الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَمْ يَخُصَّ أُمَّتَهُ بِذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا، فَتَأَمَّلْهُ. وَلَيْسَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرُ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُهُ: فِي النَّارِ - مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ: لَا يُخَلَّدُونَ. وَإِنَّمَا قَدَّمَهُ لِأَجْلِ السَّجْعَةِ، لَا أَنْ يَكُونَ [فِي النَّارِ] خَبَرًا لِقَوْلِهِ: وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ.
[اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْكَبِيرَةِ]
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَبَائِرِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَقِيلَ: سَبْعٌ.
وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَقِيلَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَقِيلَ: مَا يَسُدُّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ.
وَقِيلَ: ذَهَابُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ.
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى مَا دُونَهَا.
وَقِيلَ: لَا تُعْلَمُ أَصْلًا. أَوْ: أَنَّهَا أُخْفِيَتْ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ.
وَقِيلَ: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ أَوْ تُوُعِّدَ عَلَيْهَا بِالنَّارِ، أَوِ اللَّعْنَةِ، أَوِ الْغَضَبِ، وَهَذَا أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ قَائِلِيهِ:
مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَحَدِّ الْآخِرَةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يُخْتَمْ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَعِيدِ: الْوَعِيدُ الْخَاصُّ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةُ أَوِ الْغَضَبُ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا، أَعْنِي الْمَقْدِرَةَ، فَالتَّعْزِيرُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرُ الْوَعِيدِ بِغَيْرِ النَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ.
وَهَذَا الضَّابِطُ يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، كَالشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَالسِّحْرِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَالْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلِ الرِّبَا، وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَتَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ السَّلَفِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ حَنْبَلٍ رضي الله عنهم، وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النِّسَاءِ: 31] . فَلَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الْوَعْدَ الْكَرِيمَ مَنْ أُوعِدَ بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ وَنَارِهِ، وَكَذَلِكَ مَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَاتُهُ مُكَفَّرَةً عَنْهُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ مَرْجِعُهُ إِلَى مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهُوَ حَدٌّ مُتَلَقًّى مِنْ خِطَابِ الشَّارِعِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِهِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ،
بِخِلَافِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: سَبْعٌ، أَوْ سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوْ إِلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ -: مُجَرَّدُ دَعْوَى.
وَمَنْ قَالَ: مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ دُونَ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ -: يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَالْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ، وَالتَّزَوُّجَ بِبَعْضِ الْمَحَارِمِ، وَالْمُحَرَّمَ بِالرَّضَاعَةِ وَالصِّهْرِيَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ - لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَأَنَّ الْحَبَّةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالسَّرِقَةَ لَهَا، وَالْكِذْبَةَ الْوَاحِدَةَ الْخَفِيفَةَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ -: مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ.
وَمَنْ قَالَ: مَا سَدَّ بَابَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، أَوْ ذَهَابَ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ -: يَقْتَضِي أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَأَكْلَ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ - لَيْسَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَهَذَا فَاسِدٌ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ كَبَائِرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا دُونَهَا، أَوْ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ -: يَقْتَضِي أَنَّ الذُّنُوبَ فِي نَفْسِهَا لَا تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ! وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ خِلَافُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَقْسِيمِ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا لَا تُعْلَمُ أَصْلًا، أَوْ إِنَّهَا مُبْهَمَةٌ -: فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، فَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَهَا غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا تَائِبِينَ - لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا خِلَافَ أَنَّهَا تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِ التَّائِبِ.
وَقَوْلُهُ: بَعْدَ أَنْ لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى عَارِفِينَ - لَوْ قَالَ: مُؤْمِنِينَ، بَدَلَ قَوْلِهِ: عَارِفِينَ، كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِالْمَعْرِفَةِ وَحْدَهَا الْجَهْمُ، وَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِنَّ
إِبْلِيسَ عَارِفٌ بِرَبِّهِ، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْحِجْرِ: 36] . {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [لُقْمَانَ: 25] . {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85]
[الْمُؤْمِنُونَ: 84 - 85] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ الْكَامِلَةَ الْمُسْتَلْزِمَةَ لِلِاهْتِدَاءِ، الَّتِي يُشِيرُ إِلَيْهَا أَهْلُ الطَّرِيقَةِ، وَحَاشَا أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ، بَلْ هُمْ سَادَةُ النَّاسِ وَخَاصَّتُهُمْ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ بِفَضْلِهِ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ - فَصَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الشِّرْكَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشِّرْكَ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَّقَ غُفْرَانَ مَا دُونَهُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالْجَائِزُ يُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ سَوَاءً لَمَا كَانَ لِلتَّفْصِيلِ مَعْنًى. وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ هَذَا الْغُفْرَانَ بِالْمَشِيئَةِ، وَغُفْرَانُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، غَيْرُ مُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَرِ: 53] . فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْغُفْرَانُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ هُوَ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ سِوَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ.