الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ، وَالظَّالِمُ: الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ. وَأَكْثَرُهُمْ إِنَّمَا يَظْلِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 19] . وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنَ الْعَدْلِ، أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْعِلْمِ، الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ، فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنِ الرَّسُولِ، وَقَالُوا: هَذِهِ غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ، فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ، وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ، مِثْلَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مُقَلِّدِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا، وَيَذُمُّ مَنْ خَالَفَهُ، مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ.
[الِاخْتِلَافُ نَوْعَانِ اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ]
ثُمَّ إِنَّ أَنْوَاعَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ قِسْمَانِ: اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ:
وَاخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ عَلَى وُجُوهٍ:
مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:«كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ» .
وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ.
ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ -: مَا دَخَلَ بِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى الْقَوْلُ الْآخَرُ، لَكِنِ الْعِبَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَلْفَاظِ الْحُدُودِ، وَصِيَغِ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. ثُمَّ الْجَهْلُ أَوِ الظُّلْمُ يَحْمِلُ عَلَى حَمْدِ إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَذَمِّ الْأُخْرَى وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى قَائِلِهَا! وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّضَادِّ، فَهُوَ الْقَوْلَانِ الْمُتَنَافِيَانِ، إِمَّا فِي الْأُصُولِ، وَإِمَّا فِي الْفُرُوعِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَالْخَطْبُ فِي هَذَا أَشَدُّ، لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ يَتَنَافَيَانِ، لَكِنْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي مَعَ مُنَازِعِهِ فِيهِ حَقٌّ مَا، أَوْ مَعَهُ دَلِيلٌ يَقْتَضِي حَقًّا مَا، فَيَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ، حَتَّى يَبْقَى هَذَا مُبْطِلًا فِي الْبَعْضِ، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مُبْطِلًا فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ. وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً وَنُورًا رَأَى مِنْ هَذَا مَا يُبَيِّنُ لَهُ مَنْفَعَةَ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ تُنْكِرُ هَذَا، لَكِنْ نُورٌ عَلَى نُورٍ.
وَالِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ، الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ، الذَّمُّ فِيهِ وَاقِعٌ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَى الْآخَرِ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى حَمْدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَحْصُلُ بَغْيٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الْحَشْرِ: 5] . وَقَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَقَطَعَ قَوْمٌ، وَتَرَكَ آخَرُونَ.
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79]
[الْأَنْبِيَاءِ: 78 - 79] فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.
وَكَمَا فِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَلِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: إِذَا «اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» وَنَظَائِرُ ذَلِكَ.
وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي، هُوَ مَا حُمِدَ فِيهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَذُمَّتِ الْأُخْرَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [الْبَقَرَةِ: 253] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الْحَجِّ: 19] الْآيَاتِ.
وَأَكْثَرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَئُولُ إِلَى الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ - مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. لِأَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَعْتَرِفُ لِلْأُخْرَى بِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تُنْصِفُهَا، بَلْ تَزِيدُ عَلَى مَا مَعَ نَفْسِهَا مِنَ الْحَقِّ زِيَادَاتٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْأُخْرَى كَذَلِكَ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ مَصْدَرَهُ الْبَغْيَ فِي قَوْلِهِ:{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 213] . لِأَنَّ الْبَغْيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَذُكِرَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ.