الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ: مَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. فَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، حَتَّى أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَسْتَحْسِنُونَ طَرِيقَتَهُمْ، وَكَذَا شُيُوخُ الْمُعْتَزِلَةِ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَهُودِ وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى النَّصَارَى. وَأَكْثَرُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْعُبَّادِ، مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى، وَلِهَذَا يَمِيلُونَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَشُيُوخُ هَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ وَأَهْلَهُ، وَشُيُوخُ أُولَئِكَ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَيُصَنِّفُونَ فِي ذَمِّ السَّمَاعِ وَالْوَجْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا هَؤُلَاءِ.
[لِفِرَقِ الضَّلَالِ طَرِيقَتَانِ فِي الْوَحْيِ]
وَلِفِرَقِ الضَّلَالِ فِي الْوَحْيِ طَرِيقَتَانِ: طَرِيقَةُ التَّبْدِيلِ، وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ. أَمَّا أَهْلُ التَّبْدِيلِ فَهُمْ نَوْعَانِ: أَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، وَأَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ.
فَأَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا عَنِ
اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِأُمُورٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ! لَكِنَّهُمْ خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَتَخَيَّلُونَ بِهِ وَيَتَوَهَّمُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ شَيْءٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ، وَأَنَّ الْأَبَدَانَ تُعَادُ، وَأَنَّ لَهُمْ نَعِيمًا مَحْسُوسًا، وَعِقَابًا مَحْسُوسًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ لِمَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ! ! وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ قَانُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
وَأَمَّا أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا! ثُمَّ يَجْتَهِدُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّأْوِيلَاتِ! ! وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ، بَلْ يَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَذَا. وَغَايَةُ مَا مَعَهُمْ إِمْكَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ.
وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ، الَّذِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ! وَيَقُولُونَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَعْلَمُهُ جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] . {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فَاطِرٍ: 10] . {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]
وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى! ! وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ! !
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا وَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا! ! وَمَعَ هَذَا، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا، وَقَالُوا مَعَ هَذَا: إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا، وَهَؤُلَاءِ مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً، وَلِهَذَا يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ مَا يَجْعَلُهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا أَيْضًا! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ تِلْكَ النُّصُوصِ! ! فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُعَلَّمْ، بَلْ نَحْنُ عَرَفْنَا الْحَقَّ بِعُقُولِنَا ثُمَّ اجْتَهَدْنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عُقُولَنَا، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقْلِيَّاتِ! ! وَلَا يَفْهَمُونَ السَّمْعِيَّاتِ! ! وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ، مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاهِيَةِ، الْمُفْضِيَةِ بِقَائِلِهَا إِلَى الْهَاوِيَةِ.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180] .