المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٢

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا

تبيين دخول الهمزة على أفعال غير ذلك الباب. وبيّنت باستثناء المتعدي إلى اثنين أن كسوت ونحوه من الثلاثي المتعدي إلى اثنين لا تدخل عليه همزة النقل ولا يضعّف عينه على الفصل المشار إليه. وقد تقدم الكلام بأن امتناع هذا في غير باب علم مُجْمَع عليه. ومثال ما ازداد مفعولا بعد تعدّيه إلى واحد أكفلتُ زيدا عمرا وكفّلته إيّاه، وأغشيتُ الشيءَ الشيءَ وغشّيته إياه. ومثال الصائر متديا بعد أن كان لازما أنزلت الشيء ونزلته، وأبنته وبيّنته وهذا من التعاقب الكثير بين الهمزة وتضعيف العين.

ومن التضعيف المغني عن الهمزة قرّبتُ الشيءَ وهيَّاته وحَكّمت فلانا وطهّرت الشيءَ ونظّفته وسلّمته وأخّرته وحصّلته. وهذا النوع المستغنى فيه عن أفْعَل بفعّل مع كثرة مثله قليل بالنسبة إلى النوع المستغنى فيه عن فعّل بأفعل، ولذلك وجد في أفعل ما يتعدّى إلى ثلاثة دون حَمْل على غيره، ولم يوجد ذلك في فعّلَ إلّا نبّأ وحَدَّث وهما محمولان على أعلم بتضمين معناها.

ومما يبين لك أن أفعل أمكن من فعّل فيما اشتركا فيه استغناؤهم بأفعل لزوما فيما عينه همزة كأمأيت وأثأيت، وغلبت فيما عينه حرف حلق غير همزة كأذهبته وأوهبته وأرهقته وأزهقته وأصحرته وألحمته وأسعده وأسعفه وأوغره وأوغله وأدخله وأسخنه. وقد يتعاقب في هذا النوع أفعل وفعّل نحو أوهنه ووهّنه، وأمهله ومهّله، وأنعمه ونعّمه وأبعدَه وبعّده، وأضعفه وضعفّه.

‌باب تنازع العاملين فصاعدا معمولا واحدا

ص: إذا تعلّق عاملان من الفعل وشبهه متفقان لغير توكيد، أو مختلفان بما تأخر غير سببيّ مرفوع عمل فيه أحدهما لا كلاهما خلافًا للفراء في نحو قام وقعد زيدٌ. والأحقُّ بالعمل الأقربُ لا الأسْبقُ خلافا للكوفيين.

ش: العامل من الفعل وشبهه يتناول المتنازعين بعطف وغير عطف، فعلين

ص: 164

كانا نحو (آتوني أُفْرِغْ عليه قطرا) أو فعلا واسما نحو (هاؤُمُ اقرءوا كتابيه) أو اسمين نحو أنا مكرم ومفضِّل زيدا. والعاملان في هذه الأمثلة متفقان في العمل. ومثال اختلافهما فعلين أكرمتُ ويُكرمني زيدٌ. ومثال اختلافهما اسمين أنا مُكرم ومحسنٌ إلى زيد. ومثال اختلافهما فعلا واسما أنت مكرم فيشكرك زيد. وهذا كله على إعمال الثاني.

ولو أعملت الأول لقلت أكرمتُ ويكرمني زيدا، وهل أنت مكرم فيشكرك زيدا بإضمار فاعلي مكرِم ويشكُر. ولو أعملت الأول في مسألة أنا مكرم لقلت أنا مكرِم ومحسن إليه زيدا. ومن إعمال الأول والعاملان اسمان قول الشاعر:

وإنّي وإنْ صَدَّتْ لمَثْنٍ وصادِقٌ

عليها بما كانت إلينا أزلّتِ

فلو كان ثاني العاملين مؤكدا لكان في حكم الساقط كقول الشاعر:

أتاك أتاك اللاحقون احْبِسِ احْبِسِ

فأتاك الثاني توكيدا للأول، فلذلك لك أن تنسب العمل إليهما لكونهما شيئا واحدا في اللفظ والمعنى، ولك أن تنسبه للأول وتُلغي الثاني لفظا ومعنى لتنزّله منزلة حرف زيد للتوكيد، فلا اعتداد به على التقديرين. ولولا عدم الاعتداد به لقيل أتاك أتوك اللاحقون، أو أتوك أتاك اللاحقون وإلى هذا ونحوه أشرت بقولي "متفقان لغير توكيد". وفي قولي "بما تأخر" تنبيه على أن مطلوب المتنازعين لا يكون إلا متأخرا، لأنك إذا قلت زيد أكرمته ويكرمني، وزيد هل أنت مكرمه فيشكرك، وزيد أنا مكرمه ومُحسن إليه أخذ كل واحد من العاملين مطلوبه ولم يتنازعا.

ونبهت بقولي "غير سببي مَرفوع" على أن نحو زيد منطلق مسرع أخوه لا يجوز

ص: 165

فيه تنازع، لأنك لو قصدت فيه التنازع أسندت أحد العاملين إلى السّببيّ وهو الأخ وأسندت الآخر إلى ضميره فيلزم عدم ارتباطه بالمبتدأ، لأنه لم يرفع ضميره ولاما التبس بضميره، ولا سبيل إلى إجازة ذلك. فإن سمع مثله حُمل على أن المتأخر مبتدأ مخبر عنه بالعاملين المتقدمين عليه، وفي كل واحد منهما ضمير مرفوع وهما وما بعدهما خبر عن الأول. ومنه قول كثير:

قضى كلُّ ذي دَيْنٍ فوَفَّى غَريمَه

وعَزَّةُ مَمْطولٌ مُعَنّى غريمُها

أراد: وعزة غريمها ممطول معنى.

وفي تقييد السببي بمرفوع تنبه على أن السببي غير المرفوع لا يمتنع من التنازع كقولك زيد أكرمَ وأفضلَ أخاه. وجعل الفراء الرفع في نحو قام وقعد زيد بالفعلين معا. والذي ذهب إليه غير مستبعد فإنه نظير قولك زيد وعمرو منطلقان، على مذهب سيبويه، فإن خبر المبتدأ عنده مرفوع بما هو له خبر، فيلزمه أن يكون منطلقان مرفوعا بالمعطوف والمعطوف عليه، لأنهما يقتضيانه معا. ويمكن أن يكون على مذهبه قول الشاعر:

إنَّ الرِغاث إذا تكون وديعةً

يُمْسِي ويُصْبح دَرُّها ممحوقا

فلو كان العطف بأو ونحوها مما لا يجمع بين الشيئين لم يجز أن يشترك العاملان في العمل كقول الشاعر:

وهل يَرجعُ التسليمَ أو يكشفُ العمى

ثلاثُ الأثافي والرسومُ البَلاقعُ

وليس هذا من التنازع. ولو كان منه لكان أحد الفعلين بتاء، لأن فاعله على ذلك التقدير ضمير مؤنث، وإنما عمل على أنه أراد وهل يرجع التسليم ما أشاهد،

ص: 166

واستغنى بالإشارة كما قالوا إذا كان غدا فائتني، أي إذا كان ما نحن عليه فأتني، ثم أبدل ثلاث الأثافي من المضير المنويّ.

ومذهب البصريين ترجيح إعمال الثاني على الأول. ومذهب الكوفيين العكس، وما ذهب إليه البصريون هو الصحيح، لأن إعمال الثاني أكثر في الكلام من إعمال الأول، وموافقة الأكثر أولى من موافقة الأقل. ومما يبين لك أن إعمال الأول قليل قول سيبويه: ولو لم تجعل الكلام على الآخر لقلت ضربت وضربوني قومك وإنما كلامهم ضربت وضربني قومك. وهذا حكاية عن العرب بالحصر بإنما وظاهره أنهم يلتزمون ذلك دون إجازة غيره.

لكنه قال في الباب بعد هذه العبارة بأسطار: وقد يجوز ضربت وضربني زيدا لأن بعضهم قد يقول متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، والوجه متى رأيت أو قلت زيد منطلق، فدل نقل سيبويه مجردا عن الرأي على أن إعمال الثاني هو الكثير في كلام العرب، وأن إعمال الأول قليل، ومع قلته لا يكاد يوجد في غير الشعر بخلاف إعمال الثاني فإنه كثير الاستعمال في النثر والنظم، وقد تضمنه القرآن المجيد في مواضع كثيرة منها قوله تعالى:(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) وقوله تعالى (آتوني أفرغ عليه قطرا) وقوله تعالى: (و [أمّا] الذين كفروا وكذَّبوا بآياتنا) وقوله تعالى: (تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله) وقوله تعالى: (هاؤُمُ اقرءوا كتابِيَهْ) وقوله تعالى: (وأنهم ظَنُّوا كما ظننتم أنْ لن يبعث الله أحدا) وهذا كله من إعمال الثاني.

ص: 167

ولو كان في غير القرآن لقيل: قل الله يفتيكم فيها في الكلالة، وآتوني أفرغه عليه قطرا، والذين كفروا وكذبوا بها بآياتنا، وتعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وهاؤم اقرءوهُ كتابيه، وأنهم ظنوا كما ظننتموه أن لن يبعث الله أحدا، لأن المعمول مقدر الاتصال بعامله فيلزم من ذلك تقدير تقدمه على العامل الثاني، ولو كان في اللفظ كذلك لاتصل به ضمير المفعول على الأجود نحو آتوني أفرغه عليه. وإذا نوى ذلك كان إبراز الضمير (أولى) لأن الحاجة أدعى.

وفي الحديث: "لعَنَ أو غَضب على سِبْط من بني إسرائيلَ فَمَسَخَهم". وهذا من أفصح الكلام وقد أعمل فيه الثاني، ولو أعمل الأولى لقيل: إن الله لعن أو غضب عليهم سبطا. ومما يدل على ترجيح إعمال الأقرب إذا كان ثانيا التزام إعماله إذا كان ثالثا أو فوق ذلك بالاستقراء، ولا يوجد إعمال غيره، ومن أجازه فمستنده الرأي. ومنه: اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، وارحم محمدا وآل محمد، وباركْ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت ورحِمت وباركْتَ على إبراهيم. ولو أعمل الأول لقيل كما صلّيت ورحمتهم وباركت عليهم على آل إبراهيم. ومثله قول الشاعر:

جِئ ثم حالِف وثِق بالقوم إنَّهم

لِمَنْ أجاروا ذوُو عزٍّ بلا هُونِ

وفي لزوم إعمال الأقرب إذا كان ثالثا دلالة بيّنة على رجحان إعماله إذا كان ثانيا.

ومما يدل على رجحان إعمال الثاني أنه مخلّص من ثلاثة أشياء منفّرة يستلزمها إعمال الأول أحدها كثرة الضمير كما رأيت في مسألة "صليت ورحمتهم وباركت عليهم". الثاني توالي حروف الجر نحو نبئت كما نبئت عنه عن زيد بخير. الثالث الفصل بين الفعل العامل والمعمول، والعطف على العامل قبل ذكر معموله.

ص: 168

ومما يدل على رجحان الثاني أنه موافق لما تؤثره العرب من التعليق بالأقرب والحمل عليه، وإن لزم من ذلك تفضيل زائد على غير زائد نحو خشّنت بصدره وصدر زيد، ففضّلوا جرّ المعطوف حملا على عمل الباء لقربها وإن كانت زائدة على نصبه حملا على خشّنت لبعده وإن لم يكن زائدا. ومما يدل على رجحان إعمال الثاني أن فيه تخلصا من الإخلال بحقّ ذي حقّ، وذلك أن لكل واحد من العاملين قسطا من عناية المتكلم، فإذا قدّم أحدهما وأعمل الآخر عدل بينهما، لأن التقديم اعتناء، والإعمال اعتناء، وإذا أعمل المتقدّم لم يبقِ للمؤخّر قسط من العناية، فكان المخلّص من ذلك راجحا.

ورجح بعض الناس إعمال السابق بثلاثة أشياء أحدها أن ترجيحه موافق لما أجمعت العرب عليه من مراعاة السابق في قولهم: ثلاث من البطّ ذكور، وثلاثة ذكور من البط، فآثروا مقتضى البط لسبقه فأسقطوا التاء، وآثروا مقتضى الذكور لسبقه فأثبتوا التاء. الثاني أن إعمال السابق مخلّص من تقديم ضمير على مفسّر مؤخر لفظا ورتبة في نحو ضربوني وضربت قومك. الثالث أن إعمال السابق موافق لما أجمع عليه في اجتماع القسم والشرط، فإن جواب السابق منهما مُغْنٍ عن جواب الثاني، فلْيكن عمل السابق من المتنازعين مغنيا عن عمل الثاني.

والجواب عن الأول أن يُقال لم يُعتبر في ترجيح ثاني المتنازعين كونه ثانيا، بل كونه قريبا من محل التأثير. ومسألة العدد المذكورة معتبر فيها أيضا القرب، واتفق مع القُرب سبقٌ فالأثر له، ولا يلزم منه مراعاة سابق بعيد. وعن الثاني أن تقديم الضمير إذا كان على شريطة التفسير مجمع على جوازه في باب نعم كقول الشاعر.

نِعْم امرأ هَرِمٌ لم تَعْرُ نائبةٌ

إلّا وكان لمُرْتاعٍ بها وَزَرا

وفي باب رُبَّ كقول الشاعر:

واهٍ رأبتُ وشيكا صَدْعَ أعْظُمِه

ورُبَّه عاطِبا أنْقذتُ مِن عَطَبِهْ

ص: 169

وفي باب البدل كقول بعض العرب: اللهم صلّ عليه الرءوف الرحيم، وفي باب الابتداء ونواسخه نحو:(قل هو الله أحدٌ) و: (إنّه مَن يأتِ ربَّه مجرما فإنّ له جهنّم) فلجوازه في باب مسائل التنازع أسوةٌ بتلك المواضع قياسا لو لم يثبت به سماع. فكيف وقد سمع في الكلام الفصيح كقول الشاعر:

جَفوني ولم أجْفُ الأخِلّاءَ إنَّني

لغيرِ جميلٍ مِن خليلَي مُهْمِلُ

وكقوله:

هَوِينني وهوِيتُ الخُرَّدَ العُرُبا

أزمانَ كنتُ مَنوطا في هَوًى وصِبا

ومثله:

خالفاني ولم أخالِفْ خَليلي

يَ فلا خيرَ في خلافِ الخليلِ

والجواب عن الثالث أن يقال كان مقتضى الدليل أن يستغنى بجواب المتأخر منهما لقربه من محل الجواب إلا أن المتأخر منهما إذا كان هو القسم كان مؤكّدت للشرط غير مقصود لنفسه بدلالة عدم نقصان الفائدة بتقديره حذفه. وإذا كان مؤكدا غير مقصود لنفسه فلا اعتداد به، ولا صلاحية فيه لجعله ذا جواب منطوق به، بخلاف المؤكَّد فإنه مقصود لنفسه، ولذلك لا تتمّ الفائدة بتقدير حذفه، فأغنى عما هو من تمام معناه، فلما وجب هذا الاعتبار أغنى جعل الجواب للأول فيما إذا تأخر القسم وأجرى هذا المجرى ما أخّر فيه الشرط ليُسلك في اجتماعهما سبيل واحدة، لكن الشرط لعدم صلاحيته للسقوط أبدا فُضِّل على القَسَم لأمرين: أحدهما أنهما إذا اجتمعا بعد مبتدأ استغنى بجوابه، تقدّم على القسَم أو تقدّم القسم عليه. والثاني أن الشرط قد يغني جوابه بعد قَسَم لا مبتدأ قبله كقول الشاعر:

ص: 170

لئِنْ كان ما حُدِّثته اليومَ صادقا

أصُمْ في نهارِ القيْظ للشمسِ باديا

ولا يستغنى بجواب قسم متأخر أصلا. فقد علم بهذا الفرقُ بين اجتماع الشرط والقسم وبين تنازع العاملين وصح ما اخترناه والحمد لله تعالى.

ص: وتعمل الملغَى في ضمير المتنازع غالبا، فإن أدّت مطابقته إلى تخالف خبر ومخبر عنه فالإظهار. ويجوز حذف المضمر غير المرفوع ما لم يمنع مانع ولا يلزم حذفه أو تأخيره معمولا للأول خلافا لأكثرهم. بل حذفه إن لم يمنع مانع أولى من إبقائه متقدما ولا يحتاج غالبا إلى تأخره إلا في باب ظن.

ش: تناول قولي "ويعمل الملغَى في ضمير المتنازع" أن يكون أوّلا وأن يكون ثانيا وأن يكون المضمر مرفوعا ومنصوبا ومجرورا. فمثال ذلك في إلغاء الأول والمضمر مرفوع قول الشاعر:

جَفوني ولم أجفُ الأخلاءَ إنني

لغيرِ جميل من خليلي مهمِلُ

ومثال ذلك والمضمر منصوب قول الشاعر:

إذا كنتَ تُرضيه ويُرضيكَ صاحبٌ

جهارا فكنْ في الغيب أحفظ للعَهْدِ

وألْغ أحاديثَ الوُشاة فقلَّما

يُحاوِلُ واشٍ غير تغييرَ ذي وُدّ

ومثال ذلك والمضمر مجرور قول الشاعر:

وثقتُ بها وأخلفتْ أمُّ جُنْدُب

فزاد غرامَ القلبِ إخلافُها الوَعْدا

ومثال ذلك في إلغاء الثاني والضمير مرفوع قول الشاعر:

ص: 171

وقد نَغْنى بها ونرى عُصورا

بها يقْتَدْننا الخُرُدَ الخِدالا

ومثال ذلك والضمير منصوب قول الشاعر:

أساء ولم أجْزه عامر

فعاد بحِلمي له مُحْسِنا

ومثال ذلك والضمير مجرور قول الشاعر:

إذا هي لم تسْتَكْ بعود أراكةٍ

تُنُخِّلَ فاستاكتْ به عودُ إسْحِلِ

ومن المحتمل لإعمال الأول والثاني قول الشاعر:

على مثل أُهْبان تشقُّ جُيوبَها

وتُعْلِنُ بالنَّوحِ النساءُ الفواقدُ

وأكثر النحويين لا يجيزون ضربته وضربني زيد، ومررت به ولقيني عمرو، لاشتماله على تقديم ضمير هو فضلة على مفسر متأخر لفظا ورتبة. وإنما يغتفر ذلك في ضمير مرفوع لكونه عمدة غير صالح للاستغناء عنه. هذا تعليل المبرد ومَن وافقه من البصريين. وأما الكوفيون فلا فرق عندهم بين الفضلة والعمدة في المنع، فلا يجيزون ضربوني وضربت قومك، ولا ضربته وضربني زيد.

والصحيح جوازهما لثبوت السماع بذلك في الأبيات المتقدمة الذكر، إلا أن تقديم المرفوع أسوغ لكونه غير صالح للحذف، وقلّ تقديم غيره. وقد تقدّم في كتابي هذا بيان ما يدل على صحة ما ذهبتُ إليه في هذه المسألة فلا حاجة إلى إعادته وبعض من لا يجيز تقديم الضمير يلتزم تأخيره وإظهاره إن لم يستغن عنه نحو ظنني وظننت زيدا فاضلا وظنني وظننت زيدا فاضلا إياه. ومثال ما يُؤدي فيه مطابقة الضمير مفسره إلى تخالف خبر ومخبر عنه قولك: ظناني وظننت الزيدين

ص: 172

منطلقين، تريد ظناني منطلقا، وظننت الزيدين منطلقين. فإذا قلت كذا بإظهار ثاني مفعولي ظناني خلصت من أمرين ممتنعين، وذلك أنك إذا أضمرت فإما أن تراعي جانب المفسَّر فتثنى فتكون قد أخبرت بمثنى عن مفرد. وإما إن تراعي جانب المخبر عنه وهو ياء ظناني فتفرد فتكون قد أعدت ضميرا واحدا إلى مثنى، وكلاهما ممتنع فتعين الإظهار لتخلصه من ممتنع.

ووافق الكوفيون على جواز الإضمار، وأجازوا أيضا الإضمار مراعًى به جانب المخبر عنه كقولك: ظننت وظناني الزيدين قائمين إياه، لأن المثنى والجمع يتضمنان الواحد فعود الضمير إلى ما تضمنه جائز. وأجازوا أيضا الحذف كقولك ظننت وظناني الزيدين قائمين، تريد ظننت وظناني قائما الزيدين قائمين. فحذفت ثاني مفعولي ظناني لدلالة ثاني مفعولي ظننت عليه، كما جاز مثل ذلك في باب الابتداء. وأشرت بقولي "ويجوز حذف الضمير غير المرفوع" إلى جواز حذف الهاء ونحوها من نحو قولك ضربني وضربته زيد، ومرّ بي ومررت به زيد فيقال ضربني وضربت زيد، ومرّ بي ومررت زيد كم قال الشاعر:

يَرنو إليّ وأرْنو مَن أصادِقُه

في النائباتِ فأرضيه ويُرْضيني

وأشرت بقولي "ما لم يمنع مانع" إلى مثل مال عني وملت إليه زيد، فإن حذف الضمير منه غير جائز لإيهامه أن يكون المراد مال عنّي ومِلت عنه زيد. ومثل ذلك قول الشاعر:

مال عنّي تيهًا وملْتُ إليه

مُسْتعينا عمرو فكان مُعينا

وحذف الضمير غير المرفوع إن تقدم أحسن من بقائه، ما لم يكن عامله من باب ظن فيظهر مؤخرا، وكذا إن لم يكن من باب ظن وكان الحذف موقعا في لبس. ومثال ذلك والفعل من باب ظن حسبني وحسبت عمرا كريما إياه.

ص: 173

ومثاله والفعل من غير باب ظن استعنت واستعان عليّ به زيد. وإلى هذين وأمثالهما أشرت بقولي "ولا يحتاج غالبا إلى تأخيره إلا في باب ظن".

ص: وإنْ أُلغي الأول رافعا صح دون اشتراط تأخر الضمير خلافا للفراء، ولا حذفه خلافا للكسائي. ونحو ما قام وقعد إلّا زيد محمول على الحذف لا على التنازع خلافا لبعضهم.

ش: إلغاء العامل الأول وهو مُقتضٍ للرفع كقولك ضربوني وضربت قومك، فهذا الاستعمال جائز في مذهب البصريين ممتنع في مذهب الكوفيين، وتصحيحه عند الفراء بتأخير الضمير منفصلا كقولك ضربني وضربت قومك هم، وتصحيحه عند الكسائي بالحذف كقولك ضربني وضربت قومك، وربما استدل بقول الشاعر:

تعفّقَ بالأرْطى لها وأرادها

رجالٌ فبذَّتْ نَبْلَهم وكَلِيبُ

ولا دلالة فيه لإمكان جعله من باب إفراد ضمير الجماعة مؤولة بمفرد اللفظ مجموع المعنى قال سيبويه: فإن قلت ضربني وضربت قومك فجائز وهو قبيح أن تجعل اللفظ كالواحد كما تقول هو أجمل الفتيان وأحسنه، وأكرم بنيه وأنبلُه. ثم قال: كأنك قلت ضربني مَن ثَمّ وضربت قومك.

وما جاء من نحو ما قام وقعد إلا زيد، فليس من باب التنازع، وإنما هو من باب حذف المنفي العام بدلالة القرائن اللفظية عليه كقوله تعالى: (وإنْ من أهل

ص: 174

الكتاب إلّا لَيُؤمِنَنَّ به قبل موته) وكقوله تعالى: (وما منّا إلّا له مقامٌ معلومٌ) و: (وإنْ منكم إلّا ورادُها) وكقول الشاعر:

نجا سالمٌ والروحُ منه بشدقِه

ولم ينجُ إلّا جَفْن سَيْفٍ ومِئْزَرا

فالظاهر أنه أراد ولم ينج بشيء، فحذف لدلالة النفي والاستثناء بعده على منفيّ عامّ للمستثنى وغيره. ومن هذا القبيل (نحو) ما قام وقعد إلا زيد، على تأويل ما قام أحد ولا قعد إلا زيد، فحذف أحد لفظا واكتفى بقَصْده ودلالة النفي والاستثناء عليه، كما كان ذلك في الأبيات المذكورة، وفاعل قعد ضميرا لأحد المقدر ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث وإن كان ما بعد إلا مثنى أو مجموعا أو مؤنثا. ولو كان من باب التنازع لزم مطابقة الضمير في أحد الفعلين. ولو كان أيضا من باب التنازع لزم في نحو ما قام وقعد إلا أنا إعادة ضمير غائب على حاضر، ولزم أن يقال على إعمال الثاني ما قاموا وقعد إلا نحن. وعلى إعمال الأول ما قام وقعدوا إلا نحن. وكان يلزم من ذلك، إخلاء الفعل الملغَى من الإيجاب، لأن الفعل المنفي إنما يصير موجبا بمقارنة إلا معموله لفظا أو معنى، وعلى تقدير التنازع لم تقارن إلا معمول الملغَى لفظا ولا معنى فيلزم بقاؤه على النفي، والمقصود خلاف ذلك، فلا يصح الحكم بما أفضى إليه.

ويتعين الاعتراف بصحة الوجه الآخر لموافقته نظائر لا يشك في صحتها، ومن أظهر الشواهد على صحة الاستعمال المشار إليه قول الشاعر:

ما جاد رأيا ولا أجْدى محاولةً

إلا امرُؤٌ لم يضع دُنيا ولا دينا

ص: 175

ومثله:

ما صابَ قلبي وأصماه وتَيَّمهُ

إلّا كواكبُ من ذُهْلَ بن شيبانا

ص: ويُحكم في تنازع أكثر من عاملين بما تقدم من ترجيح بالقرب أو السبق، وبإعمال الملغى في ضمير وغير ذلك. ولا يمنع التنازع تعدّ إلى أكثر من واحد، ولا كون المتنازعين فعلَيْ تعجّب خلافا لمن منع.

ش: قد تقدمت الإشارة إلى تنازع أكثر من عاملين في ترجمة الباب، وفي الشرح لا في المتن، فنبه الآن عليه في هذا المكان. وما ورد منه فإنما ورد بإعمال الآخر وإلغاء ما قبله كقول الشاعر:

سُئِلْتُ فلم تبخلْ ولم تُعْطِ نائلا

فسِيّان لاذَمٌّ عليك ولا حمدُ

وكقول الآخر:

جئ ثم حالفْ وثقْ بالقوم إنّهم

لمنْ أجاروا ذوو عزٍّ بلا هُونِ

وكقول الآخر:

أرجو وأخشى وأدعو الله مُبْتغيا

عَفْوا وعافيةً في الرُّوح والجسد

فهذه الأبيات الثلاثة قد تنازع في كل واحد منها ثلاثة عوامل أعمل آخرها وألغى أوّلها وثانيها وعلى هذا استقر الاستعمال. ومن أجاز إعمال غير الثالث فمستنده

ص: 176

الرأي، إذ لا سماع في ذلك. وقد أشار إلى ذلك أبو الحسن بن خروف في شرح كتاب سيبويه. واستقرأت الكلام فوجدت الأمر كما أشار إليه.

ومنع بعض النحويين التنازع في متعديين إلى اثنين أو ثلاثة بناء على أن العرب لم تستعمله. وما زعمه غير صحيح، فإن سيبويه حكى عن العرب: متى رأيت أو قلت زيدا منطلقا، على إعمال رأيت، ومتى رأيتَ أو قلت زيد منطلق على إعمال قلت، أعني بإعمالها حكاية الجملة ههنا.

ومنع أيضا بعض النحويين تنازع فعلَيْ تعجّب، والصحيح عندي جوازه لكن بشرط إعمال الثاني كقولك ما أحْسَن وأعْقل زيدا، تنصب زيدا بأعقلَ لا بأحْسنَ، لأنك لو نصبته بأحسن لفصلت ما لا يجوز فصله. وكذلك تقول أحْسنْ به وأعقلْ بزيد بإعمال الثاني ولا تعمل الأول فتقول أحسنْ وأعقل بزيد فلزمك فصل ما لا يجوز فصله ويجوز على أصل مذهب الفراء أن يقال أحسِنْ وأعقِلْ بزيد، فتكون الباء متعلقة بأحسن وأعقلْ معا، كما يكون عنده فاعل قام وقعد عنده مرفوعا بالفعلين معا، ولا يمتنع على مذهب البصريين أن يقال أحسنْ وأعقِلْ بزيد، على أن يكون الأصل أحسنْ به وأعقِلْ بزيد، ثم حذفت الباء لدلالة الثانية عليها ثم اتصل الضمير واستتر، كما استتر في الثاني من قوله تعالى:(أسمعْ بهم وأبْصِرْ) فإن الثاني مستدَلٌّ به على الأول، كما يستدل بالأول على الثاني، إلّا أن الاستدلال بالأوّل على الثاني أكثر من العكس.

ص: 177