الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الفاعل
ص: وهو المسند إليه فعل، أو مضمَّن معناه تام مقدّم فارغ غير مصوغ للمفعول. وهو مرفوع بالمسند حقيقة إنْ خلا من "من" و"الباء" الزائدتين.
وحكما إن جرّ بأحدهما، أو بإضافة المسند. وليس رافعه الإسناد خلافا لخلف.
وإنْ قُدّم ولم يل ما يطلب الفعل فهو مبتدأ، وإن وليه ففاعل فعل مضمر يفسّره الظاهر خلافا لمن خالَفَ.
ش: الفاعل يكون اسما نحو (تباركَ اللهُ) وغير اسم نحو (ألَمْ يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) و (ألم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). وكقول الشاعر:
يَسُرُّ المرءَ ما ذهب الليالي
…
وكان ذهابُهنَّ له ذهابا
وكقول الآخر:
ما ضَرَّ تَغْلبَ وائِل أهَجَوْتَها
…
أم بتَّ حَيْثُ تلاطمَ البَحْرانِ
فلذلك قلتُ المسند إليه، ولم أقل الاسم المسند إليه. والمسند إلى الفاعل فعل ومضمّن معناه؛ فالفعل نحو:(يغفرُ الله لكم) والمضمّن نحو: (مختلفًا
ألوانُها) و:
هَيْهات العقيقُ وأهلُه
ونحو: أمِنْ رسم دارٍ مربعٌ ومَصيفُ
و (أو كصَيِّبٍ من السماءِ فيه ظُلُماتٌ) على أحسن الوجهين.
ولما كان المسند شاملا للفاعل وغيره ذكرتُ قيودا تُخرج غيرَه؛ فخرج بتام اسم كان فإنه ليس فاعلا، لكون المسند إليه ناقصا، وقد سمّاه سيبويه فاعلا والخبر مفعولا على سبيل التوسع. وخرج بفارغ المبتدأ إذا قدّم خبره وفيه ضمير نحو قائم زيد، و (أسَرُّوا النجوى الذين ظلموا) على القول بأن الذين ظلموا مبتدأ مقدم خبره. وخرج بغير مصوغ للمفعول المفعول النائب عن الفاعل نحو ضُرب زيدٌ مَنْزوعا ثوبه؛ لأنه ليس فاعلا عند أكثر النحويين. وقد اضطر الزمخشري إلى تسميته مفعولا بعد أن جعله فاعلا.
ثم ذكرت أن الفاعل مرفوع حقيقة، أي لفظا ومعنى نحو: صَدَقَ اللهُ، ومرفوع حكما، أي في المعنى دون اللفظ، وذلك في ثلاثة مواضع أحدها: إذا جُر بمن الزائدة نحو: (ما يأتيهم مِنْ رسولٍ إلا كانوا به يستهزئون) والثاني إذا جُر بالياء الزائدة نحو: (وكفى بالله شهيدًا) والثالث إذا أضيف إليه المسند
نحو: (ولولا دفاعُ الله الناسَ) وقلت بإضافة المسند ولم أقل بإضافة المصدر، لأن المسند الصالح للإضافة قد يكون اسم مصدر كما يكون مصدرا، فالمصدر ظاهر، واسم المصدر كقوله صلى الله عليه وسلم:"من قُبْلة الرجل امرأتَه الوضوءُ" فالرجل مجرور اللفظ مرفوع المعنى بإسناد ما قبلةَ إليه فإنها قائمة مقام تَقْبيل، ولذا انتصب بها المفعول. وكذا المجرور بمن والباء مرفوع معنى. ولو عطف عليه أو نعتَ لجاز في المعطوف والنعت الجر باعتبار اللفظ، والرفع باعتبار المعنى.
ثم تبينت أن رافع الفاعل هو ما أسند إليه من فعل أو مضمن معناه، لا الإسناد كما يقول خلف؛ لأن الإسناد نسبة بين المسند والمسند إليه، وليس عملها في أحدهما بأولى من عملها في الآخر، ولأن العمل لا ينسب إلى المعنى إلا إذا لم يوجد لفظ صالح للعمل، والفعل موجود فلا عدول عنه.
وإن قُدّم الاسم على الفعل أو ما ضُمّن معناه صار مرفوعا بالابتداء وبطل عمل ما تأخر فيه؛ لأنه تعرض بالتقدم لتسلط العوامل عليه كقولك في: زيد قام، إنّ زيدا قام. فتأثر زيد بإن دليل على أن الفعل شغل عنه بفاعل مضمر، وأن رفع زيد إنما كان بالابتداء وهو عامل ضعيف فلذلك انتسخ عمله بعمل إن، ولأن اللفظ أقوى من المعنى. ولو كان الفعل غير مشغول بمضمر حين أخّر كان حين قُدّم لم يلحقه ألف الضمير ولا واوه ولا نونه في نحو: الزيدان قاما، والزيدون قاموا، والهندات قمن، كما لا يلحقه في نحو: قام الزيدان، وقام الزيدون وقامت الهندات إلا في لغة ضعيفة. وإن كان الاسم المقدم عليه مسبوقا بما يطلب الفعل فهو فاعل فعل مضمر يفسِّره الظاهر المتأخر نحو (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك) وكقول
الشاعر:
فمتى واغِلٌ ينبهم يُحَيُّو
…
هُ وتُعْطف عليه كأسُ السَّاقي
وزعم بعض الكوفيين أن تأخر المسند لا يخل برفعه المسند إليه، واستدل من ذهب إلى هذا بقول امرئ القيس:
فَقِلْ في مَقيل نَحْسُهُ مُتَغيبِ
وبقول الزباء: ما للجمالِ سَيْرُها وَئيدا
وزعم أن التقدير: فقل في مقيل متغيِّب نحسُهُ. وما للجمال وئيدا سيرُها.
والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن يكون قائله أراد نخسه متغيّبي بياء المبالغة كقولهم في أحمر: أحمريّ، وفي دَوّار دَوّاريّ، وخفف الياء في الوقف كما قال الآخر في إحدى الروايتين:
زَعم الغُداف بأن رحلتنا غدا
…
وبذاك خَبَّرَنا الغُدافُ الأسودي
لا مرحبا بغد ولا أهلًا به
…
إنْ كان تفريقُ الأحبَّة في غَد
ويُروى: الغُداف الأسودُ على الإقواء.
والثاني أن "مقيلا" اسم مفعول من قِلْتُه بمعنى أقلته، أي فسخْت عقد مُبايعته، فاستعمله في موضع متروك مجازا، وهو قول ابن كيسان.
والجواب عن الثاني بأن يجعل سيرها مبتدأ ويضمر خبر ناصب وئيد. كأنه قال
ما للجمال سيرها ظهر وئيدا، أو ثبت وئيدا، فيكون حَذْفَ الخبر هنا والاكتفاء بالحال نظير قولهم:"حُكْمُكَ مُسَمَّطا". وقد ينتصر لمجيز ارتفاع الفاعل بعامل متأخر بمثل قول الشاعر:
فمتى واغِلٌ يَنُبْهُم يُحَيُّو
…
هْ وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
فيقال واغِلٌ إما مرفوع بمضمر يدل عليه المتأخر، أو بالمتأخر، وارتفاعه بمضمر ممتنع؛ لاستلزامه إعمال أداة الشرط في فعلين قبل الجواب وليس الثاني تابعا للأول فتعيّن ارتفاعه بالمتأخر. والجواب أن المحذوف في مثل هذا لما التُزم حذفُه وجُعل المتأخر عوضا منه صار نسيا منسيا، فلم يلزمه من نسبة العمل إليه وجودُ جَزْمين قبل الجواب؛ على أنه لو جمع بينهما على سبيل التوكيد لم يكن في ذلك محذور فألا يكون محذور في تعليق الذهن بهما وأحدهما غير منطوق به ولا محكوم بجواز النطق به أحق وأولى. وأجاز الأعلم وابن عصفور رفع وصال بيدوم في قول الشاعر:
وقَلَّما وِصالٌ على طُول الصُّدُودِ يَدُومُ
لا بفعل مضمر ويكون هذا من الضرورات. وأجاز الأخفش رفع الاسم المتقدم بعد إنْ بالابتداء وقال في قوله تعالى: (وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك) فابتدأ بعد إنْ، وأن يكون رفع أحد على فعل مضمر أقيس الوجهين.
قال: وقد زعموا أن قول الشاعر:
أتَجْزَعُ إنْ نفسٌ أتاها حمامُها
لا يُنشد إلا رفعا. وقد سقط الفعل على شيء من سببه، وهذا قد ابتدئ بعد إنْ. وإنْ شئت جعلته رفعا بفعل مضمر". هذا نصه. وقد أشرت إلى هذا وغيره بقولي في آخر الفصل:"خلافًا لمن خالف".
ص: وتلحق الماضي المسند إلى مؤنث أو مؤول به أو مخبر به عنه أومضاف إليه مقدر الحذف تاء ساكنة، ولا تحذف غالبا إن كان ضميرا متصلا مطلقا أو ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث غير مكسّر ولا اسم جمع ولا جنس. ولحاقها مع الحقيقي المقيد المفصول بغير إلا أجود، وإن فصل بها فبالعكس. وحكمها مع جمع التكسير وشبهه وجمع المذكر بالألف والتاء حكمها مع الواحد المجازي التأنيث. وحكمها مع جمع التصحيح غير المذكور آنفا حكمها مع واحده. وحكمها مع البنين والبنات حكمها مع الأبناء والإماء. وتساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة ونون التأنيث الحرفية".
تاء التأنيث الساكنة مختصة من الأفعال بالماضي وضعا، لأن الأمر مستغن بالياء، والمضارع مستغن بها إن أسند إلى مخاطبة، وبتاء المضارعة إن أسند إلى غائبة أو غائبتين. وكان حق تاء فَعلتْ ألا تلحق الفعل، لأن معناها للفاعل إلا أنه كجزء من الفعل، فجاز أن يدل على معنى فيه ما اتصل بما هو كجزء منه، كما جاز أن تتصل بالفاعل علامة رفع الفعل في يفعلان وتفعلون وتفعلين؛ ولأن تأنيث لفظ الفاعل غير موثوق به، لجواز اشتراك المذكر والمؤنث في لفظ واحد كجُنب ورَبْعَة وهُمزَة وضُحَكة وفَروقه ورواية وصَبور ومذْكار وقتيل، ولأن المذكر قد يُسمّى بمؤنث وبالعكس، فاحتاطت العرب في الدلالة على تأنيث الفاعل بوصل الفعل بالتاء المذكورة، ليُعلم من أوّل وَهلة أن الفاعل وما جرى مجراه مؤنث كقولك طَهُرتْ الجنُبُ، وكانت الرَّبْعة حائضا وشنئت الهُمَزةُ.
وجعلوا إلحاقها في اللغة المشهورة لازما إن كان المسند إليه ضميرا متصلا حقيقي التأنيث أو مجازيّه كهند قامتْ والدار حَسُنتْ، أو كان ظاهرا متصلا حقيقي التأنيث مفردا أو مثنى أو مجموعا جمع تصحيح كقامتْ هندُ وقعدتْ بنتاها وذهبتْ عمّاتُها.
وأشرت "بمؤول به" إلى نحو: أتته كتابي، على تأويل كتاب بصحيفة. وأشرت "بمخبر به عنه" إلى نحو قول الشاعر:
ألمْ يكُ عُذْرًا ما فَعلتم بِشَمْعل
…
وقد خابَ من كانت سريرته الغَدْرُ
فوصل كان بالتاء وهي مسندة إلى الغدر، لأن الخبر مؤنث فسرى منه التأنيث إلى المخبر عنه، لأن كلا منهما عبارة عن الآخر. ومثله قراءة نافع وأبي عمرو وأبي بكر:"ثُمّ لم تكنْ فِتنتَهم إلّا أن قالوا" فألحق تاء التأنيث بالفعل وهو مسند إلى القول، لأن الخبر مؤنث. وأشرت بـ"مضاف إليه مقدر الحذف" إلى قول الشاعر:
مَشَيْنَ كما اهتَزَّتْ رماحٌ تسفّهتْ
…
أعاليَها مَرُّ الرياحِ النواسمِ
فألحق التاء بتسفهت وهو مسند إلى "مرّ" لإضافتها إلى مؤنث لاستقامة الكلام بحذفه، فلو لم يستقم الكلام بالحذف لم يجز التأنيث نحو قام غلام هند. واحترزت بقولي "ولا تحذف غالبا" من نحو قول بعض العرب قال فلانة، وذهب فلانة، حكاهما سيبويه. وعلى هذه اللغة جاء قول لبيد:
تمَنَّى ابنتايَ أنْ يعيشَ أبُوهما
…
وهلْ أنا إلا من رَبيعةَ أو مضرْ
لأن الإسناد إلى المثنى كالإسناد إلى المفرد بلا خلاف. واحترزت أيضا من حذف بعض الشعراء التاء من المسند إلى ضمير المؤنث، كقول الشاعر:
فلا مُزْنَةٌ ودَقَتْ وَدْقَها
…
ولا أرضَ أبقَلَ إبْقالَها
وكقول الآخر:
فإمّا تَرَيْني ولِي لمَّةٌ
…
فإن الحوادثَ أوْدى بها
وبعض النحويين يحملون ما ورد من هذا على التأويل بمذكر، فيتأول "أرض" بمكان والحوادث بالحدثان: وقيدت الضمير بالاتصال احترازا من نحو ما قام إلا أنت، فإن إلحاق التاء في هذا ضعيف. وقيّدت الظاهر الحقيقي التأنيث بالاتصال تنبيها على نحو قول الشاعر:
إنّ أمرَأ غرّه منكنّ واحدةٌ
…
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ
وليس مخصوصا بالشعر؛ فإن سيبويه حكى: حضر القاضيَ امرأةٌ وقال: "إذا طال الكلام كان الحذف أجمل". ونبّهت بقولي "غير مكسّر" على أن حكم التاء في جمع تصحيح المؤنث كحكمها في مفرده ومثناه، فلا يقال قام الهندات، وإلا على لغة من قال: قال فلانة، لأن لفظ الواحد وجمع التصحيح على الحال التي كان عليها في الإفراد والتثنية، فيتنزّل قولك: قامتْ الهنداتُ، منزلة قولك: قامتْ هند وهند وهند، هذا هو الصحيح.
وعلى هذا لا يجوز: قامت الزيدون، لأنه بمنزلة قام زيد وزيد وزيد،
ولا يُستباح" قامتْ الزيدون، بقول الشاعر: قالت بنو عامر خالوا بني أسد
ولا يُستباح قال الهندات بقول الآخر: فبكى بناتي شَجْوَهنَّ وقُلْنَ لي
لأن بنين وبنات لم يسلَم فيهما نظم الواحد، فجريا مجرى جمع التكسير.
وظاهر قول الجزولي جواز قامت الزيدون، وقام الهندات، لأنه قال قاصدا للتاء: ولا تلزم في الجمع مطلقا. قال الشلوبين: يعني بقوله مطلقا سواء كان جمع تكسير أو جمع سلامة وسواء كان جمع مؤنث حقيقي أو غير حقيقي، وسواء كان جمع مذكر أو مؤنث، جمع تكسير كان ذلك أو جمع سلامة. ثم قال الشلوبين: ليس كما ذكره المؤلف في مذهب المحققين، إلا في جمع التكسير واسم الجمع. أما جمع المؤنث السالم نحو قامتْ الهندات فحكمه حكم المفرد والمثنى، وكذلك حكم جمع المذكر السالم حكم المفرد منه أيضا.
قلتُ: لا عدولَ عمّا ذهب إليه الشيخ أبو علي الشلوبين في هذه المسألة، من أنه لا يجوز قامت الزيدون ولا قام الهندات إلا على لغة من قال: قال فلانة. وأما قوله تعالى: (إذا جاءكم المؤمناتُ) فمن أجل الفصل بالمفعول، مع أن
مؤمنات صلة الألف واللام، والألف واللام بمعنى التي وهي اسم جمع والفعل مسند إليه فلا تلزم التاء، ولا خلاف في أن المثنى كالواحد، ولذلك جُعل قول لبيد: تمنّى ابنتايَ، مثل: قال فلانة، ولا خلاف أيضا في أن جمع التكسير كالواحد المجازي التأنيث وإن كان واحده حقيقي التأنيث كجوارٍ، واسم الجمع كفَوْج، واسم الجنس كنسْوة.
ويدخل في اسم الجنس فاعل نعم، فلذلك يقول: نعْم المرأةُ من لا يقول: قام المرأة. وقولي "ولحاقها مع الحقيقي المقيد" نبهت به على أن الفصل بين الفعل والفاعل يبيح حذف التاء من فعل ما حقه أن يلازم فعله التاء، وأن الفصل إن كان بغير "إلا" فلحاق التاء أجود، وإن كان بإلا فإسقاطها أجود. وبعض النحويين لا يجيزون ثبوت التاء مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول الراجز:
ما برئتْ من ريبة وذمِّ
…
في حربنا إلا بناتُ العمِّ
والصحيح جوازها في غير الشعر، ولكن على ضعف. ومنه قراءة مالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري بخلاف عنه "فأصبحوا لا تُرى إلا مساكنُهم" ذكرها أبو الفتح بن جني وقال إنها ضعيفة في العربية. وإلى نحو هذا أشرت بقولي "وإن فصل بها فبالعكس"، أي إن فصل بإلا فالحذف أجود من لحاقها. ثم بينت أن حكمها مع جمع التكسير ومع جمع المذكر بالألف والتاء حكمها مع الواحد المجازي التأنيث، ولا اعتبار بواحده، بلى يستوي ما واحده مذكر كغلمان وبيوت، وما واحده مؤنث كإماء ودور، وكذا حكمها مع جمع المذكر بالألف والتاء كطلحات
ودريهمات وحسامات وحمّامات. ثم بينت أن حكمها مع جمع التصحيح الذي ليس كطلحات ولا دريهمات ولا حسامات حكمها مع واحده، فعلى هذا لا تلحق في قام الزيدون كما لا تلحق في قام زيد، ولا تحذف في قامت الهندات كما لا تحذف في قامت هند، إلا على لغة من قال: قال فلانة. وقد تقدم بسط القول في ذلك.
ثم بيّنت أن البنين والبنات حكم التاء معهما حكمها مع الأبناء والإماء فيقال: جاء البنون، وجاءت البنات، وجاء البنات، كما يقال جاء الأبناء وجاءت الأبناء وجاءت الإماء وجاء الإماء؛ لأن نظم الواحد لم يسلم فيهما فجريا مجرى الجمع المكسّر.
ثم بينت أن التاء الصفة الفارقة حكمها حكم تاء فعلتْ في اللزوم وعدمه، فكما تلزم تاء ذهبتْ جاريتاك، والشمسُ طلعت، كذلك تلزم تاء أذاهبة جاريتاك والشمس طالعة. وكما جاز الوجهان في: سمعت أذناك كذلك يجوز الوجهان في أسامعة أذناك. ثم بينت أن تاء المضارعة الدالة على التأنيث حكمها حكم تاء فعلتْ في جميع ما ذكر، فكما قيل قامت هند والنار اضطرمتْ، بلزوم التأنيث في اللغة المشهورة كذلك يقال تقوم هند والنار تضطرم، وكما جاز اضطرم النار واضطرمت النار، يجوز اضطرم النار وتضطرم النار، وكما جاز للفصل حضر القاضيَ امرأةٌ، يجوز للفصل يحضر القاضي امرأةٌ. وكما ضعف.
ما برئت من ريبة وذمّ
…
في حربنا إلا بنات العمّ
ضعف نحو "لا تُرى إلا مساكنُهم". وما عومل به: ولا أرض أبقل إبقالها – يعامل بمثله أحد المضارعين في قول ذي الرمة:
وهل يَرجعُ التسلمُ أو يكشفُ العمى
…
ثلاثُ الأثافي والرسوم البلاقعُ
لأن أحدهما مسند إلى ثلاث والآخر مسند إلى ضميره، والرواية فيهما بالياء.
ص: وقد يلحق الفعل المسند إلى ما ليس واحدا من ظاهر أو ضمير منفصل علامة كضميره.
ش: إذا تقدم الفعل على المسند إليه فاللغة المشهورة ألا تلحقه علامة تثنية ولا جمع بل يكون لفظه قبل غير الواحد والواحدة كلفظه قبلهما. ومن العرب من يوليه قبل الاثنين ألفا، وقبل المذكرين واوا، وقبل الإناث نونا مدلولا بها على حال الفاعل الآتي قبل أن يأتي، كما دلتْ تاء فعلتْ هند على تأنيث الفاعلة قبل أن يذكر اسمها.
والعلم على هذه اللغة قول بعض العرب: أكلوني البراغيث. وقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار" وعلى هذه اللغة قول الشاعر يرثي مصعب بن الزبير رضي الله عنهما:
لقد أوْرث المِصْرَيْن خِزْيا وذلةً
…
قتيلٌ بدَيْر الجاثَليق مُقيمُ
تولَّى قتال المارِقين بنفسِه
…
وقد أسْلماه مُبْعَدٌ وحَميمُ
ومثله قول الآخر:
بني الأرض قد كانوا بَنِيَّ فعَزَّني
…
عليهم لآجال المنايا كتابُها
ومثله:
نصرُوكَ قومي فاعتززتَ بنصْرهم
…
ولو أنّهم خذلوك كنتَ ذليلا
ومثله:
نُسِيا حاتمٌ وأوسٌ لدُنْ فا
…
ضتْ عطاياك يا ابن عبد العزيز
ومثله:
نُتِج الربيعُ محاسنا
…
ألقحنها غُرُّ السحائبْ
ومثله:
رأينَ الغواني الشيبَ لاح بمفرقي
…
فأعرضْنَ عنّي بالخدود النواضِرِ
وبعض النحويين يجعل ما ورد من هذا خبرا مقدما ومبتدأ مؤخرا، وبعضهم يبدل ما بعد الألف والواو والنون منهنّ، على أنها أسماء مسند إليها. وهذا غير ممتنع إن كان من سُمع ذلك منه من أهل غير اللغة المذكورة. وأما أن يُحمل جميع ما ورد من ذلك على أن الألف والواو والنون فيه ضمائر فغير صحيح، لأن أئمة هذا العلم متفقون على أن ذلك لغة لقوم من العرب مخصوصين فوجب تصديقهم في ذلك كما تصدقهم في غيره، والله أعلم. ومن التزم التاء في قامت هند، وهي اللغة المشهورة
فلا يستغنى في نحو قامت الهندات عن التاء والنون الحرفية. وإلى ذلك أشرت بقولي: "وتساويها في اللزوم وعدمه تاء مضارع الغائبة ونون التأنيث الحرفية".
ص: "ويضمر جوازا فعل الفاعل المشعر به ما قبله، والمجاب به نفي أو استفهام، ولا يحذف الفاعل إلا مع رافعه المدلول عليه، ويرفع توهم الحذف إن خفي الفاعل جعله مصدرا منويا أو نحو ذلك".
ش: حق الفعل والفاعل أن يكونا كالمبتدأ والخبر في منع حذف أحدهما بلا دليل، وجواز حذفه بدليل؛ لأن الفعل كالمبتدأ في كونه أول الجزءين، والفاعل كالخبر في كونه ثاني الجزءين فسلك بالفعل سبيل المبتدأ في جواز الحذف، وعرض للفاعل مانع من مفارقته الخبر في جواز الحذف، وهو كونه كعجز المركب في الامتزاج بمتلوّه ولزوم تأخره، وكونه كالصلة في عدم تأثره بعامل متلوه، وكالمضاف إليه في أنه معتمد البيان بخلاف خبر المبتدأ فإنه مباين لعجز المركب وللصلة وللمضاف إليه فيما ذكر، لأنه غير ممتزج بمتلوه ولا لازم التأخر ويتأثر بعامل متلوه وهو معتمد الفائدة لا معتمد البيان. وأيضا فإن من الفاعل ما يستتر، فلو حذف في بعض المواضع لالتبس الحذف بالاستتار، والخبر لا يستتر، وإذا حذف لدليل أُمِنَ التباس كونه مستترا.
ومن إضمار فعل الفاعل لكون ما قبله مشعرا به قراءة ابن عامر وأبي بكر: (يُسَبَّحُ له فيها بالغدون والآصالِ رجالٌ)؟ فرجال فاعل يُسَبِّحُ مضمرا لإشعار يُسَبَّحُ به مع عدم صلاحية إسناده هو إليهم، لأن الرجال لا يكونون مُسَبَّحين بل مُسَبِّحين، فلا يجوز هذا الاستعمال إلا فيما كان هكذا. فلو قيل يُوعَظ في المسجد رجالٌ جازَ لعدم اللبس. ومن الجائز لعدم اللبس قول الشاعر:
لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصُومة
…
ومُخْتبطٌ مِمّا تُطيحُ الطوائحُ
ومثله قول الآخر:
حمامةَ بَطْنِ الوادِيَيْن ترنمى
…
سُقيتِ من الغُرّ الغوادِيَ مطيرُها
هكذا رواه الحفّاظ. ومن قال: سَقاكِ فتاركٌ للرواية آخذٌ بالرأي.
ومن حذف فعل الفاعل قول عائشة رضي الله عنها: "فما أستطيعُ أنْ أقضيَه إلا في شعبان الشُغْلُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم". أي يمنعني الشغل من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن إضمار فعل الفاعل لكون ما قبله يشعر به قول الشاعر:
أرى الأيامَ لا تُبقي كريما
…
ولا العُصْمَ الأوابدَ والنّعاما
ولا عِلْجانِ ينتابان رَوْضا
…
نضيرا نبتُه عُمّا تؤاما
فعلجان فاعل يبقى مضمرا لإشعار تُبقى به. ومثله:
غَداةَ أحلّتْ لابن أصْرمَ طعنةٌ
…
حُصَينٍ عَبيطاتِ السدائف والخمرُ
فالخمر فاعل حَلَّتْ مضمرا لإشعار أحلت به. ومثله:
ولم يُبْق أنْواء الثماني بقيَّةً
…
من الرَّطْب إلّا بَطْنُ وادٍ وحاجِرُ
أنشده أبو علي في التذكرة وقال: رفع على معنى بَقى بطنُ واد وحاجر. ومن إضمار فعل الفاعل المجاب به [نفى] قولك: ما جاء أحد: بلى زيدٌ، تريد بلى جاء زيد. ومثله قول الشاعر:
تجلّدتُ حتى قيل لم يَعْرُ قلبَه
…
من الوجد شيء، قلتُ: بل أعظمُ الوَجدِ
أراد بل عزاه أعظم الوجد. ومثال إضمار فعل الفاعل المجاب به استفهام ظاهر قولك: نعم زيد لمن قال: هل جاءك زيد؟. ومثله قول الشاعر:
ألا هل أتى أمَّ الحُويرث مُرسلي
…
نعمْ خالدٌ، إن لم تَعُقْه العوائقُ
أراد نعم أتاها خالد. فمثل هذا لا يرتاب في أن المجاب به مرفوع بفعل مقدر، لأنه جواب جملة قدم فيها الفعل، وحق الجواب أن يشاكل ما هو له جواب. فإن كانت جملة الاستفهام مؤخرا فيها الفعل فحق المجاب به من جهة القياس أن يؤخر فيه الفعل لتتشاكل الجملتان.
هذا مقتضى النظر لولا أن الاستعمال بخلافه، وذلك أن جواب الاستفهام المقدم فيه الاسم لا يجيء مكملا إلا والفعل فيه مقدم على الاسم كقوله تعالى:(ولئنْ سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنَّ خلقهنّ العزيز العليم). وكقوله تعالى: (يسألونكَ ماذا أُحِلَّ لهم قلْ أحِل لكم الطيبات). وكقوله تعالى: (قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرّة).
وينبغي إذا اقتصر في الجواب على الاسم أن يقدر الفعل متقدما، لأن المكمل أصل والمختصر فرع، فتسلك بالفرع سبيل الأصل، ولأن موافقة العرب بتقدير تقديم الفعل متيقنة وموافقتهم بتقدير تأخيره مشكوك فيها، فلا عدول عن تقدير التقديم. ولما جرى به الاستعمال من تقديم الفعل في الجواب المكمل وجه من النظر، وهو أن حق الجملة الاستفهامية إذا كان فيها فعل أن يقدم لأنه بمباشرة الاستفهام أولى من الاسم، فلما لم يكن ذلك في نحو من فعل لاتحاد المستفهم به والمستفهم عنه جيء بالجواب مقدما فيه الفعل، تنبيها على أن أصل ما هو له جواب أن يكون كذلك، ومع هذا فالحكم بالابتداء على الاسم المجاب به نفي أو استفهام غير ممتنع، لأن مشاكلة الجواب لما هو له جواب في اللفظ غير لازمة، بل قد يكتفى فيه بمراعاة المعنى.
ومنه قراءة غير أبي عمرو من السبعة: (قل من ربُّ السمواتِ السبع وربُّ العرش العظيم * سيقولون الله قل أفلا تتقون *قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله). وقد تقدم السبب في منع حذف الفاعل وبقاء فعله.
وأما حذفه وحذف فعله فكثير كقولك: زيدا، لمن قال: من أكرمُ؟ فحذفت أكرم وهو فعل أمر مسند إلى ضمير المخاطب فاشتمل الحذف عليهما ونظائر ذلك كثيرة. وإذا توهم حذف فاعل فعل موجود فلا سبيل إلى الحكم بحذفه، بل يقدر إسناده إلى مدلول عليه من اللفظ والمعنى كقول الشاعر:
تمشي تَبَخْتَرث حول البيت مُنتَخِيا
…
لو كنتَ عمَّ ابنِ عبد الله لم يَزِد
أي لم يزد انتخاؤك. كذا قال أبو علي، وكقوله تعالى:(ثم بدا لهم من بعد ما رأو الآيات ليسجُنُنَّهُ).
قيل إن المعنى: بدا لهم بداء. كما قال: بدا لك في تلك القَلوص بداءُ
أي ظهر لك فيها رأي. ولا يجوز مثل هذا الإسناد إلى مصدر الفعل حتى يشعر برأى مثل ظهر وبان وتبيّن، أو يكون الفعل فعل استثناء كقاموا ما عدا زيدا وخلا عمرا وحشا بكرا. ومن الإسناد إلى مدلول عليه قول الشاعر:
أقولُ إذا ما الطيرُ مرّت مخيلةً
…
لعلك يوما فانتظرْ أنْ تنالها
أأدرك من أمِّ الحُويرث غبطةً
…
بها خَبَّرتْني الطيرُ أم قد أنى لها
أي أنى لها ألَّا أدرك، لأن ذكر أم بعد الهمزة التي وليها أحد الضدين مشعر بأن ثانيهما مراد. وهذا شبيه بقوله تعالى:(وما يُعَمَّرُ من معمر ولا ينقص من عمره) لأن ذكر المعمّر مشعر بمقابله وهو القصير العمر، فأعيدت هاء عمره إليه ولم يذكر لإشعار مقابله. ومثله قول الآخر:
وما أدري إذا يمَّمْتُ أرضا
…
أريدُ الخيرَ أيُّهما يلِيني
فثنى الضمير قاصدا للخير والشر ولم يجر إلا ذكر أحدهما، ولكن الإشعار بما لم يذكره بمنزلة ذكره. ومن الإسناد إلى مدلول عليه قول بعض العرب: إذا كان غدا فائتني، أي إذا كان غدا ما نحن عليه الآن فائتني. ومثله قول الشاعر:
فإنْ كان لا يُرضيكَ حتّى ترُدّني
…
إلى قَطَرِيّ لا إخالَك راضِيا
أي إن كان لا يرضيك ما تشاهده منّي
…
ومن الفاعل المؤول قوله تعالى: (وتبَيَّنَ لكم كيف فعلنا بهم) ففاعل تبين مضمون كيف فعلنا كأنه قال وتبيّن لكم كيفيةُ فعلنا بهم. وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل، كما جاز في باب الابتداء نحو:(سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فإنه أُوّل سواء عليهم الإنذارُ وعدمه كما جاز في هذا الباب أن يقال:
ما ضَرَّ تغلبَ وائلٍ أهَجَوْتَها
على تأويل ما ضرّها هَجْوُك إياها. ومثل (وتبين لكم كيف فعلنا بهم): (أفلم يهد لهم كم أهلكنا) على تأويل أو لم يَهْد لهم كثرةُ إهلاكنا.
ومن الإسناد إلى مدلول عليه قوله تعالى (إذا أخرج يده لم يكد يراها) ففاعل أخرج ضمير الواقع في البحر الموصوف ولم يجر له ذكر، لكن سياق الكلام يدل عليه. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو