الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نصّ على ذلك الفقهاء عند ذكرِهم لحكم بعض المسائل والصور; مثل تأجير نفسِها لإرضاع صبي (1) ، وقيامها بالغزل أو النسج أو العجن أو نقش الأيدي بالحِنَّاء، ونحوه (2) ، فإنهم ذكروا أن هذه الصور لا تُسقط النفقة الواجبة على الزوج.
والعلّة في ذلك أنّ موجِب النفقة إنما هو الاحتباس أو التمكين، وكلاهما مَوجودان في هذه الصُّور بتسليمها نفسَها. وليس المانعُ مِن وجوب كمالِ النفقة اكتسابُها وغناها.
وخالف في هذه الصور بعضُ فقهاء الحنفيّة فرأوا أن للرجل منع امرأته مِن الكسب بالغزل ونحوه ولو كان عملها داخل بيتها ولا تخرج منه; وعللوا ذلك بأنها مستغنية عن هذا الكسب بالنفقة (3).
ولكنّ قولَهم تُتبع (4) ، بأن المعنى مِن النفقة إنما هو الكفاية، وليس ذلك بمانع من التكسب.
ومِن جهة أخرى فإن الذي في مقابل النفقة إنما هو الاحتباس وليس منع التصرف مطلقًا.
الثاني: أن يَكون العملُ واجبًا عينيًّا عليها شرعًا
.
وذلك لأن عمل المرأة الواجب عليها شرعًا لا يُشترَط فيه إذن الزوج; بناءً على
(1) وهذا مذهب الحنفية [البحر الرائق لابن نجيم 4/ 195] ، وأحد القولين عند الشافعية [الحاوي 7/ 424 ، روضة الطالبين 5/ 186].
ومشهور مذهب الحنابلة أنه ليس للمرأة أن تؤجر نفسَها للرضاع [الشرح الكبير، والإنصاف 21/ 426]. وهو قولٌ عند الشافعية [الحاوي 7/ 424 ، روضة الطالبين 5/ 186].
(2)
حاشية ابن عابدين 5/ 288. إعانة الطالبين 4/ 84.
(3)
البحر الرائق لابن نجيم 4/ 213 ، حاشية ابن عابدين 5/ 288، 318.
(4)
وتعقبه ابن عابدين في (الحاشية 5/ 288 ،318].
ما تقرر مِن أنّ الواجبات إذا تزاحمت قُدّم حقُّ الله تعالى فيها، وأنّ في طاعة الزوج بترك الواجبِ معصيةٌ لله تعالى; وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق)(1).
وهذا الأمر متفقٌ مع القواعد الشَّرعية التي تحكم التعارض بين المصالح والمفاسد فإن المصلحة العامة تُقدّم على المصلحة الخاصة للزوج.
ويؤخذ هذا الشرط من كلام الفقهاء في بعض صور خروج المرأة لأمرٍ واجبٍ أنه لا يُسقط النفقة ولو بدون إذنٍ من الزوج; كمسألة خروجها للحج المنذور (2)، ونحوه.
وقد مثّل بعض الفقهاء لبعض المهن والأعمال التي يكون خروج المرأة إليها واجبًا; مثل القابلة، أو مُغسلة الموتى، وقرروا أنه يجوز لها أن تخرج بغير إذن الزوج (3) ; وعللوه بأن فوات عمل القابلة يترتب عليه هلاك الجنين أو أُمّه، وتغسيل الميّت من فروض الكفايات التي يأثم الناسُ بتركِها ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل غيرها وعليه فإنه يكون واجبًا عينيًّا في حقّها. وكذا مَا كان في عمل المرأة ضرورةٌ عامة أو خاصّة (4).
ولا بُدّ مِن تقييد هذا العمل بكونه واجبًا وجوبًا عينيًّا على الفور; لأن ما لا يجب على الفور; كالحجّ ونحوه ليس داخلًا في هذا السبب.
وكذا ما كان من الواجبات الكفائية التي تحصل بغيرها من الناس; كصلاة
(1) رواه الإمام أحمد في (المسند 2/ 333) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد صحيح.
(2)
الكافي لابن قدامة 5/ 79 ، الفروع لابن مفلح 9/ 301 ، حواشي الإقناع 2/ 993.
(3)
فتح القدير لابن الهمام 4/ 398 ، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 178 ، البحر الرائق 4/ 212، الفتاوى الهندية 1/ 557 ، مجمع الأنهر 1/ 496.
(4)
السياسة الشرعية في الأحوال الشخصيّة، د. عبد الفتاح عمرو ص 94.
الجنازة ونحوها (1).
وهذا هو سبب اختلاف بعض الفقهاء في بعض المهن هل وجوبها عيني أم أنه كفائي?
وبذا نعرف مأخذ رأي بعض فقهاء الحنفيّة -على خلاف مَا نُقل عن غيرهم من فقهاء المذهب- من كونهم يجيزون للزوج أن يمنع زوجته من الوظائف السابقة (القابلة، والمغسّلة)(2) ، بناءً على أنها من الواجب الكفائي لا العَيني. وهذا في الحقيقة راجعٌ لاختلاف الحال، لا الحُكم.
وقد توسَّع بعضُ المعاصرين في هذا المناط فأدخل فيه الواجباتِ الكفائيةَ; كتدريس المرأة للبنات، وعمل المرأة طبيبةً، أو ممرضةً، ونحو ذلك، وذكر أن الخروج لهذا العمل الكفائي لا يحتاج إلى إذن من الزوج، ولا تسقط به النفقة. بخلاف غيرها من الوظائف فإنها تحتاج إلى إذن، وإلا سقطت النفقة بخروج المرأة للعمل (3).
وفي هذا التوسع في مناط المسألة نظر; فإن حقّ الزوج على زوجته فرضٌ عينيٌّ وهو مقدّم على اشتغالها بفرض الكفاية، بل وحتى على الحجّ وهو فرض عيني موسَّع.
ولا أعلم أنّ أحدًا مِن الفقهاء أجاز للمرأة الخروج للفرض الكفائي على إطلاق، وإنما هو في حال تعيّن هذا العمل عليها.
(1) المبدع لبرهان الدين ابن مفلح 7/ 202.
(2)
البحر، حاشية ابن عابدين 3/ 663.
(3)
محمد أبو زهرة (الأحوال الشخصية ص 237) في الهامش الطبعة الثالثة.