الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الواقع مفعولا مطلقا من مصدر وما جرى مجراه
ص: المصدر اسم دالّ بالأصالة على معنى قائم بفاعل، أو صادر عنه حقيقة أو مجازا أو واقع على مفعول. وقد يُسَمّى فعلا وحدثا وحدْثانا. وهو أصل الفعل لا فرعه خلافا للكوفيين، وكذا الصفة خلافا لبعض أصحابنا. ويُنصب بمثله أو فرعه أو بقائم مقام أحدهما. فإن ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد ويُسمَّى مُبْهما، ولا يُثنّى ولا يُجمع. وإن زاد عليه فهو لبيان النوع أو العدد، ويُسمّى مُختَصّا ومُؤقّتا ويُثنّى ويجمع. ويقوم مقام المؤكّد مصدر مرادف واسم مصدر غير عَلَم. ومقام المبيّن نوع أو وصف أو هَيْئة أو آلة أو كل أو بعض أو ضمير أو اسم إشارة أو وقت.
ش: تقييد الدلالة بالأصالة مخرج لأسماء المصادر، وهي عبارة عن كل اسم يساوي المصدر في الدلالة، ويُخالفه بعلميّة كحمادِ وجمادِ، أو لتجرّده دون عِوَض من زيادة في فعله كاغتسل غسلا وتوضأ وضوءا، فهذه وأمثالها إذا عُبّر عنها بمصادر فإنما ذلك مجاز، والحقيقة أن يُعبّر عنها بأسماء المصادر. والدال على معنى قائم بفاعل كحُسْن وفَهْم، والدال على معنى صادر عن فاعل كخط وخياطة، وقيام الحُسْن والفهْم بالفاعل حقيقة، وكذا صدور الخط والخياطة من فاعلهما بخلاف نسبة العدَم إلى المعدوم والموت للميت فإنها مجاز والواقع على مفعول مصدرُ ما لم يُسم فاعله. والمراد بالفاعل هنا الاصطلاحيّ وكذلك المفعول فبهذا يَعُمّ الحدّ مصدر كل فِعْل. وإطلاق المصدر على ما تناوله الحدّ إطلاق مُتّفق عليه. وقد يُعبَّر بالفعل والحدَث والحِدْثان، من التعبير عن الشيء بلفظ مدلوله.
واتفق البصريون والكوفيون على أن الفعل والمصدر مشتق أحدهما من الآخر، لكن البصريون جعلوا الأصالة للمصدر، وجعلها الكوفيون للفعل. والصحيح مذهب البصريين، ويدل على صحته ستة أمور: أحدها أن المصدر كثر كونه واحدًا
لأفعال ثلاثة، ماض ومضارع وأمر، فلو اشتُقَّ المصدر من الفعل لم يخل من أن يُشتق من الثلاثة أو من بعضها، واشتقاقه من الثلاثة محال، واشتقاقه من واحد منهما يستلزم ترجيحا من دون مرجّح، فيتعَّن اطّراح ما أفضى إلى ذلك.
الثاني أن المصدر معناه مفرد ومعنى الفعل مركّب من حدث وزمان والمفرد سابق للمركب، والدال عليه أولى بالأصالة من الدال على المركب.
الثالث أن مفهوم المصدر عام ومفهوم الفعل خاص، والدال على العام أولى بالأصالة من الدال على خاص.
الرابع أن كل ما سوى الفعل والمصدر من شيئين، أحدهما أصل والآخر فرع فإن في الفرع منهما معنى الأصل وزيادة كالتثنية والجمع بالنسبة إلى الواحد، وكالعدد المعدول بالنسبة إلى المعدول عنه، والفعل فيه معنى المصدر وزيادة تعيين الزمان فكان فرعا والمصدر أصلا.
الخامس أن من المصادر ما لا فعل له لفظا ولا تقديرا وذلك ويْحَ ووَيْل وويْس وويْب، فلو كان الفعل أصلا لكانت هذه المصادر فروعا لا أصول لها وذلك محال. وإنما قلنا إن هذه المصادر لا أفعال لها تقديرا، لأنها لو صيغ من بعضها فعل لاستحق فاؤه في المضارع من الحذف ما استحقّ فاءُ يَعدُ، ولاستحقّ عينُه من السكون ما استحق عين يبيع فيتوالى إعلال الفاء والعين، وذلك مرفوض في كلامهم، فوجب إهمال ما يؤدي إليه، وليس في الأفعال ما لا مصدر له مستعمل إلا وتقديره ممكن كتبارك وفعل التعجب، إذ لا مانع في اللفظ. وتقابل تلك الأفعال مصادر كثيرة تزيد على الأفعال كالبنوَّة والأبوّة والخُئولة والعُمومة والعُبوديّة واللُّصُوصية، وقِعْدكَ الله، وبله زيدا وبَهْله، فبطلت المعارضة بتبارك ونحوه وخلص الاستدلال بويح وأخواته.
وإعلاله نحو لاوَذَ لِواذا، ولاذَ لياذا لأن الشيئين قد يحمل أحدهما على الآخر وليس أحدهما أصلا للآخر كحمل يرضيان على رضيا وأعطيا على تعطيان والأصل يرضوان
وأعطوا، لأن حكم الواو بين فتحة وألف التصحيح، لكن حمل ذو الفتحة على ذي الكسرة ليجريا على سَنن واحدن فلذلك فُعل بالمصدرين من لاوذ ولاذ.
ولا حجة أيضا في توكيد الفعل بالمصدر لأن الشيء قد يؤكد بنفسه نحو زيد زيد قام، فلو دل التوكيد على فرعية المؤكد لزم كون الشيء فرع نفسه وذلك محال. ولا حجة أيضا في إعمال المصدر لأن الحرف يعمل في الاسم والفعل ولا حظ له في الأصالة. وببعض ما استدللنا به على فرعية الفعل بالنسبة إلى المصدر يستدل على فرعية الصفة بالنسبة إليه، لأن كل صفة تضمّنت حروف الفعل فيها ما في المصدر من الدلالة على الحدث وتزيد بالدلالة على ما هي له، كما زاد الفعل بالدلالة على الزمن المعيّن، فيجب كون الصفة مشتقة من المصدر لا من الفعل، إذ ليس فيها ما في الفعل من الدلالة على زمن معيّن فبطل اشتقاقها من الفعل وتعين اشتقاقها من المصدر كما قلنا.
ونصب المصدر بمثله كقولك عجبت من قيامك قياما. ونصبه بفرعه كقولك طلبتك طلبا، وأنا طالبك طَلَبا وأنت مطلوب طلبا. ونصبه بقائم مقام أحدهما كقولك عجبت من إيمانك تصديقا، وأنا مؤمن تصديقا، ولقاء الله مؤمَن به تصديقا. والمصدر المنصوب في جميع هذه الأمثة قد ساوى معناه معنى عامله فهو لمجرد التوكيد، ويسمى الواقع هكذا مُبْهما ولا يُثنَّى ولا يجمع لأنه بمنزلة تكرير الفعل فعُومِل معاملته في عدم التثنية والجمع، إذ هو صالح للقليل والكثير.
وإن زاد معناه على معنى عامله فهو لبيان النوع نحو سرت خَبَبا وعَدْوا ورَجعت القهْقَرى وقعدت القُرْفُصاء أو لعدد المرات نحو قمت قومتين وضربته ضربات. وقد يكون المبيّن للنوع بلفظ المؤكد فيُستقاد التنويع بوصفه أو إضافته أو إدخال حرف التعريف عليه أو بتثنيته أو بجمعه. ويقوم مقام المؤكد مصدر مرادفٌ نحو جلست قُعودا، أو اسمُ مصدر غير عَلَم نحو اغتسلت غُسلا وتوضّأت وضوءا.
ولا يستعمل اسم المصدر العلم المؤكد ولا مبيّنا فلا يقال حمدت حمادِ ونحو
ذلك أن العَلَم زائد معناه على معنى العامل فلا ينزل منزلة تكرار العامل، ولأنه كاسم الفعل فلا يُجمع بينه وبين الفعل ولا ما يقوم مقامه. ومن قيام أحد المترادفين مقام الآخر قول امرئ القيس:
ويوما على ظهر الكَثيب تعذّرت
…
عليّ وآلتْ حَلْفةً لم تحلّل
وقول رؤبة:
لوَّحها مِن بَعْد بُدن وسَنَقْ
تضميرَك السابق يُطوى للسَبَقْ
لَوَّحها: ضمّرها، والبُدْن السَمن، والسنق: البشم، والسبق الخطر.
ويقوم مقام المبيّن للنوع اسم نوع كالقهقرى والقرفصاء وكقوله تعالى: (والنازعاتِ غرقا)، أو وصف نحو:(واذكر ربَّك كثيرا) أو هيئة نحو يموت الكافر ميتة سوء، ويعيش المؤمن عيشة مَرْضيّة. أو آلة نحو ضرب المؤدب الصبيّ قضيبا أو سوطا. أو كل نحو قوله تعالى:(فلا تَميلوا كُلَّ الميل) أو بعض كقوله تعالى: (ولا تَضُرُّوه شيئا) أو ضمير كقوله تعالى: (فإنّي أعذِّبُه عذابًا لا أعذِّبُه أحدا من العالمين) أو اسم إشارة نحو لآخذنّ ذلك الحقّ، ولا بد من جعل المصدر تابعا لاسم الإشارة والمقصود به المصدرية،
ولذلك خطِّئ من حَمَل قول المتنبي:
هذي بَرزْتِ لنا فهجْت رَسيسا
على أنه أراد هذه البَرزة بَرزتِ، لأن مثل ذلك لا تستعمله العرب.
وقد يُقام مقام المصدر المبيّن زمان مضاف إليه المصدر تقديرا كقول الشاعر: ألم تغتمض عيناك ليلةَ أرْمَدا
أراد ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد، فحذف المصدر وأقام الزمان مقامه، كما عكس من قال: كان ذلك طلوعَ الشمس، إلا أن ذلك قليل وهذا كثير. ومن قيام النوع مقام المصدر قول الشاعر:
على كلِّ موّارٍ أفانينُ جِرْيه
…
شاوٍ لأبْواعِ الجمالِ الرَّواتِكِ
ومن قيام الصفة مقامه قول الآخر:
وضابغٌ أنْ جرى أيّا أردْتَ به
…
لا الشَّدُّ شَدٌّ ولا التقريبُ تقريبُ
أي لا الشد شد معتاد ولا التقريب تقريب معتاد، بل هما خارقا العادة.
والصحيح في المصدر الموافق معنى لا لفظا كونه معمولا لموافقه معنى، فحلفة من قوله وآلت حلفة لم تحلّل منصوب بآلت لا بحلفت مقدرا لعدم الحاجة إلى ذلك؛
ولأنه لو كان المخالف لفظا لا ينتصب إلا بفعل من لفظه لم يجز أن يقع موقعه ما لا فعل له من لفظه نحو حلفت يمينا (فلا تميلوا كلَّ الميل) و (فاجْلدوهم ثمانينَ جلدةً) و (ولا تضرُّونه شيئا). فهذه وأمثالها لا يمكن أن يقدر لها عامل من لفظها، بل لا بد من كون العامل فيما وقع منها ما قبله مما هو موافق معنى لا لفظا. ووجب اطراد هذا الحكم فيما له فعل من لفظه ليجري الباب على سَنن واحد. وهذا الذي اخترته هو اختيار المبرد والسيرافي.
ص: ويُحذف عامل المصدر جوازا لقرينة لفظية أو معنوية. ووُجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل، أو لكونه بدلا من اللفظ بفعل مستعمل في طلب أو خبر، إنشائي أو غير إنشائي أو في توبيخ مع استفهام ودونه. للنفس أو لمخاطب أو لغائب في حكم حاضر، أو لكونه تفصيل عاقبة طلب أو خبر، أو نائبا عن خبر اسم عين بتكرار أو حصر، أو مؤكد جملة ناصّة على معناه، وهو مؤكد نفسه، أو صائرة به نصّا وهو مؤكد غيره، والأصح منع تقديمها. ومن الملتزم إضمار ناصبه المشبهُ به مشعرا بحدوث بعد جملة حاوية فعله وفاعله معنى دون لفظ ولا صلاحية للعمل فيه. وإتباعه جائزٌ وإن وقعت صفة موقعه فإتباعها أولى من نصبها. وكذا التالي جملة خالية مما هو له، وقد يرفع مبتدأ المفيد طلبا وخبر المكرر والمحصور، والمؤكد نفسه، والمفيد خبرا إنشائيا وغير إنشائي.
ش: حذف عامل المصدر جوازا لقرينة لفظية كقولك لمَن قال: أيَّ سَيْر: سَيْرا حثيثا، ولمن قال ما قمت: بلى قياما طويلا. وحذفه لقرينة معنوية كقولك لمن تأهب لسفر: تأهبا مباركا وسفرا مأمونا، ولمن قدم من الحجّ: حجّا مبرورا وسَعْيا مشكورا. والمحذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مهمل إما مفرد كقولهم أُفَّةَ وتُفَّةَ ودَفْرا بمعنى نتنا، وبهرا بمعنى تبّا كقول الشاعر:
تفاقد قومي إذ يبيعون مُهْجَتي
…
بجاريةٍ بَهْرا لهم بعدها بَهْرا
وبمعنى عجبا كقول عمر بن أبي ربيعة:
ثم قالوا تُحبّها قلتُ بَهْرا
…
عَدَد الرمْل والحصى والتراب
وإما مضاف كقول الشاعر:
تَذَرُ الجماجِمَ ضاحِيا هاماتُها
…
بَلْهَ الأكُفِّ كأنّها لم تُخْلَقِ
أي تترك الأكف تركا كأنها لم تخلق. وروى بله الأكفَّ بالنصب على أنّه اسم فعل بمعنى اترك.
ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة قولهم في القسم الاستعطافي: قعْدَك الله إلّا فعلت، أي تثبيتك الله. ومثله عَمْرَكَ اللهُ في لزوم الإضافة والاستعطافَ، إلا أن هذا مختصر من التعمير مصدر عمّرتك الله بمعنى نشدتُكِ اللهَ. ومنه قول الشاعر:
عَمَّرْتُك الله إلّا ما ذكرتِ لنا
…
هل كنتِ جارتنا أيّامَ ذي سَلَمِ
وأصله من العُمْرِ وهو البقاء؛ فالمتكلم به متوسّل باعتقاد البقاء لله تعالى.
ومن المهمل الفعل ما يُضاف ويُفرد كقولهم للمصاب المرحوم: وَيْحَه وويحَ فلان وويحٌ له.
وفي الحديث "وَيْحَ عمّارٍ تقتلُه الفئةُ الباغيةُ". وللمتعجب منه: وَيْبا له ووَيْبَك وويبَ غيرِك. قال الشاعر:
فلا تجْبَهيه ويْب غيرك إنّه
…
فتًى عن دَنيّاتِ الخلائق نازِحُ
وكذا يقال لويْح غيرك ووَيْسه، مثلُه أو قريب منه. ويقال للمصاب المغضوب عليه: ويْلَه وويلٌ له، وويل له ويلٌ طويل، ووَيل له ويلا طويلا، وويل له ويْلا كَيْلا، وويل له وعَوْل، ووَيْلَك وعَوْلك، ولا يفرد عَوْل، وقد يفرد ويْل منصوبا كقول الشاعر:
كسا اللؤمُ تَيْمًا خُضرةً في جُلودها
…
فوَيْلاً لتيم من سرابيلها الخُضْرِ
ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة سُبْحان الله، أي براءةً له من السوء، وليس بمصدر لسبّح، بل سبّح مشتق منه كاشتقاق حاشيْت من حاشى، إذا نطق بلفظها، وكاشتقاق لولَيْتُ وصَهْصَيْتَ وافّفت وسوّفت وبأبَأت ولبَّيت من: لولا، وصه، واف، وسوف، وبأى، ولبّيك. وقالوا أيضا سَبْحَل إذا قال سبحان الله. وقد تفرد في الشعر سُبْحان منوّنة إن لم تُنو الإضافة كقول الشاعر:
سُبحانَه ثم سُبْحانًا نَعوذ به
…
وقبلنا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
وغير منون إن نُويت الإضافة، كقول الآخر:
أقولُ لمّا جاءني فخْرُه
…
سُبْحان من عَلْقَمةً الفاخِرِ
أراد سبحان الله فحذف المضاف إليه وترك المضاف بهيئته التي كان عليها قبل الحذف كما قال الراجز:
خالطَ من سَلْمى خياشيمَ وَفا
يريد: وفاها. وهذا التوجيه أولى من جعل سبحان عَلَما. ومثل سبحانك في المعنى وإهمال الفعل سَلامك في قول الشاعر:
سلامَك ربَّنا في كلِّ فَجْرٍ
…
بَريئا ما تَغَنَّثُك الذُمومُ
ومن المهمل الفعل اللازم للإضافة قولهم في إجابة الداعي: لبَّيْك، ومعناه لزوما لطاعتك بعد لزوم. قال سيبويه: أراد بقوله لبّيك وسَعْدَيْك إجابة بعد إجابة، كأنه قال كلّما أجبتك في أمر فأنا في الآخر مجيب، وهو مثنى اللفظ. وزعم "يونس" أنه مفرد اللفظ وأن ياءه منقلبة عن ألف إجراء له مجرى "على" وردّ عليه "سيبويه" بقول الشاعر:
دَعَوت لِما نابني مِسْورا
…
فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
فأثبت الياء في إضافته إلى الظاهر، ولو كان جاريا مجرى "على" لم يفعل به ذلك، كما لا يفعل بعلى. وفي قول الشاعر إضافة "لبَّيْ" إلى الظاهر، والمعروف إضافته إلى ضمير المخاطب، فشذت إضافته إلى ظاهر كما شذت إضافته إلى ضمير الغائب في قول الراجز:
إنَّك لو دَعوتني ودُوني
…
زوْراء ذات مُتْرع بَيُونِ
…
لقُلتُ لبَّيه لمن يَدعوني
وقد يغني عن لبيك لبّ مفردا مكسورا جعلوه اسم فعل بمعنى أجبت.
والمحذوف العامل وجوبا لكونه بدلا من اللفظ بفعل مستعمل في طلب منه مضاف نحو غفرانك، و:"ضرْبَ الرِقاب" ومنه مفرد وهو أكثر من المضاف.
وليس مقيسا عند سيبويه مع كثرته، وهو عند الفراء والأخفش مقيس بشرط إفراده وتنكيره نحو سَقْيا له ورَعْيا، وجَوْعا لعدوّك وتعْسا، ومنه قول الشاعر:
سَقْيا لقومٍ لدَيْنا هُم وإنْ بَعدوا
…
وخيبةً للأولى وجْدانُهم عَدَمُ
ومثله في الأمر:
فصَبْرا في مجال الموتِ صَبْرا
…
فما نَيْلُ الخُلودِ بمُسْتطاعِ
ومثله في النهي:
قد زادَ حُزنُكَ لمّا قيل لا حَزَنا
…
حتى كأنّ الذي ينهاكَ يُغْريكا
والوارد منه في خبر إنشائي: حمْدًا وشُكْرًا لا جَزَعا، وعَجَبا، وقَسَمًا لأفعلنَّ. قال سيبويه: ومما ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجب قوله كَرَما وصلفا كأنه يقول أكرمك الله، ثم قال: لأنه صار بدلا من قولك أكرِمْ به وأصْلِفْ. قلت: وهذا أيضا مما يتناوله الخبر الإنشائي.
وأما الخبر غير الإنشائي فكقولك في وَعْد من يَعزُّ عليك: أفعلُ وكَرامةً ومَسَرَّةً، وكقولك للمغضوب عليه لا أفعل ولا كَيْدا ولا هَمًّا، ولأفعلنّ ما يسوؤك، ورَغْما وهَوانًا. وأما الوارد في التوبيخ مع استفهام فكقول الشاعر:
أذُلًّا إذا شبَّ العدى نارَ حَرْبهم
…
وزَهْوا إذا ما يَجْنحون إلى السَّلْمِ
وفي توبيخ دون استفهام كقولك:
خمُولًا وإهمالًا وغيرُك مُولعٌ
…
بتَثْبيتِ أسبابِ السيادةِ والمجدِ
وقد يفعل هذا من يخاطب نفسه كقول عامر بن الطفيل "أغُدةً كغُدَّة البعير ومَوْتًا في بيت سَلُولِيَّة". وقد يقصد بمثل هذا غائب في حُكم حاضر كقولك وقد بلغك أن شيْخا يُكثر اللهو واللعب: ألَعبًا وقد علاه الشيبُ?
ومثال الكائن في تفصيل عاقبة طلب قوله تعالى: (حتّى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاقَ فإمّا مَنًّا بعدُ وإمّا فداءً) ومثال المفصل به عاقبة خبر قول الشاعر:
لأجْهدنَّ فإمّا درْءَ واقعةٍ
…
تُخْشى وإمّا بُلوغَ السُّؤْلِ والأملِ
ومثال النائب عن خبر اسم عين بتكرير قول الشاعر:
أنا جِدًّا جدّا ولَهْوُك يَزْدا
…
دُ إذنْ ما إلى اتّفاقٍ سَبِيلُ
ومثال النائب بحصر قول الشاعر:
ألا إنّما المُسْتوجِبون تفضُّلا
…
بدارا إلى نَيْل التقدُّمِ في الفضلِ
واشترط كون هذا بتكرير ليكون أحد اللفظين عوضا من ظهور الفعل فثبت بذلك سبب التزام إضمار الفعل، وقام الحصر مقام التكرير، لأنه لا يخلو من لفظ يدل عليه وهو إلا بعد نفي، أو إنما فجعل ذلك أيضا عوضا، ولأن في الحصر من تقوية المعنى ما يقوم مقام التكرير واشترط كون المخبر عنه اسم عين، لأنه لو كان اسم معنى لكان المصدر خبرا فيرتفع كقولك جِدُّك جِدٌّ عظيمٌ، وإنما بدارُه
بدارُ حريصٍ. وإذا كان اسم عين لم يصلح جعل المصدر خبرا له إلا على سبيل المجاز.
وإذا لم يصلح جعلُه خبرًا تعيّن نصبُه بفعل هو الخبر، فتقدير جدًّا جِدًّا: أنا أجِدُّ جِدًّا. وتقدير (إنما المستوجبون بدارا) إنما المستوجبون تفضلا يبادرون بِدارا. ولو عُدِم الحصر والتكرير لم يلزم الإضمار، بل يكون جائزا هو والإظهار.
ومن المضمر عامله وجوبا المصدر المؤكد مضمون الجملة، فإن كان لا يتطرق إليها احتمال يزول بالمصدر سُمّي مؤكدا لنفسه، لأنه بمنزلة تكرير الجملة، فكأنه نفس الجملة، وكأن الجملة نفسه، وهو كقولك: له عليّ دينارٌ اعترافا. فإن كان مفهوم الجملة يتطرق إليه احتمال يزول بالمصدر فتصير الجملة به نصا سُمّي مؤكدا لغيره؛ لأنه ليس بمنزلة تكرير الجملة فهو غيرها لفظا ومعنى، وذلك كقولك: هو ابني حقا. ولا يجوز تقديمهما على الجملة لأن مضمونهما يدل على العامل فيهما، ولا يتأتى ذلك إلا بعد تمام الجملة.
وأما قوهم أجدَّك لا تفعل فأجاز فيه أبو علي الفارسي تقديرين: أحدهما أن تكون "لا تفعل" في موضع الحال. والثاني أن تكون صلة أجدك أن لا تفعل ثم حذفت أن وبطل عملها. وزعم أبو علي الشلوبين أن فيه معنى القسم ولذلك قُدّم.
ومن الملتزم إضمار ناصبه المصدر المشبه به بعد جملة مشتملة على معناه وعلى ما هو فاعل في المعنى، ولا بد من دلالته على الحدوث فمن ذلك قولهم:"له دقٌّ دَقَّكَ بالمِنْحازِ حَبَّ القِلْقِلِ" وله صوت صوت حمار. ومنه قول الشاعر
يصف طعنة:
لها بعدَ إسنادِ الكليم وهَدْئه
…
ورَنّة مَن يبكي إذا كان باكيا
هديرٌ هديرَ الثَّور يَنفُض رأسَه
…
يَذُبُّ برَوقَيْهِ الكلابَ الضواريا
فلو لم يكن بعد جملة لم يجز النصب كقولك: دَقُّه دَقُّك بالمنحاز، وصوتُه صوتُ حمار، وهديرُها هديرُ الثور. فلو كان بعد جملة تضمنت الحدث دون معنى الفاعل لم يجز النصب، إلا على ضعف كقولك فيها صوتٌ صوت حمار، فتجعل صوت حمار بدلا؛ لأنه إنما استجيز في له صَوتٌ صوتَ حمارٍ، لأن له صوت بمنزلة هو يصوّت، لاشتماله على صاحب الصوت، فجاز أن يجعل بدلا من اللَّفظ بيصوّت مسندا إلى ضمير بخلاف فيها صوت فإنه لم يتضمن إلا الصوت فلم يَحسن أنْ يُجعل بدلا من اللفظ بيصوّت. ومع ذلك فالنصب جائز على ضعف، لأن الكلام الذي قبله وإن لم يتضمن اسم ما هو فاعل في المعنى، فكونه جملة متضمنة للصوت كاف، فإنك إذا قلت فيها صوت ع لم أن فيها مصوتا، لاستحالة صوت بلا مصوّت.
ولو كان المصدر غير دال على حدوث لم يجز النصْب كقولك له ذكاءٌ ذكاءُ الحكماء، لأن نصب صوته وشبهه لم يثبت إلا لكون ما قبله بمنزلة يفعل مسندا إلى فاعل، فقولك مررت بزيد وله صوت بمنزلة قولك مررت به وهو يصوّت، فاستقام نصب ما بعده لاستقامة تقدير الفعل في موضعه. وإذا قلت مررت بزيد وله ذكاء فلست تريد (أنك مررت به) وهو يفعل، لكنك أخبرت عنه بأنه ذو ذكاء، فنزل ذلك منزلة مررت به وله يدٌ يدُ أسدٍ فكما يلا ينتصب يد أسد لا ينتصب ما هو بمنزلته. فإن عبرت بالذكاء عن عمل دل على الذكاء جاز النصب.
وإن وقع موقع المصدر المشار إليه صفة ضعف النصب ورجح الإتباع كقولك له صوت أيُّ صوت، ولو نصب لجاز على تقدير يصوت أيَّ تصويت. ومنه قول رؤبة بن العجاج:
قولك أقوالا مع التِّحْلافِ
…
فيه ازدهافٌ أيَّما ازدهاف
ولا يغني المصدر الذي تضمنته الجملة عن إضمار فعل لعدم صلاحيته للعمل، فإن شرط عمل المصدر إذا لم يكن بدلا من اللفظ بالفعل صلاحية تقديره بحرف مصدري وفعل، والمصدر المشار إليه بخلاف ذلك، فلو تضمنت الجملة ما فيه معنى الفعل والصلاحية للعمل لكان هو العامل نحو هو مصوّت تصويت حمارٍ.
ومن هذا ونحوه احترزت بقولي: "دون لفظ ولا صلاحية للعمل فيه". ويلحق بله صوت صوت حمار قول أبي كبير الهذلي:
ما إنْ يَمَسُّ الأرضَ إلّا منكِبٌ
…
منه وحرفُ الساقِ طَيَّ المِحْمَلِ
ولذلك قال سيبويه بعد إنشاد هذا البيت: صار ما إن يمس الأرض بمنزلة له طيّ. ويجوز في نحو إنما أنت سيرا الرفع، على أن تجعل المعنى خبرا عن اسم العين مبالغة، ومنه قول الخنساء:
تَرْتَعُ ما غفَلتْ حتّى إذا ادَّكَرتْ
…
فإنما هي إقبالٌ وإدْبارُ
وكذلك يجوز في نحو له عليّ دينار اعترافا رفع اعتراف على تقدير: هذا الكلام اعتراف. وإذا استوفيت شروط نصب المشبه به فرفعه على الإتباع جائز، وكذا نصبه على الحال، والعامل بيديه أو نحوه. ومثال رفع المفيد طلبا قول حسان رضي
الله عنه:
أهاجَيْتُمْ حسّان عند ذكائِه
…
فغيٌّ لأولاد الحِماسِ طويلُ
ومثله:
يشكو إليَّ جَمَلي طولَ السُّرى
…
صبرٌ جميلٌ فكِلانا مُبتلى
قال سيبويه بعد إنشاد هذا البيت: والنصب أجود وأكثر لأنه يأمره. ومثال رفع المفيد إنشاء قول الشاعر:
عَجَبٌ لتلك قضية وإقامتي
…
فيكم على تلك القضِيَّة أعْجَبُ
ومثال المفيد خبرا غير إنشائي قول الشاعر يصف أسدا:
أقام وأقْوى ذات يوم وخَيْبةٌ
…
لأوَّلِ مَن يلقى وشَرُّ مُيَسَّرُ
ص: وقد ينوب عن المصدر اللازم إضمار ناصبه صفاته كعائذا بك وهنيئا لك، وأقائما وقعد الناس، وأقاعدا وقد سار الركب، وأقائما علم الله وقد قعد الناس، وأسماء أعيان كتُربا وجندلا، و"فاها لفيك" و"أأعْور وذا ناب" والأصح كون الأسماء مفعُولات، والصفات أحوالا.
ش: الأصل في الدعاء والإنشاء والتوبيخ والاستفهام أن يكون بالفعل، وكثرت نيابة المصدر عنه في ذلك، لقوة دلالته عليه نحو مَعاذَ الله وغُفْرانَه و.
أذُلّا إذا شَبّ العدَى نارَ حَرْبهم
وقُعودا يعلم اللهُ وقد سار الركبُ.
وقد يقوم مقام المصادر صفات مقصود بها الحالية على سبيل التوكيد نحو عائذا بالله من شرها، وهنيئا لك، وأقاعدا وقد سار الركبُ، وقائما علم الله وقد قعد الناس، فوقعت الصفات في مواقع المصادر لتضمنها إياها، وجعلت أحوالا مؤكدة لعواملها المقدرة واستغنى بها عن المؤكد، كما استغنى عن المصادر، ولا يستبعد كون الحال مؤكدة لعاملها مع كونه من لفظها، فإن ذلك واقع في أفصح الكلام، كقوله تعالى:(وأرسلناك للناس رسولا) وقوله تعالى: (وسَخَّرَ لكم الليلَ والنهارَ والشمسَ والقمرَ والنجومُ مسخَّراتٌ بأمره).
ومن نيابة الحال عن المصدر في الإنشاء قول عبدا لله بن الحارث السهمي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
ألحَقْ غذابَكَ بالقومِ الذين طَغَوا
…
وعائِذا بك أن يَعْلُو فيُطْغُوني
أراد وأعوذ عائذا بك، فحذف الفعل وأقام الحال، كما كان يفعل بالمصدر لو قال عياذا بك. ومن نيابتها في التوبيخ قول الآخر:
أراكَ جمعْتَ مسألةً وحِرْصا
…
وعندَ الحقِّ زَحّارا أُنانا
الأُنان: الأنين. والعامل فيه زحارا لأن زحَر قريب المعنى من أنَّ. ومن نيابتها في الاستفهام قول الذبياني:
أتارِكةً تَدَلُّلَها قَطامِ
…
وضَنّا بالتحيّة والكَلامِ
فهذا كقولك أقائما زيد وقد قعد الناس.
وقد حمل المبرد عائذا بك وأقاعدا وقد سار الركب ونحوهما على أنها مصادر جاءت على وزن فاعل كقولهم فُلِج فالِجا. وما ذهب إليه غير صحيح، لأنه يوافقنا على أن عائذا وقاعدا ونحوه لا يدل على المصدرية في غير الأمكنة التي ادّعى فيها المصدرية، فدلالتها عليها في هذه الأمكنة اشتراك ومخالفة للاستعمال المجمع عليه فلا يقبل مجرد الدعوى. ولو سلّم الاشتراك لكانت المصدرية مرجوحة في الصفات المشار إليها، لأن استعمالها في غير المصدرية أكثر من استعمالها في المصدرية عند مَن يرى صلاحيتها، فكان الحكم بعدم مصدريتها أولى.
ومما يدل على أن عائذا وقاعدا ونحوهما ليست بمصادر في الأمكنة المذكورة امتناع مجيئها في الأمكنة المتمحضة للمصدرية نحو قعدت قعودا طويلا، وقعدت قعودَ خاشع، والقعود المعروف، فلو جعلت قاعدا في أحد هذه الأمكنة لم يجز، فدل ذلك على انتفاء مصدريته وثبوت حاليته، ولذلك لا يجيء هذا النوع إلا نكرة، ولو كان مصدرا لجاز وقوعه معرفة كما جاز تعريف المصدر. قال سيبويه:"ومن العرب من ينصب بالألف واللام، من ذلك قول: الحمدَ لله، فينصبها عامة بني تميم وناس من العرب كثير. وسمعنا العرب الموثوق بهم يقولون: العَجَب لك". قلت فعلى هذا لو قيل العياذَ بك موضع عياذا بك لجاز، ولو عرّف عائذ من قولهم: عائذا بك [لم يجز]، فدل ذلك على أنه حال لا مصدر. وفي بعض ما ذكرته كفاية والحمد لله تعالى. وكلا التقديرين قول سيبويه.
ومثله قولهم: "فاها لفيك" والضمير ضمير الداهية. ومثله قول الشاعر:
تحَسَّبَ هَوّاسٌ وأقبلَ أنني
…
بها مُفْتَدٍ من واحدٍ لا أغامِرُه
فقلتُ له "فاها لفيك" فإنها
…
قَلُوصُ امرئ قاريكَ ما أنت حاذِرُهْ
ومن حكم على هذه الأسماء بالمصدرية فليس بمصيب ولو نال من الشهرة أوفر نصيب. لكن الموضع بالأصالة للفعل ثم للمصدر ثم للحال ثم للمفعول به، فمن قال تُرْبا لك وجَنْدَلا فكأنه قال ترِبت وجُنْدلتَ، ومن قال فاها لفيك فكأنه قال دُهيت، فلو رُوعي في النيابة الدرجة الأولى لقيل تُربا لك، وجَنْدلةً ودهيا. ولو رُوعيت الدرجة الثانية لقيل متروبا ومجندلا ومدّهيا، لكنهم راعوا الدرجة الثالثة فجيء بأسماء الأعيان.
ومن نيابة المفعول به عن فعل الإنكار قول رجل من بني أسد: يا بني أسد "أعْوَرَ وذانابٍ". يريد أتَستقبلون أعْورَ وذاناب. وذلك في يوم التقى أسد وبنو عامر، فرأى بعض الأسديين بعيرا أعور فتطيّر وقال لقومه هذا الكلام، فقَضى أن قومه هُزموا وقُتِل منهم.