الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجَعَلَ الْحَسَنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ السَّيِّئَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، بَلْ فِي الْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا:" {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] "" وَمِنْ سَيِّئَةٍ "، مِثْلُ قَوْلِهِ:" {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78] "" {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 78] ".
وَفَرَّقَ سبحانه وتعالى بَيْنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَبَيْنَ السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَصَائِبُ، فَجَعَلَ هَذِهِ مِنَ اللَّهِ، وَهَذِهِ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مُضَافَةٌ إِلَى اللَّهِ، إِذْ هُوَ أَحْسَنَ بِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَمَا مِنْ وَجْهٍ مِنْ أَوْجُهِهَا إِلَّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْإِضَافَةَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا السَّيِّئَةُ، فَهُوَ إِنَّمَا يَخْلُقُهَا لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ مِنْ إِحْسَانِهِ، فَإِنَّ الرَّبَّ لَا يَفْعَلُ سَيِّئَةً قَطُّ، بَلْ فِعْلُهُ كُلُّهُ حَسَنٌ وَخَيْرٌ.
[لَا يَخْلُقُ اللَّهُ شَرًّا مَحْضًا]
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي الِاسْتِفْتَاحِ: «وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» . أَيْ: فَإِنَّكَ لَا تَخْلُقُ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ كُلُّ مَا يَخْلُقُهُ فَفِيهِ حِكْمَةٌ، هُوَ بِاعْتِبَارِهَا خَيْرٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَرٌّ لِبَعْضِ النَّاسِ، فَهَذَا شَرٌّ جُزْئِيٌّ إِضَافِيٌّ، فَأَمَّا شَرٌّ كُلِّيٌّ، أَوْ شَرٌّ مُطْلَقٌ -: فَالرَّبُّ سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عَنْهُ. وَهَذَا هُوَ الشَّرُّ الَّذِي لَيْسَ إِلَيْهِ.
وَلِهَذَا لَا يُضَافُ الشَّرُّ إِلَيْهِ مُفْرَدًا قَطُّ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62]{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النِّسَاءِ: 78] وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى السَّبَبِ، كَقَوْلِهِ:{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الْفَلَقِ: 2] وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ، كَقَوْلِ الْجِنِّ: وَأَنَّا
{لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الْجِنِّ: 10]
وَلَيْسَ إِذَا خَلَقَ مَا يَتَأَذَّى بِهِ بَعْضُ الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ فِيهِ حِكْمَةٌ، بَلْ لِلَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَا هُوَ شَرٌّ جُزْئِيٌّ بِالْإِضَافَةِ يَكُونُ شَرًّا كُلِّيًّا عَامًّا، بَلِ الْأُمُورُ الْعَامَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا خَيْرًا أَوْ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ، كَالْمَطَرِ الْعَامِّ، وَكَإِرْسَالِ رَسُولٍ عَامٍّ.
وَهَذَا مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَيِّدَ كَذَّابًا عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا الصَّادِقِينَ، فَإِنَّ هَذَا شَرٌّ عَامٌّ لِلنَّاسِ، يُضِلُّهُمْ، فَيُفْسِدُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَدُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَلِكِ الظَّالِمِ وَالْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الظَّالِمَ لَا بُدَّ أَنْ يَدْفَعَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرِّ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ، وَقَدْ قِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً بِإِمَامٍ ظَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِلَا إِمَامٍ، وَإِذَا قُدِّرَ كَثْرَةُ ظُلْمِهِ، فَذَاكَ خَيْرٌ فِي الدِّينِ، كَالْمَصَائِبِ، تَكُونُ كَفَّارَةً لِذُنُوبِهِمْ، وَيُثَابُونَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَيَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَدُوِّ. وَلِهَذَا قَدْ يُمَكِّنُ اللَّهُ كَثِيرًا مِنَ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ مُدَّةً، وَأَمَّا الْمُتَنَبِّئُونَ الْكَذَّابُونَ فَلَا يُطِيلُ تَمْكِينَهُمْ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُهْلِكَهُمْ، لِأَنَّ فَسَادَهُمْ عَامٌّ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ - لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46]
[الْحَاقَّةِ: 44 - 46] .
وَفِي قَوْلِهِ: فَمِنْ نَفْسِكَ - مِنَ الْفَوَائِدِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِهِ