المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب كم وكأين وكذا - شرح التسهيل لابن مالك - جـ ٢

[ابن مالك]

الفصل: ‌باب كم وكأين وكذا

‌باب كم وكأيّن وكذا

ص: كم اسم لعدد مبهم فيتفتقر إلى مميز لا يحذف إلا بدليل، وهو إن استفهم به كمميز عشرين وأخواته، لكن فصله جدير هنا في الاختيار، وهناك في الاضطرار. وإن دخل عليها حرف جر فجره جائز بمن مضمرة، لا بإضافتها إليه خلافا لأبي إسحاق. ولا يكون مميزها جمعا خلافا للكوفيين. وما أوهم ذلك فحال والمميز محذوف. وإن أخبر بكم قصدا للتكثير فمميزها كمميز عشرة أو مائة مجرور بإضافتها إليه لا بمن محذوفة خلافا للفراء. وإن فصل نصب حملا على الاستفهامية، وربما نصب غير مفصول. وقد يجر في الشعر مفصولا بظرف أو جار ومجرور لا بجملة ولا بهما معا.

ش: يدل على اسمية كم الإسناد إليها، وعود الضمير عليها في نحوكم رجلا جاءك، ودخول حرف الجر عليها والإضافة إليها في نحو بكم رجلا مررت، ورزق كم نفسا ضمِنت، وتسليط عوامل النصب عليها نحو كم يوما صمت، وكم فرسخا سرت، وكم كانت دراهمك؟ وهي في الكلام على ضربين:

استفهامية كالمذكور آنفا. وخبرية يقصد بها التكثير كقوله تعالى (كم مِنْ فئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئة كثيرةً بإذن الله). وهي في حالتيها أشدّ إبهاما من أسماء العدد، لأن أسماء العدد تدل على العدد دلالة تنصيص ولا تدل على جنس المعدود، والأمران بذكر "كم" مبهمان، فكان افتقارها إلى مميز أشد من افتقار أسماء العدد.

ولما كانت الاستفهامية بمنزلة عدد مقرون بهمزة الاستفهام أشبهت العدد المركب فأجريت مجراه، بأن جُعل مميزها كمميزه في النصب والإفراد، فقيل كم درهما لك؟ كما قيل لك خمسة عشر درهما، ثم قصد امتياز الخبرية فحملت من العدد على ما يضاف

ص: 418

إلى مميزه، وهو ضربان مميز بجمع كعشرة دراهم، ومميز بمفرد كمائة دينار، ولم يكن حملها على أحد الضربين بأولى من حملها على الضرب الآخر، فحملت عليهما معا، فتارة تضاف إلى جمع حملا على عشرة، وتارة تضاف إلى مفرد حملا على مائة، فيقال كم رجال صحبت، وكم بلد دخلت، كما تقول عشرة رجال صحبت، ومائة بلد دخلت. ويجوز حذف مميز "كم" كما يجوز حذف مميز العدد، فحذف مميز "كم" كقوله تعالى (كم لبِثْتُم) وحذف مميز العدد كقوله تعالى (عليها تسعةَ عَشَرَ) ويجوز الفصل بين الاستفهامية ومميزها في السعة، ولا يجوز الفصل بين العدد ومميزه إلا في ضرورة كقول الشاعر:

على أنَّني بعدَ ما قد مضى

ثلاثون للهَجْر حَوْلا كمِيلا

ولو استعمل هذا في غير ضرورة شعر لم يجز، بخلاف "كم" فلك أن تفصل بينها وبين مميزها دون ضرورة، فتقول: كم لك درهما. وإنما كان الأمر كذلك لأن العدد مميز بمنصوب مستطال بالتركيب إن كان مركبا وبالزيادتين في آخره إن كان للعشرين أو إحدى أخواتها، فموضع التمييز منه بعيد دون فصل، فلو فصل بشيء لازداد بُعْدا، فمنع الانفصال إلا في الضرورة. وكم بخلاف ذلك فلم يلزم اتصال مميزها.

وإن دخل على الاستفهامية حرف جر جاز بقاء مميزها منصوبا كقولك بكم رجلا مررت، وجاز أن يجر بمن مقدرة كقولك بكم درهم تصدقت، تريد بكم من درهم، فحذفت مِن وأبقيت عملها. قال ابن خروف قاصدا إلى حذف من وإبقاء عملها: هو مذهب الخليل وسيبويه والجماعة، وزعم ابن بابشاذ أنه ليس مذهب المحققين. وقوله فاسد، وإضمار الحرف نص من كلامهم إلا الزجاج وحده، فإن النحاس حكى عنه أنه كان يخفض هذا بكم ولا يحذف شيئا. قال ابن خروف:

ص: 419

ولا يمكن الخفض بها لأنها بمنزلة عدد ينصب ما بعده قولا واحدا، فيجب لما حمل عليه ونزل منزلته أن يكون كذلك.

قلت: الأمر على ما أشار إليه أبو الحسن بن خروف، أعني كون المميز في نحو بكم درهم تصدقت مجرورا بمن مقدرة لا بكم، لأنها بمنزلة عدد ينصب ما بعده ولا يخفضه، فلو خفضت ما بعدها مرة ونصبته مرة لزم تفضيل الفرع على الأصل، وأيضا لو كانت صالحة للجر بها إذا دخل عليها حرف جر لصلحت للجر بها إذا عريت من حرف الجر، إذ لا شيء من المميزات الصالحة ينصب مميزها ويجر بإضافتها إليه، فيشترط في إضافتها أن يكون هو مجرورا، فالحكم بما حكم به الزجاج ومن وافقه حكم بما لا نظير له، فخولف مقتفيه ورُغب عنه لا فيه. ولا يجوز جمع مميز الاستفهامية، كما لا يجوز جمع مميز العدد الذي أجريت مجراه. وأجاز ذلك الكوفيون ولا حجة لهم، وإن ورد ما يوهم جواز ذلك حمل على أن المميز محذوف. وأن الجمع الموجود منصوب على الحال نحو أن يقال: كم لك شهودا وكم نفسا عليك رقباء.

وإن قُصد بكم الإخبار على سبيل التكثير جرت مجرى عشرة مرة، ومجرى مائة أخرى. وقد سبق الكلام على ذلك تبيينا وتمثيلا. ومميزها مجرور بإضافتها إليه كمميز ما حملت عليه. وزعم الفراء أن الجر بعدها بمن مقدرة، ولا سبيل إلى ذلك كما لا سبيل إليه فيما حملت عليه، ولأن الجر بعدها لو كان بمن مقدرة لكان جوازه مع الفصل مساويا لجوازه بلا فصل، لأن معنى "من" مراد، واستعمالها سائغ مع الاتصال، فلو كان عملها بعد الحذف جائز البقاء مع الاتصال لكان جائز البقاء مع الانفصال في النثر والنظم. وفي كون الواقع بخلاف ذلك دليل على أن الجر بالإضافة لا بمن مقدرة.

وإذا فصل مميز كم الخبرية بجملة أو ظرف أو جار ومجرور معا وجب نصبه مطلقا حملا على الاستفهامية، فالأول كقول الشاعر:

كمْ نالَني منهم فَضْلا على عدَم

إذْ لا أكادُ من الإقتار أحتمل

ص: 420

والثاني كقول الآخر:

تؤمُّ سِنانا وكم دونَه

من الأرض مُحْدَوْدِبًا غارُها

ولو كان الفاصل ظرفا أو جارا ومجرورا لجاز النصب والجر، إلا أن الجر مخصوص بالشعر، كقول الشاعر:

كم دون مية موماة يُهال لها

إذا تيممها الخريت ذو الجلد

وكقول الآخر:

كم بجود مقرفٍ نال العلا

وكريمٍ بخله قد وضعه

وربما نصب مميز الخبرية متصلا بها، وزعم بعضهم أنه لغة تميم. ومنه قول الفرزدق:

كم عمةَ لك يا جريرُ وخالةً

فدْعاءَ قد حلبتْ عليَّ عِشاري

فصل: ص: لزمت كم التصدير وبنيت في الاستفهام لتضمنها معنى حرفه، وفي الخبرية لشبهها بالاستفهامية لفظا ومعنى. وتقع في حالتيها مبتدأ ومفعولا ومضافا إليها وظرفا ومصدرا.

ش: أداة الاستفهام منبهة للمستفهم ومؤذنة بحاجة المستفهم إلى إبداء ما عنده، فنزلت مما في خيرها منزلة حرف النداء من المنادى في استحقاق التقدم، فلذلك امتنع

ص: 421

تأخيرها ولزم تصديرها ولا فرق في ذلك بين كم وغيرها، فلذلك وجب رفع صاحب الضمير في نحو زيد كم ضربته، كما وجب في نحو زيد أين لقيته، وبشر متى رأيته.

والخبرية جارية مجرى الاستفهامية في وجوب التصدير فلذلك لا يجوز في نحو زيدكم دراهم أعطيته إلا الرفع، وهي أيضا مساوية لها في وجوب البناء لتساويهما في مشابهة الحرف وضعا وإبهاما. وتنفرد الاستفهامية بتضمن معنى حرف الاستفهام، والخبرية بمناسبة رُبَّ إن قصدَ بها التقليل وهو الغالِب على رُبٍّ. ووقوع كم في حاليها مبتدأ ومفعولا ومضافا إليها كقولك كم درهما لك، و (كم من فئةٍ قليلةٍ غلبتْ) وكم جزءا قرأت، وكم رجال صحبت، وحاجة كم قضيت وتعليم كم من المشتغلين توليت. ووقوعها في حاليها ظرفا ومصدرا كقولك: كم فرسخا سرت، وكم فراسخ سرت، وكم طعنة طعنت وكم طعنات طعنت.

فصل: ص: معنى كأيّن وكذا كمعنى الخبرية، ويقتضيان مميزا منصوبا، والأكثر جره بمن بعد كأيّن. وتنفرد من كذا بلزوم التصدير وأنها قد يستفهم بها. وقد يقال كيءٍ وكاءٍ وكأيٍّ. وقد ورد كذا مفردا ومكررا بلا واو. وكنى بعضهم بالمفرد المميز بجمع عن ثلاثة وبابه، وبالمفرد المفسر بمفرد عن مائة وبابه، وبالمكرر دون عطف عن أحد عشر وبابه، وبالمكرر مع عطف عن أحد وعشرين وبابه.

ش: قد تقدم أن كم الخبرية اسم يقصد به الإخبار على سبيل التكثير، وأنها مفتقرة إلى مميز كمميز عشرة مرة وكمميز مائة أخرى. وذكرت الآن أن معنى كأيّن وكذا كمعناها، فكان حقهما أن يضافا إلى مميزهما كما تضاف كم التي تساويها في المعنى، لكن منع من إضافة كأين أنها لو أضيفت لزم نزع تنوينها وهي مستحقة للحكاية، لأنها مركبة من كاف التشبيه وأيّ، فكانت بمنزلة بزيد مسمى به، فإنه يلزم أن يجرى مجرى الجملة المسمى بها في لزوم الحكاية والمحافظة على كل جزء من أجزائها، فيقال فيمن اسمه بزيد هذا بزيد ونظرت إلى بزيد، وكذا يقال في كزيد لو سمي به،

ص: 422

فلو جعل من زيد اسما لجاز فيه ما جاز في بزيد من الحكاية، وجاز أيضا أن تحرك نون من بحركات الإعراب. ويضاف إلى زيد، ولاستيفاء الكلام عن هذا وشبهه موضع هو به أولى.

وأما كذا ففيها ما في كأين من التركيب الموجب للحكاية، وفيها زيادة مانعة من الإضافة، وذلك أن عجزها اسم لم يكن له قبل التركيب نصيب في الإضافة، فأبقى على ما كان عليه. والأكثر جز مميز كأيّن بمن كقوله تعالى (وكأين من آية في السموات والأرض). ومن نصب مميزها قول الشاعر:

اطرُدِ اليأسَ بالرجا فكأين

آلما حُم أمرُه بعد يُسْر

وأما كذا فلم يجئ مميزها إلا منصوبا كقول الشاعر:

عِدِ النفس نُعْمَى بعدَ بُؤساكَ ذاكِرا

كذا وكذا لُطْفا به نُسيَ الجهد

وانفردت كأين بموافقة "كم" في لزوم التصدير فلا يعمل فيها ما قبلها بخلاف كذا فإنها يعمل فيها ما قبلها وما بعدها، وانفردت كأيّن أيضا بأنها قد يستفهم بها كقول أبيّ بن كعب رضي الله عنه لعبد الله:"كأيِّنْ تقرأُ سورةَ الأحزاب، أو كأين تعدُّ سورة الأحزاب؟ فقال عبد الله: ثلاثا وتسعين. فقال أبي: قط" أراد ما كانت كذا قط.

ويقال كيء وأصله كيّيء، بتقديم الياء على الهمزة، ثم عومل معاملة ميت فقيل

ص: 423

كيْء، ثم أبدلت ياؤه ألفا فقيل كاءٍ، وبه قرأ ابن كثير، ثم حذفت الألف فقيل كأ. وأما كأي فمقلوب كييء، وبه قرأ ابن محيصن والأشهب. واستعمال كذا دون تكرار قليل، وكذا استعماله مكررا بلا عطف، وجعل بعضهم كذا مميز بجمع كناية عن ثلاثة فما قولها. وبكذا كذا عن أحد عشر وأخواته، وبكذا وكذا عن أحد وعشرين وأخواته. ومستند هذا التفصيل الرأي لا الرواية.

ص: 424