الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا زَنَى الْعَبْدُ نُزِعَ مِنْهُ الْإِيمَانُ، فَإِنْ تَابَ أُعِيدَ إِلَيْهِ» .
[النِّزَاعُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ لَفْظِيٌّ]
وَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا، فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ سِوَى مَا يَحْصُلُ مِنْ عُدْوَانِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى وَالِافْتِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَنَحْوِهِمْ، وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي، بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ حَقًّا كَامِلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلِيٌّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ! فَلَا يُبَالِي بِمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي. وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَالَتِ الْمُرْجِئَةُ: لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ لِمَنْ عَمِلَهُ! وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا.
فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه نَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ لُغَةً مَعَ أَدِلَّةٍ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ. وَبَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله نَظَرُوا إِلَى حَقِيقَتِهِ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ ضَمَّ إِلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
[أَدِلَّةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ]
فَمِنْ أَدِلَّةِ الْأَصْحَابِ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ إِقْرَارٌ بِالْقَلْبِ رحمه الله: أَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، قَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17]
[النَّحْلِ: 106] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَلْبَ هُوَ مَوْضِعُ الْإِيمَانِ، لَا اللِّسَانَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، لَزَالَ كُلُّهُ بِزَوَالِ جُزْئِهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ قَدْ عُطِفَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، قَالَ تَعَالَى:{آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 25] ، فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَى اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ - بِمَنْعِ التَّرَادُفِ بَيْنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ، وَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ فِي مَوْضِعٍ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يُوجِبُ التَّرَادُفَ مُطْلَقًا؟ وَكَذَلِكَ اعْتُرِضَ عَلَى دَعْوَى التَّرَادُفِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّرَادُفِ: أَنَّهُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ إِذَا صَدَّقَ: صَدَّقَهُ، وَلَا يُقَالُ: آمَنَهُ، وَلَا آمَنَ بِهِ، بَلْ يُقَالُ: آمَنَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [الْعَنْكَبُوتِ: 26] .
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يُونُسَ: 83] . وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 61] فَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُعَدَّى بِالْبَاءِ وَالْمُعَدَّى بِاللَّامِ، فَالْأَوَّلُ يُقَالُ لِلْمُخْبَرِ بِهِ، وَالثَّانِي لِلْمُخْبِرِ. وَلَا يَرِدُ كَوْنُهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا، لِأَنَّ دُخُولَ اللَّامِ لِتَقْوِيَةِ الْعَامِلِ، كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ، أَوْ كَانَ الْعَامِلُ اسْمَ فَاعِلٍ، أَوْ مَصْدَرًا، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُقَالُ قَطُّ: قَدْ آمَنْتُهُ، وَلَا صَدَّقْتُ لَهُ، إِنَّمَا يُقَالُ. آمَنْتُ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: أَقْرَرْتُ لَهُ. فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِأَقْرَرْتُ - أَقْرَبَ مِنْ تَفْسِيرِهِ بِصَدَّقْتُ، مَعَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي الْمَعْنَى، فَإِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ غَيْبٍ، يُقَالُ لَهُ فِي اللُّغَةِ: صَدَقْتَ، كَمَا يُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ. فَمَنْ قَالَ: السَّمَاءُ فَوْقَنَا، قِيلَ لَهُ: صَدَقْتَ.
وَأَمَّا لَفْظُ الْإِيمَانِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: طَلَعَتِ الشَّمْسُ -: صَدَّقْنَاهُ، وَلَا يُقَالُ: آمَنَّا لَهُ، فَإِنَّ فِيهِ أَصْلَ مَعْنَى الْأَمْنِ، وَالِائْتِمَانُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، فَالْأَمْرُ الْغَائِبُ هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْمُخْبِرُ. وَلِهَذَا لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ لَفْظُ آمَنَ لَهُ - إِلَّا فِي هَذَا النَّوْعِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يُقَابَلْ لَفْظُ الْإِيمَانِ قَطُّ بِالتَّكْذِيبِ كَمَا يُقَابَلُ لَفْظُ التَّصْدِيقِ، وَإِنَّمَا يُقَابَلُ بِالْكُفْرِ، وَالْكُفْرُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْذِيبِ، بَلْ لَوْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنْ لَا أَتَّبِعُكَ، بَلْ أُعَادِيكَ وَأُبْغِضُكَ وَأُخَالِفُكَ -: لَكَانَ كُفْرُهُ أَعْظَمَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ التَّصْدِيقَ فَقَطْ، وَلَا الْكُفْرُ هُوَ التَّكْذِيبَ فَقَطْ، بَلْ إِذَا كَانَ الْكُفْرُ
يَكُونُ تَكْذِيبًا، وَيَكُونُ مُخَالَفَةً وَمُعَادَاةً بِلَا تَكْذِيبٍ. فَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ، يَكُونُ تَصْدِيقًا وَمُوَافَقَةً وَانْقِيَادًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ جُزْءَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.
وَلَوْ سُلِّمَ التَّرَادُفُ، فَالتَّصْدِيقُ يَكُونُ بِالْأَفْعَالِ أَيْضًا. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنُ تَزْنِي، وَزِنَاهَا السَّمْعُ» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ» . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله: لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَكِنَّهُ مَا وَقَرَ فِي الصَّدْرِ وَصَدَّقَتْهُ الْأَعْمَالُ. وَلَوْ كَانَ تَصْدِيقًا فَهُوَ تَصْدِيقٌ مَخْصُوصٌ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْلًا لِلَّفْظِ وَلَا تَغْيِيرًا لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنَا بِإِيمَانٍ