الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَقِيَّة أَخْبَار أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن عبد الْمُنعم الحاحي وَمَا دَار بَينه وَبَين السُّلْطَان زَيْدَانَ رحمه الله
هُوَ يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم الحاحي الدَّاودِيّ المناني وَكَانَ جده سعيد وَاحِد وقته علما ودينا وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الله بِهِ السّنة بالسوس وانتعش بِهِ الْإِسْلَام فِيهِ وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة فخلفه وَلَده أَبُو مُحَمَّد عبد الله وَجرى على نهجه وسبيله بل كَانَ بعض النَّاس يفضله على أَبِيه وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وَدفن بزداغة من جبل درن حَيْثُ كَانَت زاويته وَلما مَاتَ جلس وَلَده أَبُو زَكَرِيَّاء يحيى مَوْضِعه وانتهج سَبيله وَكَانَ فَقِيها مشاركا رَحل إِلَى فاس وَأخذ عَن شيوخها كالمنجور وَغَيره وَعَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد الحسني على مَا وجد بِخَطِّهِ السوساني الشهير بأدفال دَفِين درعة وَهُوَ معتمده أَخذ عَنهُ كثيرا من الْفُنُون وَأَجَازَهُ فِي عُلُوم الحَدِيث إجَازَة عَامَّة وَكَانَ يحيى شَاعِرًا محسنا وَكَانَت لَهُ شهرة عَظِيمَة بالصلاح وَله أَتبَاع كوالده وجده وتوجهت إِلَى زيارته الهمم وَركبت إِلَيْهِ النجائب إِلَّا أَنه وَقع لَهُ قريب مِمَّا وَقع لأبي محلي فتصدى للْملك وخاض فِي أُمُور السلطنة فتكدر مشربه وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء إِن الرياسة إِذا دخلت قلب رجل لَا تقصر عَن إذهاب رَأسه وَلذَلِك قَالَ صَاحب الْفَوَائِد فِي حَقه إِنَّه قَامَ لجمع
الْكَلِمَة وَالنَّظَر فِي مصَالح الْأمة فاستمر بِهِ علاج ذَلِك إِلَى أَن توفّي وَلم يتم لَهُ أَمر وَكَانَ يراسل السُّلْطَان زَيْدَانَ وَيكثر عَلَيْهِ وَيُجِير عَلَيْهِ من استجار بِهِ ويروم إِلَى مناصحته ابْتِغَاء ويحسو من ذَلِك حسوا فِي ارتغاء وَكَانَ زَيْدَانَ يتَحَمَّل مِنْهُ أمرا عَظِيما فمما كتب بِهِ يحيى إِلَيْهِ مَا نَصه من يحيى بن عبد الله بن سعيد بن عبد الْمُنعم كَانَ الله لَهُ بجميل لطفه آمين اللَّهُمَّ إِنَّا نحمدك على كل حَال ونشكرك يَا ولي الْمُؤمنِينَ على دفع اللاواء والمحال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونستوهبك يَا مَوْلَانَا جميل لطفك وجزيل فضلك فِي الْمقَام والترحال عائذين بِوَجْهِك الْكَرِيم من مؤاخذتنا بِسوء أَعمالنَا يَا شَدِيد الْمحَال هَذَا وَسَلام الله الأتم ورضوانه الْأَعَمّ وَرَحمته وَبَرَكَاته على الْمولى الإِمَام الْعلم الْمِقْدَام الْعلوِي الْهمام كَيفَ أَنْتُم وَكَيف أحوالكم مَعَ هَذَا الزَّمَان الَّذِي شمر عَن سَاقه لسلب الْأَدْيَان وألح فِي اقْتِضَاء هَوَاهُ على كل مديان فَإنَّا لله وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل وَبعد فالباعث بِهِ إِلَيْكُم فِي هَذِه البطاقة أُمُور ثَلَاثَة مدارها على قَوْله صلى الله عليه وسلم (الدّين النَّصِيحَة لله وَلِرَسُولِهِ ولكتابه ولخاصة الْمُسلمين وعامتهم) فَالْأول بَيَان سَبَب الركون إِلَى جانبكم وَالثَّانِي الْحَامِل على دفع مناويكم وَالثَّالِث مُلَازمَة نصحكم وتذكيركم والضجر مِمَّا يصدر مِنْكُم وَمن أعوانكم للرعية أما الأول فَلهُ أَسبَاب كَثِيرَة مِنْهَا مُرَاعَاة الجناب النَّبَوِيّ الْكَرِيم فِي أهل بَيته وَرَضي الله عَن أبي بكر الصّديق الْقَائِل ارقبوا مُحَمَّدًا فِي أهل بَيته وَالْقَائِل لقرابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحب إِلَيّ أَن أصل من قَرَابَتي
(يَا أهل بَيت رَسُول الله حبكم
…
فرض من الله فِي الْقُرْآن أنزلهُ)
(يكفيكم من عَظِيم الْمجد أَنكُمْ
…
من لم يصل عَلَيْكُم لَا صَلَاة لَهُ)
وَمِنْهَا نصح خَاصَّة الْمُسلمين الَّذِي هُوَ الدُّعَاء بالهداية لَهُم ورد الْقُلُوب النافرة إِلَيْهِم ونصحهم بِقدر الْإِمْكَان مشافهة ومراسلة ومكاتبة وَقد
بذلنا الْجهد فِي الْجَمِيع أخْلص الله الْقَصْد فِي الْجَمِيع وَأما الثَّانِي فَلَمَّا جرى الْقدر بتغلب ذَلِك الْإِنْسَان المتسلط على النَّفس والحريم وَالْأَمْوَال وَأدْخل بتأويلاته الْبَعِيدَة عَن الصَّوَاب مَا لَيْسَ فِي الْمَذْهَب وتعدى خُصُوص الْوُلَاة إِلَى سَائِر الرّعية فاضلها ومفضولها وَمد مَعَ ذَلِك يَد الْوَعيد الْمُؤَكّد بِالْإِيمَان إِلَيْنَا فِي الْأَنْفس وَالْأَمْوَال فناشدناه كَمَا تقرر فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّة رضي الله عنهم حَيْثُ توفرت فِيهِ فُصُول الصَّائِل كلهَا بِشَاهِد العيان فَكَانَ الْأَمر كَمَا قدر الله تَعَالَى {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} الرّوم 4 وَأما الثَّالِث فالكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع أما الْكتاب فسورة وَالْعصر قَائِمَة الْبُرْهَان فِي كل أَوَان وعصر وَقَالَ تَعَالَى فِي قَضِيَّة كليمه {رب بِمَا أَنْعَمت عَليّ فَلَنْ أكون ظهيرا للمجرمين} الْقَصَص 17 وَقد اسْتشْهد بِهِ بعض الْعلمَاء فِي بري قلم لكاتب بعض الْأُمَرَاء الْمُتَقَدِّمين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَقَوله جلّ من قَائِل {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} الْمَائِدَة 2 وَأما السّنة فَالْحَدِيث الأول قَوْله صلى الله عليه وسلم (الْمعِين شريك) وَقَوله (من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يقدر فبلسانه فَإِن لم يقدر فبقلبه وَذَلِكَ أَضْعَف الْإِيمَان) وَقد كُنَّا مقتصرين على التَّغْيِير بِاللِّسَانِ والقلم لكَون التَّغْيِير العملي إِلَيْكُم حَتَّى جذبتمونا إِلَيْهِ ودللتمونا بارتكاب أصعب مرام عَلَيْهِ وَقَوله (من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله) وَقد قَالَ الْمواق فِي شَرحه على الْمُخْتَصر من أعَان على عزل إِنْسَان وتولية غَيره وَلم يَأْمَن سفك دم مُسلم فَهُوَ شريك فِي دَمه إِن سفك ثمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدّم استعظاما لذَلِك الْأَمر الفظيع فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون على أَنا اِنْخَدَعْنَا بِاللَّه حَتَّى كُنَّا نَأْمَن بِالْقطعِ سفك الدِّمَاء إِذْ ذَاك حَيْثُ كتبت إِلَيْنَا مرَارًا وَأمنت وَأرْسلت وَكنت أَتَخَوَّف من هَذَا الْوَاقِع الْيَوْم بآزمور وآسفي ومراكش والغرب وَلذَلِك كنت ألححت عَلَيْكُم فِي تَقْرِير الْعَهْد حَتَّى أَتَانِي الْقَائِد عبد الصَّادِق بمصحف ذكر انه لسلطان تلمسان فِي جرم صَغِير وَقَالَ لي أَمرنِي السُّلْطَان أَن أَحْلف لَك فِيهِ نِيَابَة عَنهُ على بَقَائِهِ
على الْعَهْد فِيمَا بَيْنك وَبَينه من تَأْمِين كل من أمنته وإمضاء كل مَا رَأَيْته صلاحا للْأمة ثمَّ لم أكتف حَتَّى أَتَى القَاضِي فَكتبت إِلَيّ مَعَه إِن كل مَا رَأَيْت فِيهِ الصّلاح للْأمة أمضيته وَأَنَّك آمَنت كل من أمنته ثمَّ بعد استقرارك فِي دَارك كتبت إِلَيّ كتابا إِنَّك بَاقٍ على مَا تعاهدنا مَعَك عَلَيْهِ من الْأُمُور كلهَا على معيار الشَّرِيعَة فَمَا راعني إِلَّا وَقد أخفرت فِي ذمَّة الله وأماني الَّذِي عقدته للنَّاس فَمن مأسور ومقيد ومطلوب بِمَال ومطرود عَن بلد وأخبار آخر ترد علينا من جِهَة السواحل وَأَن النَّاس تبَاع فِيهَا لِلْعَدو دمره الله وَلم نر من اهتبل بذلك مِمَّن قلدتموه أُمُور الثغور فَلم ندر هَل بلغك ذَلِك فَتسقط عَنَّا ملامة الشَّرْع أَو لم يبلغك فأعلمنا الله لتطمئن قُلُوبنَا فَإِنِّي أكاتبك فِي ذَلِك فَلَا أرى جَوَابا فَقضيت وَالله من الْأَمر عجبا فَإِن عددت مَا من الله بِهِ عَلَيْك من رجوعك إِلَى سَرِير ملكك واجتماعك بسربك آمنا من قبيل النعم فقيده بِمَا تقيد بِهِ كَمَا فِي كريم علمك وَإِن رَأَيْته بِنَظَر آخر فَإِن لله مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَأما الْإِجْمَاع فَلم نر من الْعلمَاء من نهى عَن نصح خَاصَّة الْمُسلمين وتنبيههم على مَا يصلح بهم وبالرعية بل عدوه من الدّين للْحَدِيث الأول وَغَيره وَأما استشعرناه من امتعاضكم من عدم الأنة القَوْل فِي مكاتبتنا لكم فَمَا خاطبناكم قطّ رعيا لذَلِك وَلَو بِنصْف مَا خَاطب بِهِ الْأَئِمَّة الأول أهل زمانهم اتكالا على مطالعتكم لكتبهم وعلمكم بِمَا لم نعلمهُ من ذَلِك وَلم نروه ويكفيكم نصح الفضيل وسُفْيَان وإمامنا مَالك رضي الله عنهم لمعاصريهم من الْوُلَاة وَمِنْهُم من بَكَى وانتفع وَمِنْهُم من غشي عَلَيْهِ وتوجع وَمِنْهُم من نَدم واسترجع إِلَى غير مَا ذكرنَا على اخْتِلَاف الْأَعْصَار وتنوع الدول والأقطار فبذلك اقتدينا وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أشياخنا وأسلافنا لكم ولأسلافكم عَملنَا كالفقيه شيخ والدنا رحمه الله سَيِّدي عبد الله الهبطي لجدكم المرحوم بكرم الله فطمعت بنجح النصح ونفعه دنيا وَأُخْرَى فَهَذَا أصل قَضِيَّتنَا مَعكُمْ وهلم جرا والذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ على كل الْأَحْوَال وَالْحَمْد لله على كل حَال وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبتاريخ أَوَاخِر ربيع النَّبَوِيّ الأنور كتبه عَن إِذْنه رَضِي الله عَنهُ
عبد ربه مُحَمَّد بن الْحسن بن أبي الْقَاسِم لطف الله بِهِ بمنه اه فَأَجَابَهُ السُّلْطَان زَيْدَانَ رحمه الله بِمَا نَصه
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من عبد ربه تَعَالَى المقترف الْمُعْتَرف زَيْدَانَ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد إِلَى السَّيِّد أبي زَكَرِيَّاء يحيى بن السَّيِّد أبي مُحَمَّد عبد الله ابْن سعيد أعاننا الله وَإِيَّاكُم على اتِّبَاع الْحق ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا وَسَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَبعد فقد ورد علينا كتابكُمْ ففضضنا ختامه ووقفنا على سَائِر فصوله ثمَّ إننا إِن جاوبناكم على مَا يَقْتَضِيهِ الْمقَام الْخطابِيّ رُبمَا غَيْركُمْ ذَلِك وَأدّى إِلَى المباغضة والمشاحنة فيحكى عَن عُثْمَان رضي الله عنه أَنه بعث إِلَى عَليّ رضي الله عنه وأحضره عِنْده وَألقى إِلَيْهِ مَا كَانَ يجده من أَوْلَاد الصَّحَابَة الَّذين اعصوصبوا بِأَهْل الرِّدَّة الَّذين كَانَ رجوعهم إِلَى الْإِسْلَام على يَد الصّديق رضي الله عنه وَهُوَ فِي كل ذَلِك لَا يجِيبه فَقَالَ لَهُ عُثْمَان رضي الله عنه مَا أسكتك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن تَكَلَّمت فَلَا أَقُول إِلَّا مَا تكره وَإِن سكت فَلَيْسَ لَك عِنْدِي إِلَّا مَا تحب وَلَكِن لما لم أجد بدا من الْجَواب أرى أَن أقدم لَك مُقَدّمَة قبل الْجَواب فلتعلم أَن الْحجَّاج لما ولاه عبد الْملك الْعرَاق وَكَانَ من سيرته مَا يُغني اشتهاره عَن تسطيره هُنَا فتأول ابْن الْأَشْعَث الْخُرُوج عَلَيْهِ وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة من التَّابِعين كسعيد بن جُبَير وَأَمْثَاله من أَوْلَاد الصَّحَابَة رضي الله عنهم وَلما قوي عزمهم على ذَلِك استدعوا الْحسن الْبَصْرِيّ لذَلِك فَقَالَ لَا أفعل فإنني أرى الْحجَّاج عُقُوبَة من الله فنفزع إِلَى الدُّعَاء أولى قَالَ بعض فضلاء الْعَجم يُؤْخَذ من هَذَا أَن الْخُرُوج على السُّلْطَان من الْكَبَائِر وَجَوَاز الْمقَام تَحت ولَايَة الظُّلم والجور وَقد علمت مَا كَانَ من أَمر عبد الرَّحْمَن بن الْأَشْعَث وَسَعِيد وَأَمْثَاله وَعلمت قَضِيَّة أهل الْحرَّة لما أوقع بهم جند يزِيد بن مُعَاوِيَة بِالْحرم الشريف وَلما بلغه الْخَبَر أنْشد
(لَيْت أشياخي ببدر شهدُوا
…
جزع الْخَزْرَج من وَقع الأسل)
وشاع ذَلِك عَنهُ وذاع وَكَانَ على عهد أكَابِر الصَّحَابَة وَأَوْلَادهمْ وَلَا تعرض أحد مِنْهُم لنكير عَلَيْهِ وَلَا تصدى لقِيَام وَلَا خاطبه بملام وَأما مَا يرجع إِلَى جَوَاب الْكتاب فَأَما مَا حكيت عَن الصّديق رضي الله عنه فِي أهل الْبَيْت وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فيهم وَأَنه يجب تعظيمهم واحترامهم وتبجيلهم لأجل النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِن كَانَ يجب عَلَيْكُم تعظيمهم فَإِن تعظيمهم يجب على أولى وَأولى عملا بقوله تَعَالَى {قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى} الشورى 23 وأجرى الله تَعَالَى عَادَته أَنه مَا تصدى أحد لعداوة هَذَا الْبَيْت النَّبَوِيّ إِلَّا كَبه الله لوجهه وَأما مَا أوردتم من الْأَحَادِيث فِي النصح فَإِنِّي وَالله أحب أَن تنصحني سرا وَعَلَانِيَة مَعَ زِيَادَة شكري عَلَيْهِ وأراها مِنْك مَوَدَّة وأعدها محبَّة وَلَكِنِّي أفعل مَا أقدر عَلَيْهِ لِأَن الله سُبْحَانَهُ يَقُول {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} الْبَقَرَة 286 وَلِهَذَا قَالَ أَكثر الْعلمَاء فِي صُدُور تصانيفهم وَلم آل جهدا فِي كَذَا لِأَن النُّفُوس الشَّرِيفَة الْعَالِيَة لَا تتْرك من فعل الْخَيْر وَالْجد فِي اكتسابه إِلَّا مَا عز تنَاوله عَلَيْهَا وصعب اكتسابه
وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَمر أبي محلي وَسيرَته وَمَا كَانَ تسلط عَلَيْهِ أما مَا كَانَ من استنهاضكم إِلَيْهِ الْمرة بعد الْمرة وتكررت فِي ذَلِك إِلَيْكُم الرُّسُل حَتَّى أجبْت إِلَيْهِ فَلَا نحتاج فِيهِ إِلَى إِقَامَة حجَّة غير كَونه خرج عَن الْجَمَاعَة وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم (من أَرَادَ أَن يشق عصاكم فَاقْتُلُوهُ كَائِنا من كَانَ) وَإِلَّا فَلَو دخل الْملك من بَابه وَبَايَعَهُ أهل الْحل وَالْعقد وَأخذ ذَلِك بوسائط مثل بيعَة جدنا المرحوم الَّتِي تضافرت عَلَيْهَا عُلَمَاء الْمغرب وَأهل الدّين الْمَشَاهِير فَلَو كَانَ وصل إِلَى ذَلِك بِمثل هَذِه الوسائط لم يجب حربه وَلَا الْقيام عَلَيْهِ بِمَا ذكرْتُمْ لِأَن السُّلْطَان لَا يَنْعَزِل بِالْفِسْقِ والجور وَإِلَّا فَإِن الصَّحَابَة فِي زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة لَا يُحْصى عَددهمْ وَمَا تصدى أحد للْقِيَام عَلَيْهِ وَلَا قَالَ بعزله وَإِلَّا فَإِنَّهُم لَا يُقِيمُونَ على الضَّلَالَة وَلَو نشرُوا بالمناشير وَأما أَبُو محلي فبمجرد قِيَامه يجب عَلَيْك وعَلى غَيْرك إعانتنا عَلَيْهِ لِأَنَّك فِي بيعتنا وَهِي لَازِمَة لَك فالطاعة وَاجِبَة عَلَيْك وَاعْلَم أَيْضا أَن والدك أفضل مِنْك بِدَلِيل {آباؤكم وأبناؤكم}
من أَبْنَائِكُم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة) وَكَانَ عمنَا مولَايَ عبد الْملك رحمه الله وسامحه على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر بِهِ إعلانا وَكَانَ والدك فِي دولته وبيعته ووفد عَلَيْهِ وَلم يستنكف من ذَلِك وَلَا ظهر مِنْهُ مَا يُخَالف السلطنة وَلَا أنكر وَلَا عرض بِمَا يسوء سُلْطَان الْوَقْت وَلَا سمع ذَلِك مِنْهُ فَإِن كَانَ رَاضِيا بِفِعْلِهِ فَهُوَ مثله وَإِن لم يرض فَمَا وَجه سُكُوته والوفادة عَلَيْهِ وَقد تحققت وَعلمت أَن ولَايَة أَحْمد ابْن مُوسَى الْجُزُولِيّ كَادَت تكون قَطْعِيَّة واشتهر أمره عِنْد الْخَاص وَالْعَام حَتَّى أطبق أهل الْمغرب على ولَايَته وَقد كَانَ على عهد مولَايَ عبد الله برد الله صَرِيحه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور على مَا كَانَ عَلَيْهِ واشتهر عَنهُ وَمَا برح الشَّيْخ الْمَذْكُور يَدْعُو لَهُ ولدولته بِالْبَقَاءِ وَيظْهر حبه وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور يعْزل ويولي وَيقتل وَكَانَ قد شرد مِنْهُ إِلَى زَاوِيَة الشَّيْخ الْمَذْكُور المرابط الأندلسي وَولد آضاك وأمثالهم وَكَانَ الشَّيْخ الْمَذْكُور يقدم للشفاعة فَيشفع وَلَا يتعقب وَلَا يبْحَث عَمَّا وَرَاء ذَلِك بَاقٍ على عَهده ومودته وَكَانَ الْمولى الْمَذْكُور بعث لِابْنِ حُسَيْن بسد دَاره فَمَا فتحهَا حَتَّى أمره وَلَا استعظم أحد ذَلِك وَلَا أَكثر فِيهِ وَلَا جعله سَببا لفتح الْفِتْنَة وَكَانَ قواد الْمَذْكُور مثل وزيره ابْن شقراء وَعبد الْكَرِيم بن الشَّيْخ وَعبد الْكَرِيم بن مُؤمن العلج والهبطي والزرهوني وَعبد الصَّادِق بن مُلُوك وَغَيرهم مِمَّن لم يحضرني ذكرهم لبعد عصرهم قد انغمسوا فِي شرب الْخُمُور واتخاذ القيان وَبسط الْحَرِير وَغير ذَلِك من آلَات الْفضة وَالذَّهَب وَكَانَ فِي عصره أَحْمد بن مُوسَى الْمَذْكُور وَابْن حُسَيْن وَمُحَمّد الشَّرْقِي وَأَبُو عَمْرو القسطلي وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التامنارتي والشيظمي وَغير هَؤُلَاءِ من الْمَشَايِخ وَأهل الدّين الَّذين لَا يسع من يَدعِي هَذِه الطَّرِيقَة التَّقَدُّم عَلَيْهِم وَلَا اكْتِسَاب الْفَضِيلَة دونهم فَأحْسنُوا السِّيرَة وَلَا تعرضوا للسلطنة وَلَا سمع مِنْهُم مَا يقْدَح فِي ولادَة الْأَمر وقادة الأجناد مِمَّن ذكر الَّذين كَانَ الْملك يَدُور عَلَيْهِم وَيرجع فِي تَدْبيره إِلَيْهِم وَمثل من ذكر من الْأَوْلِيَاء كَانَ عَلامَة الزَّمَان وَوَاحِد وقته شيخ مَشَايِخ إفريقية وَبَعض أهل الْمغرب عبد الْعَزِيز القسنطيني الشَّيْخ الْمُتَكَلّم الصُّوفِي صَاحب الْآيَات الْبَينَات قد كَانَ من سكان تونس وَكَانَ مُلُوك تونس وَمن انضاف إِلَيْهِم على الْفساد الَّذِي لَا ينْحَصر
واشتهر أَمرهم حَتَّى عرفُوا بِهِ فِي الْمَشَارِق والمغارب وَلم يبرح الشَّيْخ الْمَذْكُور من بَينهم وَلَا تصدى لتغيير الْمُنكر وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى قَبضه الله إِلَيْهِ
وَأما مَا ذكرْتُمْ من أَن من أعَان على قتل مُسلم وَلَو بِشَطْر كلمة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله هَذِه حجَّة عَلَيْك لَا علينا لِأَنِّي مَا سعيت فِي قتل أحد يعلم الله وَلَا قتل من قتل إِلَّا بِأَمْر الْقُضَاة وَأهل الْعلم إِن كَانَ وَاعْلَم أَنه إِذا كَانَ هَذَا يكون وعيدا فِي قتل الْوَاحِد فَمَا بالك بِمن يُرِيد فتح بَاب الْفِتْنَة حَتَّى لَا يقف الْقَتْل على المئين والآلاف وَنهب الْأَمْوَال وكشف الْحَرِيم إِلَى غير ذَلِك أما تعلم أَن فتْنَة أبي محلي قد هلك بِسَبَبِهَا من النُّفُوس وَالْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى عدده وَلَا يسْتَوْفى نهايته كَاتب وَكَانَ كل ذَلِك على رقبته لِأَنَّهُ هُوَ المتسبب الأول الفاتح أَبْوَاب الْفِتْنَة لِأَنَّهُ كَانَ يقتل كل من انْتَمَى إِلَيْنَا حَتَّى قتل بِسَبَبِهِ فِي يَوْم وَاحِد بمَكَان وَاحِد خَمْسمِائَة قَتِيل وَلَوْلَا أَبُو محلي مَا قتلوا وَأعظم فِي حُرْمَة النُّفُوس من هَذَا الَّذِي قلت قَوْله تَعَالَى {كتبنَا على بني إِسْرَائِيل أَنه من قتل نفسا بِغَيْر نفس أَو فَسَاد فِي الأَرْض فَكَأَنَّمَا قتل النَّاس جَمِيعًا} الْمَائِدَة 32
وَلَيْسَ فِي قَول الْمواق مَا يحْتَج بِهِ على السُّلْطَان وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَصْحَاب الخطط على التَّرْتِيب الَّذِي كَانَ على عَهده مثل أَصْحَاب الشَّرْط كصاحب الشرطة الَّذِي ينفذ أَحْكَام القَاضِي وَصَاحب شرطة السُّوق الَّذِي ينفذ الْأَحْكَام عَن قَاضِي الحضرة وَغير ذَلِك من الولايات
وَولَايَة أبي محلي لَا تعد ولَايَة حَتَّى يعْتَبر عَزله وَمَا عِنْد الْمواق وَغَيره وقفنا عَلَيْهِ وعرفناه وتلقيناه عَن الْأَشْيَاخ الجلة وعرفنا مَا عِنْد الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة ودرسناه الْمرة بعد الْمرة وَلست مِمَّن ينطبق عَلَيْهِ قَوْله (أَشْقَى النَّاس عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ) وَلَكِن لماذا تحتج بقول الْمواق لغرضك وتجعله حجَّة وَلم تجبنا نَحن فِيمَا كتبنَا إِلَيْك بِهِ فِي يُونُس اليوسي وَقُلْنَا لَك
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْحرم لَا يجير عَاصِيا) قَالَ الأبي وَهَذَا يحْتَج بِهِ على أهل الزوايا وأضربت عَن الْجَواب وَلَيْسَ ذَلِك من أدب الجدل وَلَكِن أخبرنَا عَن الْوَجْه الَّذِي منعت بِهِ يُونُس اليوسي من الشَّرْع فَإِن متاعنا عِنْده وإماء أهلنا فِي دَاره إِلَى يَوْم الْوَقْعَة وترتب فِي ذمَّته للْمُسلمين من الْأَمْوَال والدماء مَا علمت فَإِن كنت مِمَّن يُرِيد الْعدْل فَهَلا عدلت فِيهِ فَحِينَئِذٍ نعلم أَنَّك لَا تريح جِهَته وَلَا تذْهب بك النَّفس مذهبها لَا جرم حِينَئِذٍ نَكُون عِنْد مَا تُرِيدُ وَمَعَ هَذَا لما أمسكنا زَوجته وكتبت لنا فِيهَا سرحناها سَاعَة وُصُول خطابك من غير توقف فَلَو كنت عناديا لعبثت بهَا عبثه هُوَ بإماء أَهلِي وَأهل دَاري على أَنِّي مَا رددت شفاعتك مُنْذُ عرفتك بعثت لي إِبْرَاهِيم بن يعزى فسرحناه لغرضك على أَنه ترَتّب فِي ذمَّته مَا ينيف على خمسين ألف أُوقِيَّة وَذَلِكَ المَال إِنَّمَا يُقَال لَهُ بَيت مَال الْمُسلمين وَإِنَّمَا كَانَ يجب تخليده فِي السجْن وَأهل الْحصن أخرجناهم مِنْهُ عَن آخِرهم وأنفذتم كتابكُمْ بردهمْ فَأمرنَا بردهمْ عَن آخِرهم وَابْن يَعْقُوب أوزال حَاكم الْبَلَد وَشبه الْخَلِيفَة تَرَكْنَاهُ على دَارنَا وحرك من غير إذننا وَلَا مشورتنا وبعثنا مَكَانَهُ فأنفذت الْكتاب فِيهِ فَرد لمكانه مَا هُوَ الْأَمر الَّذِي سَافَرت كتبك فِيهِ وَلَا أَسْرَعنَا فِيهِ خفافا وَأما مَسْأَلَة أهل آزمور فَلَمَّا جَاءَ كتابكُمْ عزلنا صَاحبه وسرحنا من كَانَ عِنْده ورددنا الْخَيل وَقَضِيَّة الحناشة النَّاس فِي شَأْنهمْ بِالِاجْتِهَادِ وَقَضِيَّة الْعَرَب اعْلَم أَن الْعَرَب قد أفسدوا الأَرْض واستطالوا سَوَاء هَذِه الْبِلَاد والغرب وَالَّذِي يَلِيق بهم مَا أفتى بِهِ سَحْنُون فِي عرب إفريقية وَالْمغْرب وَلَو طالبناهم بِمُجَرَّد الْعشْر مُدَّة هَذِه الْفِتْنَة فِي الْمغرب لأتى ذَلِك على أَمْوَالهم وَالنَّاس قد خَرجُوا عَن أطوارهم وأحبوا الْفِتَن طلبا للراحة وَانْظُر كتاب الإفادة كَذَا للْقَاضِي واستطالتهم فِيهِ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة شَرْعِيَّة مشروحة فِي رسمها الْقَدِيم على أَنهم أَضْعَف النَّاس قلوبا انْظُر مَا صدر مِنْهُم فَمَا بالك بالعرب الَّذين خَرجُوا عَن الطَّاعَة وتساوى الشَّيْخ وَالصَّغِير فِي ذَلِك فَإِن كنت تصغي لمقالاتهم وإسعاف شهواتهم والتعرض للسُّلْطَان دونهم فَهَذَا نفس خراب الْعَالم وطالع كتاب صاحبنا من عِنْد الرحامنة وَمَا صدر مِنْهُم لخديمكم وَرَأَيْت أَن أقدم
لَك مُقَدّمَة أَمَام هَذَا وَإِن كَانَت أدبية قيل لِابْنِ الرُّومِي وَهُوَ عَليّ بن الْعَبَّاس لم لم تقل كَقَوْل ابْن المعتز
(كَانَ آذريوننا وَالشَّمْس فِيهِ عاليه
…
مداهن من ذهب فِيهَا بقايا غاليه)
فَأجَاب بِأَن قَالَ لَا يقدر أَن يَقُول هُوَ فِي مثل قولي فِي وصف الرقاقة
(مَا أنس لَا أنس خبازا مَرَرْت بِهِ
…
يدحو الرقاقة وَشك اللمح بالبصر)
(مَا بَين رؤيتها فِي كَفه كرة
…
وَبَين رؤيتها فوراء كَالْقَمَرِ)
(إِلَّا بِمِقْدَار مَا تنداح دَائِرَة
…
فِي صفحة المَاء يرْمى فِيهِ بِالْحجرِ)
وَقَالَ كل منا وصف أواني بَيته وَرب الْبَيْت أعلم بِمَا فِيهِ وَأهل مَكَّة أدرى بشعابها والصيرفي أعرف بِنَقْد الدِّينَار وقصة الْخضر والكليم صلوَات الله على نَبينَا وَعَلَيْهِم فِيهَا كِفَايَة لمن يعْتَبر فِي خرقه السَّفِينَة وَقَتله الْغُلَام وإقامته الْجِدَار والكليم يرد عَلَيْهِ فِي كل ذَلِك حَتَّى أنبأه الله بسر مَا لم يعلم على أَن علم الْخضر فِي علم مُوسَى كحلقة ملقاة فِي فلاة هَكَذَا قَالَ بعض الْعلمَاء وَقَالَ بَعضهم كل مِنْهُم على علم خصّه الله تَعَالَى بِهِ وَمن هُنَا جوز ابْن عَرَبِيّ الْحَاتِمِي فِي بعض كتبه وأحسب أَن ذَلِك فِي الفصوص أَن الْوَلِيّ الَّذِي يَتَّخِذهُ الله ويصطفيه بمحبته يطلعه على علم لم يطلع عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم فَقَالَ مُشِيرا إِلَى نَفسه أطلعني الله على علم لم يطلع عَلَيْهِ آدم فَمن دونه
وَاعْلَم أَن السلطنة لَهَا أسرار لَا بُد مِنْهَا وسياسة يُنكر ظَاهرهَا وَلَكِن نرْجِع إِلَى غرضك ومرادك أخبرنَا كَيفَ تحب أَن يسْلك النَّاس فِي الْعَرَب فَإِن كنت تحب أَن يسْلك النَّاس فيهم مَسْلَك مولَايَ عبد الله فالزمان غير الزَّمَان والأسعار قد طلعت وَبَلغت النِّهَايَة وَالله تَعَالَى قد بعث أنبياءه وَأنزل كتبه بِحَسب مَا يَقْتَضِيهِ الزَّمَان وَهَذَا يعرفهُ من خالط الشَّرَائِع والكتب الْمنزلَة وَأخذ الْعلم من أَفْوَاه الرِّجَال وأدبته مجَالِس الْعلم وَنحن نلخص لكم الْكَلَام
على بعض مَا أورد النَّاس فِي الْخَارِج أما مَا بنوا عَلَيْهِ فَرْضه فِي صدر الْإِسْلَام والدول الْعِظَام فَلَا نطيل بِذكرِهِ لشهرته وَأما فِي الْمغرب خُصُوصا فَأول من فَرْضه عبد الْمُؤمن بن عَليّ وَجعله على أقطاع الأَرْض بِنَاء على أَن الْمغرب فتح عنْوَة وَإِلَيْهِ ذهب بعض الْعلمَاء وَمِنْهُم من يَقُول إِن السهل فتح عنْوَة والجبل فتح صلحا فَإِذا تقرر هَذَا وَعلمت أَن أهل ذَلِك الْعَصْر قد بادوا واندثروا وَبَقِي السهل كُله إِرْثا لبيت المَال تعين أَن يكون الْخراج فِيهِ على مَا يُرْضِي صَاحب الأَرْض وَهُوَ السُّلْطَان والجبل تتعذر معرفَة مَا كَانَ الصُّلْح عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل إِلَى الْوُقُوف عَلَيْهِ فَيرجع فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد وَقد اجْتهد سلفنا الْكِرَام رضوَان الله عَلَيْهِم فِي فَرْضه لأوّل الدولة الشَّرِيفَة على حسب وفْق أَئِمَّة السّنة ومشايخ أهل الْعلم وَالدّين فِي ذَلِك الْعَهْد فَجرى الْأَمر على السّنَن القويم إِلَى أَن هبت عواصف الْفِتْنَة لأيام ابْن عمنَا صَاحب الْجَبَل وإدالة مَوْلَانَا الإِمَام وصنوه المرحوم على حواضر الْمغرب وسهله عِنْد الزَّحْف بالأتراك وامتدت بِهِ الْفِتْنَة فِي الْجَبَل إِلَى أَن هلك مَعَ النَّصَارَى فِي الْغَزْوَة الشهيرة وَجَاء الله من مَوْلَانَا الْمُقَدّس بِالْجَبَلِ العاصم لِلْإِسْلَامِ من طوفان الْأَهْوَال فَقدر رضي الله عنه الْأَشْيَاء حق قدرهَا وَرَأى أَن الْمغرب غب تِلْكَ الْفِتَن قد فغر فَمه لالتهامه عدوان عظيمان التّرْك وعدو الدّين الطاغية فاضطر رحمه الله إِلَى الاستكثار من الأجناد لمقاومة الْعَدو والذب عَن الدّين وحماية ثغور الْإِسْلَام فَدَعَا تضَاعف الأجناد إِلَى تضَاعف الْعَطاء وتضاعف الْعَطاء إِلَى تضَاعف الْخراج وتضاعف الْخراج إِلَى الإجحاف بالرعية والإجحاف بالرعية أَمر يستنكف رضي الله عنه من ارتكابه وَلَا يرضاه فِي سيرة عدله طول أَيَّامه فَلم يُمكن لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا أَن أمعن النّظر رحمه الله فِي أصل الْخراج فَوجدَ بَين السّعر الَّذِي بنى عَلَيْهِ فِي قيمَة الزَّرْع وَالسمن والكبش الَّذِي تعطيه الرّعية مُنْذُ زمن الْفَرْض وَبَين سعر الْوَقْت أضعافا فَحِينَئِذٍ تحرى رحمه الله الْعدْل فَخير الرّعية بَين دفع كل شَيْء بِوَجْهِهِ وَدفع مَا يُسَاوِيه بِسعْر الْوَقْت فَاخْتَارُوا السّعر مَخَافَة أَن يطلع إِلَى مَا هُوَ أَكثر
فأجابهم إِلَيْهِ رضي الله عنه وَعرف النَّاس الْحق فَلم يُنكره أحد من أهل الدّين وَلَا من أهل السياسة لَيْت شعري لَو طلبنا نَحن الرّعية بِسعْر الْوَقْت الَّذِي طلع الْيَوْم إِلَى أَضْعَاف مضاعفة مَاذَا تَقولُونَ وَقد انتقدتم علينا مَا هُوَ أخف من ذَلِك وَالْحَاصِل راجعوا رَضِي الله عَنْكُم مَا عِنْد الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ فِي الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة فِي ضرب الْخراج فقد استوفى الْكَلَام فِي ذَلِك
وَأما مَا تقضيه من الْعجب لتعطل أجوبتنا عَنْك فَنحْن نراجع أقل مِنْك وَلَكِن كتابك آكِد مبناه على قصَّة أهل آزمور فأنفذنا من أخرج الَّذِي كَانَ بِهِ وأقصاه عَنهُ وشرد من كَانَ عِنْده فتوقف الْجَواب حَتَّى رَجَعَ الخديم فَحِينَئِذٍ أجبناكم بِمَا وصلكم وتعجيل الْأَجْوِبَة وبطؤها فَاعْلَم أَن الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِك أُمُور مِنْهَا أَن يكون الْأَمر الَّذِي ورد الْخطاب فِيهِ مِنْكُم مَا سَمِعت بِهِ وَلَا بَلغنِي فنتوجه للبحث عَنهُ والفحص عَن أَسبَابه فَرُبمَا أوجب ذَلِك البطء بِحَسب الْأَمَاكِن والبلدان فَيكون جَوَابنَا على أساس وَبَيَان وَإِن كَانَ عندنَا خبر مَا ورد فِيهِ خطابكم فَالْجَوَاب لَا يتَأَخَّر وَقد وَقع هَذَا منا غير مرّة وَكَون تعطيله منشأه مَا من الله بِهِ علينا من رجوعنا إِلَى سَرِير ملكنا واجتماعنا بسربنا آمِنين اعْلَم أَن أهل هَذَا الْمغرب لما تمالؤوا عَليّ وَخرجت إِلَى الْمشرق والتقيت بِالتّرْكِ والأروام وجالسوني وجالستهم وخاطبوني وخاطبتهم فَمنهمْ مشافهة وَمِنْهُم مراسلة وَكنت أَيَّام مقَامي فِي أَرضهم كمقامي على سَرِير ملكي لِأَن كَبِيرهمْ وصغيرهم وَرَئِيسهمْ ومرؤوسهم كَانَ ينتجع فضلي ويمد كَفه رَغْبَة فِي نعمتي وواسيت الْجَمِيع عَطاء مترفا مَعَ قلَّة الزَّاد والذخيرة وترفعت عَن مواساة الأماثل والأكابر من الْعَجم وَالْعرب وَلَا ركنت لأحد بل تجودت بِمَا قدرت عَلَيْهِ من الأخبية حَتَّى جعلت محلّة برماتها وخيلها فترامت عَليّ الْعَجم بالرغبة وبسطوا أكف الضراعة فِي الْمقَام عِنْدهم وَالدُّخُول فِي جُمْلَتهمْ وعرضوا عَليّ الإقطاعات السّنيَّة والبلادات الملوكية بلطف مقَال وأدب خطاب حَتَّى قَالَ لي القبطان مُرَاد رَئِيس الْمُجَاهدين وَمَا مثلك يكون مَعَ الْعَرَب هَا نَحن نخدمك بِأَمْوَالِنَا وأنفسنا وبمالنا من السفن حَيْثُ أردْت وأحببت وَمَا انفصلت عَنْهُم حَتَّى
كتبت لَهُم بخطي إِنِّي احْمِلْ أَهلِي وحاشيتي وأرجع إِلَيْهِم إِلَّا إِن تمكن لي الدُّخُول فِي الْملك وَالْغَلَبَة على الْبِلَاد أَو بَعْضهَا وقفلت من عِنْدهم وَلم يتَعَلَّق بِثَوْب عفافي مَا يشينه مَعَهم وَلَا مَعَ الْعَرَب وَلَا كَانَ لأحد عَليّ منَّة وَلَا نعْمَة إِلَّا فضل الله سُبْحَانَهُ وَكَانَ فضل الله علينا عَظِيما
ثمَّ إِنِّي دخلت سجلماسة على رغم أنف أَهلهَا وواليها وَمِنْهَا دخلت السوس وَجعلت ولي الله الْعَارِف بِهِ أَبَا مُحَمَّد عبد الله بن الْمُبَارك وَاسِطَة بيني وَبَين أخي حَتَّى اجْتمعت بأهلي وَمَالِي ثمَّ بعث إِلَيّ التّرْك بِأحد بلكباشات اسْمه مصطفى صولجي إِلَى السوس راغبين فِي إنجاز الْوَعْد وجنحت للمسير إِلَيْهِم فَرَأَيْت الْأَهْل والأتباع قد عظم الْأَمر عَلَيْهِم واستعظموا الْخُرُوج فأسعفت رغبتهم فِي الْمقَام بالمغرب وشيعت الرَّسُول قَافِلًا إِلَى قومه من سجلماسة عِنْد الدُّخُول الثَّانِي لَهَا ومغالبة أَهلهَا عَلَيْهَا وعززته برَسُول من عِنْدِي إِلَيْهِم بتحف وأموال ورد بهَا عَلَيْهِم مَعَ رسولهم ثمَّ إِنِّي اقتحمت مراكش على أهل فاس على كَثْرَة عَددهمْ وعددهم وقلتي فَفتح الله ثمَّ خرجت إِلَى السوس مرّة أُخْرَى وأوقعت بِولد مولَايَ أَحْمد الشريف وجموع مراكش وَقد تعصبوا عَلَيْهِ لأَنهم شيعَة جده ففضضته على رغمهم ونازلته بالسهل والحزن حَتَّى أمكن الله مِنْهُ وَحكم بيني وَبَينه ثمَّ نجم الغوى أَبُو محلي وغلبت على الرَّأْي وَقد قَالَ من هُوَ أفضل مني مَوْلَانَا عَليّ كرم الله وَجهه لَا رَأْي لمن لَا يطاع وَدخل هَذِه الْبِلَاد وَخرجت أَنا إِلَى السوس ريثما تَجْتَمِع قبائلنا فِي الْمَكَان الَّذِي كَانَ اجْتِمَاعهم فِيهِ إِلَى أَن بلغتهم وَقصد إِلَيْهِم أَبُو محلي فقاتلوه ورحل عَنْهُم بعد أَن أثخنوا فِيهِ بِالْقَتْلِ ثمَّ وافيتهم فَكَانَ الْحَرْب بَيْننَا سجالا فَهَل سَمِعْتُمْ خلال هَذِه الْأَحْوَال أَنِّي احتجت إِلَى أحد فِيمَا قل أَو جلّ وَهَذَا كُله بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْك اللَّهُمَّ أَن تعدوا الْوِفَادَة الَّتِي وفدنا عَلَيْك من قبيل الِاضْطِرَار والاحتياج فَلَا أَدْرِي على أَنِّي مَا قصدتك لطلب دنيا لِأَنِّي كنت أسمع مَا أَنْت عَلَيْهِ من متانة الدّين وَالصَّلَاح والإقبال على طَاعَة الله والتمسك بِسنة رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غرو أَن من كَانَ هَذَا وَصفه كَانَ جَدِيرًا بِأَن يقْصد للدُّعَاء ولإصلاح الْقلب وَلَا شكّ أننا نزلنَا دَارك وحللنا بمكانك وَلما وَقع الِاجْتِمَاع بك جرت المذاكرة فِي أبي محلي وَغَيره حَتَّى كتبت الْكتاب الَّذِي علمنَا عَلَيْهِ وَهَا هُوَ بِخَط يدك فَإِن نَسِينَا بعض مَا فِيهِ وَلَا فعلنَا فَأخْبرنَا بِهِ نستدركه وَهَذِه مراكش الَّتِي ذكرْتُمْ قد كنت فِيهَا مَا ذكرْتُمْ ووقفت على عبد الْمُؤمن بن ساسي وعدته مرّة أُخْرَى فِي مَرضه وَهل قصدته لطلب دنيا أَو عَرفته لأَجلهَا وَمُحَمّد بن أبي عَمْرو لما وقفت على الْمدرسَة الَّتِي من بِنَاء مولَايَ عبد الله وقفت عَلَيْهِ فِي دَاره وكل ذَلِك إِنَّمَا نفعله تَأْكِيدًا للمحبة وَزِيَادَة فِي الْمعرفَة بِاللَّه وَلَو علمت أَن ذَلِك يعد عَيْبا ويظن أَنه نوع من الِاحْتِيَاج مَا كنت وَالله لأقف على أحد وَلَو أَنه يملكني الدُّنْيَا بحذافيرها لِأَن الْخَيْر وَالشَّر بيد الْفَاعِل الْمُخْتَار فَهُوَ أولى بالاضطرار إِلَيْهِ وَأما سربي فَمَا تروع قطّ حَتَّى يَأْمَن وَأما من كَانَ بِالدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فَإِنَّمَا هم أَهلِي ومتروك أعمامي وَهَذِه الدَّار الَّتِي ذكرْتُمْ فها نَحن ننتقل عَنْهَا إِلَى بعض الْبِلَاد الغربية البحرية كَمَا قلت لَك ذَلِك مشافهة سَاعَة قلت لي يَنْبَغِي للأشراف بِنَاء بِالْجَبَلِ لوقت مَا وحكيت ذَلِك عَن والدك وَأما مَا أخْبركُم بِهِ القَاضِي أَيَّام ورودي إِلَى السوس وَقت بَلغنِي كتابكُمْ الَّذِي نَصه قد اجْتمعت أنَاس وفسدت النيات وتعينت المطامع وأردنا تدبيركم لِأَن الْمُلُوك أهل التَّدْبِير وَالْمرَاد رجوعنا لأوكارنا من غير وصمة تلْحق الْجَانِبَيْنِ فَكلما حمل فَهُوَ عني والتزمته إِلَى الْآن إِلَّا مَا طَرَأَ علينا فِيهِ النسْيَان فذكرونا بِهِ فَإنَّا لَا نخرج عَنهُ وَأما يَمِين الْمُصحف وَأَنِّي حَلَفت فِيهِ للقائد عبد الصَّادِق فَلَا وَالله مَا حَلَفت فِيهِ وَلَا أَحْلف لأحد إِلَى لِقَاء الله أما علمت أَنِّي حضرت بيعَة الشَّيْخ الْمَأْمُون صَاحب الغرب سامحه الله وَحضر أَوْلَاد السُّلْطَان واستحلفهم لَهُ إِلَّا أَنا رضي الله عنه فَإِنَّهُ قَالَ فلَان لَا يحلف لَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيمَا نأمره بِهِ ونفعله وَعظم ذَلِك على إخوتي وَظَهَرت فِي وُجُوههم لأَجله الْكَرَاهِيَة وَلَكِن الَّذِي قلت لعبد الصَّادِق أَحْلف للمرابط فَإِنِّي أوفى لَك بِهِ وَلَا زلت على ذَلِك لِأَن
الَّذِي كنت تَقول فِي ذَلِك الْوَقْت أَخَاف أَن تقع فِي أهل مراكش والأكابر وَنَحْوهم مثل حُكُومَة عبد الْقَادِر وَنَحْوهَا أما أهل مراكش فَمَا تعرضنا لأحد مِنْهُم حَتَّى تركنَا متاعنا لأجلكم كَوَلَد المولوع وَغَيره وَهَذَا الميدان والشقراء فَابْعَثْ من رضيت يُنَادي فيهم من لَهُ حق علينا ننصفه مِنْهُ وَمن خدامي أَيْضا وَإِن كنت سَمِعت قَضِيَّة مَنْصُور العكاري فالعكاري نزل أهلنا فِي خيمته عِنْد وقْعَة رَأس الْعين فَلَمَّا أَرَادوا الطُّلُوع إِلَى الْجَبَل تركُوا أَكثر مَالهم فِي خيمته مَعَ بعض الخدم خوفًا من غائلة البربر لما كَانَ وَقع مِنْهُم لأهل بَابا أبي فَارس فَأخذ سماطا من ذهب يزِيد على سِتِّينَ ألف أُوقِيَّة وَكَانَ أَيَّام أبي حسون مَعَه وَفِي جملَته حَتَّى مَاتَ الْقَائِم فبذل حجَّته بإنجازه عشْرين ألفا وَالْبَاقِي حَتَّى يُؤَدِّيه على سَعَة وَطلب منا أَن يتعمل ويتولى بعض الخطط لينْتَفع وَيجمع بعض ذَلِك فصرفناه حَتَّى إِذا جَاءَ أَبُو محلي وَوَقع مَا وَقع طالبناه بمتاعنا وَهُوَ لَا يَسعهُ إِنْكَاره وَهَكَذَا عبد الْكَرِيم الَّذِي فِي زاويتك بِنَفسِهِ يعلم أَن إخْوَته أخذُوا لي سلْعَة فِي وسط حلتهم وَأَنا بَين بُيُوتهم تزيد على خمسين ألفا وَأخذُوا الْإِبِل وَهَا نَحن سكتنا عَنْهُم وَلَا طالبناهم بهَا وَأَيْضًا قَالَ لَك انْظُر مَا فعل بإخوتي وصرت تكاتبنا وَأَنت لَا علم عنْدك بِأَصْل الْمَسْأَلَة وَأما الْأَمْوَال فَإِن الله سُبْحَانَهُ قد وسع علينا من فَضله وَعِنْدنَا مَا يَكْفِي الْخَامِس وَالسَّادِس من الْوَلَد وعرفنا النَّاس وعرفونا وعاملناهم وعاملونا وَلَو أردْت خَمْسمِائَة ألف مِثْقَال من أَصْحَاب أَفلا مِنْك أَو من أَصْحَاب الإنجليز وكتبت إِلَيْهِم فِي ذَلِك مَا تأنوا فِي بَعثه وَلَا لاذوا فِيهِ بمعذرة وَقد كفانا الله بِهِ وَالْحَمْد لله على ذَلِك
وَاعْلَم أَن الظَّن فِيك جميل وَلَوْلَا ذَلِك مَا أَعطيتك خَمْسَة آلَاف مِثْقَال وسمحت بِالْمَالِ الَّذِي حمل إِلَيْكُم ابْن عبد الْوَاسِع أَولا وسلعة السفن أخيرا وَبِهَذَا كُله تستدل على صفاء السريرة وَصَالح النِّيَّة وَالله سُبْحَانَهُ يعلم ذَلِك وَأما الامتعاض من عدم الأنة القَوْل وَحسن الْخطاب فَكَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقُولُوا للنَّاس حسنا} الْبَقَرَة 83 وَإنَّك لم تبلغ وَلَو نصف مَا خَاطب بِهِ