الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّبِيِّينَ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 85] .
[حَالَةُ اقْتِرَانِ الْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ غَيْرُ حَالَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ]
فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالَةَ اقْتِرَانِ الْإِسْلَامِ بِالْإِيمَانِ غَيْرُ حَالَةِ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَمَثَلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ، كَمَثَلِ الشَّهَادَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، فَشَهَادَةُ الرِّسَالَةِ غَيْرُ شَهَادَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ، فَهُمَا شَيْئَانِ فِي الْأَعْيَانِ وَإِحْدَاهُمَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْأُخْرَى فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ، كَشَيْءٍ وَاحِدٍ. كَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ، لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا إِسْلَامَ لَهُ، وَلَا إِسْلَامَ لِمَنْ لَا إِيمَانَ لَهُ، إِذْ لَا يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْ إِسْلَامٍ بِهِ يَتَحَقَّقُ إِيمَانُهُ، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُ مِنْ إِيمَانٍ بِهِ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَفِي كَلَامِ النَّاسِ كَثِيرَةٌ، أَعْنِي فِي الْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ.
مِنْهَا: لَفْظُ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَالْكُفْرُ إِذَا ذُكِرَ مُفْرَدًا فِي وَعِيدِ الْآخِرَةِ دَخَلَ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الْمَائِدَةِ: 5] . وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا كَانَ الْكَافِرُ مَنْ أَظْهَرَ كُفْرَهُ، وَالْمُنَافِقُ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ.
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلَفْظُ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَفْظُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَلَفْظُ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَيَشْهَدُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، قَوْلُهُ تَعَالَى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَاتِ: 14] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: {قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] : انْقَدْنَا بِظَوَاهِرِنَا، فَهُمْ مُنَافِقُونَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيِ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَأُجِيبُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَرُجِّحَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ
كَامِلِي الْإِيمَانِ، لَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ، كَمَا نَفَى الْإِيمَانَ عَنِ الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي، وَالسَّارِقِ، وَمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا سِبَاقُ الْآيَةِ وَسِيَاقُهَا، فَإِنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى هُنَا فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَأَحْكَامِ بَعْضِ الْعُصَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الْحُجُرَاتِ: 14] وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ مَا نَفَعَتْهُمُ الطَّاعَةُ، ثُمَّ قَالَ:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الْحُجُرَاتِ: 15] الْآيَةَ، يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِي الْإِيمَانِ، هُمْ هَؤُلَاءِ، لَا أَنْتُمْ، بَلْ أَنْتُمْ مُنْتَفٍ عَنْكُمُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ. يُؤَيِّدُ هَذَا: أَنَّهُ أَمَرَهُمْ، أَوْ أَذِنَ لَهُمْ، أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَالْمُنَافِقُ لَا يُقَالُ لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانُوا مُنَافِقِينَ لَنَفَى عَنْهُمُ الْإِسْلَامَ، كَمَا نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَثْبَتَ لَهُمْ إِسْلَامًا، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَمُنُّوا بِهِ عَلَى رَسُولِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِسْلَامًا صَحِيحًا لَقَالَ: لَمْ تُسْلِمُوا، بَلْ أَنْتُمْ كَاذِبُونَ، كَمَا كَذَّبَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَيَنْتَفِي بَعْدَ هَذَا التَّقْدِيرِ وَالتَّفْصِيلِ دَعْوَى التَّرَادُفِ، وَتَشْنِيعُ مَنْ أَلْزَمَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَوْ كَانَ هُوَ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ ذَلِكَ،
وَلَا يُقْبَلَ إِيمَانُ الْمُخْلِصِ! وَهَذَا ظَاهِرُ الْفَسَادِ، فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ تَنْظِيرُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَّ حَالَةَ الِاقْتِرَانِ غَيْرُ حَالَةِ الِانْفِرَادِ. فَانْظُرْ إِلَى كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، الْحَدِيثَ، فَلَوْ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ -: مَا كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِصْمَةَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَائِمِينِ بِحَقِّهَا، وَلَا يَكُونُ قَائِمًا بِـ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَقَّ الْقِيَامِ، إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَةِ، وَكَذَا مَنْ شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، [الْأَحْزَابِ: 35] . وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ» -: كَانَ الْمُرَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْمُرَادِ مِنَ الْآخَرِ. وَكَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ» . وَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا شَمِلَ مَعْنَى الْآخَرِ وَحُكْمَهُ، وَكَمَا فِي الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّ لَفْظَيِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ إِذَا اجْتَمَعَا،
افْتَرَقَا، فَهَلْ يُقَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [الْمَائِدَةِ: 89]- أَنَّهُ يُعْطَى الْمُقِلُّ دُونَ الْمُعْدِمِ، أَوْ بِالْعَكْسِ؟ وَكَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 271] .
وَيَنْدَفِعُ أَيْضًا تَشْنِيعُ مَنْ قَالَ: مَا حُكْمُ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُسْلِمْ؟ أَوْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُؤْمِنْ؟ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ لِأَحَدِهِمَا حُكْمًا لَيْسَ بِثَابِتٍ لِلْآخَرِ ظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ تَشْنِيعِهِ: أَنْتَ تَقُولُ: الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] فَجَعَلَهُمَا غَيْرَيْنِ، وَقَدْ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟ قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا» ، قَالَهَا ثَلَاثًا، فَأَثْبَتَ لَهُ الْإِسْلَامَ وَتَوَقَّفَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ، فَمَنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ - كَانَ مُخَالِفًا، وَالْوَاجِبُ رَدُّ مَوَارِدِ النِّزَاعِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَدْ يَتَرَاءَى فِي بَعْضِ النُّصُوصِ مُعَارَضَةٌ، وَلَا مُعَارَضَةَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي التَّوْفِيقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]
[الذَّارِيَاتِ: 35 - 36] عَلَى تَرَادُفِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُخْرَجَ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاتِّصَافِ بِهِمَا تَرَادُفُهُمَا.