الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التمييز
ص: وهو ما فيه معنى "من" الجنسية، من نكرة منصوبة فضلة غير تابع، وتميّز إمّا جملة وستبيّن، وإمّا مفردا عددا، أو مفهم مقدار، أو مثلية أو غيرية، أو تعجب بالنص على جنس المراد بعد تمام بإضافة أو تنوين أو نون تثنية أو جمع أو شبهه. وينصبه مميزه لشبهه بالفعل أو شبهه. ويجره بالإضافة إن حذف ما به التمام. ولا يحذف إلا أن يكون تنوينًا ظاهرا في غير ممتلئ ماء ونحوه، أو مقدرا في غير ملآن ماء وأحد عشر درهما، وأنا أكثر مالا ونحوهن، أو يكون نون تثنية أو جمع تصحيح، أو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه في غير ممتلئَين، ممتلئين غضبا.
ش: التمييز والتبيين والتفسير والمميز والمبين والمفسر أسماء للنكرة الرافعة للإبهام في نحو: امتلأ الإناء ماء، وزيد حسن وجها، وله رطل زيتا، ومُدبّرًا وذراعان حريرا وعشرون درهما. وحُدِّد جره بما فيه معنى من احترازا من الحال فإنها تشاركه فيما سوى ذلك من القيود، وقيدت بالجنسية ليخرج ما فيه معنى مِن وليست جنسية كذنبا من قول الشاعر:
أسْتغفِر اللهَ ذنبا لستُ مُحصيه
…
ربَّ العبادِ إليه الوجهُ والعملُ
فإن فيه ما في التمييز من التنكير والنصب والفضلية وعدم التابعية ووجود معنى من إلا أنها غير جنسية فلذلك لم يجعلوا ذنبا تمييزا، بل مفعولا به. وقيدت التمييز بنكرة احترازا من المعرفة المنتصبة على التشبيه بالمفعول به في نحو حسن وجهه، فإن فيه ما في حسن وجها إلا التنكير، فبذلك افترقا ولم ينتصبا من وجه واحد وذكر النصب احترازا من النكرة المضاف إليها وفيها معنى من الجنسية نحو له رطل زيتٍ. وخرج بفضلة اسم لا المحمولة على إنّ نحو لا خيرا من زيد فيها، فإن فيه ما في التمييز إلا الفضلية ففيه ضدها. وخرج بغير تابع ما جعل تابعا للعدد من جنس المعدود نحو قبضت
عشرة دراهم، فإن دراهم فيه معنى الجنسية وهو نكرة منصوبة فضلة، لكنه تابع فلم يتناوله التمييز. ومثل هذا أسباطا في قوله تعالى (وقَطَّعْناهم اثنتَيْ عشْرةَ أسْباطا) وخرج أيضا بغير تابع صفة اسم لا المنصوبة، فإنها نكرة منصوبة فضلة بمعنى من الجنسية لكنها تابع ففارقت التمييز. ويتناول المفهم مقدار الكيل والوزن والمساحة وما أشبههما كمثقال ذرة خيرا، وذنوب ماء وحُب بُرّا ونحْي سمنا ومِسْأب عسلا وراقود خلّا وجمام المكوك دقيقا. ويتناول المفهم مثلية وغيرية نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"دَعُوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدُكم مثل أُحد ذهبا ما بلَغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصِيفَه" ونحو قول بعضهم: ما لنا مثله رجلا، ولنا بأمثالها إبلا وغيرها شاء. ومن مجيئه بعد مثل قول الشاعر:
فإنْ خِفْتَ يومًا أن يلجَّ بك الهوى
…
فإنّ الهوى يكْفيكَه مثلُه صبرا
ويتناول مفهم التعجب نحو ويحه رجلا، وحسبك به فارسا، ولله دره إنسانا، وأبرحت جارا.
ويا جارَتا ما أنتِ جارَهْ
ومتعلق الباء من قولي بالنص على جنس المراد بتميز، وتمام المميز بإضافة نحو لله دره إنسانا وملء الأرض ذهبا، و (عدْلُ ذلك صياما)، وتمامه بتنوين نحو رطلٌ زيتا، ومُدٌّ بُرّا، وتمامه بنون نحو منوان عسلا، وتمامه بنون جمع نحو (قلْ هل نُنَبِّئكم بالأخسرين أعمالا).
وتمامه بنون شبه الجمع نحو (وواعدْنا موسى ثلاثين ليلةً). وفهم من
سكوتي عن نون شبه المثنى أن التمييز لا يقع بعده. ثم قلت وينصبه مميزه لشبهه بالفعل أو شبهه، فمثال ما ينصبه لشبهه بشبه الفعل مميز المقادير وما ذكر بعده، إلا أبرحت جارا فإن حذف من المميز ما به تمامه جر مميزه بالإضافة، ولا يفعل ذلك بتنوين ظاهر إن كان ما هو فيه مقدر الإضافة إلى غير التمييز نحو البيت ممتلئ بُرّا، فإن تقديره البيت ممتلئ الأقطار بُرا، فلما كان المميز في هذا المثال ونحوه مضافا إلى غير التمييز تقديرا امتنع أن يضاف إلى التمييز، كما لا يضاف إلى المضاف صريحا فإن كان التنوين الظاهر فيما لا يقدر بذلك جاز بقاء التنوين ونصب المميز بالمييز. وزوال التنوين وإضافة المميز إلى المميز. ومما لا يضاف من المميزات المنون تقديرا في نحو ملآن ماء. فإن تقديره هو ملآن الأقطار ماء، فمنع تقدير الإضافة إلى التمييز، كما كان يمتنع اللفظ بها، فلو لم يكن المنون تقديرا مقدر الإضافة إلى غير التمييز جاز النصب على تقدير بقاء التنوين والجر بالإضافة على تقدير زواله كقولك: هند شنباء أنيابا. وشنباء أنياب.
ومن الممنوع الإضافة إلى التمييز للزوم تنوينه تقديرا أحد عشر وبابه، وكذلك أفعل التفضيل المميز بسببي نحو زيد أكثر مالا، وعلامة السببي صلاحيته للفاعلية بعد تصيير أفعل فعلا كقولك في زيد أكثر مالا: زيد كثُر مالُه. فإن لم يصلح ذلك تعنيت الإضافة كقولك زيد أكرم رجل فإن كان أفعل مضافا إلى جمع بعده تمييز لا يمتنع جعله مكان أفعل جاز بقاؤهما على ما كانا عليه وجاز حذف الجمع والإضافة إلى ما كان تمييزا كقولك زيد أشجع الناس رجلا، وأشجع رجل. وإلى هذا الإشارة بقولي "أو مضافا إليه صالحا لقيام التمييز مقامه". ومما لا يضاف إلى مميزه عشرون وأخواته، لا يقول عشرو درهم بل عشرون درهما، هذا هو المشهور.
وحكى الكسائي أن بعض العرب يقول عشرو درهم. ومن هذا احترزت بقولي
"غالبا". ومما لا يضاف ممتلئان وممتلئون ونحوهما، والعلة في ذلك مفهومة مما ذكرنا في ممتلئ وملآن.
ص: وتجب إضافة مفهم المقدار إن كان في الثاني معنى اللام، وكذا إضافة بعض لم تتغير تسميته بالتبعيض، فإن تغيرت به رجحت الإضافة والجر، على التنوين والنصب. وكون المنصوب حينئذ تمييزا أولى من كونه حالا، وفاقا لأبي العباس. ويجوز إظهار من مع ما ذكر في هذا الفصل إن لم يميز عددا ولم يكن فاعل المعنى.
ش: مثال مفهم المقدار الواجب الإضافة لكون معنى اللام فيما بعده: لي ظرف عسل، وكيس دراهم، تريد ظرفا يصلح للعسل، وكيسا يصلح للدراهم، فالإضافة في هذا النوع متعينة، فلو أردت عسلا يملأ ظرفا، ودراهم تملأ كيسا، جاز لك أن تضيف وتجر، وأن تنون وتنصب. ومثال واجب الإضافة لكونه بعضا لم تغير تسميته بالتبعيض قولك عندي جوز قطن وحب رمان وغصن ريحان وتمرة نخلة وسعف مقل. فهذا النوع أيضا إذا ميز بما هو منه فلا بد من إضافته إليه، لأن اسمه الذي كان له غير مستبدل به، بخلاف قولك جُبَة خزّ وخاتم فضة وسوار ذهب فإن أسماءها حادثة بعد التبعيض، والعمل الذي هيّأها بالهيئات اللائقة بها.
فلك في هذا النوع الجر بالإضافة والنصب على التمييز أو على الحال. والثاني هو ظاهر قول سيبويه. وقد تقدم في باب الحال بيان شبه سيبويه رحمه الله في جعله حالا. والأول قول أبي العباس، وهو أولى، لأنه لا يُحوج إلى تأويل. مع أن فيه ما في المجمع على كونه تمييزا، بخلاف الحكم بالحالية فإنه يحوج إلى تأويل بمشتق مع الاستغناء عن ذلك. ويحوج إلى كثرة تنكير صاحب الحال، وكثرة وقوع الحال غير منتقلة. وكل ذلك على خلاف الأصل فاجتنابه أولى.
فلو كان ما قبل خَزّ وفضّة وشبههما معرفة رجحت الحالية. وقد تقدم ذلك في باب الحال. وقولي ويجوز إظهار "من" مع ما ذكر في هذا الأصل إن لم يميز
عددا ولم يكن فاعل المعنى أشرت به إلى أن للقائل: لي ملء الكيس ذهبا، وإردب قمحا، وجمام المكوك دقيقا، وأمثالها إبلا وغيرها شاء، وويحه رجلا. وحسبُك به أمرأ، ولله دره فارسا، وأبرحت جارا وأمثال ذلك أن يجر المميز بمن ظاهرة فيقول: من ذهب ومن قمح ومن دقيق ومن إبل ومن شاء ومن رجل ومن امرئ ومن فارس ومن جارٍ. وكذلك ما أشبهه. وليس له أن يفعل ذلك في مميز العدد نحو أحد عشر دينارا وعشرين دينارا. ولا فيما هو فاعل في المعنى نحو زيد أكثر مالا وطيب نفسا بتفجير أرضه عيونا.
فصل: ص: مميز الجملة منصوب منها بفعل يُقَدّر غالبا إسناده إليه مضافا إلى الأول، فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له، أو لملابسه المقدر. وإن دل الثاني على هيئة وعُني به الأول جاز كونه حالا، والأجود استعمال "من" معه عند قصد التمييز. ولمميز الجملة من مطابقة ما قبله إن اتحدا معنى ماله خبرا، وكذا إن لم يتحدا ولم يلزم إفراد المميز، لإفراد معناه أو كونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه. وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى.
ش: المراد بمميز الجملة ما ذكر بعد جملة فعلية مبهمة النسبة نحو طبتُ نفسا. واشتعل رأسي شيبا، وفجرنا الأرض عيونا، وامتلأ الكوز ماء، وكفى الشيب ناهيا. وإنما أطلق مميز الجملة على هذا النوع خصوصا، مع أن كل تمييز فضلة على جملة، لأن لكل واحد من جزءَيْ الجملة في هذا النوع قسطا من الإبهام يرتفع بالتمييز، بخلاف غيره، فإن الإبهام في جزء من جملته، فأطلق على مميزه مميز مفرد، وعلى مميز هذا النوع مميز جملة. فالأكثر أن يصلح لإسناد الفعل إليه مضافا إلى المجعول فاعلا كقولك طابت نفسي، واشتعل شيب رأسي. ومنه (وسع كلَّ شيء علمًا)، لأن الأصل فيه: وسع علمُه كلَّ شيء. ومن هذا النوع قول الشاعر:
تلفتُّ نحوَ الحيِّ حتّى وَجدْتُني
…
وَجِعْتُ من الإصْغاء لِيتًا وأخْدعا
وقد يصلح لإيقاع الفعل عليه مضافا إلى المجعول مفعولا كقوله تعالى (وفَجَّرْنا الأرضَ عيونا) فإن أصله وفجرنا عيونَ الأرض. وقد يكون مميز الجملة بعد فعل ولا يصلح الإسناد إليه، ولا لإيقاعه عليه نحو امتلأ الكوزُ ماء، (وكفى بالله شهيدا)، وما أحسن الحليم رجلا. ومن نحو وفجرنا الأرض عيونا وما بعده احترزت بقولي "يقدر غالبا إسناده إليه" ثم قلت "فإن صح الإخبار به عن الأول فهو له أو لملابسه المقدر" فنبهت بذلك على أنه إذا قيل كرُم زيد أبا فيحتمل أن يكون المراد كرم زيد نفسه أبا، أي ما أكرمه من أب، ويحتمل أن يكون المراد كرُم أبو زيد أبا. أي ما أكرم أباه من أب، فالتمييز في الاحتمال المتقدم للأول، أي هما في الحقيقة شيء واحد، وهو في الاحتمال المتأخر لملابس الأول أي المضاف إليه تقديرا. وليس تقدير الإضافة شرطا، وإنما ذكرته تقريبا: ثم قلت: "وإن دل الثاني على هيئة وغنى به الأول جاز كونه حالا" فنبهت بذلك على أنه إذا قيل كرُم زيد ضيفا، والمراد أنه ضيف كريم جاز لك أن تجعل ضيفا حالا لدلالته على هيئة، وجاز أن تجعله تمييزا لصلاحيته أن يقترن بمن. والأجود عند قصد التمييز أن يجاء بمن رفعا لتوهم الحالية.
ثم قلت: "ولمميز الجملة من مطابقة ما قبله إن اتحدا معنى ماله خبرا" ففهم من ذلك أن يقال كرُم زيد رجلا وكرُم الزيدون رجالا وكرُم الزيدان رجلَيْن، فتجعل المميز مطابقا لما قبله في الإفراد والتثنية والجمع لاتحاده بما قبله في المعنى، كما كان يجعل مطابقا له في الإخبار به عنه. ولا يعترض على هذا بقوله تعالى (وحَسُنَ أولئك رفيقا) فإن الرفيق والصديق والخليل والعدوّ يستغني بمفردها عن جمعها كثيرا في الإخبار وغيره، ويزيده هنا حُسنا أنه تمييز، والتمييز قد اطرد في كثير منه الاستغناء بالمفرد عن الجمع نحوهم عشرون رجلا. ويمكن أن يكون الإفراد في حسُن أولئك رفيقا، لأن الأصل وحسُن رفيق أولئك رفيقا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه، وجاء التمييز على وفق المحذوف.
ثم قلت: "وكذا إن لم يتحدا" ففهم من هذا أنه يقال حسُن الزيدون وجوها وطهروا أعراضا، وجعلت ذلك مشروطا بألّا يلزم إفراد لفظه لإفراد معناه أو لكونه مصدرا لم يقصد اختلاف أنواعه. ففهم من ذلك أن من المميزات المباينة لما قبلها في المعنى ما يلزم إفراد لفظه لإفراد معناه، كقولك في أبناء رجل واحد: طاب بنو فلان أصلا، وكرُموا أبا، وكذا إفراد التمييز إذا كان مصدرا ولم يقصد اختلاف أنواعه كقولك: زكا الأتقياء سعيا، وجادت الأتقياء وَعْيا. فلو قصد اختلاف أنواع المصدر لاختلاف محالّه لجاز فيه ما جاز في أسماء الأشخاص كقولك: تخالف الناس أغراضا، وتفاوتوا أذهانا.
ثم قلت "وإفراد المباين بعد جمع إن لم يوقع في محذور أولى" وأشرت بذلك إلى أن المميز الذي لم يتحد بالأول معنى قد يكون بعد جمع، فيختار إفراده إذا لم يوقع في محذور كقوله تعالى (فإنْ طِبْنَ لكم عن شيء منه نفْسا) فالإفراد في هذا النوع أولى من الجمع، لأنه أخف والجمعية مفهومة مما قبلُ، فأشبه مميز عشرين وأخواته. فإن أوقع الإفراد في محذور لزمت المطابقة كقولك كرم الزيدون آباء، بمعنى ما أكرمهم من آباء، فلا بد من كون مميز هذا النوع جمعا، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد كون أبيهم واحدا موصوفا بالكرم. وفي الجمع أيضا احتمال أن يكون المراد كرُم آباء الزيدين، ولكنه مغتفر، لأن اعتقاده لا يمنع من ثبوت المعنى الآخر.
ص: ويعرض لمميز الجملة تعريفه لفظا فيقدر تنكيره، أو يؤوّل ناصبه بمتعدّ بنفسه أو بحرف جر محذوف، أو ينصب على التشبيه بالمفعول به لا على التمييز محكوما بتعريفه خلافا للكوفيين.
ش: قد يرد مميز الجملة مقرونا بالألف واللام فيحكم بزيادتها وبقاء التنكير كقول
الشاعر:
رأيتُك لمّا أنْ عرفتَ وُجوهَنا
…
صدَدْتَ وطِبتَ النفسَ ياقيسُ عن عمرو
أراد: وطبت نفسا. ومثله قول الآخر:
على مه مُلئت الرعبَ والحربُ لم تقِد
…
لظاها ولم تُستعمل البيضُ والسُّمْرُ
أراد: ملئت رعبا، فزاد الألف واللام. كما زيدتا في رواية البغداديين أن مِن العرب مَن يقول: قبضت الأحدَ عشر درهما، ومَن يقول: قبضت الأحد العشر الدرهم. وكما زيدتا مع المضاف فيما أنشد أبو علي من قول الشاعر:
تُولي الضجيعَ إذا تنبّه مَوْهِنا
…
كالأقْحُوانِ من الرَّشاشِ المُسْتقِي
أراد من رشاش المستقي. وقد يرد مميز الجملة مضافا إلى معرفة كقول العرب: غُبن فلان رأيَه، ووجِع بطنَه، وإلم رأسَه. وفيه توجيهات: أحدها أن تجعل الإضافة فيه منوية الانفصال ويحكم بتنكير المضاف، كما فُعل في قولهم: كم ناقة وفصيلها لك، فقدّر بكم ناقة وفصيلا لها، وكما فعل سيبويه في قوله: كل شاةٍ وسخلتها بدرهم، فقال:"وإنما يريد كل شاة وسخلة لها بدرهم".
وحكى عن بعضهم: هذه ناقة وفصيلها راتعان، على تقدير هذه ناقة وفصيل لها راتعان. ثم قال:"والوجه كل شاة وسخلتها بدرهم، وهذه ناقة وفصيلها راتعين، لأن هذا كثر في كلامهم وهو القياس. والوجه الآخر قاله بعض العرب".
والتوجيه الثاني أن ينصب رأيه وما كان مثله مفعولا به بالفعل الذي قبله مضمنا معنى فعل متعدّ كأنه قيل: سوأ رأيه وشكا بطنه ورأسه. وبهذا الاعتبار قال بعضهم في سفِه نفسَه أن معناه أهلك نفسه.
وقال المبرد: معناه ضيّع نفسه. وقال الزمخشري: معناه امتهن نفسه، وجعله نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم "الكبر أنْ يَسْفَه الحقَّ". وقال صاحب "العجائب والغرائب": مَن سفه في موضع نصب بالاستثناء مِن مَن يرغب، ونفسه توكيد للمستثنى، كما يقال ما قام أحد إلا زيد نفسَه.
التوجيه الثالث: أن تنصب رأيه وما كان مثله بإسقاط حرف الجر، كأنه قيل غبن في رأيه ووجع في بطنه وألم في رأسه، ثم أسقط حرف الجر فتعدى الفعل فنصب.
التوجيه الرابع من التوجيهات: أن ينصب رأيه وما كان مثله على التشبيه بالمفعول به، ويحمل الفعل اللازم على الفعل المتعدي، كما حملت الصفة اللازمة على الصفة المتعدية في قولهم: هو حسن وجهه والوجه، وغبن رأيه والرأي ووجع بطنه والبطن.
ومن ذلك قراءة بعضهم "إنّه آثمٌ قلبَه" ومنه قول الشاعر:
وما قومي بثَعْلبةَ بن سَعْد
…
ولا بفَزارةَ الشُّعْرِ الرِقابا
إلا أن النصب على التشبيه بالمفعول به شاذ في الأفعال مطرد في الصفات. وإنما كان الأمر كذلك لوجهين: أحدهما أن الصفة اللازمة تساوي الصفة المتعدية في عمل الجر بالإضافة بعد رفعهما ضميرا والجر أخو النصب وشريكه في الفضلية، فجاز أن يساويها في استبدال النصب بالجر والفعل بخلاف ذلك. الثاني أن المنصوب على التشبيه بالمفعول به لو حكم باطراده في الفعل اللازم كما حكم باطراده في الصفة
اللازمة لم يتميز لازم الأفعال من متعدّيها، بل كان اللازم يظن متعدّيا، ولا يعرض مثل ذلك إذا كان النصب على التشبيه بالمفعول به مقصور الاطراد على الصفات، شاذا في الأفعال: فإن في ذلك إشعارا بيّنا بالفرق بين المتعدي واللازم. ومما شذ وروده في الفعل ما في الحديث من قول راويه "إنّ امرأة تُهراق الدماء"أراد تُهراق دماؤها، وأسند الفعل إلى ضمير المرأة مبالغة، ثم نصب الدماء على التشبيه بالمفعول به أو على التمييز وإلغاء الألف واللام. ويجوز أن يكون أراد تهريق ثم فتح الراء وقلب الياء ألفا، لا لأنه فعل ما لم يسم فاعله، بل على لغة طيئ، كما قال شاعرهم:
نَسْتوقِدُ النَّبلَ بالحضيضِ ونَصْـ
…
ـطادُ نُفوسًا بُنَتْ على الكَرمِ
وكما قال الآخر:
أفي كُلِّ عام ماتَم تَبعثُونه
…
على مِحْمرَ ثوَّبتُموه وما رَضا
أراد في الأول بُنيتِ، وفي الثاني رَضِي. إلا أن المشهور من لغة طيئ أن يفعل هذا بلام الفعل لا بعينه وحرف العلة في تهراق عين، فمعاملته معاملة اللام على خلاف المعهود.
ومن المنصوب بفعل على التشبيه بالمفعول به قوله تعالى (وكمْ أهْلكنا مِن قرية بَطِرتْ معيشَتها) ويحتمل أن يكون تمييزا على تقدير الانفصال والتنكير، ويحتمل أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر، ويحتمل أن يكون الأصل بطرت مدة معيشتها، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب على الظرفية
نحو (وإدبارَ النُّجومِ).
ص: ولا يمنع تقديم المميز على عامله إن كان فعلا متصرفا وفاقا للكسائي والمازني والمبرد، ويمتنع إن لم يكنه بإجماع، وقد يستباح في الضرورة.
ش: أجمع النحويون على منع تقديم التمييز على عامله إذا لم يكن فعلا متصرفا، فإن كان إياه نحو طاب زيد نفسا، ففيه خلاف، والمنع مذهب سيبويه، والجواز مذهب الكسائي والمازني والمبرد، وبقولهم أقول: قياسا على سائر الفضلات المنصوبة بفعل متصرف، ولصحة ورود ذلك في الكلام الفصيح بالنقل الصحيح، كقول ربيعة بن مقروم الضبي:
وواردةٍ كأنها عُصبُ القطا
…
تُثير عجاجًا بالسَّنابك أصْهبا
رددتُ بمثلِ السِيدِ نَهْدٍ مقلّص
…
كميشٍ إذا عِطْفاه ماءً تَحلّبا
وكقول الآخر:
أتَهْجُر ليلى بالفراق حبيبَها
…
وما كان نفْسا بالفراق تَطيبُ
وكقول الآخر:
ضيّعت حزْمي في إبعادي الأملا
…
وما ارعويتُ ورأسي شيْبا اشتعلا
ومثله:
ولستُ إذا ذرْعا أضيقُ بضارِع
…
ولا يائسٍ عند التعسُّر من يُسر
ومثله:
أنفسًا تطيب بِنَيْلِ المُنى
…
وداعِي المَنون يُنادي جِهارا
وانتُصر لسيبويه أن مميز هذا النوع فاعل في الأصل، وقد أوهن بجعله كبعض الفضلات فلو قدّم لازداد إلى وهنه وهنا فمنع ذلك لأنه إجحاف.
قلت: وهذا الاحتجاج مردود بوجوه: أحدها أنه دفع روايات برأي لا دليل عليه، فلا يلتفت إليه. الثاني أن جعل التمييز كبعض الفضلات محصل لضرب من المبالغة ففيه تقوية لا توهين، فإذا حكم بعد ذلك بجواز التقديم ازدادت التقوية وتأكدت المبالغة فاندفع الإشكال. الثلاث أن أصالة فاعلية التمييز المذكور كأصالة فاعلية الحال في نحو جاء زيد راكبا رجل فإن أصله جاء راكب، على الاستغناء بالصفة، وجاء رجل راكب، على عدم الاستغناء بها، والصفة والموصوف شيء واحد في المعنى، فقدم راكب ونصب بمقتضى الحالية ولم يمنع ذلك تقديمه على جاء مع أنه يزال عن إعرابه الأصلي وعن صلاحية الاستغناء به عن الموصوف، وكما تنوسي الأصل في الحال، كذلك تنوسي في التمييز. الرابع أنه لو صح اعتبار الأصالة في عمدة جعلت فضلة لصح اعتبارها في فضلة جعلت عمدة، فكان يجوز للنائب عن الفاعل من التقديم على رافعه ما كان يجوز له قبل النيابة، والأمر بخلاف ذلك، لأن حكم النائب فيه حكم المنوب عنه، ولا يعتبر حاله التي انتقل عنها التمييز المذكور. الخامس أن منع تقديم التمييز المذكور عند مَن منعه مرتّب على كونه فاعلا في الأصل، وذلك إنما هو في بعض الصور. وفي غيرها هو بخلاف ذلك نحو امتلأ الكوز ماء، وفجّرنا الأرض عيونا. وفي هذا دلالة على ضعف علة المنع، بقصورها عن جميع الصور. السادس أن اعتبار أصالة الفاعلية في منع التقديم على العامل متروك في نحو: أعطيت زيدا درهما، فإن زيدا في الأصل فاعل وبعد جعله مفعولا لم يعتبر ما كان له من منع التقديم، بل أجيز فيه ما يجوز فيما لا فاعلية له في الأصل، فكذلك ينبغي أن يفعل بالتمييز المذكور.
فثبت بما بيّنته أن تقديم التمييز على عامله إذا كان فعلا متصرفا جائز وإن كان سيبويه لم يجزه. وحكى ابن كيسان أن الكسائي أجاز نفسَه طاب زيد، وأن الفراء منع ذلك. فإن كان عامل التمييز غير فعل أو فعلا غير متصرف لم يجز التقديم بإجماع، فإن استجيز في ضرورة عُدَّ نادرا، كقول الراجز:
ونارُنا لم يُرَ نارًا مثلها
…
قد علمتْ ذاك مَعَدٌّ كلُّها
أراد لم ير مثلها نارا، فنصب نارا بعد مثل، كما نصبوا زُبدا في قولهم: على التمرة مثلها زُبْدا ثم قدم نارا على مثل مع كونه عاملا لا يتصرف، ولوا الضرورة لم يُستَبح.