الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا كَانَ كَثْرَةَ السُّؤَالِ ثُمَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الرُّسُلِ بِالْمَعْصِيَةِ.
[الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ]
ثُمَّ الِاخْتِلَافُ فِي الْكِتَابِ، مِنَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ - عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ.
وَالثَّانِي اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَكِلَاهُمَا فِيهِ إِيمَانٌ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.
فَالْأَوَّلُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا الْكَلَامُ حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ
بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَعَتْ فِي كَلَامِهَا بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَآمَنَتْ بِبَعْضِ الْحَقِّ، وَكَذَّبَتْ بِمَا تَقُولُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَثِيرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَرِ، هَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ وَهَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا وُكِّلْتُمْ؟ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» . وَفِي رِوَايَةٍ: يَا قَوْمُ بِهَذَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَضَرْبِهِمِ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ:«فَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَإِنَّ الْمِرَاءَ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ» . وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ.
وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: «هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ» .
وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِهِ، مُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، يُقِرُّونَ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يُخَالِفُهُ: إِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، فَيَجْحَدُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ! وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّفْظِ بِلَا مَعْنًى هُوَ مِنْ جِنْسِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الْجُمُعَةِ: 5] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [الْبَقَرَةِ: 78] أَيْ: إِلَّا تِلَاوَةً مِنْ