الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المفعول معه
ص: وهو الاسم التالي واوا تجعله بنفسها في المعنى كمجرور مع، وفي اللفظ كمنصوب معدَّى بالهمزة، وانتصابه بما عمل في السابق من فعل أو عامل عمله، لا بمضمر بعد الواو خلافا للزّجاج، ولا بها خلافا للجرجاني، ولا بالخلاف خلافا للكوفيين. وقد تقع هذه الواو قبل ما لا يصلح عطفه خلافا لابن جني.
ش: وقد يطلق المفعول معه في اللغة على المجرور بمع أو بالباء التي للمصاحبة، وعلى المعطوف المراد به المصاحبة، وعلى المنصوب بعد الواو بالشرط المذكورة، فالأول نحو جلست مع زيد، والثاني نحو وصلت هذا بذاك، والثالث نحو مزجت عسلا وماء، والرابع نحو ما صنعت وأباك، واستوى الماء والخشبة، وما زلت وزيدا حتى فعل، ولو تركت الناقة وفصيلَها لرَضعها. إلا أن عُرْف النحاة قد قَصَر المفعولَ معه على الرابع، وربما سمّاه سيبويه مفعولا به، فمن ذلك قوله في أول أبوابه:"هذا باب ما يظهر فيه الفعل وينتصب فيه الاسم لأنه مفعول معه ومفعول به". هذا نصه. وقوله: بعد أن مثّل بما زلْت وزيدا أي ما زلت بزيد حتى فعَل، ثم قال: وهو مفعول به.
قلت: وهذا من أجل أن الباء تساوي "مع" في الدلالة على المصاحبة كقولك بعت الفرس بسَرْجه ولجامِه، والدارَ بأثاثِها، أي مع سراجه ولجامه، ومع أثاثها.
ومن أجل قصْر النحاة اسم "المفعول معه" على القسم الرابع قلت في حدّه: "والتالي واوا" ليخرج التالي غيرها، وقيدت الواو بأن تجعله في المعنى كمجرور "مع"
ليخرج المعطوف بالواو المفيدة مطلق الجمع، وذكرت بنفسها ليخرج المعطوف بعد ما يفهم منه المصاحبة نحو أشركت زيدا وعمرا، ومزجتُ العسلَ والماء، فإن المصاحبة في مثل هذا مفهومة قبل ذكر الواو، بخلاف قولك: سرتُ والنيلَ، فإن المصاحبة لا تفهم فيه إلا بالواو. ثم قلت:"وفي اللفظ كمنصوب معدى بالهمزة" فنبهت بذلك على أن الواو معدّية ما قبلها من العوامل إلى ما بعدها فينتصب به بواسطة الواو فعلا كان ما عدّته، أو عاملا عمل الفعل نحو عرفت استواء الماء والخشبة، والناقة متروكة وفصيلها، ولست زائلا وزيدا حتى يفعل، وأنشد أبو علي:
لا تَحْبِسَنَّك أثوابي فقد جُمِعتْ
…
هذا ردائي مَطْويًّا وسِرْبالا
وجعل "سربالا" مفعولا معه، وعامله مَطويا. وأجاز أن يكون عامله هذا. وظاهر كلام سيبويه المنع من إعمال هذا في مفعول معه، لأنه قال في آخر أبوابه "وأمّا مالكَ وأباكَ فقبيح، لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل" أراد بقبيح ممنوعا، وبالحرف الذي فيه معنى الفعل حسبك وكفوك وما ذكر بعدهما في الباب، فلو كان اسم الإشارة عنده مثلها لم يحكم بقبح هذا لك وأباك، بل كان يحكم فيه بما بحكم في وَيْله وأباه، وهذا واضح والله أعلم.
فالواو التي يليها المفعول معه معدّية لا عاملة، هذا هو المذهب الصحيح، قال سيبويه بعد تمثيله بما صنعت وأباك، ولو تركت الناقة وفصيلها لرضعها: إنما أردت ما صنعت مع أبيك، ولو تركت الناقة مع فصيلها، فالفصيل مفعول معه والأب كذلك، "والواو لم تغير المعنى، ولكنها تُعْمِل في الاسم ما قبلها" هذا نصه.
وينبغي أن تعلم أن مذهبه عدم الاكتفاء في نصب المفعول معه بما يكتفى به في نصب الحال، فلا ينصبه العامل المعنوي كحرف التشبيه والظرف المخبر به، ولذلك لم ينصب بلك في هذا لك وأباك، ولا بحسبك في حسبك وزيدا درهم. وأكثر المتأخرين يغفلون عن هذا.
قلت: وكان حق الواو إذ هي معدية أن تجرّ ما عدّت العامل إليه كما فعلت حروف الجر. إلا أنها أشبهت الواو العاطفة لفظا ومعنى فلم تُعط عملا، بل أُعطيتْ مثل ما أعطيت العاطفة في اتصال عمل ما قبلها إلى ما بعدها لا على سبيل الإتباع. وكان في ذلك أيضا تنبيه على أن أصل المجرور بحرف أن يكون منصوبا ولكنه جُرّ لفظا. فحكم على موضع مجروره بالنصب إذا لم تتمحض فاعليته فإنه معدّ ليظهر بذلك مزية المتعدي بنفسه على المتعدي بواسطة. وقد ترتّب على شبه الواو المرادفة لمع بالواو العاطفة ما ذكرته، وأمر آخر وهو أنها لم تجرِ مجرى "مع" في جواز التقديم بل جرت مجرى العاطفة في التأخّر، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وكان الزجاج يقول: إذا قلنا ما صنعت وأباك، فالنصب بإضمار كأنه قال ما صنعت ولابَسْتَ أباك لأنه لا يعمل الفعل في المفعول وبينهما الواو، وهذا غير صحيح، لأن الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يصح به الارتباط، فإن ارتبطا بلا واسطة فلا معنى لدخول حرف بينهما. وإن لم يرتبطا إلا بواسطة فلا بد منها، فلذلك تقول ضربت زيدا وعمرا فتنصب عمرا بضربت كما تنصب به زيدا، لكن استغنينا في تعليق زيد بالعامل عن واسطة واحتجنا إليها في تعليق عمرو فأتينا بها. ومثله في الحاجة إلى واسطة ما ضربت إلا زيدا، وضربت إمّا زيدا وإمّا عمرا، فينتصب ما بعد إلّا وإمّا بالفعل ولا يمنع من ذلك الواسطة، لأن المعنى لا يصح إلا بها.
ومما يبين فساد تقدير الزجاج أنه إمّا أن يُقصد تشريك صنعت ولابست في الاستفهام، وإمّا ألّا يقصده، فإن قصده لم يصح، لأن شرط صحة عطف الفعل على الفعل بعد اسم الاستفهام جواز الاستغناء بالثاني عن الأول، والأمر بخلاف ذلك في التقدير المذكور، إذ لا معنى لقول القائل ما لابست أباك، وإن لم يقصد التشريك
لم يصح أيضا، إذ لا يُعطف جملة خبرية على جملة استفهامية مع استقلال كل واحدة منهما، فألّا يجوز ذلك مع الاستقلال كما في المثال المذكور أحق وأولى.
وأيضا لو كان ما بعد الواو منصوبا بفعل مضمر لم يحتج إلى الواو كما لا يحتاج إليها مع إظهاره، ألا ترى أنك لو أظهرت فعل الملابسة في ما شأنك وزيدا قلت ما شأنك تلابس زيدا دون واو فيلزم من حكم بإضمار تلابس الاستغناء عن الواو كما يستغنى عنها مع الإظهار، فالاستغناء فيها باطل وما أفضى إلى الباطل باطل.
وزعم الجرجاني أن الواو هي الناصبة بنفسها، وما ذهب إليه باطل من ثلاثة أوجه: أحدها أنها لو كان النصب بها نفسها لم يشترط في وجوده وجود فعل قبلها أو معنى فعل، كما لا يشترط في غيرها من النواصب، ولجاز أن يقال كلُّ رجل وضيعته، بالنصب كما يقال عندي كل رجل وضيعته. الثاني أن الحكم بكون الواو ناصبة حكم بما لا نظير له إذ ليس في الكلام حرف ينصب الاسم إلا وهو يشبه الفعل كإن وأخواتها، أو يشبه ما يشبه الفعل كلا المشبهة بإنّ، والواو المرادفة "مع" لا تشبه الفعل ولا ما أشبه الفعل، فلا يصح جعلها ناصبة للاسم. الثالث أنها لو كانت هي الناصبة لوجب اتصال الضمير إذا وقع مفعولا معه ويُعدّ من الضرورات قول الشاعر:
فآليتُ لا أنفكُّ أحْذو قصيدةً
…
تكونُ وإيّاها بها مَثَلا بعدي
ولا خلاف في وجوب الانفصال في مثل هذا، فعُلم بذلك أن الواو غير عاملة، إذ ليس في الكلام ضمير نصب يجب انفصاله مع مباشرة الناصب.
وذهب الكوفيون إلى أن المفعول معه منصوب بالمخالفة، وقد تقدم في باب الابتداء إبطال نسبة العمل إلى المخالفة بدلائلَ أغنى ذكرُها ثَمَّ عن ذكرها ههنا. وإذا بطلت الأقوال الثلاثة تعين الحكم بالقول الأول وهو قول سيبويه وأكثر البصريين.
وذكر ابن خروف أن أبا الفتح بن جني قال إن العرب لم تستعمل الواو بمعنى
مع إلا في موضع يصح أن تقع فيه عاطفة وأنكر قوله ابن خروف وهو بالإنكار حقيق، فإن العرب استعملت الواو بمعنى مع في مواضع لا يصلح فيها العطف وفي مواضع يصلح فيها. والمواضع التي لا يصلح فيها العطف على ضربين: أحدهما ترك فيه العطف لفظا ومعنى، والثاني استعمل فيه العطف لمجرد اللفظ، كاستعمال النعت على الجوار، فمن الأول قولهم استوى الماء والخشبة، وما زلتُ أسيرُ والنيلَ. ومنه قول الشاعر في وصف رجل مات معانق امرأة لقيها بعد فراق:
فكان وإياها كحرّان لم يُفقْ
…
عن الماءِ إذا لاقاهُ حتى تقدّدا
ومن الثاني قولهم أنت أعلم ومالُكَ، أي أنت أعلم مع مالك كيف تدبره ومالك معطوف في اللفظ ولا يجوز رفعه على القطع وإضمار الخبر، لأن المال لا يخبر عنه بأعلم. وشرط عطف المبتدأ المضمر خبره أن يكون خبره مثل خبر المعطوف عليه.
وأما قولهم: أنت أعلم وعبد الله فيحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها أن تكون الواو بمعنى "مع" وعطف بها في اللفظ مبتدأ حذف خبره وجوبا لوقوعه موقع المجرور بمع وللاستطالة. والثاني أن تكون الواو لمجرد العطف وعبد الله مبتدأ محذوف الخبر جواز، والتقدير أنت أعلم بعبد الله وعبد الله أعلم بك، ثم دخله الحذف كما دخل في نحو أأنت خير أم زيد؟ والأصل أأنت خير من زيد أم زيد خير منك. والثالث أن يكون عبد الله معطوفا على أنت وأعلم خبر عنهما كأنه قال: أنت وعبد الله أعلم من غيركما. وأما وقوع الواو بمعنى "مع" في موضع يصلح للعطف فكثير، وفيه تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.
ص: ولا يتقدم المفعول معه على عامل المصاحب باتفاق ولا عليه خلافا لابن جني. ويجب العطف في نحو أنت ورأيُك، وأنت أعلمُ ومالُك. والنصب عند الأكثر في نحو مالك وما شأنك وعمرا، والنصب في هذين ونحوهما بكان مضمرة قبل الجار أو بمصدر "لابس" منويا بعد الواو. ولا بلابس خلافا
للسيرافي وابن خروف.
فإن كان المجرور ظاهرا رجح العطف، وربما نصب بفعل مقدر بعد ما أو كيف، أو زمن مضاف أو قبل خبر ظاهر في نحو: ما أنت والسيرَ، وكيف أنت وقصْعةً ? وأزمانَ قومي والجماعةَ- و"أنا وإياه في لحاف".
ويتَرجّح العطف إن كان بلا تكلف ولا مانع ولا موهن. فإن خيف به فوات ما يضرّ فواتُه رجح النصبُ على المعية، فإنْ لم يلِقِ الفعلُ بتالي الواو جاز النصب على المعية، وعلى إضمار الفعل اللائق إنْ حسن "مع" موضع الواو، وإلا تعيّن الإضمار والنصب في نحو حَسْبُك وزيدا درهم بيحسب منويا، وبعد وَيْلَه وويْلا بناصب المصدر. وبعد ويلٌ له بالْزَم مضمرا، وفي رأسه والحائظ وامرأ ونفسَه وشأنك والحج على المعية أو العطف بعد إضمار "دَعْ" في الأول والثاني، و"عليك" في الثالث. ونحو هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وفي كون هذا الباب مقيسا خلاف. ولما بعد المفعول معه من خبر ما قبله أو حاله ماله متقدما. وقد يُعطى حكم ما بعد المعطوف خلافا لابن كيسان.
ش: قد تقدم بيان كون الواو التي بمعنى "مع" معدّية، وأن لها شبها بالواو العاطفة في اللفظ والمعنى، ولذلك لم تعمل عمل حروف الجر في لفظ ما عدّت إليه العامل، بل أوصلت إليه عمل العامل لفظا ومحلا، ولازمت محلا واحدا لشبهها بهمزة التعدية فلا تتقدم على عامل المصاحب كما تتقدم "مع" في قولهم مع الخشبة استوى الماءُ، وكذا لا يقال استوى والخشبة الماءُ، فالأول مجمع على منعه، والثاني ممنوع إلّا عند ابن جني، فإنه أشار في الخصائص إلى جوازه، وله شبهتان: إحداهما أنه قد أجاز ذلك في العاطفة فلْيَجُزْ فيها، لأنها محمولة عليها. والثانية أن ذلك قد
ورد في كلامهم فينبغي أن يُحكم بذلك، ومن الوارد في ذلك قول الشاعر:
أكْنِيه حين أُناديه لأكرمَهُ
…
ولا أُلَقِّبُهُ والسَّوْأةَ اللَّقَبا
ومثله قول الآخر:
جَمعتَ وفُحْشا غيبةً ونَميمةً
…
خصالا ثلاثا لستَ عنها بمُرْعَوي
ولا حجة له في الشبهتين، أمّا الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العاطفةَ أقوى وأوسع مجالا فحصل لها مزيَّةٌ بتجويز التقديم كقول الشاعر:
كأنّا على أولادِ أحْقبَ لاحَها
…
ورَمْي السفا أنفاسها بسهام
جَنوبٌ ذوتْ عند التناهي وأنزلتْ
…
بها يوم ذَبّابِ السَّبِيب صيامِ
والأصل لاحها جنوبٌ ورمى السفا، فقدم المعطوف على المعطوف عليه، لأن المعطوف بالواو تابع، نسبة العامل إليه كنسبته إلى المتبوع، فلم يكن في تقديمه محذور، بل كان فيه إبداء مزيّة للأقوى على الأضعف، فإن أشرك بينهما في الجواز خفيتْ المزيةُ. والثاني أن واو "مع" وإنْ أشبهت العاطفة فلها شبه يقتضي لها اللزوم مكان واحد كما لزمت الهمزة مكانا واحدا.
وأما الشبهة الثانية عن احتجاجه بالبيتين فضعيفة أيضا، إذ لا يتعيّن جعل ما فيهما من المنصوبين من باب المفعول معه، بل جعله من باب العطف ممكن وهو أولى، لأن القول بتقديم المعطوف في الضرورة مجمع عليه، وليس كذلك القول بتقديم المفعول معه.
أما البيت الأول فالعطف فيه ظاهر، لأن تقديره جمعت غيبة ونميمة وفحشا،
وبهذا وجّه أكثر النحويين. وأما البيت الثاني فهو من باب: - وزجّجن الحواجِبَ والعُيونا- فنصب العين دالّ عليه زجّجن، تقديره: وكحّلْنَ العيونَ، فلو دعتْ ضرورة إلى التقديم لم يختلف التقدير، فكذلك أصل ولا ألقبه والسّوأة اللقبا، ولا ألقبه اللقب ولا أسوؤه السوأة فحذف أسوؤه لدلالة "اللّقبا" عليه، ثم قدّم مُضْطَرّا، وبقي التقدير على ما كان عليه. وأشرت بقولي "ويجب العطف في نحو أنت ورأيك" إلى أن كل موضع كانت الواو فيه بمعنى "مع" بعد ذي خبر لم يذكر أو ذُكر أو هو أفعل تفضيل فالعطف فيه لازم، لعدم فعل وما يَعْمل عمله، والمراد بعمله أن يكون من جنس ما ينصب مفعولا به، ولا خلاف في وجوب الرفع فيما أشبه المثالين المذكورين.
ومَن ادّعى جواز النصب في نحو كل رجل وضيعته على تقدير كل رجل كائن وضيعته فقد ادّعى ما لم يقله عربيّ فلا التفات إليه ولا تعريج عليه. ومما ورد مثل كل رجل وضيعتهن وأنت ورأيك قول العرب: الرجل وأعضادُها والنساء وأعجازُها، حكاه الأخفش، ومثله إنك ما وخيْرا، حكاه سيبويه، ومثله قول شداد أبي عنترة:
فمَن يكُ سائِلا عنّي فإنّي
…
وجرْوَةَ لا تَرُودُ ولا تُعارُ
ولمجيء هذه الواو بعد مبتدأ أو بعد اسم إنّ قلت: "ويجب العطف" ولم أقل ويجب الرفع، فإن العطف بعد مبتدأ يرفع، وبعد اسم إن ينصب فعمّتهما العبارة. ثم قلت والنصب عند الأكثر أي ويجب النصب عند الأكثر في نحو مالك وزيدا،
وما شأنك وعمرا، والإشارة إلى كل جملة آخرها واو المصاحبة وتاليها، وأوّلها "ما" المستفهم بها على سبيل الإنكار، قبل ضمير مجرور باللام، أو الشأن أو ما يؤدي ما يؤديانه.
ولسيبويه في هذين المثالين وشبههما مذهبان: أحدهما أن يقدّر "كان" بعد "ما" فيكون المنصوبُ مفعولا معه، والثاني أن يقدر بعد الواو مصدر لابس منويا أو مضافا إلى ضمير المخاطب، صرّح بالتقديرين في متن الباب الثالث، وبإضمار الفعل في ترجمته فقال:"هذا باب ما يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام إذا حمل آخره على أوّله، وذلك قولك: مالك وزيدا وما شأنك وعمرا. ثم قال في متن الباب: فإذا ظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجرُّ. ثم قال: فإذا أضمرت فكأنك قلت: ما شأنك وملابسةٌ زيدا أو ملابستك زيدا، فكان أن يكون زيد على فعل وتكون الملابسة على الشأن، لأن الشأن معه ملابسة أحسن من أن يُجْروا المظهر على المضمر". هذا نصه. فحمل أبو علي الشلوبين كلامه على ظاهره واعتذر عن إعمال المصدر مضمرا بأنه هنا في قوة الملفوظ به، لوضوح الدلالة عليه، ودعاه إلى الاعتذار أن سيبويه منع في باب الوصف بإلّا حذف أن يكون وارتفاع "الفرقدان" فقال بعد إنشاده:
وكلُّ أخٍ مُفارِقه أخُوه
…
لعَمْرُ أبيك إلّا الفرقدانِ
كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين يفارقه أخوه. ثم قال: ولا يجوز على إلا أن يكون لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه لأن "أن يكون" اسم فظاهر كلامه أن المصدر العامل لا يضمر فحمل كلامه ثمّ على أنه لا يضمر لضعف الدليل ووجود مندوحة عن حذفه، وحكم هنا بجواز الحذف لقوة الدلالة عليه. وما ذهب إليه الشيخ أبو علي
هو الصحيح لا ما ذهب إليه من منع حذف المصدر مطلقا فإن حذفه إذا قويت الدلالة عليه وارد في الكلام الفصيح كقوله تعالى: (قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ عن سبيلِ الله وكفرٌ به والمسجد الحرام) أي وصد عن سبيل المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فحذف صَدّ عن سبيل المسجد لدلالة مثلهما من قبلُ عليهما.
ولا يجوز عطف المسجد على الهاء من "به" لأن العطف على ضمير الجر لا يجوز عند الأكثر إلّا إذا أعيد الجار، ولا يصح أيضا من جهة المعنى، لأن المشركين كانوا يعظّمون المسجد الحرام فلا يصح أن ينسب الكفر إليهم إلا لكونهم لا يعظمونه تعظيما مستندا إلى أمر الله، بل إلى أهوائهم فهو حقيق بإطلاق الكفر عليه.
ومن حذف المصدر وبقاء ما يتعلق به قول الشاعر:
لَصَوْنُكَ مَن تعولُ أعمُّ نفعا
…
لهم عن ضَلّةِ وهوى مُطاعِ
ومثله:
المنُّ للذَّمِّ داعٍ بالعطاء فلا
…
تَمْنُنْ فتُلْفى بلا حمدٍ ولا مال
فعن من البيت الأول متعلق بصون المحذوف، وبالعطاء من البيت الثاني متعلق بمَنّ محذوف والمحذوفان بدلان من الموجودَين، فاستغنى بمعمول البدل كما استغنى في الآية بمعمول المعطوف.
وذهب السيرافي وابن خروف إلى أن قول سيبويه: ما شأنك وملابستك زيدا مؤول، قال ابن خروف قوله فكأنك قلت ما شأنك وملابسة زيدا، إنما قدّر المصدر حين أظهر ليكون محمولا على الشأن والمضمر الفعل، لأنه لا يجوز أن يعمل
المصدر مضمرا، والكوفيون يعملونه مضمرا غير ملفوظ به. ثم قال ابن خروف: يريد بهذا ما أراد بقوله: - من لد أن كانت شولا ? لأنه لا يضمر الموصول مع بعض الصلة، فكلامه هنا محمول على المعنى. وجاز إضمار الفعل هنا وهو لا يحمل على الأول من حيث لم يصرّح بظهوره، فإن أظهرته على جهة التقدير جئت بالمصدر.
قلت يكفي من الردّ على ابن خروف اعترافه بأن الموضع لا يصلح لفعل، واعترافه بأن سيبويه حمل قول الراجز: - من لد شولا فإلى إتلائها ? على أن أصله: من لله أنْ كانت شولا، فحكم بحذف أن والفعل في هذا الرجز لقوة الدلالة، وحكم بمنع ذلك في: - لعمر أبيك إلا الفرقدان ? لضعف الدلالة.
ولو صرّح سيبويه بمنع حذف المصدر مطلقا لكان محجوجا بثبوت ذلك عن العرب، فإن كلامهم هو المأخوذ به. وقد تقدمت الشواهد على إضمار المصدر وإبقاء ما يتعلق به، وأمكن حمل كلام سيبويه على وفق ذلك، فقوى الاستشهاد وتأكّد الاعتضاد.
ونسبت وجوب النصب في نحو مالك وزيدا، أو ما شأنك وعمرا إلى الأكثر، لأن ابن خروف حكى عن الكسائي أنه قال: إذا أوقعت ما بال وما شأن ومالِ على اسم مضمر ثم عطفت عليه باسم ظاهر كان الوجه في المعطوف النصب والخفض، تقول: ما بالك وزيدا تنصب زيدا بإضمار الفعل وإضمار المصدر ويعمل عمل الفعل، كأنك قلت وتلابس زيدا وتذكر زيدا أو كأنك قلت ما بالك وملابستك زيدا وذكرك زيدا، فصرّح الكسائي بجواز الجر وبه أقول، لا على العطف، بل على حذف مثل ما جرّ به الضمير لدلالة السابق عليه، وسيأتي الكلام على هذا في باب العطف إن شاء الله تعالى.
فإن كان ظاهرا المجرور باللام والشأن ونحوه فالمختار العطف نحو ما لزيد وأخيك وما شأن عبد الله وعمرو، ويجوز النصب على إضمار كان بعدما. قال سيبويه بعد إنشاد قول الشاعر:
فمالَك والتَلدُّدَ حول نَجْد
…
وقد غَصّتْ تهامةُ بالرجال
"فإذا أظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلا الجرّ". فأوهم أن النصب ممتنع وهو لا يريد ذلك، لأنه قال بعد ذلك بقليل:"ومن قال ما أنت وزيدا قال ما شأن عبد الله وزيدا، كأنه قال ما كان شأن عبد الله وزيدا" فعلم بهذا أن مذهبه جواز النصب لكنه غير الوجه المختار. وتبيّن أنه أراد بقوله أوّلا: فليس إلا الجرّ ما أريد بنحو: لا فتى إلا على، ولا سيف إلا ذو الفقار.
وقد حكم بعض المتأخرين بمنع النصب أخذا بظاهر قوله الأول، ولو قرأ ما بعده من كلام سيبويه لم يقع فيما وقع. ومثل هذا اتفق للزمخشري في: أنته أمرا قاصدا، حين جعله من المنصوبات باللازم إضماره لأن سيبويه ذكر بعده أمثلة التزم إضمار ناصبها، ثم بيّن بعد ذلك بقليل أن الذي نصب أمرا قاصدا يجوز إظهاره، وغفل الزمخشري عن ذلك فاعتقد ما ليس بصواب.
والرفع في ما أنت وزيدا، وكيف أنت وقصعة من ثريد هو الجيد، لعدم الفعل وما يعمل عمله. قال سيبويه: وزعموا أن ناسا يقولون كيف أنت وزيدا، وما أنت وزيدا، وهو قليل في كلام العرب، ولم يحملوا الكلام على "ما" و"كيف" ولكنهم حملوه على الفعل، لأن كنت وتكون يقعان ههنا كثيرا، وأنشد سيبويه:
وما أنت والسيْرَ في مَتْلَف
…
يُبَرِّحُ بالذكر الضابِطِ
وأنشد أيضا:
أتُوعِدُوني بقومِكَ يابن حَجْل
…
أشاباتٍ يخالُونَ العِبادا
بما جَمَّعْتَ من حَضَن وعمرو
…
وما حَضَنٌ وعمرٌو والجيادا
ثم قال: وزعموا أن الراعي كان ينشد هذا البيت:
أزْمانَ قومي والجماعة كالذي
…
لزِمَ الرِحالةَ أنْ تميلَ مَمِيلا
كأنه قال: أزمان كان قومي، والجماعة محمولة على كان لأنها تقع في هذا الموضع كثيرا، ثم قال: وما أنت وشأنك وكل رجل وضيعته، وأنت أعلم وربك وأشباه ذلك، فكله رفع لا يكون فيه النصْب، لأنك إنما تريد أن تخبر بالحال التي فيها المحدَّث عنه في حال حديثك، ولم تُرد أن تجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يستقبل، وليس موضعا يستعمل فيه الفعل.
وأما الاستفهام فإنهم أجازوا فيه النصب لأنهم يستعملون الفعل في ذلك الموضع كثيرا، يقولون ما كنت وكيف تكون، إذا أرادوا معنى "مع"، ومن ثم قالوا ? أزمان قومي والجماعة ? لأنه موضع يدخل فيه الفعل كثيرا، يقولون: أزمان كان قومي، وحين كان. هذا نصه.
وإليه أشرت بقولي "وربما نصب بفعل مقدر بعد ما، أو كيف، أو زمن مضاف". ثم قلت: "أو قبل خبر ظاهر" والإشارة به إلى قول ابن خروف في شرح الكتاب قاصدا سيبويه: ولم يذكر في قولهم أنت وشأنك، وكل رجل وضيعته وما أشبهه إلا الرفع. ثم قال ابن خروف: وبعض العرب ينصب إذا كان معه خبر، وجعل من ذلك قول عائشة ? رضي الله عنها:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي وأنا وإياه في لِحافٍ" كأنها قالت: وكنت وإيّاه في لحاف، ويجوز
عندي أن يكون إياه في موضع رفع عطفا على "أنا" على سبيل النيابة عن ضمير الرفع، كما ناب عن ضمير الجر فيما حكى الفراء من قول العرب مررت بإيّاك قال وأنشد الكسائي:
فأحسِنْ وأجملْ في أسيركَ إنه
…
ضعيفٌ ولم يأسرْ كإياكَ آسِرُ
وكما ناب ضمير الرفع عن ضمير الجر في قول بعض العرب وقد سئل عن الصعلوك: هو الغداةَ كأنا، وهذا ليس ببدع، لأن أصل المبني ألّا يخصّ بموضع من الإعراب دون موضع، والمضمرات من المبنيات فلا يستبعد ذلك فيها إلا أنّ حمْل "أنا وإياه في لحاف" على باب المفعول معه أولى، لأنه قد روى في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أبشِروا فوالله لأنا وكثرة الشيء أخْوفُ عليكم من قلّته" بنصب وكثرة، ذكره أبو علي الشلوبين وعضّد به ما حكاه عن الصيمري من جواز النصب في أنت وشأنك، وكل رجل وضيعته.
وأشرت بقولي "ويترجح العطف إن كان بلا تكلف" إلى نحو:
فكُونوا أنتم وبني أبيكُم
…
مكانَ الكُلْيَتَيْنِ من الطِحالِ
فإن العطف فيه حسن من جهة اللفظ، وفيه تكلف من جهة المعنى، لأن مراد الشاعر كونوا لبني أبيكم فالمخاطبون هم المأمورون، فإذا عطف يكون التقدير: كونوا وليكونوا لكم، وذلك خلاف المقصود، وكذا قول الآخر:
إذا أعْجَبَتْكَ الدهرَ حالٌ من امرئٍ
…
فدَعْهُ وواكِلْ أمرَهُ واللّياليا
معناه واكل أمره إلى الليالي، وتقدير العطف فيه تكلّف بيّن. وأشرت بقولي "ولا مانع" إلى نحو: لاتَنْه عن القبيح وإتيانَه أي مع إتيانه، فالعطف هنا ممتنع بيّن الامتناع. وكذا في استوى الماء والخشبة، وما زلت أسير والنيل ونحوهما مما سبق الكلام عليه في شرح صدر الباب. وأشرت بقولي "ولاموهِم" إلى نحو ما صنعت وأباك، فإن نصبه على المعيّة مختار وعطفه جائز على ضعف، لأن المعطوف عليه ضمير رفع متصل غير مفصول بينه وبين العاطف، وما كان كذلك فعطفه ضعيف، وأكثر ما يكون في الشعر كقول الشاعر:
ورَجا الأخَيطِلُ من سفاهةِ رأيِه
…
ما لم يكن وأبٌ له لينالا
فلو نصب الأب لكان أجود لما تبين من ضعف العطف. وأشرت بقولي "خيف به، أي بالعطف فوات ما يضر فواته رجح النصب على المعيّة" إلى نحو لا تَغْتَذ بالسَمك واللّبن، ولا يُعجبك الأكل والشبَع بمعىن لا تغتذ بالسمك مع اللبن، ولا يعجبك الأكل مع الشبع، فالنصب على المعية في هذين المثالين وأمثالهما يبيّن مراد المتكلم، والعطف لا يبيّنه فتعيّن رجحان النصب للسلامة به عن فوات ما يضر فواته، وضَعُف العطف إذ هو بخلاف ذلك.
فإن كان الفعل الذي قبل الواو غير صالح للعمل فيما بعدها وحسن في موضعها "مع" جاز فيما بعدها أن يجعل مفعولا معه، وأن ينصب بفعل صالح للعمل فيه، مثاله قوله تعالى (فأجْمِعوا أمرَكم وشركاءَكم) فلا يجوز أن يجعل "شركاءكم" معطوفا، لأن أجمع لا ينصب إلّا الأمرَ والكيد ونحوهما، ولك أن تجعل شركاءكم مفعولا معه، وأن تجعله مفعولا بأجمعوا مقدرا كأنه قيل فأجمعوا أمركم وأجمعوا شركاءكم. ومثله (والذين تبوّءوا الدارَ والإيمانَ) فلك أن تجعل الإيمان مفعولا معه، ولك أن تنصبه باعتقدوا مقدّرا.
فإن كان الفعل غير صالح للعمل فيما بعد الواو ولم تصلح "مع" في موضعها تعيّن إضمار فعل صالح للعمل، فمن ذلك قول الشاعر:
إذا ما الغانياتُ بَرزْنَ يوما
…
وزجَّجْن الحواجبَ والعُيُونا
تنصب العيون بكحّلْن مقدّرا ولا يجوز غير ذلك لأن زججن غير صالح للعمل في العيون، وموضع الواو غير صالح لمع. وهذا معنى قولي "فإن لم يلق الفعل بتالي الواو جاز النصب على المعية، وعلى إضمار الفعل اللائق إن حسن "مع" في موضع الواو، وإلا تعيّن الإضمار".
وممّا يشبه المفعول معه ? وهو عند سيبويه مفعول به ? المنصوبُ بعد "حسبُك" وكفؤك وأخواتهما وبعد ويله وويلا له. قال سيبويه: "قالوا حسبك وزيدا درهم، لما كان فيه معنى كفاك وقبُح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال حسبك ويحسِب أخاك درهم، وكذلك كفؤك، وأمّا ويلا له وأخاه، وويله وأباه، فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه كأنك قلت: ألزمه الله ويله وأباه. وإن قلت ويلٌ له وأباه، نصبت لأن فيه ذلك المعنى، كما أن حسبك ترتفع بالابتداء، وجُعل لما فيه من معنى كفاك دليلا على فعل يوافقه معنى وهو يحسب. فكذا ويل له مرتفع بالابتداء وفيه معنى ألزمه الله ويلا، فجعل دليلا على فعل يوافقه معنى وينصُب أباه (ثم قال سيبويه) وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل".
قال محمد: كثر في كلام سيبويه التعبير بالقبح على عدم الجواز وقد استعمله قبلُ إذ قال في حسبك وزيدا درهم لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل، واستعمله أيضا في قوله: وأما هذا لك وأباك فقبيح.
والحاصل أن سيبويه قد أفصح بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى
الاستقرار لا يعملان في المفعول معه، لأنه حكم على أن "هذا لك وأباك"، قبيح، ومراده أنه غير جائز، ولو كان اسم الإشارة صالحا عنده لنصب المفعول معه وما تضمن حرف الاستقرار من ظرف أو حرف جرّ لأجاز أن يقال هذا لك وأباك مخيّرا بين العمل لهذا أو للك. وقد أجاز أبو علي في قوله الشاعر:
هذا ردائي مطويا وسربالا
أن تنصب السربال بهذا مفعولا معه، وأجاز بعض النحويين أن يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر. وبعض النحويين يقتصر في مسائل هذا الباب على السماع، والصحيح استعمال القياس فيها على الشروط المذكورة. وأجاز الأخفش أن يقال كنت زيدا مذكورين، كما يقال مع العطف، والإفراد أولى كما يكون بمع. وهذا عند ابن كيسان لازم، أعني مطابقة ما قبل الواو. ومما يدل على أن "مع" يكون ما بعدها بمنزلة المعطوف بالواو قول الشاعر:
مَشَقَ الهواجِرُ لحَمَنَّ مع السُّرى
…
حتّى ذهبْنَ كلاكِلا وصُدورا
أراد مزّقت الهواجر والسرى لحمهنّ، وأقام "مع" مقام الواو.