المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب - شرح زروق على متن الرسالة - جـ ٢

[زروق]

فهرس الكتاب

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاستبراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن العارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفراض

- ‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقي والطيرة والنجوم والخصاء والوسم وذكر الكلاب والرفق بالمملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك

- ‌باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات

- ‌باب ما يجب منه الوضوء والغسل

- ‌باب طهارة الماء والثوب والبقعة وما يجزئ من اللباس في الصلاة

- ‌باب صفة الوضوء ومسنونه ومفروضه وذكر الاستنجاء والاستجمار

- ‌باب في الغسل

- ‌باب فيمن لم يجد الماء وصفة التيمم

- ‌باب في المسح على الخفين

- ‌باب في أوقات الصلاة وأسمائها

- ‌باب الأذان والإقامة

- ‌باب صفة العمل في الصلوات المفروضة وما يتصل بها من النوافل والسنن

- ‌باب في الإمامة وحكم الإمام والمأموم

- ‌باب جامع في الصلاة

- ‌باب في سجود القرآن

- ‌باب في صلاة السفر

- ‌باب في صلاة الجمعة

- ‌باب في صلاة الخوف

- ‌باب في صلاة العيدين والتكبير أيام منى

- ‌باب في صلاة الخسوف

- ‌باب في صلاة الاستسقاء

- ‌باب ما يفعل بالمحتضر وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

- ‌باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

- ‌باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله

- ‌باب في الصيام

- ‌باب في الاعتكاف

- ‌باب في زكاة العين والحرث والماشية وما يخرج من المعدن وذكر الجزية وما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحربيين

- ‌باب في زكاة الماشية

- ‌باب في زكاة الفطر

- ‌باب في الحج والعمرة

- ‌باب في الضحايا والذبائح والعقيقة والصيد والختان وما يحرم من الأطعمة والأشربة

- ‌باب في الجهاد

- ‌باب في الأيمان والنذور

- ‌باب في النكاح والطلاق الرجعة والظهار والإيلاء واللعان والخلع والرضاع

- ‌باب في العدة والنفقة والاسبتراء

- ‌باب في البيوع وما شاكل البيوع

- ‌باب في الوصايا والمدبر والمكاتب والمعتق وأم الولد والولاء

- ‌باب في الشفعة والهبة والصدقة والحبس والرهن والعارية والوديعة واللقطة والغصب

- ‌باب في أحكام الدماء والحدود

- ‌باب في الأقضية والشهادات

- ‌باب في الفرائض

- ‌باب جمل من الفرائض والسنن الواجبة والرغائب

- ‌باب في الفطرة والختان وحلق الشعر واللباس وستر العورة وما يتصل بذلك

- ‌باب في الطعام والشراب

- ‌باب في السلام والاستئذان والتناجي والقراءة والدعاء وذكر الله عز وجل والقول في السفر

- ‌باب في التعالج وذكر الرقي والطيرة والنجوم والخصاء والوسم والكلاب والرفق بالملوك

- ‌باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي ويغير ذلك

الفصل: ‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

‌باب جمل من الفرائض ومن السنن الواجبة والرغائب

جمل: جماعات والفرائض جمع فرض هو: ما طلب شرعا بوجه جازم في الطلب وأصله في اللغة التقدير وله ألقاب ستة يقال: فرض وواجب ومكتوب ومحتوم ومستحق ولازم كل ذلك بمعنى واحد والسنن: جمع سنة وهي لغة: الطريق وشرعا: طريقة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا أصل لها في الوجوب والرغائب: جمع رغيبة وهي: ما جاء الترغيب فيه بقول أو فعل.

وهذا الباب وما بعده كالجامع للكتاب وضعه الشيخ ليقرب به ما تفرق في الأبواب فينتفع به قاصر الهمة عن الاتساع في العلم لعبادة أو غيرها وبذلك أجاب الشيخ حين سئل عن مراده بها.

(الوضوء للصلاة فريضة).

لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6] الآية وأخذ بعضهم من هذه الآية وجوهب النية فيه إذا جاء الأمر به لقصد الصلاة فلا تصح بكونه مقصودا لغيرها واختلف في اختصاصه بهذه الأمة فقال ابن العربي: الوضوء أصل في الدين وطهارة للمؤمنين وخاصة الأمة بين العالمين ورد الحديث" هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبل" فأجيب بأن الكلام في أممهم فأجيب بحديث جريح وإن توطأ في بعض روايات البخاري ولا خلاف في تخصيصها بالإثبتات عليه بالغرة والتحجيل والله أعلم.

(وهو مشتقق من الوضاءة).

ص: 968

يعني الحسن والنظافة وذلك في الطهر بإزالة الأوساخ والأدران وفي الباطن بتكفيره للذنوب كما صح قالوا: وذلك في الصغائر فأما الكبائر فلا يكفر إلا التوبة قال ابن العربي إجماعا فمن تاب عند كل عضو مما يتعلق به من الكبائر لم يبق له ذنب كبير ولا صغير وبالله التوفيق.

(إلا المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فإن ذلك منه سنة)

ص: 969

يعني: أن كل أفعاله فرض إلا ما استثنى ولم يذكر غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء مع أنه ذكره في باب الوضوء لينبه على وجود الخلاف فيه هل هو مغسول سنة أو للنظافة وكذا فعل في غير موضع يقتصر على كل قول في ناحية ألا ترى كيف قال في مس الذكر أنه ناقض مطلقا في باب ما يجب منه الوضوء وذكره في باب الغسل مطلقا بباطن الكف وذكر في النكاح أن صداق المنكوحة في المرض مبدأ وفي باب العتق أن المدبرة في الصحة مبدأ فتأمل ذلك وقد تقدمت صفة الوضوء أحكامه في بابه.

(والسواك مستحب مرغب فيه).

يعني في مواضعه الأربعة أي عند كل وضوء وإن لم يصل وعند كل صلاة وإن لم يتوضأ وعند القيام من نوم وعند الفراغ من الطعام وفي كل حال يتغير فيه الفم والذي يستاك به قال ابن العربي: قضبان الأشجار اقتداء بالنبي المختار وأصحابه الأخيار قال وأفضلها الأراك وضعف كراهة بعضهم بذي صبغ لتشبيهه بالنساء بجواز الاكتحال وفيه التشبيه.

قيل: وقد كرهه مالك أيضا لذلك وفي إجراء غاسول يمضمض به عنه قولان وكرهه ابن وهب بعود الرمان والريحان وسمع ابن القاسم من لم يجد سواكا فأصبغ يجزء اللخمي والأظهر للمفطر أن يستعمل الأخضر فهو أولى وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه: " السواء مطهرة للفم مرضاة للرب" الحديث وهو آخر فعله فعله السلام من الدنيا كما في الصحيح وقد قال عليه السلام: " لولا أن أشق على أمتي لأمترهم بالسواك عند كل وضوء" رواه النسائي ومالك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواية غيرهما من حديث أبي أيوب " عند كل صلاة" فمن ثم قال بعضهم إنه سنة وقواه (ع) والله أعلم.

(والمسح على الخفين رخصة وتخفيف).

ص: 970

يعني: في أي محل كان بشروطه المذكورة في بابه وحكى ابن الطلاع رخصة وهو المشهور وقيل سنة وقيل فرض قال والأحسن أن نفس المسح فرض والانتقال إليه

ص: 972

رخصة ونقل ابن وهب قولا بكراهته عن مالك ورجع لإثباته بعد إنكاره وقال الحسن: رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعون من الصحابة ابن القصار إنكار المسح على الخفين فسق وقال ابن حبيب: لا ينكره إلا مخذول ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الصحابة أنه قال قد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام مسح عليهما غير أنا لا ندري قبل نزول المائدة أم بعدها.

(والغسل من الجنابة ودم الحيض والنفاس فريضة).

يعني: إجماعا غير ما يذكر عن البخاري وداود من نفي الغسل من مغيب الحشفة قال ابن العربي: أما دواود فلا حديث لديه وأما البخاري فهو الداء العضاال غير أنه قال الغسل أحوط وهو الذي ذكرنا إنما بينا به اختلافهم فكان كالرجوع للجماعة وإن خالفهم في الدلالة وأحكام ذلك مذكورة في بابه.

(وغسل الجمعة سنة).

يعني واجبة لقوله عليه السلام: " غسل الجمعة واجب على كل محتلم".

رواه الأئمة من حديث أبي سعيد رضي الله عنه وهو ظاهر في الوجوب لولا حديث سمرة بن جنبد رضي الله عنه: " من توضأ يوم الجمعة ونعمة ومن اغتسل فالغسل أفضل له" رواه أصحاب السنن وحسنه الترمذي وله شاهد في الصحيح واختلف هل هو للصلاة فيلزم اتصاله بالرواح وهو المشهور أو لليوم فيجوز فعله في كل أجزائه؟ قولان وأحكامه مذكورة في بابه.

(وغسل العيدين مستحب).

يعني وليس كالجمعة وقيل سنة وفي المدونة: غسل اليدين مستحب حسن وليس كوجوبه في الجمعة ابن يونس: لأن الجمعة فريضة والعيدين سنة وما كان للفريضة آكد مما كان للسنة وقد تقدم في بابه والله أعلم.

ص: 973

(والغسل على من أسلم فريضة لأنه جنب).

هذا هو المشهور ورواية ابن القاسم والحائض ونحوها لما تقدم لها من ذلك وقيل: مستحب تعبدا وإليه ذهب القاضي إسماعيل فلو لم يتقدم موجب سقط على المشهور واستحب على الشاذ ويتيمم مع عدم الماء على المنصوص إلى أن يجد كالجنب ولو اغتسل قبل إسلامه مجمعا على الإسلام صح على المشهور وقيل: لا يصح كالإسلام قبل الشهادة إلا لعجز ولا يصح الغسل قبل العزم باتفاق وأصل المسألة حديث ثمامة بن أثال وهو في البخاري وغيره وروى ابن شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك والله أعلم.

(وغسل الميت سنة).

هذا هو الذي شهره المغاربة وصرح به ابن بزيزة وعبد الوهاب وابن محرز وصحح وقيل: فرض وهو معتمد العراقيين وقاله ابن عبد الحكم يعني فرض الكفاية وذلك في غير شهيد المعترك ومن لم يستهل صارخا من الأطفال والكافر لا حديث عليه غير أنها تجب مواراته فقط لقوله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] الآية.

(والصلوات الخمس فريضة).

يعني إجماعا فيكفر جاحدها ويعاقب تراكها مع الإقرار بها بقتله على المذهب وقال ابن حبيب: يكفر كأكثر المحدثين والإمام أحمد وقال أبو حنيفة: يبالغ في عقوبته فقط وقد صح" بين الكفر والإسلام الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر" قيل: حقيقة وقيل: يعني عمل بأعمال الكفار.

(وتكبيرة الإحرام فريضة).

ص: 974

قال ابن رشد باتفاق المذهب وعن مالك يحملها الإمام عن المأموم وأنكر والقيام لها واجب بقدرها وروى: " إلا المسبوق" وفي الصحيح:" مفتاح الصلاة الطهر وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم" وفي محله مذاهب.

(وباقي التكبير سنة).

يحتمل كل تكبيرة في ذاتها وكلها سنة واحدة وهما قولان حكاهما ابن رشد وأخذ من قول ابن القاسم أن كثره واجب وقليله سنة لقوله: لا يسجد للواحدة ولا يعيد للانثتين ويعيد لثلاثة إن لم يسجد حتى سلم وطال وقيل هو فضيلة.

(والدخول في الصلاة نية الفرض فريضة).

وكذا تعيين الصلاة في النية وكونها مع الإحرام لا بعده إجماعا ولا قبله بكثير كذلك وفي تقديمها بيسير خلاف مبني على أنها ركن وشرط ونية اقتداء المأموم فرض كاتفاق نيتهما لا متنفلا خلف مفترض ولا يلزم نية الإمامة على المشهور إلا في الجمع والجمعة والاستخلاف وصلاة الخوف.

(ورفع اليدين سنة).

يعني عند الإحرام كذا ذكره ابن رشد ولا شيء في تركه والمشهور فضيلة وثالثها مخير فيه ورابعها مكروه وخامسها يمنع وحكاه اللخمي وسادسها برفع الرجل دون المرأة وفي الرفع عند الركوع مع الإحرام روايتان وقاله ابن وهب وزاد عند القيام

ص: 975

من اثنتين قد تقدم.

(والقراء بأم القرآن في الصلاة فريضة).

يعني على الفذ والإمام فقط قيل وعلى المأموم في السر وقيل في كل ركعة وقاله مالك وابن القاسم والعراقيون وشهره عياض أو في جل الصلاة رواه ابن رشد وشهر أيضا وثالثها رواية أبي عمر في النصف ورابعها قول المغيرة إنما تجب في ركعة فقط وخامسها لابن شبلون هي سنة ونحوه رواية ابن زياد وأحب إلي إعادة من لم يقرأ في صلاته ورواه الواقدي والظاهري صحة صلاة من لم يقرأ بها وعلى الوجوب يجب تعلمها وتعليمها وإلا وجب ائتمامه فإن لم يمكن فهل تسقط وهو المشهور أو فرضه ذكر أو يفي قدرها؟ أقوال ولا خلاف في عدم وجوبها على الأخرس كجميع الواجبات القولية والله أعلم.

(وما زاد عليها سنة).

يعني في الثنائية وأولى الرباعية وظاهر ما هنا أن السنة الزئادة فقط وفي الصلاة خلافه وقد مر الخلاف فيه وقيل فضيلة وذكر حكمها في النافلة وقيل فريضة والله أعلم.

(والقيام والركوع والسجود فريضة).

ص: 976

أما القيام ففرض على القادر في الفرض فلا يجب في النفل على قادر ولا عاجز ابتداء ولا دواما على المشهور والعاجز عن الاستقلال يستند ثم إن لم يقدر جلس مستقبلا ثم إن لم يقدر استند لغير حائض وجنب ثم يضطجع وفي اضطجاعه هيئات كلها مستحب وهل القيام واجب لذاته أو لما يكون فيه من إحرام أو قراءة وهو المشهور قولان والرفع من الركوع والسجود واجب على المشهور وهل لذاته أو لكمالها قولان ولا خلاف في وجوب الفصل بين السجدتين.

(والجلسة الأولى سنة والثانية فرض).

ص: 977

إن أراد بالثانية قد إيقاع السلام فقط فهو المشهور وإن أراد مع قدر التشهد فهو جار على قول أبي مصعب وروايته أن التشهد الأول فريضة.

(والسلام فريضة).

يعني: باتفاق عند ابن رشد من قول ابن القاسم فيمن أحدث في آخر صلاته بعد سلام إمامه أنها تجزئة عدم وجوبه وتكلم فيه المازري وغيره.

(والتيامن به قليلا سنة).

وقيل فضيلة وقال ابن شعبان إن سلم على يساره بطلت وقد تقدم ما فيها وقد قالوا تدخل الصلاة بفرضين وسنتين وتخرج بفرضين وسنتين فتدخل بالنية والإحرام وبالإقامة ورفع اليدين وتخرج بجلوس والسلام وبالتشهد والتيامن.

(وترك الكلام في الصلاة فريضة).

يعني إلا إذا كان لإصلاحها فمن تكلم عامدا بطلت وهل إشارة الأخرس ككلامه ثالثها إن قصده كان وإلا فلا.

(والتشهدان سنة).

ص: 978

يعني: أن كل واحد بعضه سنة وهو المشهور وقيل فضيلتان وروى أبو مصعب وجوب الثاني قيل والجلوس الأول كذلك.

(والقنوت في الصبح حسن وليس بسنة).

يعني على المشهور وقيل سنة وقال يحيى بن يحيى غير مشروع وأخذ من قول ابن زياد تفسد صلاة تاركه وجبا.

(واستقبال القبلة فريضة).

يعني في كل فرض ونفل مع الذكر والقدرة إلا النافلة في القصر فله أن يصليها.

ص: 979

حيث ما توجهت به دابته كما تقدم في باب جامع الصلاة واعلم أن أركان الصلاة ثمانية وشروطها النية والإحرام والقراءة والقيام والركوع والسجود والجلوس والسلام ومدارها على أقوال وأفعال فالأقوال كلها سنة إلا ثلاثة تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن والسلام والأفعال كلها فرض إلا ثلاثة رفع اليدين عند الإحرام والجلسة الوسطى والتيامن من السلام وهذا الاختصار ذكره ابن رشد وبالله التوفيق.

(وصلاة الجمعة والسعي إليها فريضة).

وذلك على كل حر ذكر بالغ مقيم حيث توفرت شروطها وانتفعت موانعه وهي بدل من الظهر في الفعل وقيل فرض يومها وعليهما من لم يدرك إلا آخر جزء منها هل يبني على إحرامه ويكمل أربعا أو يعيد احتياطا أقوال والسعي المشي إليها وقد تقدم حد وجوبه.

(والوتر سنة واجبة وكذلك صلاة العيدين والخسوف والاستقساء).

باتفاق المذهب في الكل إلا الوتر فقيل بوجوبه لقول سحنون يجرح تاركه وأصبغ يؤدب ورد بأن ذلك للتهاون بالسنن وصلاة العيدين فقيل فرض كفاية والمشهور خلافه وآكد السنن الوتر ثم العيدان ثم الكسوف ثم الاستقصاء.

(وصلاة الخوف واحبة أمر الله سبحانه بها وهو فعل يستدركون به فضل الجماعة).

ص: 980

يعني صلاة الخوف التي على الكيفية المذكورة في بابها لا غيرها وكأنه يقول وجوبها وجوب السنن وهو الصلاة في الجماعة والله أعلم.

(والغسل لدخول مكة مستحب).

المشهور سنة ويستحب بذي طوى إن أمكن الباجي وهو للطواف ولولا ذلك ما سقطت عن الحائض ونحوها.

(ولجمع ليلة المطر تخفيف وقد فعله الخلفاء الراشدون).

ابن يونس فعله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقال ابن قسط الجمع ليلة المطر سنة ماضية أي دليله السنة أوكيفيته والمشهور رخصه وعليه فله راجحة أو مرجوحة أو مساوية؟ فاللخمي مع الأكثر راجحة ولابن رشد مرجوعحة أخذ من تعليله قول مالك من صلى في بيته من طين أو أذى بطريقه أرجو أنه في سعة فإن فضل الوقت أفضل من صلاة الجماعة وفي المسألة ست أقوال تقدمت.

(والجمع بعرفة ومزدلفة سنة واجبة)

الأول عند النزول مع الإمام بعد خطبته فإن لم يكن فوحده فإن ترك فعليه دم وبمزدلفة بعد مغيب الشفق بعد حط رحله فلو صلى قبل ذلك أعاد العشاء وقد تقدم في الحج وكل جمع للصلاتين فهو رخصة إلا لهذين فإنهما سنة والله أعلم.

ص: 981

(وجمع المسافر في جد السير رخصة).

يعني بتقديم العصر إن كان في المنهل أول الوقت وتأخير الظهر إذا كان على طهر وكذا المغرب والعشاء والمشهور أنه لا يتشرط جد السير ولا سفر القصر ولا كراهة على المشهور قاله في المقدمات.

(وجمع المريض يخاف إن يغل على عقله تخفيف).

يعني: في إجزائها إذا لم يصبه شيء أو أفاق في جزء من الوقت وإلا فسقوطها بخروج الوقت قبل إفاقته أو إصابتها في خناق منه والله أعلم.

(وكذلك جمعه لعلة به فيكون ذلك أرفق به).

وكذلك الجمع الصوري ونحوه بتأخير الأولى لأول الثانية واختلف في إجازته لا لسبب وذكر الباجي جوازه فانظره فيما تقدم.

(والفطر في السفر رخصة والإقصار فيه واجب).

يعني وجوب السنن بشرطه وهو المسافة والإباحة وغيرها وفيه أقوال مشهورها ما ذكر والمذكور أن الإفطار رخصة مرجوحة قالوا والفرق بينهما وبين الصلاة أن الصوم مخروج فيه إلى عدم والصلاة مبدلة بكيفية هي مقصودة من الشارع وفي الحديث: " خيار أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا وإذا سافروا قصروا وأفطروا" وراه بعض أصحاب السنن والله أعلم.

(وركعتا الفجر من الرغائب وقيل من السنن).

ص: 982

يعني: غير مؤكدة إذ قال في المدونة وليس كتأكيد الوتر في الإرشاد نافلة وقد مر ما فيها في باب صفة الصلاة.

ص: 983

(وصلاة الضحى نافلة).

يريد مما فعله عليه السلام ودوام عليه ولم يظهره في جماعة أو أظهره ولم يداوم عليه وقد رواها ثلاثة عشر إنسانا من الصحابة عياض واختلفت الروايات فيها من اثنتين إلى اثنتي عشرة ومنتهاها عند أهل المذهب ثمان وأقلها ركعتان وأوسطها ستة ووقتها حل النافلة.

(وكذلك قيام رمضان نافلة وفيه فضل كبير ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه).

يعني نافلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أظهره مرة ثم ترك خشية أن يفرض عليهم ورغب فيه بالحديث المذكور ويعني إيمانا بما جاء فيه من الثواب واحتسابا يعده عند الله لا لغرض دنيوي وقد تقدم في باب الصيام وحديثه رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(والقيام من الليل في رمضان وغيره من النوافل المرغب فيها).

يعني بالقول والفعل فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك صلاة الليل في حضر ولا سفر ولا يقال لأجل وجوبها عليه فقط بل ولتقدتي به أمته ولأن الدوام عليه يحصل ليلة القدر ضرورة وقد صح فيه أحاديث كثيرة فانظرها فيما تقدم.

(والصلاة على موتى المسلمين فريضة عامة يحملها من قام بها وكذا موراراتهم في الدفن وغسلهم سنة واجبة).

يعني كلاهما فرض كفاية وشهر وعن أصبغ الصلاة سنة كفاية ونقل ابن زرقون عن تلقين الشارقي مستحب وعلى المشهور يصليها بعد الكفاية معين في فرض الكفاية وقيل مستحب فانظر ذلك والدفن فرض كفاية بلا خلاف والله أعلم وقد تقدم ما جاء في الغسل قريبا وهذا موافق له فهو تكرار لا شك فيه.

(وكذلك طلب العلم فريضة عامة يحملها من قام بها إلا ما يلزم الرجل في خاصة نفسه).

يعني بالعلم: العلم بالله وبما جاء به أمر الله وما يرجع إلى ذلك من مقدماته ومتمماته التي لا بد منها وفرض العين منه ما لا يؤمن الهلاك مع جهله دينا ودنيا وفرض الكفاية ما لا تلق له به في الحال مع تعلق الغير به أو توقعه في المآل وقد أجمعوا

ص: 984

على أنه لا يجوز لأحد أن يقوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ولا يلزمه التوسع إلا قدر ما تعلق به فقط.

(وفريضة الجهاد عامة يحملها من قام بها إلا أن يغشى العدو محلة قوم فيجب فرضا عليها قتالهم إذا كانوا مثلي عددهم).

ص: 985

ولا خلاف في ذلك ويجب النصر على من وراءهم على التوالي إلى منتهى

ص: 986

الإسلام بقدر الطاقة كما تقدم في باب الجهاد فانظر هناك.

(والرباط في ثغور المسلمين وسيدها حياطتها واجب يحمله من قام به).

وقد صح: " من رابط في سبيل الله فواق ناقة حرمه الله على النار" وروى: " كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله" جلعنا الله منهم بمنه وكرمه وقد تقدم.

(وصوم شهر رمضان فريضة).

يعني مجمع عليها لأنها من القواعد الخمسة ويسقط في الحال عن المريض والمسافر والحائض ثم يقضون وهل بالأمر الأول فيكون واجبا في ذلك منعه مانع أو إباحته رخصة أو بأمر جديد في الحال وثالثها يجب على المسافر دونها والخلاف لفظي وجاحد وجوبه كافر وتاركه إهمالا المشهور لا يكفر ولا يؤمر به المطيق الذي لم يبلغ على المشهور وقيل يؤمر وهل وجوبا أو استحبابا قولان:

(والاعتكاف نافلة).

وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى مات واعتكف أزواجه من بعده ثم ترك قال مالك وما أراهم تركوه إلا لشدته وما ذلك إلا لأن نهاره وليله سواء وقد تقدم في بابه.

(والتنفل بالصوم مرغب فيه).

يعني في عموم الأوقات التي لا نهي فيها فقد قال صلى الله عليه وسلم " يقول الله تبارك وتعالى كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" فقيل معنى قوله: (فإنه لي) أي: لا يطلع عليه غيري وقيل: هو تشبه بوصفه قيل والصائم صابر {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10] وأجاز مالك صيام الدهر ورأى النهي فيمن لا يطيق أو من لا يفطر الأيام المنهي عن صومها لحديث حمزة بن عمر والأسلمي رضي الله عنه وغيره.

(وكذلك صوم يوم عاشوراء ورجب وشعبان ويوم عرفة والتروية لغير الحاج أحسن منه للحاج).

أما عاشوراء فكان واجبا ثم نسخ وفي الإكمال قول بأن وجوبه باق وخرج البخاري فيه: " يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده" وذلك لأن يوم عرفة يجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم لقوله عليه الصلاة

ص: 987

والسلام: " ما من أيام العمل أحب إلى الله من أيام العشر" الحديث. ويوم عاشوراء ليس له إلا فضيلة اليوم ويتفقان في كونهما في شهر الحرم والله أعلم وهل هو التاسع أو العاشر وهو المشهور أو الحادلي عشر أقوال واستحب ابن حبيب فيه التوسعة في الإنفاق ولما جاء من أنه يوسع على فاعله بقية سنته.

وأحاديث الغسل فيه والكحل والعشر ركعات كل ذلك لا يصح منه شيء خلاف الترغيب في الصلاة والصدقة ونحو ذلك إنما كان الفطر أفضل للحاج بعرفة يوم عرفة للتقوي على الوقوف وكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والأجر على قدر الاتباع لا على قدر المشقة وحديث صوم شعبان رواه مسلم وروى غير واحد قيام ليلة النصف منه.

وقال ابن العربي في صلاتها ليس يها حديث يساوي سماع ورد قول من قال: إنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم قائلا هذا قول من تعدى على كتاب الله وانظر العارضة ولم يرد في رجب شيء يعتد به غير أنه من الحرم وقد قال عليه الصلاة والسلام: " صم من الحرم ودع وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" على أنه يحتمل الخصوص والمذهب ما ذكر والله أعلم.

(وزكاة العين والحرث والماشية فريضة).

من الأصول المجمع عليها التي من جحد وجوبها كفر ومن تركها مع الإقرار بوجوبها اختلف في إيمانه وشروطها وتفاصيلها في بابها.

(وزكاة الفطر سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل يعني هي فرض بالسنة لا بالقرآن وقيل حكمها السنية وفرضها بمعنى قدرها والمشهور الأول وقيل هي داخلة في عموم قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] وقيل مأخوذة من قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى} [الأعلى: 14] أي: أعطى زكاة الفطر: {وذكر اسم ربه} [الأعلى: 15] في الخروج للعيد {فصلى} [الأعلى: 15] صلاة العيد وعزي هذا القول لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

ص: 988

بشرط الاستطاعة ويصح دنها من مكلف بالغ عاقل حر ويجزئ ويصح ممن سواه غير المجنون ولا يجزئ عن الفرض إذا استطاع وقد تقدم تفسير ذلك وتفصيله في بابه وأنه من القواعد الخمس التي يكفر جاحدها ويختلف في إيمان تاركها مع توفير شروطها من غير جحد والله أعلم.

(والعمرة سنة واجبة).

يعني مؤكدة على المشهور وقال ابن الجهم فريضة وهي نصف أفعال الحج ولها حكمه فيما يتعلق بها من أفعاله وهي الإحرام والطواف والسعي والحلاق وقد تقدم.

ص: 989

(والنية بالحج فريضة).

يعني وكذا بالإحرام وهل هي الإحرام وهو قول القاضي وابن يونس وقول المازري ينعنقد بالنية وابن بشير لا ينعقد بها وقول اللخمي يجزئ على الخلاف في انعقاد اليمين بالنية والمشهور بالنية مع قول أو فعل يناسب الحج كالتلبية والأخذ في المشي والاستواء على الراحلة أو استوائها به والتلبية سنة يجب الدم بتركها جملة ويرجع لها فيما قرب وقال ابن حبيب فرض كتكبيرة الإحرام للصلاة لا ينعقد الإحرام إلا بها وهو ظاهر ما تقدم للشيخ في باب الحج.

(والطواف للإفاضة فريضة والسعي بين الصفا والمروة فريضة).

يعني وكلاهما ركن إذ أركان الحج أربعة الإحرام وطواف الإفاضة والسعي والوقوف بعرفة وقوله: (وكذا الطواف المتصل به). يعني: بالسعي واجب ثم قال وطواف الإفاضة آكد منه والطواف للوداع سنة يعني أن طواف القدوم أطلق عليه الوجوب من جهة اشتراطه في واجب وهو السعي وطواف الإفاضة واجب لذاته لأنه طواف الركن ويسمى طواف الزيارة وطواف الوداع ليس بواجب لذاتته ولا لغيره وإلا فالأصل في طواف القدوم أنه سنة والله أعلم.

(والمبيت بمنى يوم عرفة سنة).

يعني ولا دم على تاركه على المشهور وهو قول الشافعي وغيره حتى أنه يتركه من يخاف على نفسه من يبيت به ليلة أو من غده وقد قال ابن العربي وعلى تاركه الدم.

(والجمع بمعرفة واجب).

يعني وجوب السنن أبو عمر سنة إجماعا من فاته مع الإمام جمع وحده فإن لم يفعل فهل عليه دم أم لا؟ اختلف في ذلك.

(والوقوف بعرفة فريضة).

يعني جزأ من ليلة يوم النحر والنهار سنة ولو قل ويتمادى بالوقوف على أي جهة كان ولو بأدنى لبث وفي تأديته بالمرور اختلاف إذا نوى ويجب الارتفاع من بطن عرنة وقال ابن المواز: كتب إلي أصبغ المسجد من بطن عرنة فمن وقف في المسجد فلا حج له وحكى ابن المواز عن مالك حجه تام ويلزمه دم.

ص: 990

(ومبيت المزدلفة سنة واجبة).

يعني: ويكفي من أدنى شيء فلو لم ينزل بها لزمه دم ولو نزل ثم ارتحل قبل الفجر فلا دم عليه أبو عمر إن ترك النزول بها لعذر فلا شيء عليه وإن ترك النزول بها وبالمشعر فعليه الدم ولو كان لعذر.

(ووقوف المشعر الحرام مأمور به).

يعني: في كتاب الله ومحمله عند مالك على الندب وقال الشافعي ركن واختلف فيه قول عبد الملك والمشهور لا دم لتركه وقيل فيه الدم ابن رشد وفعله آكد من نزول المزدلفة وقال بعض المتأخرين بوجوبه.

(ورمي الجمار سنة واجبة).

وقال عبد الوهاب: جمرة العقبة ركن وهي التحليل، وكذا الحلاق سنة للتخليل أيضا فيحل به كل شيء إلا الطيب والنساء والصيد واختلف في الحلاق في العمرة فقيل سنة للتحليل وقيل ركن والله أعلم.

(وتقبيل الركن سنة).

يعني الحجر الأسود على الوجه المذكور في بابه والمشهور سنة أو لا مستحب في كل شوط من الطواف عند الوصول إليه كاستلام اليماني.

(والغسل للإحرام سنة والركوع عند الإحرام سنة وغسل عرفة سنة والغسل لدخول مكة مستحب).

وقيل بالعكس وقد تقدم أن غسولات الحج سبعة للإحرام ولدخول مكة وللسعي وللوقوف بعرفة وللوقوف بمزدلفة ولرمي الجمار ولطواف الإفاضة على ما أخذه القرافي في قول الجلاب يغتسل لكل أركان الحج.

(وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة).

يعني كانت الجماعة كبيرة أو صغيرة على المشهور وقال ابن حبيب تتفاضل بالكثرة يريد فيما وراء الخمس العشرين كذا نص عليه بعض الشافعية والله أعلم. وأحاديثها صحيحة والكلام فيها معلوم فلا نطول به.

(والصلاة في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فذا أفضل من سائر المساجد

ص: 991

واختلف في مقدار التضعيف بذلك بين المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لم يختلف أن صلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه وسوى المسجد الحرام وأهل المدينة يقولون: إن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون الألف هذا كله في الفرائض وأما النوافل ففي البيوت أفضل).

حاصل هذا الكلام أن الصلاة في مسجدي الحرمين أفضل من الصلاة في كل مسجد دونهما حتى بيت المقدس وبيت المقدس أفضل مما دونه وهذا مما لا خلاف فيه وإنما اختلف فيما بين المسجدين الكريمين فالمشهور أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل لأنه الذي اختار الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن وهب وابن حبيب بالعكس بعد إجماعهم على أن موضع قبره عليه الصلاة والسلام أفضل بقاع الأرض قلت وينبغي أن يكون موضع البيت بعده كذلك ولكن لم أقف عليه لأحد من العلماء فانظره.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" متفق عليه من حديث ابن الزبير رضي الله عنه.

واختلف في قوله: " إلا المسجد الحرام" هل المراد فهو مثله أو يفضله بهذا المقدار بل بدونه وهو الذي حكاه الشيخ عن أهل المدينة والمسجد الحرام أفضل منه وهو نص رواية ابن حنبل في حديثه قال فيه: " وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بمائة صلاة" وصححه ابن حبان إلا أن تصحيحه معلوم بالتساهيل فلا يكون حجة والله أعلم. وكون النوافل في البيوت أفضل عموما هو الصحيح وظاهر نص الحديث الصحيح.

(والتنفل بالركوع لأهل مكة أحب إلينا من الطواف والطواف للغرباء أحب إلينا من الركوع لقلة وجود ذلك لهم).

هذا هو المشهور والمعمول والمجاور الذي طالت مدته من أهل مكة وللشيوخ في ذلك كلام لا أستحضره الآن وبالله التوفيق، ولما انتهى ذكر الشرائع أراد الشيخ الكلام على أحكام الودائع وهي الجوارح فقال:

(من الفرائض غض البصر عن المحارم)

ص: 992

لقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون} [النور: 30] الآية. أمر في طي نهي يتبعه تحضيض ويلحقه تهديد نص الشافعي علىتحريم الخلوة مع الشاب الجميل وإن أمنت فتنته وقال ابن الفاكهاني: مقتضى المذهب أن ذلك لا تحريم إلا بما يتضمنه فإن غلبت السلامة ولم يكن للقبيح مدخل فلا تحريم هذا معنى كلامه ومذهب الشافعي أمس بسد الذرائع وأقرب للاحتياط لا سيما في هذا الزمان الذي اتسع فيه البلاء واتسع الخرق على الراقع والله أعلم.

(وليس في النظرة الأولى بغير تعمد حرج).

قال ابن عطية الظاهر في قوله تعالى {من أبصارهم} أن {من} للتبعيض لأن أول نظرة لا يملكها الإنسان إنما يغضون فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج.

وفي الحديث" لا تتبع النظر النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية" قال ذلك لعلي كرم الله وجهه ولما سأل جرير رضي الله عنه وحكى ابن القطان أنها لا تتعلق بها كبيرة ولكنها أعظم الجوارح آفة على القلب وأسرع الأمور في خراب الدين والدنيا وأفاد قول الشيخ بغير تعمد أن تعمد الأولى مساو لثانية الفجأة في الحكم وهو صحيح والله أعلم.

(ولا في النظر إلى المتجالة ولا في النظر إلى الشابة لعذر من شهادة عليها وشبهه).

المراد بالمتجالة العجوز التي سقطت حاجة الرجال منها فحكمها في النظر حكم الرجال لقوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيبابهن غير متبرجات بزينة} [النور: 60] الآية والشهادة تبيح النظر إلى الشهود عليها وتأمل صفاتها للتثبيت في الشهادة وليتق الله ما استطاع ولا يحل له النظر بالشهوة ولا التمادي عن تحريك النفس لها وشبه الشهادة في ذلك الطب وما يجري مجراه مما تدعو الضرورة إليه ولا يصح بدون الرؤية.

ص: 993

(وقد أرخص في ذلك للخاطب).

يعني أن من أراد نكاح امرأة جاز له النظر إليها لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وصححه الحاكم ومشهور المذهب أن ذلك لا يجوز إلا بعد إعلامها به لا غفلة وروي: " لا بأس به وعليها ثيابها" وقال ابن القصار ومال إلى نظر ما سوى السوأتين وظاهر كلام الشيخ أن ذلك مباح فقط ومشهور المذهب أن ذلك مستحب وقال ابن القصار وقد نظر عمر رضي الله عنه إلى أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه.

(ومن الفرائض صون اللسان عن الكذب والزور والفحشاء والغيبة والنميمة والباطل كله).

الصون: الحفظ، والكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه والزور: الشهادة على ما لا يتحقق علمه والفحش الكلام القبيح الذي تنفر النفوس منه لقبحه والغيبة: ذكر الإنسان بما فيه مما يكره أن لو سمعه واختلف في ذكر ذلك بحضرته وقال عليه السلام: " أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال: " ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والنميمة نقل الحديث على جهة الإفساد والباطل ضد الحق وهو أكثر من أن يحصى لكن قال علماؤنا- رحمهم الله لما علم تعالى أن آفات اللسان لا تحصى ولا يحاط بها حصر ذلك بقوله العزيز {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء:114] الآية.

ولا خلاف في قبح الكذب وتحريمه في الجملة إلا أنه قد يباح لدفع الضرر في مواضع وربما وجب فيها ولا يجوز لجلب منفعة بحال ومما يجب فيه دفع الظلم عن نفسه وماله وستر عرضه فإذا سئل عن معصية فعلها فلا يجز له الإقرار بها وكذا في حق غيره.

ص: 994

إلا في موجب حكم بشرطه والتعريض أولى ويباح للزوجة والولد استئلافا لدفع مفسدة نفورهما ونحوه.

وفي الجهاد وتغيير المنكر بشرطه وفي الإصلاح بين الناس ومراتب الكذب والترهيب منه ومواضعه كثيرة وقد استوفى الإمام الغزالي جلها في " الأحياء" فمن أراد ذلك فعلهي به.

وفي الحديث:" من شهد شهادة زور علق من لسانه يوم القيامة" وعدها عليه السلام في السبع الموبقات ولا خلاف في أنها كبيرة وقال عليه السلام: " تعرف الشمس؟ " قال: نعم. قال: " على مثلها فاشهد وإلا فدع إن الله يبغض الفاحش والمتفحش البذيء" يعني لا يتقي فحش ما تكلم به وقال عليه السلام: " الغيبة أشد من ثلاثن زنية في الإسلام وإن ردهما في الربا كأن ينكح أمه وإن أبى الربا عرض المرء المسلم" وتباح الغيبة في مواضع تذكر بعد إن شاء الله.

وقال الشيخ تقي الدين السبكي: هي من الصغائر لعموم البلوى بها يريد إن وقعت فلتة لأن ذلك لا يخلو عنه الصالحون إلا فالتمادي علهيا كبيرة كسائر الصغائر وللقرطبي هي من الكبائر ويكفي في قبح الغيبة وذمها تشبيه الله إياها بأكل المغتاب لحم ميتة من اغتابه إذ قال تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتمون} [الحجرات: 12] وقد ذكر سبحانه في أول الآية أصل الغيبة في الغالب وأصل أصلها فأما أصلها فالتجسس وأصل أصلها الظن فمن لم يظن لم يتجسس ومن لم يتجسس لم يصل للأمور الجلية غالبا ومتعلق الغيبة في الغالب الأمور الخفية ومن أراد أن لا يفوته خير لم يفته شر فاحذر من الظن والتجسس نتج من الغيبة في الغالب وبالله التوفيق.

ولا خلاف أن النميمة من الكبائر وصاحبها ممقوت عند الله وعند الناس سواء من نقل له أو من سمع بذلك ويقال من نقل لك نقل عنك ومن قال لك قال فيك وقد سمى الله تعالى النمام فاسقا فقال عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6] وقرئ: فتثبتوا، وقال عليه السلام:" لا يدخل الجنة قتات".

ص: 995

يعني نماما متفق عليه من حديث حذيفة رضي الله عنه وفي البخاري وغيره أنه عليه السلام مر بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" الحديث وإنما اتفقا في العذاب لاتفقاهما في الخساسة والتلويث وأكبر النميمة السعاية وهي الإدلاء بالناس للظلمة.

قال بعض الأئمة: وقد بحث عن فاعلها فلم يوجد قط إلا ولد زنا وأخذ من قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين (10) هماز مشاء بنميم (11) مناع للخير معتد أثيم (12) عتل بعد ذلك زنيم} [القلم: 10 - 13] إن النمام لا يكون إلا ولد زنا ولا يصح ويحكى أن رجلا كتب إلى ابن عباد الصاحب: إن ههنا مال يتيم مهمل فأنت أولى به فأجابه: المال ثمرة الله والولد أصلحه الله والنمام لعنه الله ومراده بالباطل ما لا يهدي إلى حق ولا يعين على خير ولا يهدي إليه وأنواعه لا تنتحصر ولا تحصى لكن الله عز وجل حصرها بقوله العزيز: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء: 114] وقال صلى الله عليه وسلم: " كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر وذكر الله".

وقد استوفى الإمام أبو حامد الغزالي وأبو طالب المكي كثيرا من آفات اللسان واستقصوا الكلام على ذلك فمن أراد ذلك فعليه بمطالعتهما ناويا العمل بما يعلم وإلا فهو حجة عليه نعم والجهل به أعظم من تركه مع علمه وبالله التوفيق.

(قال الرسول عليه الصلاة والسلام " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وقال عليه السلام: " من حسن إسلم المرء تركه ما لا يعنيه".

أما الحديث الأول فمتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومعناه أن من مقتضيات الإيمان حفظ اللسان إلا عن الخير وفي مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قالت: يا رسول الله أي المسلمين أفضل قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده" وقال صلى الله عليه وسلم " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة". رواه البخاري من

ص: 996

حدث رضي الله عنه ومعنى الخير هنا ما فيه سلامة ومنفعة من الكلام قال العلماء رضي الله عنهم ومتى استوى الكلام والصمت في المنفعة فالصمت مقدم لأنه أسلم. ومتى ترجح أحدهما كان لازم الوقت وقد قال الشيخ أبو علي الدقاق رضي الله عنه من سكت عن الحق في محله فهو شيطان أخرس.

ويروى عن مالك أنه قال: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وبالله التوفيق وحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" عام في كل شيء يأتي الكلام عليه بعد إن شاء الله تعالى وهو أعم موقعا من الذي قبله إذ يجري في الأقوال والأفعال وغيرها ومدار ذلك على أن الأمور أربعة: ضرورية لا بد منها وحاجية يتأكد وجودها وتكميلية يحسن تحصيلها وخارجة عن ذلك فكل ما كان من الثلاثة الأول فهو مما يعني وما كان من الرابع فهو مما لا يعني والغالب عليه الضرر وإيثار السلامة في كل شيء يوجب اقتصار المرء على ما يعنيه دون غيره كما قيل:

وقائله ما لي أراك مجانبا

أمورا وفيها للتجارة مربح

فقلت لها ما لي بربحك حاجة

فنحن أناس بالسلامة نفرح

وفي رسائل الشيخ سيدي أبي عبد الله محمد بن عباد رحمه الله من فعل في هذا الزمان بغير ما أوجب الله عليه فقد اشتغل بما لا يعنيه يشير إلى الأمر العامة والله أعلم.

(وحرم الله سبحانه دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم إلا بحقها ولا يحل دم امرئ مسلم إلا أن يكفر بعد إيمانه أو يزني بعد إحصانه أو يقتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض أو يمرق من الدين).

مدار هذه الجملة على حديثين أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه مسلم وهو بيان لقوله في الذي

ص: 997

قبله إلا بحقا فهذا حقها الذي تستباح به وقد ذكر عليه السلام أصوله وهي ثلاثة: الحد والقود والارتداد. ومعنى المروق من الدين الخروج منه كما يمرق السهم من الرمية إذ يخرج منها ثم لا يعود إليها والله أعلم.

(ولتكف يدك عما لا يحل لك من مال أو جسد أو دم ولا تسع بقدميك فيما لا يحل لك ولا تباشر بفرجك أو بشيء من جسدك ما لا يحل لك قال الله سبحانه وتعالى {والذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون: 5] إلى قوله: {فأولئك هم العادون} .

هذا واضح والذي يحل لك تناوله من المال هو ما لك ملك فيه أو إذن من مالكه أو من الشارع صلوات الله عليه وسلامه وقد قال عليه السلام: " أحل ما أكل الإنسان من كسبه وإن ولده من كسبه" الحديث وأم الجسد فالعورة من كل إنسان لا يجوز لمسها كما لا يجوز النظر إليها إلا لضرورة مبيحة كالزوج والزوجة والأمة المباحة لسيدها فإنه يجوز لكل من الزوجين وإن بغير ضرورة وإن كره ومن ذلك لمس ما لا يحل له لمسه من امرأة أو صبي بشهوة ونحو ذلك ومباشرة الفرج يكون بثلاثة الزنا واللواط والاستمناء فالأولان محرمان إجماعا والاستمناء مختلف فيه فمذهب الجمهور إلى المنع وقال أحمد هو كالفصادة وعن الحسن إنما هو ماؤك فأرقه وعن مجاهد كانوا يعلمونه صبيانهم ليستعفوا به عن الزنا وعن ابن عباس الخضخضة خير من الزنا ودليل المنع قوله تعالى: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} [المؤمنون: 6] وليس هذا بواحد منهما ولا يدخل الملوك في الاستثناء بدليل القرآن بالأزواج.

وحكى بعض المقيدين جوازه عن الشافعي وهو باطل بل هو عن الشيعة الخارجين عن الحق وإما تكلم ابن العربي في أحكام القرآن على هذه الآيات ذكر مذهب الإمام أ؛ مد ثم قال وهذا من الخلاف الذي لا يجوز العمل به وليت شعري لو كان فيه نص صريح بالجواز أكان ذو همة يرضاه لنفسه وما يذكر فيه من الأحاديث ليس فيها ما يساوي سماعا وقد عده البلالي في اختصار الإحياء من الصغائر يعني من صغائر الخسة والله أعلم.

(وحرم الله سبحانه الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأن يقرب النساء في دم حيضهن ودم نفاسهن وحرم من النساء ما تقدم ذكرنا إلياه وأمر بأكل الطيب

ص: 998

وهو الحلال).

الفواحش: جمع فاحشة وهو ما تزايد قبحه من فعل أو قول وقيل ما ظهر كالزنا واللواط وما بطن الاستمناء وما في معناه وقيل الزنا وما يتصل به وقيل ما ظهر على الجوارح وما بطن في الضمائر قال الله تعالى: {قل إنما رحم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم البغي بغير الحق} [الأعراف:33] الآية والإثم من اسماء الخمر قيل: فهي المراد هنا وبهذا تكون الآية نصا في تحريمها ويحرم الفحش في الأقوال والأفعال وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض الفاحش البذيء" أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدراء وصححه والبذيء بالمعجمة الذي يصرح بما يكنى عنه من القبيح والله أعلم.

فأما إتيان النساء في الحيض والنفاس فلقوله تعالى: {ويسئلونك عن الميحض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} [البقرة: 222] الآية ففرج الحائض والنفساء حرام إجماعا إلى انقطاع دمها وفيها بين طهرها وغسلها اختلاف مشهوره المنع وأنه لا يبيحها إلا الغسل بالماء خلافا لابن بكير وفي الصحيح لتشد مئزرها وشأنك بأعلاهها وبحسبه منع ما دون ذلك الفرج مما تحت الإزار وخففه ابن حبيب وأصبغ بقولهما إنه ذريعة فلا يضر لمن تحفظ.

ومذهب مالك كفارة على من أتى أهله في ذلك وليستغفر الله ويتوب إليه فإنه أعظم من أن يكفر وفي الحديث: " إن كان في أول الحيض تصدق بدينار وإن كان في آخره فنصف دينار وقال به الشافعي ابن رشد ولو عمل به عامل ما كان مخطئا والله أعلم.

وأما ما حرم الله من النساء فتقدم ذكرهن في النكاح عند قوله: وحرم الله سبحانه من النساء سبعا بالقرابة إلخ وقوله وقال صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب". وقوله وحرم الله سبحانه وطء الكوافر إلى آخره وقد أنهى عبد الوهاب المحرمات من النساء إلى أربعين ونوعهن أنواعا تقدم كل ذلك في باب النكاح وبالله التوفيق.

وأما أمره تعالى بأكل الطيب ففي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من

ص: 999

طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} [البقرة: 172] وأمر بأكل الحلال والشكر عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" فذكر هذه الأية مع قوله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} [المؤمنون: 51] وتفسير الطيب بالحلال هو قول مالك وجماعة من العلماء في قوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات} [الأعراف: 157] ولعلها المستلذات وكل صحيح لأن المستلذ لا يكون طيبا إلا مزوجا حلالا وإذا كان من وجه حرام فهو خبيث.

(فلا يحل لك أن تأكل إلا طيبا ولا تركب إلا طيبا ولا تسكن إلا طيبا وتستعمل جميع ما تنتفع به طيبا ومن وراء ذلك أمور ومتشابهات من تركها سلم ومن أخذها كان كالراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه).

يعني أن الطيب الذي هو الحلال مطلوب في كل مستعمل فلا يحل كسب المال من غير حله ولا استعماله في وجه من وجوه الانتفاع عند القدرة على الحلال ويلزمه أشبه ما يقدر عليه لكفافه عند التعذر وقد قال ابن عبدوس عماد الدين وقوامه طيب المطعم فمن طاب كسبه زكا عمله ومن لم يطب كسبه خيف عليه أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع عمله لأن الله سبحانه قال {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27] ثم ذكر حديثا عن سحنون عن ابن القاسم عن عبد الله بن عبد العزيز الزاهد يرفع الحديث إلى عائشة رضي الله عنها أنه عليه الصلاة والسلام قال: " المؤمن الذي إذا أصبح نظر من أين قرصاه وإذا أمسى سأل أين قرصاه" قلت: يا رسول الله لو علم الناس لتكلفوا فقال: " قد علموا ولكنهم غشموا المعيشة غشما" قال الشيخ: أي: تكلفوا وتعسفوا تعسفا.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم: " من أمسى وانيا من طلب الحلال أصبح مغفورا له" ثم الحلال ما انحلت عنه التبعات فلم يتعلق به حق لله ولا حق لغيره وهل هو ما جهل أصله أو ما علم أصله وأصل اصليه أقوال أرجحها الأول؛ لأنه أشبه بيسر الدين قال

ص: 1000

بعض العلماء وقد خلق الله المال حلالا كما خلق الماء طهورا فكما لا ينجس الماء إلا ما غيره كذلك لا يحرم المال إلا ما غيره إلا أن الشارع لما رأى حرص النفوس على التحفظ في الطهارة تساهل فيها ولما رأى تساهلها في الأمولا تحفظ فيها فاستعمل الورع في هذه دون تلك حتى قال ابن عمر رضي الله عنه إني لأجعل بيني وبين الحرام سدة من الحلال ولا أحرمها وأشار الشيخ بقوله ومن وراء ذلك أمور متشابهات لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه " الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعملها كثير من الناس ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن أخذها كان كالراتع حو الحمى يوشك أن يقع فيه ألا وإن لكل مالك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" الحديث وهو أحد الأحاديث التي يدور عليها أمر الدين البلالي رحمها لله في اختصار الإحياء وكشف الشبهة مهم فمحض الحلال كماء مطر أخذ قبل وقوعه وضده كخمر وزنا ونحوهما قال: وحد الشبهة تعارض احتمالين ومثاراتها كثيرة شكه في تسبب حله وتحريمه.

ثم ذكر تفصيله إلى ذكر شبهة الاختلاط وأن أموال زماننا من اختلاط غير محصور بغير محصور فلا يحرم التناول قال: وتحريم بقرينة كأموال الظلمة وفيه نظر قال وما جهل من هدية ومبيع غيرهما فرخصة ويحرم بحثه عنه لإيذاء مالكه ويده دليل ملكه ويجب بحثه عما علم غالبا محرما فقط وإلا فورع قال: ولو اشتبه بماله حرام رد مثله ومن غيره أو لا وتركه أعلى ثم قال: ومن بأحد ماليه شبهة فما تيقن حله فلقوته وكسوته والشبهة لمنافع منفصلة وإن اختلط فاشترى على ذمته ونقد ما اشتبه ثمنا قال: وشك بلا علامة وسوسة فانظر ذلك وإنما آثرته للاختصار والتخفيف وقد رايت بخط شيخنا القوري رحمه الله أن الشيخ العالم سيدي أحمد بن علي الغلالي سأل بعض المشارقة هل للمالكية تأليف مستقل في الحلال والحرام قال لا إلا ما للفقيه راشد وأكثر مسائله مخرجة من كلام الغزالي في الإحياء أو أكثرها لا يسلم له ولا يسلم له وبالله التوفيق.

(وحرم الله سبحانه أكل المال بالباطل ومن الباطل الغصب والتعدي والخيانة والربا والسحت والقمار والغش والخديعة والخلابة).

معنى الباطل هنا: ما لا يباح شرعا وإن جر فائدة ونفعا وقد تقدم أن الغصب

ص: 1001

أخذ المال قهرا بغير قتال ولا حرابة والتعدي التصرف بما لا يؤذن فيه مما تحت يدك وتناولته بوجه الأمانة والخيانة: جحد الأمانة وما يؤدي إلى ذلك والربا الزيادة في الأجل أو في الثمن على غير وجه سائغ والسحت ما أخذ من أموال الناس بغير سبب معتبر كالرشوة والسؤال للتكثر لأنه عليه السلام سمى الرشوة سحتا وقال لقبيصة بن أبي المخارق رضي الله عنه: " أن المسألة لا تحل إلا لثلاث لرجل تحمل حمالة حتى يؤديها ولرجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجي من قومه قد أصبات فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يجد قواما من عيش أو سدادا من عيش أو يسأل الرجل ذا سلطان قال فما سوى ذلك يا قبيصة قال سحت يأكلها صاحبها سحتا" الحديث.

والقمار: هو إلقاء شيء في مقابلة شيء أو لشيء معلقا بشيء إن صح أو بطل أخذه مقابل من تعلق به ذلك الشيء وقد جعل صلى الله عليه وسلم كفارة الهم به الصدقة إذ قال عليه الصلاة والسلام: " من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق ومن حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله" رواه البخاري وغيره.

فأما الغش والغرر والخديعة والخلابة فمن عوارض البيوع وقد تقدم تفسيرها عند قوله: ولا يجوز في البيوع التدليس ولا الخديعة إلى آخره فانظره هناك وبالله التوفيق.

(وحرم الله سبحانه أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما ذبح لغير الله وما أعان على موته ترد من جبل أو وقذة بعصا أو غيرها والمنخنقة بحبل وغيره إلا أن يضطر إلى ذلك كالميتة وذلك إذا صارت بذلك إلى حال لا حياة بعده فلا ذكاة فيها).

الميتة ما ماتت لا بذكاة وهي حرام إجاعا إلا في صيد البحر وطافيه خلافا لأبي حنيفة في الطافي وهو الذي ألقاه البحر ميتا وحجه الجمهور في إجازته حديث جيش الخبط إذ وجدوا حوتا ألقاه البحر يقال له العنبر فأكلوا منه وأدهنوا أياما وكانوا يحملون الدهن من أعينه بالقلال ودخل في إحدى عينيه سبع رجال لم ير أحدهم الآخر وجلس في إحدى عينيه ثلاثة عشر رجلا وأقام أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه ورحل ظعينة فلم تمس الضلع وأنهم حملوا منه إلى المدينة فأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن العربي وهو

ص: 1002

مستثنى من عموم قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] والجراد عند جماعة من العلماء لقوله عليه السلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان" فالميتان الجراد والحوت وأما الدم فالكبد والطحال أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنه وفيه ضعف فلذلك لم يقل به مالك.

وقال به ابن عبد الحكم من أهل المذهب كالشافعي وأما الجراد فلا يفتقر إلى ذكة وإطلاق الدمين على الكبد والطحال مجاز أو قريب منه وإلا فهما لحم وأما الدم فلا خلاف في تحريم المسفوح أي الجاري وبذلك جاء نص القرآن وأما الباقي في العروق ففي أكله قولان حكاهما اللخمي قال وأما شاة شويت قبل قطعها فلا خلاف أن ما فيها لايضر لعدم بروزه والله أعلم.

وقوله: (ولحم الخنزير) هو نص القرآن ولا مفهوم له بل كل شيء من الخنزير حرام أكله إجماعا وقد توقف مالك في خنزير الماء من جهة تسميته وقال أنتم سميتموه خنزيرا وقوله: {وما أهل لغير الله به} وما ذبح لغير الله قال بعض الشيوخ الجملة الثانية تفسير الأولى أي أن ما أهل لغير الله به هو عين ما ذبح لغير الله.

قال ابن حارث ما ذبحوه على النصب والأزلام حرام اتفاقا التونسي الظاهر أنه ما ذبح للصليب كذلك إلا أن يكون ما ذبح للأصنام لا تقصد به ذكاة وقال ابن القاسم بكراهة ما ذكروا عليه اسم المسيح رواه أشهب وقال يباح أكله لأن الله قد أباح ذبائحهم لنا وقد علم ما يفعلون وفيما ذبحوه لكنائسهم ثلاثة الكراهة للمدونة والتحريم والإباحة والمشهرو كراهة ما ذبحوه لأعيادهم وكذا العوامر الجن ما لم يكن قصد الذكاة لها فيحرم فانظر ذلك فأما المنخنقة وأخواتها فالمشهور تحرم إذا أنفذت مقاتلها وقيل لا.

ومنشأ الخلاف: قوله تعالى: {إلا ما ذكيتم} هل المراد مها فلا تحرم ما لم تفت بنفسها أو إلا ما ذكيتم من غيرها فتكون حراما بوصفها وقد تقدم الكلام علهيا في باب الضحايا فانظره.

(ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود فإن استغنى عنها

ص: 1003

طرحها

ص: 1004

يعني: المضطر الذي بلغ منه الجوع مبلغا يخاف به على نفسه ولا يلزمه التأخير إلى أن يشرف لأنه إذ ذاك لا ينفعه الطعام وما ذكره من شبعه وتزوده نحوه في الموطأ قال الباجي يريد أنه إذا استباحها لذلك لا يقتصر على سد الرمق بل يشبع الشبع التام ويتزود لأنها مباحة له كما يشبع من الطعام المباح ابن حبيب إنما يأكل ما يرد رمقه ثم لا يأكل بعد حتى يناله من الضرورة مثل الحال الأولى وثالثها يشبع ويتزود في زمن المسبغة لا في غيرها وإن وجد طعام الغير بالصدقة لم تحل له وله أن يقاتلهم عليه إن قدر وكذا سرقته إن لم يخف القطع ونحوه وقال مالك وإذا أخذ من طعام للغير فإنما يأخذ سد رمقه ورد جوعه ولا يتزود لأنه حقوق الآدميين لا تتجاوز الضرورة في إباحتها قال الباجي وفي لزوم غرمه قولان للجلاب وغيره حكاهما الباجي والمشهور الأخير ولا يأخذ.

قال المغيرة: إلا بعد استعطائه وطلب الشراء منهم بذمته لا أولا وكذا نص عليه الباجي وبالله التوفيق والمشهور عدم أكل ميتة الآدمي وصحح الجواز أيضا وفي تعارض صيد المحرم والميتة المشهور تقديم الميتة وقال ابن عبد الحكم لو نابني لأكلت الصيد والله أعلم.

(وكل شيء من الخنزير حرام).

ص: 1010

يعني: أكله سواء دمه أو لحمه أو عظمه أو شحمه أو جلده وكذا الانتفاع به والمشهور جواز الخرز بشعره خلافا لأصبغ وهو ظاهر ما هنا وقال سحنون يطهر جلده بالدباغ ابن شاس كل يحوان غير الخنزير يطهر بذكاته كل أجزائه من لحم وعظم وجلد وقال ابن حبيب لا يطهر بها بل يصير ميتة واختلف في علة تحريم الخنزير وذكر ابن جزلة أن لحمه يشبه لحم الآدمى في قوامه ولونه وطعمه وغير ذلك وعليه فيكون تحريمه سدا للذريعة عن أكل لحم الآدمي فتأمل ذلك وذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب له في أصول الفقه في تكفير آكل لحمه اختلافا لأنه شعار الكفار ثم قال والصحيح أنه عاص غير كافر والله أعلم.

(وحرم الله سبحانه شرب الخمر قليلها وكثيرها وشراب العرب يومئذ فضيخ التمر وبين الرسول عليه السلام أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فقليله حرام فكل ما خامر العقل فأسكره من كل شراب فهو خمر وقال عليه السلام إن الذي حرم شربها حرم بيعها).

ص: 1013

حفظ العقول أحد الكليات الخمس التي اجتمعت الملل على وجوبها فالسكر حرام ي كل ملة وانفردت هذه الملة بتحريم القليل من السكر وإن كان لا يسكر حسما للذريعة وإنما ذكر أن الشرب كان عند تحريم الخمر فضيخ التمر ردا على من يرى أن لا خمرا إلا من عنب والفضيخ بالفاء والمعجمتين بينهما تحتية ساكنة قال الجوهري وهو شراء كانت العرب تصنعه من البردون أن تمسه نار.

وفي حديث أنس رضي الله عنه لقد أنزل تحريم الخمر وما في المدينة شراب يشرب إلا من تمر أخرجه مسلم وعن أبي عمر رضي الله عنه: " نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل" متفق عليه وفي حديث جابر رضي الله عنه: " ما أسكر كثيره فقليله حرام" وأخرج أحمد بن حنبل وأصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان ومعنى خامر العقل: أي خالطه وقول الشيخ من الأشربة يدل على أن التحريم تعلق في ذلك بالمشروب دون المأكول لأنه لا يوجد مسكر في غيرها وعلى هذا فالحشيشة ليست بمسكرة وقد اختلف فيها سيدي

ص: 1014

عبد الله الموفي وسيدي أبو عبد الله بن الحاج شيخا الشيخ خليل فكان المنوفي لعدم تمالك أهلها عنها وإنفاق الأموال فيها.

وقال ابن الحاج إنما هي مفسدة وذكر القرافي أن فائدة الخلاف تحريم القليل ونجاسة العين ولزوم الحد إن كانت مسكرة وإلا فلا وقال الفقيه أبو عبد الله المغربي في قواعده إنما الخلاف فيها بعد قليها وتكييفها للأكل وإلا فهي كالعنب للخمر لا يحرم عينه ولا زرعه إجماعا وقوله عليه السلام " إن الذي حرم شربها حرم بيعها" نص صريح في تحريم بيعها.

وحديث الهجرة عن جابر رضي الله عنه أنه سمع عليه السلام يقول عام الفتح: " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والأصنام"

متفق عليه فهي حرام البيع كما أنها حرام العين وقال عليه الصلاة والسلام: " من أخر العنب حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار بصيرة" ولعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمبر عاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها ومن ابتيعت له وشاهدها وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له مما وقع في ذلك للقاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله أيام قضائه أن رجلا اجتاز عليه وفي يده خمر وهو ممن لا يقدر عليه فقال ما هذا الذي بيدك قال الخمر حملتها لأمي لأنها نصرانية وقد كلفتني حملها ورأيت برها واجبا قال القاضي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملها ثم أمر الحاضرين بلعنه ثم اتسع الأمر حتى شاع لعنه في المدينة وعرف به فخرج منها ويحكى عن سحنون إجازة شرائها لتدفع في فداء أسير للضروة قائلا: وأي ضرورة بعد هذا أو كما قال فانظره.

(ونهى عن الخليطين من الأشربة وذلك أن يخلطا عند الانتباذ وعن الشرب ونهى عند الانتباذ في الدباء والمزفت).

فاعل النهي هو النبي صلى الله عليه وسلم والحديث رواه في الموطأ وغيره وفيه نهى أن يشرب التمر

ص: 1015

وبالزبيب جميعا وفي رواية عطاء نهى عليه السلام أن ينتبذ البسر والتمر والرطب جميعا فإن يسرع الغليان فيؤدي ذلك إلى الشدة المحرمة وكذا الانتباذ في الدباء أي في القرعة اليابسة. و (المزفت): هو الذي عليه زفت من الأواني وحديثه متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه وفد عبد القيس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشربة؟ فنهاهم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير وربما قال المزفت الحديث.

والحنتم هو المزجج من أواني الفخار والنقير خشبة ينقرونها ثم ينبذون فيها والمقير هو الذي عليه القار وهو المزفت وقد اختلف العلماء في هذا الحديث والذي قبله هل حكمه باق وهو مذهب مالك وجعله أصلا في سد الذرائع وقال غيره هو منسوخ بقوله عليه السلام: " انتبذوا وكل مسكر حرام" وأظنه مذهب الشافعي والله أعلم.

ثم في حمل النهي على التحريم أو على الكراهة قولان وفي كون النهي عن الخليطين تعبدا أو لعلة قولان لابن رشد وظاهر المذهب التعبد وكراهة النضوج للمرأة من الخليطين روايتا ابن رشد ولا خلاف في كراهته من حيث إنه طعم وفي جواز خلط التمر والزبيب للخل وكراهته قولان لرواية أشهب ورواية ابن عبد الحكم ونقل ابن زرقون عن اللخمي عن بعض شيوخه منع خلط الشاربين للمريض.

وحكى ابن يونس عن بعض إجازته ولابن حبيب عن مالك النهي عن الخليطين وإن كانا من جنس واحد كزبيب وعنب إلا الفقاع أصبغ تستخف تحليته بالعسل الباجي وهذا يجب منعه لأن كل واحد منهما نبيذ منفرد واختلف قول مالك في العسل يطرح فيه عجين أو حريرة فروى ابن القاسم في العتبية لا بأس به وهو أحب إلي. وفي المبسوط عن مالك منع شراب الفقاع وأجازه ابن وهب وهو المشهور وقاله أشهب وسحنون وقال ابن القاسم في العتبية لا بأس بالعسل باللبن لأنه خلط مشوبين فلم يره كالانتباذ كشراب الورد وشراب النيلوفر وغيرهما.

وفي المدونة لا يعجبني أن ينتبذ البسر المذنب والتمر جميعا والمذنب هو الذي قد أرطب بعضه.

(ونهى عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن أكل لحوم الحمر الأهلية ودخل مدخلها لحوم الخيل والبغال لقوله تعالى: {لتركبوها وزينة}

ص: 1016

[النحل: 8]).

أما النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقال فأكله حرام وهذا زيادة من أبي هريرة على حسب فهمه لا يلزمه اتباعها عبد الوهاب الني عندنا عن أكل كل ذي ناب محمول على الكراهة وفي الجواهر السباع كلها مكروهة من غير تمييز ولا تفصيل في رواية العراقيين وظاهر الكتاب يعني المدونة موافق لها وأما الموطأ فظاهره أنه حرام وقال ابن حبيب لم يختلف المدنيون في تحريم السباع العادية الأسد والفهد والكلب فأما غير العادية كالذئب والثعلب والضبع والهر والوحش والإنسي يكره أكلها من غير تحريم.

وروى عبد الرحمن بن دينار عنا بن كنانة أن كل ما يفترس ويأكل اللحم فلا يؤكل وما كان مما سوى ذلك مما يعيش بنبات الأرض ونحوه فلم يرد فيه نهي قال وأما الإنسي من ذوات الحافر فالخيل مكروهة دون كراهة السباع وقيل محرمة وحكى ابن بشير قولا بالإباحة والحمير مغلظة الكراه وقيل محرمة.

والمشهور في الكل التحريم قال الشيخ لقوله تعالى: {لتركبوها وزينة} يعني أن الله عز وجل لما ذكر الأنعام قال: {لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون} [النحل: 5] ولما ذكر هؤلاء لم يذكر غير الركوب والزينة فدل أنه لا يجوز فيها إلا ذلك.

وقد أمر صلى الله عليه وسلم عام خيبر أبا طلحة أن ينادي في الناس: إن الله ورسوله ينهياكنم عن الحوم الحمر الأهلية فإنها رجس متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه وفي حديث جابر رضي الله عنه أنه عليه السلام نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية ورخص في الخيل وأخذ به الشافعي ولا خلاف في جواز أكل حمار الوحش ولو دجن كان له حكم الإنسي على المشهور خلافا لعبد الملك والله أعلم.

(ولا ذكاة في شيء منها إلا في الحمر الوحشية).

يعني فإنها تؤكل بما يؤكل به الوحش ما دامت متوحشة على المشهور. ابن شاس: الذكاة توجب طهارة ما ذكي مطلقا سواء قلنا يؤكل أو لا يؤكل إلا الخنزير فتطهر كل أجزائه من لحم أو عظم أو جلد وقال ابن حبيب: لا يطهر بها بل هو ميتة واستشكل ما في المدونة من طهارة جلد السباع بالذكاة دون جلد الحمار وتوقف.

ص: 1017

مالك في الكيمخت وهو جلد الفرس وأجيب بأن ذلك سد للذريعة من أكلها لأنه سهل التناول وفيها لا يصلى على جلد حمار وإن زكي وذكر بعض العلماء أن تحريم لحم الحمار لأنه يرث قلة الفهم والملة مبنية على الفهم والبغل من نسبته والخيل يورث الكبر وهو بعيد والله أعلم.

(ولا بأس بأكل سباع الطير وكل ذي مخلب منها).

يعني أن الطير كلها مباح بلا كراهة هذا هو مشهور المذهب حتى في الخطاف على المشهور وقيل يكره لقلة نفعه مع أنه يتحرم بالبيوت وروى ابن أبي أويس لا يؤكل كل ذي مخلبمن الطير وقال به الشافعي ولم يقل به مالك اعتمادا على حديث أبي هريرة رضي الله عنه إذ لم يذكر ذا المخلب ولهذه المسألة وجه في الأصول وحاصل ما في المسألة الجواز والتحريم والكراهة والمشهور الأول والله أعلم.

(ومن الفرائض بر الوالدين وإن كانا فاسقين وإن كان مشركين فليقل لهما قولا لينا ولعاشرهما بالمعروف ولا يطعمها في معصية كما قال الله تعالى وعلى المؤمن أن يستغفر لأبويه المؤمنين وعليه موالاة المؤمنين والنصيحة لهم ولا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه كذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 1018

جملة ما ذكر في هذه الجملة راجع للنصيحة لخاصة المسلمين وعامتهم وقد قال صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة" قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين ولخاصتهم". رواه مسلم من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه فمن

ص: 1021

النصيحة لخاصة المسلمين بر الوالدين وصلة الرحم وتعظيم حرمات المسلمين والموالاة لهم وقد قال تعالى في حق الوالدين: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23 - 24] الآية.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة عندهم بآبائهم لكفرهم أن يستوصوا بهم خيرا وقال صلى الله عليه وسلم: " رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين". أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وصححه الحاكم وقوله: " ولا يطعهما في معصية" مأخوذ من قوله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي} [لقمان: 15] فأمر بمحاسنة الأبوين ومصابحتهما بالمعروف واتباع أهل الإنابة وصدق الإجابة وقد قال علماؤنا إذا لم يجد سبيلا إلى علم ما يجب عليه إلا بالسفر عنهما لزمه ولا عبرة برضاهما ولا عدمه في ذلك وقوله كما قال سبحانه يحتمل أن يعود لأصل المسألة فيكون إشارة لقوله تعالى: {وقضى ربك} الآية ويحتمل أن يعود لعدم طاعتهما بمعصية فيكون إشارة لقوله تعالى: {وإن جاهداك} الآية فتأمل ذلك.

وقال ابن عطية رحمه الله في تحريم ما يجب على الولد لأمه وأبيه ما معناه لا يعصيهما في مباح ولا يطيعهما في معصية ويترك لهما المندوبات والمستحبات وانظر بقية كلامه وفي الصحيح: " لا يجزئ والد عن ولده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" قال ابن العربي فيخلصه من أسر الرق كما خلصه من أسر الصغر وقيل غير ذلك ولا خلاف أنهما على السواء في تحريم العقوق ووجوب البر غير أن الأم أرجح في الإبرار المندوب لضعفها ورقتها وشدة ما لقيت من الحمل والتربية فلذلك قال صلى الله عليه وسلم: " أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك" وقد توكل بعض الناس لأمه على أبيه فقيل له في ذلك فقال: سترت وجه أمي وقمت بحق ضعفها وصنت أبي عمن يتوكل عليه من الجهال ولعل الله أن يصلح بينهما كذا ذكره في القبس وبالله التوفيق.

ص: 1022

وأشار بالاستغفار لأبويه المؤمنين إلى أن الكافرين لا يستغفر لهما لقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى} [التوبة: 113] الآية وقد روى عبد الوهاب أن رجلا قال يا رسول الله إن لي أبوين هلكا فهل بقي علي من برهما شيء قال: " نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وانقاذ عهودهما وصلة رحمهما" زاد ابن العربي" وإكرام صديقهما" يعني: لقوله عليه السلام: " إن من أبر البر إكرام الرجل أهل ود أبيه" ومعنى الاستغفار الدعاء بالمغفرة ولا خلاف أن الدعاء يصل الميت كالصدقة واختلف في القراءة وقد قال بعض متأخري الشافعية تضافرت مرائي الصالحين على وصولها وأخذ انتفاع الميت بالذكر من حديث الجريدتين إذ قال عليه السلام: " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" قال ابن الحاج في المدخل ومن أراد وصول قراءته بلا خلاف فليجعل ذلك دعاء بأن يقول اللهم أوصل ثواب ما أقرؤه إلى فلان وكذا الشيخ الصالح الفقيه (ع) يصلي على أمه قال بعض شيوخنا وهذا يدل على أنه كان مجتهدا فيما يخصه لنفسه والكلام في المسألة طويل عريض فانظره.

(وموالاة المؤمنين) الألفة معهم وإعانتهم على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم (والنصيحة لهم) الإرشاد والتحذير مما يضر أو يكاد وأصل النصيحة في اللغة: الخلوص والصفاء فمصافاة المؤمنين والخلوص لهم من واجبات الدين ولا يصح له ذلك إلا بأن يقيمهم مقام نفسه في كل ما يجب أن يعاملهم به بل يعاملهم بما يجب أن يعاملوه به أو أوفي وذلك لا ينشأ إلا بمباشرة الإيمان حقيقة قلبه فيكون معهم كالنفس الواحدة وسيأتي معنى الحديث بعد إن شاء الله.

وقوله: (كذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تقصير في السياق لأن (روي) من صيغة التمريض والصواب الجزم فقال لأن الحديث متفق عليه وبالله التوفيق وأما صلة الرحم فواجبة إجماعا قال القرافي: في كل قرابة قريبة تنشر الحرمة بحيث لو كان أحدهما ذكر والأخرى أنثى حرم كل منهما على الآخر كالعم والخال والأخ وابن الأخ والأخت وابن الأخت وما سوى ذلك فهي مستحب وفي الحديث " من أراد أن يبسط له في

ص: 1023

رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه" وفي الصحيح" الرحم شجنة وصل الله من وصلها وقطع الله من قطعها" وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة قاطع رحم" متفق عليه وفي الخير" صحبة يوم صحبة وصحبة شهر قربة وصحبة سنة رحم ماسة وصل الله من وصلها وقطع الله من قطعها" فاعرف ذلك.

(ومن حق المسلم على المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ويعوده إذا مرض ويشمته إذا عطس ويشهد جنازته إذا مات ويحفظه إذا غاب في السر والعلانية).

يعني: أن هذه الخمس لا يجوز للمسلم تركها في حق أخيه المسلم لغير ضرورة فأما السلام فهو للتأمين أو الإبرار وستأتي أحكامه إن شاء الله وأما عيادة المريض فلجبر قلبه واختبار حاله للقيام بما يقدر عليه من شأنه ولها أحكام تخصها أهما ثلاث أن يعتبر ما يؤمر بإعادته شرعا أن يأتي بوجه العيادة فلا يطون على المريض ولا أهل البيت ولا يخل بحقه في تأنيسه ونحوه ولا يأتي في وقت يكون له أو لهم شغل.

وأما التشميت فيأتي الكلام عليه إن شاء الله وأما حفظه في السر فبأن لا يسيء الظن به ولا يتعدى على أمانته ولا غيرها من مال أو حرمة أو عرض أو غير ذلك وفي الحديث " من رد عن عرض أخيه في الغيب رد الله عن وجهه النار يوم القيامة".

(ولا يهجر أخاه فوق ثلاث ليلال والسلام يخرجه من الهجران ولا ينبغي أن يترك كلامه بعد السلام).

خرج الشيخان ومسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" ورواه أيضا في الموطأ وحديث أنس رضي الله عنه وقوله: (ولا ينبغي له) يعني: لا يصلح للمسلم عليه أن يترك كلام المسلم بعد سلامه عليه يريد إذا لم يكن هجره واجبا ولا ضرر لاحق به.

الباجي: إنما يخرج السلام من الهجران إذا كان متماديا على إذايته والسبب الذي هجره لأجله وأما إذا أقلع عن ذلك بالكلية فلا يخرج من العهدة حتى تجوز شهادته عليه

ص: 1024

بأن يعود معه إلى ما كان عليه قبل ذلك قال وهذا معنى قول مالك رضي الله عنه.

(والهجران الجائز هجران ذي البدعة أو متجاهر بالكبائر لا يصل إلى عقوبته ولا يقدر على موعظته أو لا يقبلها ولا غيبة في هذين في ذكر حالهما ولا فيما يشاور فيه لنكاح أو مخالطة ونحوه ولا في تجريح شاهد ونحوه).

أما هجران المبتدع فمن باب النصيحة لله ولرسوله ويتأكد الأمر فيه إذا كانت بدعته في الأصول أو في الفروع المهمة بالابتداع الصريح وما يقرب منه لا سيما إن كان داعية لمذهبه.

وقد يرى بعض العلماء الهجران فيما هو دون ذلك هجر أحمد بن حنبل ذا النون المصري لما تكلم في الخواطر قائلا أحدث في الدين علما لم يكن فيه وهجرانه المحاسبي لما ألف كتابا في الرد على أهل الأهواء قائلا هذا يسر لهم الحجة وكان له أسوة في سلف الأمة إذ لم يتكلموا في ذلك، ولم يزل هاجرا له سنتين حتى مات رحمه الله عليهما وقد مر الكلام في البدعة وحكمها في العقيدة.

والتحقيق أنها إحداث أمر في الدين يشبه أن يكون منه وليس به لقوله عليه السلام:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ومفهومه أن الإحداث إذا كان في العوائد والأسباب المجردة عن أمر الدين لا يكون بدعة على هذا جرى المحققون وأن العوائد لا تدخلها البدع وإلا أد لتجريح الأمة كلها وهو مذهب لايصح.

وقد قال عليه السلام: " كل بدعة ضلالة" وهذا لا يقتضي أن يكون منها حسن أبدا وإنما هي محرمة أو مكروهة وقد حقق ذلك الشيخ أو إسحاق الشاطبي في كتابه في الحوادث والبدعة وأجاب عن تقسيم عز الدين إياها إلى أحكام الشريعة الخمسة فإنه اعتبر مطلق الإحداث وهو الجواب عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعمت البدعة هذه.

وقد أشعبنا الكلام في كتاب لنا في البدع احتوى على مائة فصل واختلف في مراد الشيخ هنا فقيل البدعة المحرمة وقيل المكروهة قلت ولا يختلف في الصريحة وهي التي تقابل ما ثبت شرعا فترفعه أو تغيره والله أعلم.

ص: 1025

وأما الجواهر بالكبائر فالهجران له واجب لما يلحقه من الإثم بالسكوت عليها والموالاة عليها والإعانة عليها واجتراء الجاهل على استباحتها إذ يقول الجاهل فلان عامل بكذا وسيدي فلان عارف بما هو عليه فإما أن ذلك مباح أو أنه لا خير فيه كصاحبه ووقاية العرض والدين واجبة إجماعا والكبيرة تقوم أنها كل ذنب يؤذن بعدم اكتراث صاحبه بالدين ورقة الديانة على المختار وتعديدها يطول وفيها اختلاف كثير فانظره في العقيدة وأصول الفقه وبالله التوفيق.

وقوله: (لا يصل إلى عقوبته) يعني: بالوجه الشرعي من الأدب ونحوه والظاهر لمن قدر على ذلك يلزمه وليس ذلك إلا لمن بسطت يداه في الأرض أو كان بمحل لا يلحقه به غيره من الأمراء ولا يلحقهم منه غير وإلا فالله أولى بالعذر وهل يبلغ بالعقوبة الحد ويتجاوزه إن رآه زجرا وهو المشهور أو لا يتجاوز عشرة أسواط لحديث: " لا يتجاوز عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" وقال ابن أشهب في جماعة من العلماء والله أعلم.

وقوله: (ولا غيبة في هذين) إلى آخره: تعرض فيه لمبيحات الغيبة فذكر منها ما يوجب الهجران وهو المجاهرة بالكبائر وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من ألقى جلباب الحياء عن وجه فلا غيبة فيه".

والابتداع في الدين لأنه رآه دينا قيما مع ما فيه من تحذير المسلمين لئلا يغتروا به قالوا وكذلك علماء السوء وظلمة الجور يجوز ذكر حالهم لا غيره مما يستترون به قالوا يجوز أيضا في التظلم والاستفتاء بقدر الحاجة وكذا في التعريف الذي لا يمكن المعرفة إلا به أو تكون الشهرة جارية به كالأعمش والأعرج والأعور وذي اليدين وذي الشمالين ومن يلقب جملة ونحوه فإن هذا كله جائز وإن كره صاحبه.

وأما ما يوجب مخالطة كالنكاح والبيع إلى أجل أو الشركة ونحوها فالمشهورة فيه تبيح القدر المتعلق بما شوور فقد شاورت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح أبي الجهم ومعاوية وأسامة بن زيد فقال عليه السلام: "أما أبو الجهم فضراب وأما معاوية فصعلوك أنكحي أسامة" وقالت هند بنت الحارث يا رسول الله إن أبا سفيان رجل

ص: 1026

شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال: " خذي ما يكفيك وولدك" ولم ينهها عما ذكرت من شحه لأنها جاءت مستفتية شاكية متظلمة فأخذ منه العلماء جواز ذلك بقدره.

وقال عليه السلام: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" ولا خلاف في جواز ذكر ما يقع به التجريح في الشهادة والرواية حتى كان بعض العلماء يقول: تعال نغتاب في الله ساعة بذكر من يقبل حديثه ممن يرد وبم يرد وذكر بعض العلماء جوا غيبة المغتاب لأنه غياب لئلا يغتر به. قلت: والنمام آكد أمرا منه.

وقد حصر القاضي ابن حجر الشافعي رحمه الله أسباب إباحة الغيبة وجمعها وأظنها خمسة عشر في بيت واحد لا أستحضره آلان وقاعدة كل ما يبيح من ذلك أن لا يباح منه إلا القدر المتعلق به وذكر القرافي الخلاف في ذكر حال رجل اطلع عليه رجلان بينهما هل يكون ذلك غيبة أم لا فانظر ذلك وبالل التوفيق.

(ومن مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك).

سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه ولما نزل قوله تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرضعن الجاهلين} [الأعراف: 199] قال عليه السلام: " أمرني ربي أن أصل من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني" وقال عليه السلام: " من ظلم فغفر وظلم فاستغفر وأعطى فشكر وابتلي فصبر" ثم سكت قالوا: ماذا له يا رسول الله؟ قال: " أولئك لهم الأمن وهم مهتدون".

قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه ونفع به: أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا انتهى وهذا باب واسع نقله كثير خيره فانظره.

ص: 1027

(وجماع آداب الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وقوله عليه السلام: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقوله للذي اختصر له في الوصية: " لا تغضب" وقوله: " المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه").

هذه الأحاديث الأربعة عليها مدار التقوى والاستقامة في الدين فأما الأول فخرجه مسلم بزيادة: " ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه". وحاصله الحض على الصمت عما لا يعني وعدم السكوت فيما يعني وقد قال الشيخ الأستاذ القشيري والصمت سلامة وهو الأصل والسكوت في وقته صفة الرجال كما أن النطق في وقته أشرف الخلال قال: وسمعت أبا علي الدقاق يقول من سكت على الحق فهو شيطان أخرس انتهى.

قال علماؤنا: وإذا اتسوى الكلام والصمت في المنفعة فالصمت أولى وما ترجح منها فحكم الوقت له وقد قال مالك رحمه الله تعالى من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.

وأما حديث " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فرواه مالك في الموطأ مرسلا وصله الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن وما لا يعنيه هو ما لا تدعو الضرورة والحاجة إليه وهو الفضول أيضا ويعم الأقوال والأفعال والعوارض القلبية.

وأما الحديث الثالث فخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله أوصنين قال: " لا تغضب" فكرر مرارا: لا تغضب، وأما الحديث الرابع ففي المتفق عليه:" والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه" وقد تقدم بعض الكلام عليه وهذه الأربع أحاديث قيل مار الدين عليها وقيل غيرها.

ويحكى أن أبا داود السجستاني صاحب السنن كتب إلى أهل مكة كتبت بأناملي هاتين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة ألف حديث الصحيح منها أربعة

ص: 1028

آلاف تجزئ عنها أربعة أحاديث حديث: " الأعمال بالنيات" وحديث: " الحلال بين والحرام بين" وحديث: " ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس" وحديث: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقد جمعها الفقيه أبو الحسن طاهر بن سفور بنظم فقال:

عمدة الدين عندنا كلمات

أربع من كلام خير البرية

اتق الشبهات وازهد ودع ما

ليس يعنيك واعملن بنيه

وجمع النواوي من الأحاديث التي قيل إنها أصل الدين نحوا من ثلاثين فاعرف ذلك وبالله التوفيق.

(ولا يحل لك أن تتعمد سماع الباطل كله ولا تتلذذ بسماع كلام امرأة لا تحل لك ولا سماع شيء من الملاهي والغناء ولا قراءة القرآن باللحون المرجعة كترجيع الغناء وليجل كتاب الله العزيز أن يتلى إلا بسكينة ووقار وما يوقن أن الله يرضى به ويقرب منه مع إحضاره الفهم لذلك).

أما سماع الباطل فلا خلاف في تحريمه وهو كل ما لا يفيد أمرا دينيا ولا دنيويا ضروريا ولا حاجيا ولا تكميليا يرجع إلى المعروف كالترهات والأباطيل والأضحوكات التي تحتها محرم وكذب يتوهم أنه حق وصدق والموضوعات الصناعية وما لا فائدة فيه نعم وكل ما لا يجوز النطق به لا يجوز سماعه وما يمنع من اللسان يمنع منه اليدان من كسبه والأذن من سمعه.

وأهل الحق إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه والمستمع شريك القائل أن أصغى إليه اختيار وقد قال عليه السلام " ويل للذي يحلف ويكذب ليضحك الناس ويل له ثم ويل له" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنه ويرحم الله القائل:

تحر من الطرق أوسطها

وعد من الجانب المشتبه

وسمعك صن عن كلام القبيـ

ـح كصون اللسان عن النطق به

فإنك عند سماع القبيـ

ـح شريك لقائله فانتبه

وأما صوت المرأة فإن قصد التلذذ به منع وإلا فلا وكذا كل ما يستلذ بصوته في

ص: 1029

الجملة وأما سماع الملاهي والغناء فممنوع أيضا إذا تضمن صرفا عن الحق أو صوتا من الباطل لقوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله} [لقمان: 6] الآية وقد اختلف في سماع المتصوفة إذا كان بشروطه الثلاثة التي هي سلامة الوقت من المعارض الشرعي كاجتماع من لا ترضى حاله ولا يحل الاجتماع معه من النساء والصبيان وجهال الطريق وكون المسموع مما يقع به تنبيه أو إرشاد وزيادة يقين أو علم أو اختبار حال أو استراحة من الجد والجهد وليس فيه ذكر شيء ينكر لا من طريق اللفظ ولا من طريق المعنى وكونه خليا عن الآلة والكلف والحق أنه لا نص فيه بمنع ولا غيره وحكى القشيري عن مالك إجازته وأخذه عياض من كراهة الأجرة عليه في المدونة وذكر ابن ليون في الإنالة أنا أبا مصعب سأل مالكا فقال لا أدري إلا أن أهل بلدنا لا ينكرون ذلك ولا يقعدون عنه.

وحكي أن صالح بن أحمد بن حنبل أخبر عن أبيه أنه كان يتسمع من رواء الحائط لجيران كان عندهم سماع وحكى بعضهم عن الشافعي إجازة الطار والشبابة وأنكره المزني وقال فيه:

حاشا الإمام الشافعي النبيه

أن يتبع غير معاني نبيه

أو يتخذ طارا أو شبابة

لناسك في دينه يقتديه

إلى آخر الأبيات وقد ذكر ذلك ابن الحاج في مدخله ومما وصف ابن البناء السرقسطي رحمه الله في سماع القوم قال ما نصه:

ولم يكن فيه مواسنون

ولا طنابير ومسمعون

وليس كان أيضا فيه طار

ولا مزاهر لها نقار

الشمع والفرش والتكالف

أقسم ما كانت يمين حالف

وليس للقائل ما يقول

في الصوت إذ سمعه الرسول

وقد اشار بقوله إذا سمعه الرسول لحديث أنجشة وعامر بن الأكوع وابن رواحة وارتجاز الصحابة يوم الخندق وغير ذلك مما لا يمكن إنكاره لصحته وحكى السهروردي في آداب المريدين أن السماع من رخص التصوف وقال الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله ليس من التصوف بالأصالة ولا بالعرض وإنما أدخل فيه من الفلسفة.

ص: 1030

وأكثر من يعتد به من مشايخ المتأخرين على منعه لفساد الزمان حتى قال الحاتمي السماع في هذا الزمان لا يقول به مسلم ولا يتقدي بشيخ يعمل السماع ولا يقول به.

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه سألت أستاذي عن السماع فأجابني بقوله تعالى: {إنهم ألفوا ءاباءهم ضالين (69) فهم على آثارهم يهرعون} [الصافات: 69 - 70] وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه من كان من فقراء هذا الزمان أكولا لأموال الظلمة مؤثرا للسماع ففيه نزغه يهودية قال الله تعالى: {سماعون للكذب أكالون للسحت} [المائدة: 42] قالقول يذكر الحب وما هو مبحب ويذكر العشق وما هو بعاشق.

والآخر سماع لقوله فتأمل ذلك ولأصحاب الحقائق في أصل المساع اختلاف كالفقاء وهو شبهة في الأحكام والحقائق فلا حاجة به إلا لذي حال غالب بشرطه وحظ الفقيه والعامي من هذه الجملة مجانبته مطلقا وكذا المتصوف إلا لوج واضح وحالة غالبة والتسليم أصل كل خير وبالله التوفيق وأما سماع القرآن بالحون المرجعة كترجيع الغناء فمن أقبح ما يسمع وأبشع ما يسمع لا سيما إذا كان يؤدي لتغيير نظم القرآن أو تضييع حروفه وإبدال بعضها أو إسقاطه أو يكون على هيئة تنفي الخشوع أو تدعو لنقيصة فإن ذلك كله ممنوع قال ابن رشد فالجواجب أن ينزه القرآن عن ذلك ولا يقرأ إلا على الوجه الذي يخشع القلب ويزيد في الإيمان ويشوق فيما عند الله وقد اختلف في معنى قوله عليه السلام: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن" فيل من لم يحسن صوته به وقيل: من لم يستغن به عن الغناء وقيل: من لم يستغن به عن الناس وقيل غير ذلك، وما يروى عن حديث معاوية أنه عليه السلام رجع يوم فتح مكة وهو يقرأ سورة الفتح حمل على قراءته بطريق الأداء من المد ونحوه.

وقال أبو موسى رضي الله عنه لما قال عليه السلام: " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا" وبالجملة فتحسين الصوت بالقرآن مطلوب والخوج إلى حد يشبه الغناء مذموم وما يؤدي إلى الخشوع من غير إخلال مندوب إليه ثم قوله عليه السلام: " ليس منا" أي ليس على طريقتنا

ص: 1031

وسنتنا والله أعلم.

وسيأتي الكلام على التفهم إن شاء الله تعالى وقد ألف النواوي في آداب حملة القرآن تأليفا حسنا ذكر فيه مما يتعلق بالتلاوة وجوها حسنة وذكر الغزالي في آداب التلاوة من الإحياء ما لا مزيد عليه ونحوه لأبي طالب المكي في كتابه فلينظر ذلك وبالله التوفيق.

(ومن الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض وعلى كل من تصل يده إلى ذلك فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فقلبه).

يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على من له قدرة بإمارة أو قضاء ونحوه وقد يخص ذلك ويعم وقد قال عليه السلام: " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم البلاء من عنده" قال ابن رشد ويجب على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشروط ثلاثة:

أحدها: أن يكون عارفا بالمعروف والمنكر لأنه إن لم يكن عارفا بهما لم يصح منه أمر ولا نهي.

والثاني: أن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أعظم كنهيه عن شرب الخمر فيؤدي إلى قتل النفس لأنه إن لم يأمن على نفسه لم يصح له أمر ولا نهي.

الثالث: أن يعلم أو يغلب على ظنه أن إنكاره مؤثر نافع وإلا لم يجب عليه ولكن يستحب له برفق لقوله تعالى {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44] فالأولان شرط في الجواز والثالث شرط في الوجوب انتهى.

وقوله على كل من بسطت يده في الأرض قال عبد الوهاب لأنه إذا لم تبسط يده لم يقدر على ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها قال وكذلك إذا خاف الهلاك أو شديد الأذى لم يكن عليه ذلك لقوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] وإهلاك نفسه منكر وكان بعض شيوخنا يقول ليكن أمرك بالمعروف معروفا ونهيك عن المنكر لا يؤدي إلى منكر واختلف في الإنكار هل إنما يجب في المجمع عليه أو حتى في المتفق عليه في مذهب الفاعل قولان وهل يجب تعليم الجاهل قبل سؤاله أو إنما يجب

ص: 1032

تنبيهه ثم إن سأل علم وإلا ترك.

والأول اختيار الطرطوشي والآخر: هو المعنى لأنه عليه السلام قال للأعرابي: " إنك لم تصل" ولم يعلمه حتى قال لا أحسن غير هذا فعلمني يا رسول الله" الحديث وفي الحديث " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يقدر فبلسانه فإن لم يقدر فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " الحديث ومن وجوه الإنكار باللسان أن يوقل اللهم هذا منكر فلا أقدر على تغييره وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك" قتل هذا زمان ذلك فلا يجوز لأحد اليوم أن يعترض للأمور العامة بل يقتصر بالإنكار على عياله وخاصته بقدر ما يقتضيه العرف وينكر في العموم ما لا يتوهم فيه بأمر يغير قلوب الأمراء فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المؤمن لا يذل نفسه" قيل لابن عباس رضي الله عنه فما معنى ذلك قال يتعرض للسلطان وليس له منه النصف ثم إن كان قادرا على ذلك لم يتمكن منه إلا بفساد النظام وذلك محرم إجماعا وبالله التوفيق.

(وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من أعماله البر وجه الله الكريم ومن أراد بذلك غير الله لم يقبل عمله والرياء الشرك الأصغر)

إرادة وجه الله بالعمل الصالح فرض لقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] الآية والإخلاص في الجملة تفريد المعبود بالعبادة هذا أصله الذي ينفي به الرياء الذي هو رؤية الخلق في معالمة الحق وكمال الإخلاص واجب فالرياء حرام وما ذكره الشيخ من أنه الشرك الأصغر هو لفظ حديث رواه أحمد بسند حسن عن محمود بن لبيد رضي الله عنه.

وقد قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه العمل لأجل الناس رياء وترك العمل لأجل الناس شرك والإخلاص يعافيك الله منهما ويروي العمل لأجل الناس شرك وترك العمل لأجل الناس رياء وكل صحيح.

ص: 1033

وقد قال بعض المشايخ: صحح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة في حكم ابن عطاء الله الأعمال صور قائمة وأوواحها وجود سر الإخلاص فيها وكان بعض المتصوفة ممن قرب زمانه ببلادنا يقول كثيرا يا مرائي قلب من ترائي بيد من تعصيه يعني إنك بالرياء عاص لله طالبا بريائك قلب من ترائي له وقلبه بيدا لله فأنت تعمل في أمر لا يعود عليك إلا شر منه في دنياك وآخرتك لغير فائدة بل قد قال الجنيد رحمه الله من أشار إلى الحق وتعلق بالخلق أحوجه الله إليهم ونزع الرحمة من قلوبهم عليه.

وفي الصحيح: " يقول الله تعالى: (أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه) " الحديث. قال ابن عطاء الله في الحكم: كا لا يحب العمل المشترك كذلك لا يحب القلب المشترك العمل المشترك لا يقبله والقلب المشترك لا يقبل علي انتهى وبابه واسع وبالله التوفيق.

(والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار والإصرار المقام على الذنب واعتقاد العود إليه).

ص: 1034

التوبة الرجوع على ما لا يرضى الله تعالى إلى ما يرضيه قصدا لما عنده وإرادة لوجهه وعرفها الغزالي بأنها ترك اختيار الذنب ثم لا خلاف في وجوبها على الفور فمن أخرها عن وقوع الذنب لزمته التوبة من تأخير التوبة كما لزمته التوبة من فعل الذنب وقوله (من كل ذنب): يشمل الصغيرة والكبيرة ودليل ذلك قوله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} [المؤمنون: 31] وقال الإمام أبو حامد الغزالي في تعريف التوبة النصوح إنها ترك اختيار ذنب سبق مثله عنه منزلة لا صورة تعظيما لله وحذرا من سخطه ثم فسر ذلك وبينه ثم بيان فانظر المنهاج.

وشروط التوبة التي لا تصح إلا بها ثلاثة: الندم على ما فات والإقلاع في الحال والنية أن لا يعود وسواء كانت عامة أو من ذنب من المقام على غيره.

وقوله (من غير إصرار): زائد لأن التوبة لا تصح إلا برفع الإصرار وتفسيره الإصرار بالمقام على الذنب مع نية العود إليه هو المعول عليه وقيل اعتقاد العود إليه فقط ذكرهما القرافي في قواعده واختلف في مسائل منها إذا تمت الشروط هل يقطع بقبولها أم لا قولان للأشعري والقاضي وتجديد التوبة عند ذكر الدين قولان للقاضي وإمام الحرمين.

(ومن التوبة رد المظالم واجتناب المحارم والنية أن لا يعود).

فأما رد المظالم ففرض ليس بشرط وكذا اجتناب المحارم ومثلها تعميم القصد فهي ثلاثة فروض تاركها عاص ولا تنتقض التوبة بتركها وأما النية أن لا يعود فركن من أركانها لا تصح بدون والمظالم خمسة مالية وبدنية وعرضية ودينية وحرمية فأما

ص: 1039

المالية فلا خلاف في وجوب ردها إن أمكن قال ابن العربي: فإن مات صاحب الحق انتقل الحق لورثته فإن أدى برئ وبقي حق المطل يعني إن كان غنيا.

واختلف إذا لم يؤد في الدنيا حتى اجتمع مع الوارث والأصلي في الآخرة لمن يكن الحق هل للورثة أو للموروث قولان واخلتف فيمن لم يجد ما يؤدي به حتى مات هل يسقط عنه أو يطالب به في الآخرة وحكى بعض شيوخنا عن أبي عمران أنه قال بيت المال آخر وارث والحق ينتقل للوارث أباد فمآله إلى أنه حق لله وهذا ما أخذه بوجه صحيح أو باطل وقد عزم على الخروج من عهدته واختلف في التحليل من الظلامات وغيرها فمنع ابن المسيب وأجازه غيره وثالثها لمالك يطلب التحليل من الديون ونحوها لا من الظلمات حكاها ابن رشد آخر البيان والمشهور جواز التحليل من العرض.

وقال الحسن يكفي الاستغفار يعني للمغتاب وفي منهاج العابدين تمكين نفسه من القود والقصاص في النفس وظاهر الأحايث بخلافه وإليه مال ابن رشد وقال ينبغي أن يعتق ويحمل نفسه على الجهاد ونحوه ليكون كفارة له وقال في الدينية كأن يكفره أو يبدعه أو يفسقه أنه يكذب نفسه عند من قال ذلك ويستحل منه يريد إن أمن من شر أعظم وإلا فالله أولى بالعذر واختلف في الزنا هل هو حق الله أو حق الآدمي وثالثها: الفرج المملوك لمالكه كالزوجة والسرية وما عداه حق لله ولا يمكن الاستحلال منه لخوف الفتنة قال الإمام أبو حامد إن أمكن وجب قلت ومع إمكانه يتضمن معصية هي قذف المرأة والرجل وتريض صاحب الحق بما يكون له من الرفث وكل معصية وقبيح فانظر ذلك.

(وليتسغفر الله ربه ويرجو رحمته ويخاف عذابه ويتذكر نعمته لديه ويشكر فضله عليه بالأعامل بفرائضه وترك ما يكره فعله ويتقرب إليه بما تيسر له من نوافل الخير وكل ما ضيع من فرائضه فليعله الآن وليرغب إلى الله في تقبله ويتوب إليه من تضييعه).

أما الاستغفار فحيقته طلب الستر على الذنوب وعدم المؤاخذة بها وهو شأن التائبين وقد ورد فيه فضل كثير منه قوله صلى الله عليه وسلم " من لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب" الحديث. ثم

ص: 1040

الاستغفار أي طلب المغفرة إن كان مقرونا بالتوبة فهو كمال الاستغفار وإن لم يكن مقرونا بها ولكنه مع الندم والانكسار فهو استغفار حقيقة وإن لم يكن معه واحد منهما فهو استغفار الكذابين وهو الذي قالت رابعة العدوية رضي الله عنها أنه يحتاج إلى استغفار كثير والله أعلم.

وأم الرجاء والخوف وتذكار النعمة فبواعث على العمل وثمرات اليقين ثم كل راج طالب وكل خائف هارب وكل ذاكر للنعمة شاكر إلا كل من عمر الله قلبه فهي إذا بواعث على العمل وأفضل الأعمال الفرائض بل هي التي لا يصح قبول شيء قبلها لأن رب الدين لا يقبل الهدية ولا يجوز عتق من أحاط الدين بماله.

وفي الحديث الصحيح يقول الله تعالى: " ما تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضته عليهم ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه". الحديث فأما الاستدارك الفائت ففي الواجب واجب وفي المدونة مندوب ومتى لم يحصر ما عليه من صلاة أو زكاة أو غيرهما فإن التحري يكفيه ويحتاط لدينه بلا وسوسة وهو العمل على الشك بلا علامة مما يفعله كثير من التائبين من صلاة العمر مع كونهم لم يتركوها أو انوا يفعلونها مرة ومرة لايصلح كذا سمعته من شيخنا أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي كبير تلمسان علما وديانته ينقله عنا لقرافي في مجلسه وكنت أستحسنه قبل ذلك ففرحت به وما روي عن مالك من أن تارك الصلاة عمدا لا يقضيها أنكره عياض وأنكر مالك ما قيل: إن النوافل سد مسد الفرائض وهو في جامع العتبية فانظره وبالله التوفيق.

ص: (وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه من قياد نفسه ومحاولة أمره موقنا أنه المالك لصلاح شأنه وتوفيقه وتسديده لا يدع ذلك على ما كان عليه من حسن أو قبيح ولا ييأس من رحمة الله).

يعني أن العبد يتعين عليه أن يقف بباب الله على كل حال من أحواله ولا يستبعد صلاحه مع قبيح ما هو عليه منتصف به من قبائح المعاصي والشهوات ونحوها ومن أحسن ما يذكر هنا قول ابن عطاء الله رحمه الله: من استغرب أن ينقذه الله من شهوته وأن يخرجه

ص: 1041

من وجود غفلته فقد استعجز قدرة إلهه وكان الله على كل شيء مقتدرا انتهى. وكلام الشيخ هنا واضح وهو لكل مؤمن صالحا كان أو طالحا نفعنا الله به آمين.

(والفكرة في أمر الله مفتاح العبادة واستعن بذكر الموت والفركة فيما بعده وفي نعمة ربك عليك وإمهاله لك وأخذه لغيرك بذنوبه وفي سالف ذنبك وعاقبة أمرك ومبادرة ما عسى أن يكون قد اقترب من أجلك).

يعني أن من فكر في قبيح المعصية آثر تركها ومن فكر في حسن الطاعة آثر فعلها ومن فكر في عظمة الله آثر رضاه إلى غير ذلك ومقدمات ذلك كأعيانه وقد أتى الشيخ في هذا الفصل بجوامع التصوف وفي حكم ابن عطاء الله الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا أضاءت له انتهى فتأمله وبالله التوفيق.

خاتمة:

أول هذا الباب فقه وتعليم وأوسطه إرشاد وتنبيه وآخره وعظ وتذكير قالوا وما وضع الشيخ أولا غير العقيدة وهذا الباب فما بعده حتى بين له السائل أنه يريد جملا من أصول الفقه وفنون فأجابه لذلك وجعل هذه الخاتمة وقال وضعتها لينتفع بها من لا اعتناء له بالعلم وقد انتفع بذلك كثي من أهل الخير إذ أعلموا بما يلزمهم وعلموه من ينتفع به فانتفع وللشيخ أبي محمد صالح في ذلك حكاية ذكرها أصحاب التقييد وغيرهم وربك الفتاح العليم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما.

ص: 1042