحرف مصدري أو مقرونا بلام الابتداء أو القسم أو جامدا ضمن معنى مشتق أو أفعل تفضيل أو مفهم تشبيه. واغتفر توسيط ذي التفضيل بين حالين. وقد يفعل ذلك بذي التشبيه. فإن كان الجامد ظرفا أو حرف جر مسبوقا بمخبر عنه جاز على الأصح توسيط الحال بقوة إن كانت ظرفا أو حرف جر. وبضعف إن كانت غير ذلك. ولا تلزم الحالية في نحو: فيها زيد قائما، بل تترجح على الخبرية. وتلزم هي في نحو: فيك زيد راغب، خلافا للكوفيين في المسألتين.
ش: تقدم الحال على عاملها إذا كان فعلا متصرفا نحو مسرعا أتيت، وإذا كان صفة تشبهه تتضمن معنى الفعل وحروفه وقبول علامات الفرعية، فهو في قوة الفعل، ويستوي في ذلك اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة كقول الشاعر:
لَهِيّك سَمْحٌ ذا يسارٍ ومُعْدِما
…
كما قد ألِفْتَ الحِلْم مُرْضًى ومُغْضَبا
فلو قيل في الكلام إنك ذا يسار ومعدما سمح لجاز، لأن سمحا عامل قوي بالنسبة إلى أفعل التفضيل لتضمنه حروف الفعل ومعناه مع قبوله لعلامات التأنيث والتثنية والجمع. فلو كان العامل القوي نعتا لم يجز تقديمه نحو مررت برجل ذاهبة فرسه مكسورا سرجها. وكذا لو كان صلة لأل أو أنّ أو إحدى أخواتها لم يجز أن يتقدم عليه ما يتعلق به من حال وغيره. فلو كان العامل صلة اسم غير أل لم يمنع تقديم الحال عليه كما لا يمتنع تقديم غيرها، مثال ذلك مَن الذي خائفا جاء. ومن العوامل التي لا يتقدم عليها الحال ولا غيرها المصدر المقدر بأنْ أو ما أختها نحو سرني ذهابك غدا غازيا، ولأجزينّك بودّك إياي مخلصا. والفعل المقرون بلام الابتداء أو القسم نحو لأصبر محتسبا. ولأقومنّ طائعا، ويلزم تقديم عاملها إن كان فعلا غير متصرف نحو ما أكرمك مُستنجدا، أو صلة لأل نحو أنت المصلّى فذّا، أو بحرف مصدري
نحو لك أن تتنفّل قاعدا، أو مصدرا مقدرا بأنْ أو ما أختها، أو فعلا مقرونا بلام الابتداء أو قسم، وقد تقدمت أمثلة ذلك.
ومن العوامل التي لا يتقدم الحال عليها الجامد المضمّن معنى مشتق كأمّا وحرف التنبيه والتمنّي والترجّي واسم الإشارة والاستفهام المقصود به التعظيم نحو:
يا جارَتا ما أنْتِ جارَهْ
والجنس المقصود به الكمال نحو أنت الرجل عِلْما، والمشبّه به نحو هو زهير شعرا، وأفعل التفضيل نحو هو أكفاهم ناصرا. وكان حق أفعل التفضيل أن يجعل له مزيّة على الجوامد المضمنة معنى الفعل، لأن فيه ما فيهن من معنى الفعل ويفوقهن بتضمن حروف الفعل ووزنه ومشابهة أبنية المبالغة في اقتضاء زيادة المعنى، وفيه من الضعف بعدم قبول علامة التأنيث والجمع ما اقتضى انحطاطه عن درجة اسم الفاعل والصفة المشبهة فيجعل موافقا للجوامد إذا لم يتوسط بين حالين نحو هو أكفاهم ناصرا، وجعل موافقة للصفة المشبهة إذا توسط نحو تمرنا بُسرا أطيب منه رُطبا، ومررت برجل خيرَ ما يكون خيرٍ منك خيرَ ما تكون، فنصب أطيب بُسرا ورطبا ونصب خيرا منك خير ما يكون وخير ما تكون. وليس هذا على إضمار كان كما ذهب إليه السيرافي ومن وافقه، لأنه خلاف قول سيبويه، وفيه تكلف إضمار ستة أشياء من غير حاجة، ولأن أفعل هناك أفعل في قوله تعالى:(هم للكفر يومئذ أقربُ منهم للإيمان) في أن القصد بهما تفضيل شيء على نفسه باعتبار متعلقين؛ فكما اتحد هنا المتعلق به كذا يتحد في الأمثلة المشار إليها. وبعد تسليم يلزم إعمال أفعل في إذ وإذا فيكون ما وقع فيه شبيها بما فُرّ منه. وللحال هنا زيادة شبه بالظرف. ثم قال
سيبويه وإنما قال الناس هذا منصوب على إضمار "إذا كان فيما يستقبل، وإذا كان فيما مضى" لأن هذا لما كان معناه أشبه عندهم أن ينتصب على إذا كان وإذ كان. فهذا نص على تقدير "أن كان" لم تدع إليه حاجة من قِبَل العمل، بل من قبل تقريب المعنى. والعامل إنما هو أفعل وقد تقدم دليل ذلك.
وإنما ذكرت نصّ سيبويه لئلا يظن مَن لا يعرف كلامه أن مذهبه مخالفا لما ذهبت إليه. وغير السيرافي من الشارحين لكتاب سيبويه مخالفون للسيرافي وذاهبون إلى ما ذهبت إليه. قال أبو علي في التذكرة مررت برجل خير ما تكون خير منك، العامل في خير ما تكون خير منك لا مررت، بدلالة زيد خير ما تكون خير منك. وصحح أبو الفتح قول أبي عليّ في ذلك. وقال أبو الحسن بن كيسان: تقول زيد قائما أحسن منه قاعدا، والمراد يزيد حسنه في قيامه على حسنه في قعُوده، فلما وقع التفضيل في شيء على شيء وضع كل واحد منهما في الموضع الذي يدل فيه على الزيادة ولم يجمع بينهما. ومثال هذا أن تقول: حمل نخلتنا بُسْرا أطيب منه رُطبا. ومما يعمل في الحال ولا يتقدم الحال عليه لضعفه الصفة المشبهة به ونحو زيد مثلك شجاعا وليس مثلك جوادا وكذا إذا حذف مثل وضمن المشبه به معناه كقولك زيد زهير شعرا، وأبو يوسف وأبو حنيفة فقها. ومنه.
فإنّي الليثُ مَرهُوبًا حماهُ
…
وعندي زاجِرٌ دون افتراسي
وقد يتوسط هذا النوع بين حالين فيعمل في أحدهما متأخرا وفي الآخر متقدما قول الشاعر:
أنا فَذَّاكهم جميعًا فإنْ أمـ
…
ـدُدْ أُبِدْهم ولاتَ حين بقاءِ
ومنه:
تُعَيِّرُنا أنَّنا عالةٌ
…
ونحنُ صعاليك أنتم ملوكا
أراد ونحن في حال تصعلكنا مثلكم في حال ملككم، فحذف مثلا وأقام المضاف إليه مقامه مضمنا معناه وأعمله بما فيه من معنى التشبيه. فإن كان العامل المتضمن معنى الفعل دون حروفه ظرفا أو حرف جر مسبوقا باسم ما الحال له جاز توسيط الحال عند الأخفش صريحة كانت الحال نحو زيد متكئا في الدار، وبلفظ ظرف أو حرف جر كقول الشاعر:
ونحنُ مَنَعْنا البحرَ أنْ تشربوا به
…
وقد كان منكم ماؤه بمكانِ
ويضعف القياس على الصريحة لضعف العامل وظهور العمل. ومن شواهد إجازته قراءة بعض السلف (والسمواتُ مَطْويّاتٍ بيمينه) وقول ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متواريا بمكة. وقول الشاعر:
رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحْقِبي أدْراعِهم
…
فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بن جِذار
ولا يضعف القياس على تقديم غير الصريحة كشبه الحال فيه بخبر إن إذا كان ظرفا، فكما استحسن القياس على إنّ عندك زيدا، لكون الخبر فيه بلفظ الظرف الملغى، ولتوسعهم في الظروف بما لا يتوسع في غيرها بمثله، كذا يستحسن القياس على:
وقد كان منكم ماؤُه بمكانِ
وغير الأخفش يمنع تقديم الحال الصريحة على العامل الظرفي مطلقا. والصحيح جوازه محكوما بضعفه.
ولا يجرى مجرى العامل الظرفي غيره من العوامل المعنوية باتفاق، لأن في العامل الظرفي ما ليس في غيره، من كون الفعل الذي ضمن معناه في حكم المنطوق به، لصلاحية أن يجمع بينه وبين الظرف دون استقباح بخلاف غيره فإنه لازم التضمن غير صالح للجمع بينه وبين لفظ ما تضمن معناه، فكان للعامل الظرفي بهذا مزية على غيره من العوامل المعنوية أوجبت له الاختصاص بجواز تقديم الحال عليه. وأجاز الأخفش في الجملة الحالية المقرونة بالواو إذا كان العامل ظرفا ما أجاز في الحال الواقعة ظرفا أو حرف جر، فيستحسن أن يقال زيد وماله كثير في البصرة. ذكر هذه المسألة في كتاب المسائل.
وإذا وقع اسم يحسن السكوت عليه مع ظرف أو جار ومجرور ومعه ما يصلح للخبرية وللحالية جاز جعله خبرا وحالا بلا خلاف، إن لم يكرر ما في الجملة من ظرف أو حرف جر نحو في الدار زيد قائم وقائما. فإن كرر الظرف أو حرف الجر جاز الوجهان أيضا وحكم برجحان النصب، لنزول القرآن به. كقوله تعالى (وأمّا الذين سُعِدوا ففي الجنّة خالدين فيها) وكقوله تعالى (فكان عاقبتَهُما أنّهما في النار خالدين فيها). وادعى الكوفيون أن النصب في مثل هذا لازم، لأن القرآن نزل به لا بالرفع. وهذا لا يدل على أن الرفع لا يجوز، بل يدل على أن النصب أجود منه. فلو كرر الظرف والمخبر عنه لجاز الوجهان أيضا وحكم برجحان الرفع، لنزول القرآن به في قوله تعالى (وأمّا الذين ابْيضَّتْ وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) فإن كان ما تضمن الكلام من ظرف أو حرف جر غير مستغنى
به تعين المخيّل للحالية والخبرية خبرا مع التكرار ودونه نحو: فيك زيد راغب، وفيك زيد راغب فيك. وأجاز الكوفيون نصب راغب وشبهه على الحال وأنشدوا:
فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها
…
أخاك مُصابَ القلبِ جَمًّا بَلابلُهْ
والرواية المشهورة: مصابُ القلب جمٌّ، بالرفع، على أنّا لا نمنع رواية النصب، بل نجوّزها على أن يكون التقدير: فإن بحبها أخاك شغف أو فتن مصاب القلب. فإن ذِكْر الباء داخلة على الحب يدل على معنى شُغف أو فُتن، كما أن ذِكْر في داخلة على زمان أو مكان يدل على معنى استقر، وليس كذِكْر في داخلة على الكاف كقولك فيك زيد راغب. فلا يلزم من جواز نصب مصابَ القلب جما الحكم بجواز نصب راغب ونحوه. وإلى هاتين المسألتين أشرت بقولي: ولا تلزم الحالية في نحو فيها زيد قائما إلى قولي خلافا للكوفيين في المسألتين.
فصل: ص: يجوز اتحاد عامل الحال مع تعددها واتحاد صاحبها أو تعدده بجمع وتفريق. ولا تكون لغير الأقرب إلا لمانع. وإفرادها بعد إمّا ممنوع، وبعد "لا" نادر، ويضمر عاملها جوازا لحضور معناه، أو تقدم ذكره في استفهام أو غيره، ووجوبا إن جَرَت مَثَلا، أو بيّنت ازدياد ثمن أو غيره شيئا فشيئا مقرونة بالفاء أو ثم، أو نابت عن خبر أو وقعت بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغيره. ويجوز حذف الحال ما لم تنُب عن غيرها، أو يتوقف المراد على ذكرها. وقد يعمل فيها غير عامل صاحبها، خلافا لمن منع.
ش: قد تقدم أن للحال شبها بالخبر وشبها بالنعت، فكما جاز أن يكون للمبتدأ الواحد والنعت الواحد خبران فصاعدا ونعتان فصاعدا، فكذلك يجوز أن يكون للاسم الواحد حالان فصاعدا فيقال: جاء زيد راكبا مفارقا عامرا مصاحبا عمرا،
كما يقال في الأخبار زيد راكب مفارق عامرا مصاحب عمرا. وفي النعت مررت برجل راكب مفارق زيدا مصاحب عمرا. وزعم ابن عصفور أن فعلا واحدا لا ينصب أكثر من حال واحد لصاحب واحد قياسا على الظرف وقال: كما لا يقال قمت يوم الخميس يوم الجمعة، لا يقال جاء زيد ضاحكا مسرعا. واستثنى الحال المنصوبة بأفعل التفضيل نحو زيد راكبا أحسن منه ماشيا. قال: فجاز هذا كما جاز في الظرف زيد اليوم أفضل منه غدا، وزيد خلفك أسرع منه أمامك. ثم قال: وصح ذلك في أفعل التفضيل، لأنه قام مقام فعلين. ألا ترى أن معنى قولك زيد اليوم أفضل منه غدا: زيد يزيد فضله اليوم على فضله غدا.
قلت: تنظير ابن عصفور جاء زيد ضاحكا مسرعا بقمت يوم الخميس يوم الجمعة لا يليق بفضله، ولا يقبل من مثله، لأن وقوع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة محال، ووقوع مجيء واحد في حال ضحك وحال إسراع غير محال. وإنما نظير قمت يوم الخميس يوم الجمعة جاء زيد ضاحكا باكيا، لأن وقوع مجيء واحد في حال ضحك وحال بكاء محال، كما أن وقوع قيام واحد في يوم الخميس ويوم الجمعة محال. ولكن المشرفي قد ينبو واللاحقي قد يكبو. على أنه يجوز أن يقال جاء زيد ضاحكا باكيا إذا قصد أن بعض مجيئه في حال ضحك وبعضه في حال بكاء.
ومثال تعدد الحال مع تعدد صاحبها بجمع جاء زيد وعمرو مسرعين، ولقى بشر عمرا راكبين، فالأول مثال تعدد الحال بجمع لتعدد صاحبها مع اتحاد إعرابيهما، والثاني مثال التعدد والجمع مع اختلاف الإعرابين. ومن الأول قوله تعالى (وسَخّر لكم الشمسَ والقمرَ دائبين). ومنه هذه ناقة وفصيلها راتعَيْن، على قول من جعل فصيلها معرفة وهي أفصح اللغتين، ومن جعله نكرة على تقدير الانفصال قال هذه ناقة وفصيلها راتعان، على النعت. ومن الثاني قول عنترة:
متى ما تَلْقني فَردَيْنِ تَرْجُفْ
…
رَوانِفُ ألْيتيكَ وتُسْتطارا
ومثال تعدد الحال بتفريق لتعدد صاحبها قول الآخر:
عهدتُ سُعادَ ذات هوى مُعَنّى
…
فزِدتُ وعاد سُلْوانًا هَواها
وينبغي عند التفريق أن تجعل أول الحالين لثاني الاسمين وآخرهما لأولهما، ويتعين ذلك إن خيف اللبس لأنه إذا فعل ذلك اتصل أحد الوصفين بصاحبه وعاد ما فيه من ضمير إلى أقرب المذكورين واغتفر انفصال الثاني وعود ما فيه من ضمير إلى أبعد المذكورين، إذ لا يستطاع غير ذلك مع أن اللبس مأمون حينئذ. وأمّا إذا جعل أولى الحالين لأول الاسمين وأخراهما لثانيهما، فإنه يلزم انفصال الموضعين معا والأصل اتصالهما معا، لكنه متعذر فيهما ممكن في أحدهما، فلم يعدل عن الممكن مما يقتضيه الأصل إلا إذا منع مانع وأمن اللبس كقول امرئ القيس:
خرجتُ بها أمشي تَجُرُّ وراءَنا
…
على أثَرَيْنا ذيلَ مِرْط مُرحَّل
ومثله:
لقي ابني أخويه خائِفًا
…
مُنجِدَيْه فأصابوا مَغْنما
ومن الجائي على ما ينبغي قول عمرو بن كلثوم:
وإنّا سوف تُدركنا المنايا
…
مقدّرةً لنا ومُقَدَّرينا
ويجب للحال إذا وقعت بعد إمّا أن تُردَف بأخرى معادا معها إمَّا، كقوله تعالى (إنّا هديناهُ السبيلَ إمّا شاكرًا وإمّا كفورًا) وإذا وقعت بعد "لا" وجب لها أيضا أن تردف بأخرى معادا معها "لا" كقولك: مَن وجد فلْيُنْفِقْ لا مسرفا ولا مُقترا، إلا أن الإفراد بعد إمّا ممنوع مطلقا، أعني في النثر والنظم، وأما
الإفراد بعد "لا" فمستباح في الشعر كقول الشاعر:
قَهرت العِدَى لا مُسْتعينا بعُصْبةٍ
…
ولكنْ بأنواعِ الخدائع والمكرِ
ويضمر عامل الحال جوازا لحضور معناه، أو لتقدم ذكره، والأول كقولك للراحل: راشدا مهديّا، وللقادم: مَبرورا مأجورا، وللمحدث: صادِقا، بإضمار: تذهب، ورجعت، وتقول. والثاني كقولك: راكبا، لمن قال: كيف جئت؟، وبلى مُسرعا، لمن قال: لم تنطلقْ، بإضمار جئت وانطلقت. ومنه قوله تعالى (بلى قادرين) بإضمار نجمع. ويضمر عاملها وجوبا، فمن ذلك الجارية مَثَلا كقولهم "حظيين بناتٍ صلفين كنّاتٍ" بإضمار عرفتم أو نحو ذلك. ومن المضمر عاملها وجوبا المبيّن بها ازدياد ثمن شيئا فشيئا أو غير ذلك كقولك: بعته بدرهم فصاعدا، تريد فذهب الثمن صاعدا، أو تصدّقْ بدينار فسافلا، تريد فانحطّ سافلا. ومن المضمر عاملها وجوبا الحال السادة مسدّ خبر نحو: ضرْبي زيدا قائما. وقد سبق بيان هذا النوع في باب المبتدأ.
ومن المضمر عاملها وجوبا الواقعة بدلا من اللفظ بالفعل في توبيخ وغير توبيخ؛ فالتوبيخ كقولك أقائما وقد قعد الناس، وأقاعدا وقد سار الركب? وكذلك إن أردت ذلك المعنى ولم تستفهم، تقول قاعدا قد علم الله وقد سار الركب قال سيبويه:"وذلك أنه رأى رجلا في حال قيام أو حال قعود وأراد أن ينبهه" ومن التوبيخ قولهم لمن لا يثبت على حال أتميميا مرة وقيسيّا أخرى، بإضمار أتتحول، وكقولك لمن يلهو وقرناؤه يجدّون ألاهيا وقد جدّ قرناؤك بإضمار أتثبت ونحوه.
ومن التوبيخ قول الشاعر:
أراك جَمَعْتَ مسألةً وحرْصًا
…
وعندَ الحقِّ زَحّارًا أُنانا
الأُنان الأنين والعامل فيه زحّارا، لأن زحَر قريب المعنى من أنَّ. وغيرُ التوبيخ كقولك هنيئا مريئا قال سيبويه:"وإنما نصبته لأنه ذكر خيرا أصابه إنسان فقلت هنيئا مريئا كأنك قلت ثبت له هنيئا مريئا أو هنأه ذلك هناء".
قلت: فقد أجاز سيبويه أن يكون الناصب هنيئا ثبت، وأن يكون الناصب هنأه على أن تكون الحال مؤكدة التي في (وأرسلناك للناس رسولا) وفي [قراءة غير حفص] (وسَخَّر لكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومَ مسخراتٍ بأمره). ويتناول غير التوبيخ المضمر عاملها في الإنشاء كقول الشاعر:
ألحِقْ عذابك بالقوم الذين طغوا
…
وعائذا بك أنْ يعلوا فيُطْغوني
أراد وأعوذ بك، فحذف الفعل وأقام الحال مقامه، كما يفعل بالمصدر لو قيل عياذا منك. ويتناول غير التوبيخ قول النابغة الذبياني:
أتاركةً تَدَلُّلَها قَطامِ
…
وضَنًّا بالتحيّة والكلامِ
وقد تقدم في باب المفعول المطلق الإعلام بأن المبرد يحمل عائذا بك وأقاعدا وقد سار الركب وأشباه ذلك على أنها مصادر جاءت على وزن فاعل. وبُيّن هناك ضعف مذهبه بالدليل، فلا حاجة إلى إعادته هنا.
ويجوز حذف الحال ما لم تنب عما لا يستغنى عنه كالتي سدت مسدّ الخبر، وما لم تقع بدلا من اللفظ بالفعل.
وقد تقدم ذكرهما. ومن الأحوال التي لا يجوز حذفها التي لا يفهم المراد إلا بها كحال ما نفى عامله أو نهى عنه كقوله تعالى (وما خلقنا السَّماء والأرض وما بينهما لاعبين) وكقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) و (ولا تمش في الأرض مرحا). ومن الأحوال التي لا تُحذف لكون المراد لا يُفهم إلا بثبوتها المجابُ بها استفهام كقولك جئتُ راكبا، لمن قال: كيف جئتَ؟، والمقصود بها حَصْر كقوله تعالى (وما أرسلناك إلّا مبشرًّا ونذيرا) ومن الأحوال التي لا تحذف لكون المراد لا يفهم إلا بثبوتها قوله تعالى (وهذا بَعْلي شيخا)، وقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان اثنين بواحد) أي متفاضلا. وقول الشاعر:
إنَّما المَيْتُ من يعيشُ ذَليلا
وقول الآخر:
عدوُّك مَن يُرضيك مُبْطِنَ إحْنةٍ
…
ومُبدي دليل البُغض مثلُ صديقِ
ومنه قول امرئ القيس:
فجُزيتِ خير جزاء ناقة واحدٍ
…
ورجعتِ سالمة القَرى بسلامِ
ولا ينكر كون الحال في الأصل جائزة الحذف، ثم يعرض ما يجعلها بمنزلة العمدة، فإن ذلك يعرض لغيرها كقوله تعالى (ولم يكن له كُفُوا أحدٌ) فإن "له" فضلة، ولو قدر حذفه انتفت الفائدة.
ونظيره من الصفات كقولك: ما في الدنيا رجل يبغضك، فيبغضك نعت للمبتدأ ولو حذف انتفت الفائدة، ومثل ذلك كثير.
والأكثر أن يكون العامل في الحال هو العامل في صاحبها، لأنها وإياه كالصفة والموصوف، ولكنهما أيضا كالمميّز والمميز، وكالخبر والمخبر عنه، ومعلوم أن ما يعمل في المميز والمميز قد يكون واحدا وغير واحد، وكذا ما يعمل في الخبر والمخبر عنه، فكذا الحال وصاحبها قد يعمل فيهما عامل واحد، وقد يعمل فيهما عاملان، ومثال اتحاد العامل في الأبواب الثلاثة: طاب زيد نفسا، وإن زيدا قائم، وجاء زيد راكبا. ومثال عدم الاتحاد في الثلاثة: لي عشرون درهما، وزيد منطلق، على مذهب سيبويه ومن وافقه، و (إنَّ هذه أمَّتَكم أمَّةً واحدةً) فأمة حال والعامل فيها اسم الإشارة، وأمتكم صاحب الحال والعامل فيها إنّ. قال سيبويه: هذا باب ما ينتصب فيه الخبر بعد الأحرف الخمسة انتصابه إذا كان ما قبله مبنيا على الابتداء، لأن المعنى واحد في أنه حال وأن ما قبله قد عمل فيه، ومنعه الاسم الذي قبله أن يكون محمولا على إن: وذلك إن هذا عبد الله منطلقا، وقال جل ذكره: "إن
هذه أمتُكم أمَّةً واحدةً". وقد تقدم من كلامه ما يدل على أن صاحب الحال في:
لِعَزة مُوحشًا طَلَلُ
هو المبتدأ لا الضمير المستكن في الخبر. وبينت رجحان قوله على قول مَن زعم أن صاحب الحال هو الضمير. ومن ورود الحال وعاملها غير عامل صاحبها قولهم: ها قائما ذا زيد، فنصب الحال حرف التنبيه وليس له عمل في صاحبها. ومنه قول الشاعر:
ها بيّنًا ذا صريحُ النصْح فاصْغُ له
…
وطِع فطاعةُ مُهْدٍ نُصحَهُ رَشَدُ
فصل: ص: يؤكد بالحال ما نصبها من فعل أو اسم يشبهه. وتخالفهما لفظا أكثر من توافقهما، ويؤكد بها أيضا في بيان يقين أو فخر أو تعظيم أو تصاغر أو تحقير أو وعيد خبر جملة جزءاها معرفتان جامدان جمودا محضا، وعاملها أحقّ أو نحوه مضمرا بعدهما، لا الخبر مؤولا بمسمى، خلافا للزجاج، ولا المبتدأ مضمنا تنبيها خلافا لابن خروف.
ش: الحال المؤكدة ضربان: أحدهما ما يؤكد عامله، والثاني ما يؤكد خبر جملة لا عمل لجزءيها فيه، فالأول ضربان: ضرب يوافق عامله معنى لا لفظا وهو كثير، وضرب يوافق عامله لفظا ومعنى وهو قليل. فمن الأول قوله تعالى (ولا تعْثَوا في الأرض مفسدين) وقوله تعالى (ثُمَّ وليْتُم مُدْبرين) وقوله
تعالى (ويوم أُبعثُ حيًّا)، وقوله تعالى (ولو شاء ربُّكَ لآمن مَن في الأرضِ كُلُّهم جميعا) وقوله تعالى (فتَبسَّم ضاحِكًا من قولها). ومن هذا القبيل قول لبيد:
وتضيءُ في وجه الظلام مُنيرةً
…
كجُمانةِ البَحْرِيِّ سُلَّ نِظامُها
ومثله قول لبيد أيضا:
فعَلَوْت مُرتقبًا على ذي هَبْوَةٍ
…
حرجٍ إلى أعلامِهنَّ قَتامُها
ومنه قول الشاعر:
فإنِّي اللَّيْثُ مَرْهُوبًا حِماهُ
…
وعندي زاجرٌ دون افتراسي
فمرهوبا حماه حال مؤكدة للخبر وهو العامل فيها بما تضمن من معنى التشبيه. ومن هذا القبيل أيضا ما مثّل به سيبويه من قولهم: هو رجل صدق معلوما ذلك، أي معلوما صلاحه، كذا قدّر سيبويه، ورجل صدق بمعنى صالح فأجرى مجراه إذا قيل هو صالح معلوما صلاحه. ومن هذا القبيل قول أمية بن أبي الصلت:
سلامَكَ رَبَّنا في كُلِّ فجرٍ
…
بَريئًا ما تَغَنَّثُكَ الذُّمومُ
فبريئا حال مؤكدة لسلامك، ومعناه البراءة مما لا يليق بجلالك، وهو العامل في الحال؛ لأنه من المصادر المجعولة بدلا من اللفظ بالفعل. ومن هذا القبيل ? عندي -: هو أبوك عطوفا، وهو الحق بيّنا، لأن الأب والحق صالحان للعمل، فلا حاجة إلى تكلف إضمار عامل بعدهما.
ومن الثاني قوله تعالى (وأرسلناك للناس رسولا) وقوله تعالى (وسخَّر لكم الليلَ والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخراتٍ بأمره)[في غير قراءة حفص]. ومنه قول امرأة من العرب:
قُمْ قائِمًا قُمْ قائما
…
صادَفْتَ عَبْدًا نائِما
…
وعُشراءَ رائِما
ومثله قول الشاعر:
أصِخْ مُصيخًا لمَن أبدى نصيحتَه
…
والزمْ توَفِّي خَلْط الجِد باللَّعب
وأما الحال المؤكد بها خبر جملة جزءاها معرفتان جامدان، فمنها المؤكدة بيان اليقين نحو هو زيد معلوما ومنه قول سالم بن دارة:
أنا ابنُ دارةَ معروفًا بها نَسَبِي
…
وهل بِدارَةَ يا للنَّاسِ مِنْ عارِ
كأنه قال هو زيد لا شك فيه، وأنا ابن دارة لا شك فيّ. ومنها المؤكدة بيان فخر نحو أنا فلان شجاعا أو كريما. ومنها المؤكدة بيان تعظيم نحو [هو] فلان
جليلا. ومنها المؤكدة بيان تصاغر نحو أنا عبدك فقيرا إلى عفوك. ومنها المؤكدة بيان تحقير نحو هو فلان مأخوذا مقهورا. ومنها المؤكدة بيان وعيد نحو أنا فلان متمكنا منك فاتَّق غضبي. ومنه قول الراجز:
أنا أبو المِرْقالِ عَفًّا بَطْنًا
…
لمَن أُعادِي مِدْسَرًا دَلنْظا
ولا تكون هذه الحال أعني المؤكدة لهذه المعاني إلا بلفظ دال على معنى ملازم أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به، وتقدير عاملها بعد الخبر أحقه أو أعرفه إن كان المخبر عنه غير أنا، وإن كان أنا فالتقدير أحق أو أعرف أو اعرفني. وهذا أولى من قول الزجاج هو الخبر لتأوله بمسمى، وأولى من قول ابن خروف إن العامل هو المبتدأ لتضمنه معنى تنبه. وأشرت بقولي أو شبيه بالملازم في تقدم العلم به إلى قول سيبويه وذلك أن رجلا من إخوانك ومعرفتك لو أراد أن يخبرك عن نفسه أو غيره بأمر فقال أنا عبد الله منطلقا، أو هو زيد منطلقا كان محالا، لأنه إنما أراد أن يخبر بالانطلاق ولم يقل هو لا أنا حتى استغنيت أنت عن التسمية، لأن هو وأنا علامتان للمضمر، وإنما يضمر إذا علم أنك قد عرفت مَن يعني. ثم قال: إلا أن رجلا لو كان خلف حائط أو في موضع تجهله فيه فقلت مَن أنت؟ فقال أنا عبد الله منطلقا في حاجتك كان حسنا.
قلت الانطلاق في الأول مجهول والإعلام به مقصود غير مستغنى عنه، فحقه أن يرفع بمقتضى الخبرية. فالاسم الذي قبله معلوم مستغنى عن ذكره، فحقه ألا يجعل خبرا، وإذا جعل خبرا ما حقه ألا يكون خبرا، وجعل فضلة ما حقه أن يكون عمدة لزم كون الناطق بذلك مجهولا، وكون المنطوق به محالا عما هو به أولى. فهذا معنى قول سيبويه: كان محالا، وإنما استحسن قول من قال أنا عبد الله منطلقا في حاجتك، لأن السائل كان عنده منطلقا في حاجته من قبل أن يقول له: من أنت؟
فصار ما عهده بمنزلة شيء ثبت له في نفسه، كشجاع وكريم فأجراه مجراه.
فصل: ص: تقع الحال جملة خبرية غير مفتتحة بدليل استقبال، متضمنة ضمير صاحبها، ويغني عنه في غير مؤكدة ولا مصدرة بمضارع مثبت أو منفي بلا أو ما، أو بماضي اللفظ تال لإلّا أو متلوّ بأو ? واو تسمى واو الحال وواو الابتداء. وقد تجامع الضمير في العارية من التصدير المذكور، واجتماعهما في الاسمية والمصدرة بليس أكثر من انفراد الضمير. وقد تخلو منهما الاسمية عند ظهور الملابسة، وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا، فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر. وثبوت قد قبل الماضي غير التالي لإلا والمتلو بأو أكثر من تركها إن وجد الضمير. وانفراد الواو حينئذ أقل من انفراد قد. وإن عدم الضمير لزمتا.
ش: قيدت الجملة الواقعة حالا بخبرية احترازا من الطلبية، فإنها لا تقع حالا، وكذلك المصدرة بفعل مقرون بحرف تنفيس أو منفي بلن. وإلى ذلك أشرت بقولي "غير مفتتحة بدليل استقبال" وبعد استثناء الجملة الطلبية والمفتتحة بدليل استقبال يعلم أن الجملة التي تقع حالا جملة ابتدائية نحو (وقلنا اهبطوا بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ)، أو مصدرة بإنّ نحو قوله تعالى (وما أرسلنا قبلَك من المرسلين إلّا إنهم ليأكلون الطعامَ)، أو مصدرة بكأنّ كقوله تعالى (نبذ فريقٌ من الذين أُتوا الكتاب كتابَ الله وراءَ ظهورهم كأنّهم لا يعلمون). وقول زهير:
يَلُحْن كأنَّهُنَّ يدا فتاةٍ
…
تُرَجَّع في معاصِمها الوُشومُ
وكقول ربيعة بن مقروم:
فدارَتْ رَحاها بفُرْسانهم
…
فعادوا كأنْ لم يكونوا رَميما
وكقول امرئ القيس:
فظللْتُ في دِمَنِ الديارِ كأنني
…
نَشْوانُ باكَرَه صَبوحُ مُدامِ
أو مصدره بلا التبرئة نحو: (واللهُ يحكم لا مُعقِّبَ لحكمه) وكقول بعض الطائيين:
مَن جادَ لا مَنَّ يَقْفُو جُودَه حُمِدا
…
وذو ندًى مَنَّ مذمومٌ وإنْ مَجُدا
ومثله:
نَصَبْتُ له وجهي ولا كِنَّ دونَهُ
أو مصدرة بما كقول عنترة:
فرأيْتُنا ما بيننا مِن حاجز
…
إلّا المِجَنُّ وحدُّ أبيضَ مفْصِل
أو مصدّرة بمضارع مثبت نحو (ويَمُدُّهم في طُغيانهم يعمهون) أو مصدرة بمضارع منفي بلا نحو (وما لنا لا نؤمن بالله)، أو مصدرة بمضارع منفي بما كقوله:
عَهِدتُكَ ما تَصْبوا وَفيكَ شبيبةٌ
…
فما لك بعد الشَّيْب صَبًّا مُتَّيما
وكقول امرئ القيس:
ظللْتُ ردائي فوق رأسي قاعدًا
…
أعدُّ الحصى ما تنقضي عبراتي
أو مصدرة بلم كقوله تعالى (فانقلبوا بنعمةٍ من الله وفضلٍ لم يمسسْهم سوءٌ) وكقوله تعالى: (وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا). وكقول زهير:
كأنَّ فُتات العِهْن في كلِّ مَنزلِ
…
نَزَلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحطَّمِ
أو مصدرة بماض تال لإلّا نحو (ما يأتيهم من رسولٍ إلّا كانوا به يستهزئون) أو مصدرة بماض متلو بأو كقول الشاعر:
كُنْ للخليل نصيرًا جارَ أو عَدَلا
…
ولا تشحَّ عليه جاد أو بَخِلا
أو مصدرة بماض مخالف لذينك كقوله تعالى (أو جاءوكم حَصِرتْ صدورهم) فكل واحدة من هذه الجمل في موضع نصب على الحال، ومتضمنة لضمير يعود على صاحب الحال يربطها به، وقد تجامعه واو الحال، أو تغني عنه في غير مؤكدة ولا مصدرة بمضارع مثبت أو منفي بلا أو ماض تال لإلّا أو متلو بأو. ومجامعته الواو في الجملة الاسمية أكثر من انفراده.
فمن مجامعته الواو (فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون) و (وتنسونَ
أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب) و (ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد) و (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ) و (لِمَ تكفرون بآياتِ الله واللهُ شهيدٌ على ما تعملون) و (فلا تموتُنَّ إلّا وأنتم مسلمون). ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" ومنه قول امرئ القيس:
نظرتُ إليها والنجومُ كأنَّها
…
مصابيحُ رُهْبان تُشَبُّ لقُفّالِ
وقوله:
أيَقْتُلُني والمشرِفيُّ مُضاجِعي
…
ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأنيابِ أغوال
وقوله:
لياليَ يَدعوني الهوى فأُجيبُه
…
وأعْيُن مَن أهوى إليَّ روانِ
ومن الاستغناء بالواو عن الضمير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغمِّ أمنةً نعاسًا يغشى طائفةً منكم وطائفةٌ قد أهمّتهم أنفُسُهم)، وقوله تعالى:(لئِنْ أكله الذئبُ ونحن عُصْبةٌ) وقوله تعالى (كما أخرجك ربُّكَ مِن بيتِك
بالحقِّ وإنَّ فريقًا من المؤمنين لكارهون) وكقوله صلى الله عليه وسلم "كنتُ نبيًّا وآدمُ بين الماء والطين". ومنه قول امرئ القيس:
وقد أغتدي والطَّيْرُ في وُكُناتِها
…
بمُنْجرد قَيْد الأوابد هَيْكلِ
وقوله أيضا:
إذا ركبوا الخيلَ واستلأموا
…
تَحَرَّقَتِ الأرضُ واليومُ قُرُّ
وقوله:
بَعثتُ إليها والنجومُ طوالعٌ
…
حِذارًا عليها أن تقومَ فَتُسْمَعا
وقوله:
لك الويلُ إنْ أمْسى ولا أمُّ هاشِم
…
قريبٌ ولا البَسْباسةُ ابنةُ يَشْكُرا
ومنه قول طرفة:
أرَقَّ العينَ خَيالٌ لم يَقِر
…
طاف والرَّكْبُ بصَحْراءَ يُسْرُ
ومنه قول عنترة:
يَدْعونَ عنْتَر والرماحُ كأنّها
…
أشْطانُ بئْرٍ في لَبانِ الأدْهم
ومن الاستغناء عن الواو بالضمير قوله تعالى: (وقلنا اهبطوا بعضهم لبعض عدو) وقوله تعالى: (اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدوّ) وقوله تعالى (ولمّا جاءهم رسول من عند الله مصدِّقٌ لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) وقوله تعالى (والله يحكم لا معقِّب لحكمه) وقوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنّهم ليأكلون الطعام) وقوله تعالى: (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوهُهم مُسوَدّة). ومنه قول الشاعر:
وتشربُ أسارِي القطا الكُدْرُ بعدما
…
سَرَتْ أحْناؤُها تَتَصَلْصُلُ
ومثله:
حتى تركناهم لدى مَعْركٍ
…
أرْجُلُهم كالخشبِ الشّائل
ومثله:
لهم لواءٌ بكفَّي ماجدٍ بطلٍ
…
لا يقطعُ الخِرْقَ إلّا طرْفُه سامِ
ومثله:
راحُوا بصائرهم على أكتافهم
…
وبصيرتي يعدو بها عتد وَأَى
ومثله:
ثم راحوا عبَقُ المِسْكِ بهم
…
يُلْحِفون الأرضَ هُدّابَ الأُزُرْ
ومثهل:
فغَدَتْ كِلا الفرجين تحسب أنه
…
مولى المخافةِ خلفُها وأمامُها
ومثله:
ما بالُ عينك دمعُها لا يَرْقأ
…
وحَشاك مِن خَفقانه لا يَهْدأُ
ومثله:
ظعنتْ أمامةُ قلبُها بك هائمٌ
…
فاعصِ الذي يُغريك بالسلوان
ومثله:
أتاني المعليَّ عذرُه مُتبيِّنٌ
…
فمنَ يعزُه للبغي فهْوَ ظلومُ
ومثله:
الذئبُ يَطْرُقها في الدهر واحدةً
…
وكلَّ يومٍ تراني مُدْيةٌ بيدي
وروى سيبويه: كلمته فوه إلى فيّ، و"رجع عوده على بدئه". وزعم الزمخشري أن قولهم كلمته فوه إلي فيّ نادر. وهو من المسائل التي حرفته عن الصواب، وعجزتْ ناصره عن الجواب. وقد تنبه في الكشاف فجعل قوله تعالى (بعضكم لبعض عدوّ) في موضع نصب على الحال، وكذا فعل بـ "لا
معقب لحكمه"، فقال: هو جملة محلها النصب على الحال، كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة، يريد حاسرا. هذا نصه في الكشاف.
وعندي أن إفراد الضمير أقيس من إفراد الواو، لأن إفراد الضمير وُجد في الحال وشبهها وهما الخبر والنعت، وإفراد الواو مستغنى بها عن الضمير لم يوجد إلا في الحال، فكان لإفراد الضمير مزية على إفراد الواو.
ومن اجتماع الواو والضمير في المصدرة بليس قوله تعالى (ولا تيَّمَموا الخبيثَ منه تنفقون ولستم بآخذيه إلّا أن تغمضوا فيه) ومنه قول الشاعر:
أعَنْ سيِّء تنهى ولست بمُنتَهٍ
…
وتُدْعى بخَيْر أنتَ عنه بمَعْزِلِ
ومثله:
وقد علمتْ سلمى وإنْ كان بعلها
…
فإنّ الفتى يهذي وليس بفَعّال
ومثله:
صرفتُ الهوى عنهنّ مِن خشية الرّدى
…
ولستْ بمقْلِيّ الخِلال ولا قالي
ومن انفراد الواو قول الشاعر:
دهم الشتاءُ ولستُ أمْلِكُ عُدّة
…
والصَّبرُ في السَّبَرات غيرُ مُطيع
ومثله:
تسلّت عماياتُ الرجالِ عن الصِّبا
…
وليس صبايَ عن هواها بمُنْسَلِ
ومن إفراد الضمير قول الراجز:
إذا جرى في كفّه الرشاءُ
…
جرى القَليب ليس فيه ماءُ
وحكى سيبويه الاستغناء عن الواو بنية الضمير إذا كان معلوما كقولك مررت بالبر قفيز بدرهم، أي قفيز منه بدرهم، وجاز هذا كما جاز في الابتداء السمن منوان بدرهم، على تقدير منوان منه بدرهم. فلو قيل بيع السمن منوان بدرهم على تقدير منه وجعل الجملة حالا لجاز وحسن. وإلى هذا وأمثاله أشرت بقولي "وقد تخلو منهما عند ظهور الملابسة". ثم قلت "وقد تصحب الواو المضارع المثبت أو المنفي بلا فيجعل على الأصح خبر مبتدأ مقدر" فأشرت بذلك إلى قول بعض العرب:
قمت وأصك عينه، رواه الأصمعي، وإلى قول عنترة:
عُلِّقْتُها عَرَضا وأقْتُلُ قومَها
…
زَعْمًا ورَبِّ البيتِ ليس بمَزعَم
وإلى قول زهير:
بَلينَ وتحسَبُ آياتهنْـ
…
ـنَ عَن فرْط حوْلَيْن رِقًّا مُحيلا
وإلى قول الآخر:
فلمَّا خَشيتُ أظافيرَهم
…
نجوْتُ وأرْهَنُهم مالِكا
ويمكن أن يكون من هذا قوله تعالى (قالوا نُؤمنُ بما أُنزِل علينا ويكفرون
بما وراءَه) وقوله تعالى (إنّ الذين كفروا ويصُدُون عن سبيل الله) وقراءة غير نافع (ولا تُسْأَلُ عن أصحاب الجحيم) وقراءة ابن ذكوان (فاستقيما ولا تَتَّبِعانِ) تخفيف النون. والتقدير: قمت وأنا أصكّ، وعلقتها عرضا وأنا أقتل قومها" وبَلين أنت تحسب آياتهن، ونجوت وأنا أرهنهم، وقالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفرون وإن الذين كفروا وهم يصدون وإنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وأنت لا تسأل عن أصحاب الجحيم، وفاستقيما وأنتما لا تتبعان.
فإن كانت الجملة مصدرة بمضارع منفي بلم جاز فيها ما يجوز في الجملة الاسمية من إفراد الضمير كقوله تعالى (فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ) وكقوله تعالى (وردَّ اللهُ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا) وكقول زهير:
كأنَّ فُتاتَ العِهْنِ في كُلِ منزل
…
نزلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحطَّم
وكقول امرئ القيس:
فأدْرَكَ لم يَجْهدْ ولم يَثْنِ شأوَه
…
يَمُرُّ كخُذرُوف الوليد المثقَّبِ
وكقول أبي القيس بن الأسلت:
وأضْرِب القَوْنَس يومَ الوغى
…
بالسَّيفِ لم يَقْصُرْ به باعِي
وكقول عنترة:
إذ يتَّقون بي الأسِنَّة لم أخِم
…
عنها ولكنّي تَضايَقَ مُقْدَمِي
ومن إفراد الواو قول عنترة:
ولقد خَشيتُ بأنْ أموتَ ولم تكنْ
…
للحرْب دائرةٌ على ابنَي ضَمْضَم
وكقوله:
وقد كنتُ أخشى أن أموتَ ولم تكنْ
…
قرائبُ عَمرو وسْط نَوْح مُسَلّب
ومن اجتماع الواو والضمير قوله تعالى: (أو قال أُوحِي إليّ ولم يُوحَ إليه شيء) وقوله تعالى (أنّى يكون لي غُلام ولم يمسسني بَشَرٌ) وكقول كعب:
لا تأخذنّي بأقوال الوُشاةِ ولم
…
أُذنبْ وإن كثرتْ فيَّ الأقاويلُ
وكقول الآخر:
سقط النصيفُ ولم تُرِد إسقاطَه
…
فتناولتْه واتَّقَتنا باليد
ومثله:
بأيدي رجالٍ لم يَشيمُوا سُيُوفهم
…
ولم تكثُرِ القتلى بها يومَ سُلَّتِ
وكثرت شواهد لم، لأن ابن خروف قال: فإن كانت ماضية معنى لا لفظا احتاجت إلى الواو، كان فيها ضميرا أو لم يكن، والمستعمل بخلاف ما قال. والمنفي بلما كالمنفيّ بلم في القياس، إلا أنّي لم أجده مستعملا إلا بالواو كقوله تعالى (ولمّا يأتِكُم مَثَلُ الذين خَلَوا مِن قبلكم) وكقول الشاعر:
بانتْ قَطامِ ولمّا يَحْظَ ذومِقَة
…
منها بوصْل ولا إنجازِ مِيعادِ
فإن صُدّرت الجملة بفعل ماض لفظا وليس قبله إلا ولا بعده أو، فإما أن يتضمن ضمير صاحب الحال أو لا يتضمنه، فإن تضمنه فالأكثر أن يكون الفعل مقرونا بالواو وقد كقوله تعالى (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلامَ الله ثم يحرِّفُونه) وكقوله تعالى (أنَّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبرُ) وكقوله تعالى (وما لكم ألّا تأكلوا ممّا ذُكِر اسم الله عليه وقد فَصَّل لكم ما حَرَّم عليكم)، وكقوله تعالى (الآن وقد عَصَيْتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين) وكقول امرئ القيس:
أيقتُلُني وقد شَغَفْتُ فُؤادَها
…
كما شَغَف المهنوءةَ الرجُلُ الطّالي
وكقول زهير:
كأنّي وقد خلّفْتُ تسعين حجّة
…
خَلَعْتُ بها عن مَنكبِيَّ رِدائيا
وكقول علقمة:
يكلّفُني ليلى وقد شَطَّ وَليُها
…
وعادتْ عوادٍ بيننا وخُطوبُ
وانفراد الضمير مع التجرد من قد والواو أكثر من اجتماعه مع أحدهما، واجتماعه مع الواو وحدها أكثر من اجتماعه مع قد وحدها. فمن انفراد الضمير قوله تعالى (أوْ جاءوكم حَصِرَتْ صدورُهم) وقوله تعالى:(هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا) وقوله تعالى (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تَولَّوا) وقوله تعالى (وجاءوا أباهم عشاءً يبكون قالوا) ومنه قول امرئ القيس:
له كَفل كالدِعْص لبَّدَه الندى
…
إلى حارك مثلِ الغَبيط المُذَأبِ
وقوله أيضا:
دَريرٍ كخُذروف الوليد أمرّه
…
تقلُّبُ كَفَّيْه بخيطٍ مُوَصّل
وقول طرفة:
وكرِّي إذا نادى المضافُ مُحنّبا
…
كسِيد الغَضا نبّهته المتورِّد
وقال الذبياني:
سبقت الرجال الباهشين إلى العُلا
…
كسَبْق الجواد اصطاد قبل الطوارد
ومثله:
وإني لتعروني لذكراك هِزّة
…
كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَه القطرُ
ومثال اجتماع الضمير مع الواو وحدها قوله تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) وقوله تعالى (الَّذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتِلوا) وقوله تعالى (ونادى نوحٌ ابنه وكان في مَعْزِلٍ). وقوله تعالى (وقال الذي نجا منهما وادَّكر بعد أُمّةٍ) وقوله تعالى (قال ربِّ أنَّى يكون لي غلامٌ وكانت امرأتي عاقرا). ومثال اجتماع الضمير مع قد وحدها قول الشاعر:
أتيناكم قد عمّكم حَذَرُ العِدى
…
فنِلتم بنا أمْنا ولم تَعْدموا نصْرا
ومثله:
بَصرتْ بي قد لاح شيبي فصدّتْ
…
فتسلَّيْتُ واكتَسيتُ وقارا
وقال النابغة:
وقفتُ بربْع الدار قد غَيَّر البِلى
…
معارِفَها والسارياتُ الهواطِلُ
وزعم قوم أن الفعل الماضي لفظا لا يقع حالا وليس قبله قد ظاهرة إلا وهي
قبله مقدرة. وهذه دعوى لا تقوم عليها حجة، لأن الأصل عدم التقدير، ولأن وجود قد مع الفعل المشار إليه لا يزيد معنى على ما يفهم به إذا لم توجد. وحق المحذوف المقدر ثبوته أن يدل على معنى لا يدرك بدونه.
فإن قيل قد تدل على التقريب، قلنا دلالتها على التقريب مستغنى عنها بدلالة سياق الكلام على الحالية، كما أغنى عن تقدير السين وسوف سياق الكلام في مثل قوله تعالى (وكذلك يجتبيك ربُّك ويُعلّمُك من تأويل الأحاديث). بل كما استغنى عن تقدير قد مع الماضي القريب الوقوع إذا وقع نعتا أو خبرا.
ولو كان الماضي معنى لا يقع حالا إلا وقبله قد مقدرة لامتنع وقوع المنفي بلم حالا، ولكان المنفي بلما أولى منه بذلك، لأن لم تنفي فَعل، ولمّا تنفي قد فعل، وهذا واضح لا ريب فيه. وأجاز بعض من قَدّر قبل الفعل الماضي الاستغناء عن تقديرها بجعل الفعل صفة لموصوف مقدّر، وهو أيضا تكلّف شيء لا حاجة إليه. قال أبو الحسن بن خروف: وزعم ابن بابشاذ أن سيبويه رحمه الله يجعل حصرت صدورهم صفة لقوم. ولم يفعل ذلك سيبويه.
قلت صدق أبو الحسن رحمه الله وغفر لابن بابشاذ. وقال الزمخشري في الكشاف عند كلامه على قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) الواو في قوله تعالى وكنتم أمواتا للحال (فإن) قلت فكيف يصح أن يكون حالا وهو ماض ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام الأمير، إلا أن تضمر قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتا وحده، ولكن على جملة قوله تعالى (كنتم أمواتا) إلى (ترجعون) كأنه قيل كيف تكفرون وقصتكم هذه.
قلت: حاصل كلام الزمخشري أن وقوع الفعل الماضي لفظا ومعنى حالا جائز لكن بشرط تقدم قد عليه ظاهرة أو مقدرة. وقد تقدم الرد على من اشترط ذلك.
فإن قيل فبأي اعتبار جاز أن يعمل تكفرون وهو حاضر المعنى في مضمون وكنتم أمواتا وهو ماضي المعنى، وحق الحال وعاملها أن يقترنا في الوجود؟ فالجواب أن الاقتران يقنع منه بالتقدير هنا كما قنع منه بالتقدير في نحو زيد اليوم في يده صقر صائدا به غدا. فالحال كنتم أمواتا ماضية مقدرة الحضور، وفي "صائدا به غدا" مستقبلة مقدرة الحضور، فإن لم تتضمن الجملة الحالية ضميرا يعود إلى صاحب الحال لزمت الواو وقد كقول امرئ القيس:
فجِئْتُ وقد نَضَّتْ لنَوْم ثيابَها
…
لدى الستْر إلّا لِبْسة المتفضِّل
وكقول النابغة:
فلو كانت غداة البين مَنَّتْ
…
وقد رَفعوا الخُدورَ على الخيام
سمحتُ بنظرة فرأيتُ منها
…
تُحَيت الخِدر واضعةَ القِرام
وكقول علقمة:
فجالدتَهم حتى اتّقوْك بكبْشهم
…
وقد حان من شمس النهارِ غُروب
وكقول امرئ القيس:
أيقتُلني وقد شَغَفْتُ فؤادَها
…
كما شغف المهنوءةَ الرجلُ الطَّالِي
وإن كانت الجملة الحالية مؤكدة منعت الواو اسمية كانت أو فعلية نحو هو الحق لا ريب فيه، وكقول امرئ القيس:
خالي ابنُ كَبْشَةَ قد علمتَ مكانَه
…
وأبو يزيدَ ورهْطُه أعمامي
وخلت هذه من الواو لاتحادها بصاحبها من وجهين: أحدهما كونها حالا والحال
وصاحبها شيء واحد في المعنى، والثاني كونها مؤكدة، والمؤكد هو المؤكد في المعنى. وقد لزم من الاتحاد من وجه في غير المؤكدة تغليب عدم الواو على وجودها، فليترتب على الاتحاد من وجهين لزوم عدم الواو.
فصل: ص: لا محل إعراب للجملة المفسرة، وهي الكاشفة حقيقة ما تلته مما يفتقر إلى ذلك، ولا للاعتراضية وهي المفيدة تقوية بين جزءي صلة أو إسناد أو مجازاة أو نحو ذلك، ويميزها من الحالية امتناع قيام مفرد مقامها، وجواز اقترانها بالفاء ولن وحرف تنفيس وكونها طلبية، وقد تعترض جملتان خلافا لأبي علي.
ش: لما انقضى الكلام على الجملة الحالية، وكان من الجمل جملتان تشابهانها وتغايرانها وجب التنبيه عليهما، وعلى ما يتميزان به، فالجملتان هما المفسرة والاعتراضية، وكلتاهما لا موضع لها من الإعراب، فالمفسرة كقوله تعالى (خلقه من تراب) بعد قوله تعالى (إنَّ مثل عيسى عند الله) وكقول النابغة: يكوى غيره وهو راتع، من قوله:
تكلّفني ذنب امرئ وتركْتَه
…
كذِي العُرّ يُكْوَى غيرُه وهْو راتِعُ
والاعتراضية الواقعة بين موصول وصلة، كقول الشاعر:
ماذا ولا عَتّبَ في المقدورِ رُمت أمَا
…
يُحظيك بالنّجْح أمْ خُسْرٌ وتضليلُ
وكقول الآخر:
وتركي بلادي والحوادثُ جمةٌ
…
طريدًا وقِدْمَا كنتُ غيرَ مطّرِد
وكقول الآخر:
ذاك الذي وأبيك يعرف مالِكًا
…
والحقُّ يدفعُ ترّهاتِ الباطِل
وبين مسند ومسند إليه كقول الشاعر:
وقد أدْركتني والحوادث جمةٌ
…
أسنةُ قوم لا ضِعافٍ ولا عُزْلِ
وبين شرط وجواب كقوله تعالى (إنْ يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللهُ أولى بهما فلا تَتَّبِعوا الهوى أنْ تعدِلوا).
وكقول الشاعر:
إمّا تَرَيني قد نَخِلتُ ومَن يكُنْ
…
غَرضًا لأطْراف الأسنَّة يَنْحل
فَلَربَّ أبلجَ مثلَ بِعْلِكِ بادِنٍ
…
ضَخْمٍ على ظهر الجوادِ مهبّل
غادَرْتهُ متعفِّرًا أوصالُه
…
والقومُ بين مُجرَّح ومُجدّلِ
وبين قسم وجوابه كقوله تعالى (فلا أقسم بمواقع النُّجوم* وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ * إنّه لقرآنٌ كريمٌ).
وكقول الشاعر:
لعمري وما عَمْري عليّ بهيّن
…
لقد نطقت بُطْلًا عليّ الأقارِعُ
وبين فعل ومفعول كقول الراجز:
وبَدّلتُ والدهرُ ذو تبدُّلِ
…
هَيفا دَبُورا بالصَّبا والشمأل
أو أبين كأن واسمها كقول الشاعر:
كأنّ وقد أتى حوْلٌ جديدٌ
…
أثافِيها حماماتٌ مُثُولُ
فلو أقمت مفردا مقام ولا عتب في المقدور، أو مقام والحوادث جمة، أو مقام وأبيك، أو مقام فالله أولى بهما، أو مقام ومن يكن غرضا لأطراف الأسنة ينحل، أو مقام وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، أو مقام وما عمري عليّ بهيّن، أو مقام والدهر ذو تبدّل، لوجدته ممتنعا، فدل ذلك على أنها جمل اعتراضية لا حالية، لأن الجملة الحالية لا يمتنع أن يقام مفرد مقامها، فهذا أحد الأمور الفارقة بين الجملة الاعتراضية والحالية. ومنها اقترانها بلن كقوله تعالى (فإنْ لم تفعلوا ولنْ تفعلوا) وبحرف تنفيس كقول زهير:
وما أدري وسوف إخالُ أدْري
…
أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نساءُ
أو بالفاء كقوله تعالى (فاللهُ أولى بهما). وكقول الشاعر:
ألا أبلغُ بَنيَّ بني رَبيع
…
فأشرارُ البنينَ لهم فداءُ
بأنّي قد كبرت وطال عُمْري
…
فلا تَشْغَلْهُم عنّي النساءُ
وكقول الآخر:
واعلمْ فعِلْمُ المرءِ يَنْفَعُه
…
أنْ سوفَ يأتي كلُّ ما قُدِرا
ومن الأمور الفارقة التي تتميز بها الجملة الاعتراضية كونها طلبية، كقول تعالى (ولا تؤمنوا إلّا لِمن تبع دينكم قلْ إنّ الهدى هدى اللهِ أن يُؤتى أحدٌ مثل ما أُوتِيتم) فقل إن الهدى هدى الله جملة معترضة بين "تؤمنوا" و"أن يؤتى أحد"
ومن الجملة الطلبية المعترضة قوله تعالى (ومن يغفر الذنوبَ إلا اللهُ) اعترضت بين) استغفروا ولم يُصرُّوا) وهما جملتان معطوف إحداهما على الأخرى في صفة الذين. ومن الجمل الطلبية المعترضة قول الشاعر:
إنَّ سُلَيْمى ? واللهُ يكلؤُها-
…
ضنّتْ بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها
فقوله والله يكلؤها جملة ابتدائية بمعنى الدعاء، وقد اعترضت بين اسم إنّ وخبرها. وزعم أبو علي أن الاعتراض لا يكون إلا بجملة واحدة، وليس بصحيح ما زعم، بل الاعتراض يكون بجملتين كثيرا، ومن ذلك قول زهير:
لعَمرُ أبيكَ والأنباءُ تَنْمِي
…
وفي طُول المُعاشرةِ التقالي
لقد باليت مظعنَ أمِّ أوفى
…
ولكنْ أمُّ أوْفى لا تُبالي
ومنه قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلّا رجالًا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزُّبر) قال الزمخشري في الكشاف: (ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتَّقَوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض، ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما "فأخذناهم بغتة" و (أفأمن أهل القرى) وهذا اعتراض بكلام تضمن سبع جمل: