الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الرؤيا والتثاؤب والعطاس واللعب بالنرد وغيرها والسبق بالخيل والرمي وغير ذلك
ذكر في هذه الترجمة ثمانية أشياء عين منها ستة وأبهم اثنين وهي اللعب بالشطرنج وما أتى به من الوعظ ونحوه في الخاتمة.
(وقال الرسول عليه السلام " الرؤيا الحسنة من الرجل الصالج جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ومن رأى منكم ما يكره في منامه فإذا استيقظ فليتفل عن يساره ثلاث وليقل اللهم إني أعوذ بك من شر ما رأيت في منامي أن يضرني في ديني ودنياي").
هذا صحيح متفق على روايةأصله والرؤيا مثال يلقيه الله تعالى لعبده في منامه بواسطة ملك أو غيره وقد قسمها الكرماني إلى ثمانية أقسام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله والحلم من الشيطان ورؤيا يحدث البرئ بها نفسه" الحديث ومعنى الحسنة الجميلة يعني في صورتها وصدقها وقوتها وفي البخاري متصلا بهذا الحديث وما كان من النبوة لا يكذب.
وفي البخخاري متصلا وغيره من حديث عائشة رضي الله عنه أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح يعني في الصدق والظهور.
وقوله: (من الرجل الصالح) شرط فلا تكون من النبوة إلا بذلك لأنها حينئذ كرامة والكرامة من المعجزة لأن مددها منها وهي شاهدة بصحتها وهي من تمام برهانها كما قيل خرق العادة كرامة للمتبع واستدراج للمبتدع يفرق بينهما التوفيق في سلوك الطريق.
المازري قال بعض الناس أنه صلى الله عليه وسلم أقام يوحى إليه ثلاثا وعشرين سنة ععشر ثلاث عشرة بالمدينة وثلاثة عشر بمكة وكان قبل ذلك ستة أشهر يرى في منامه ما يلقي إليه الملك وذلك نصف سنة ونصف سنة من ثلاثة وعشرين جزءا من ستة وأربعين جزءا.
وقد قيل: إنه صلى الله عليه وسلم قد خص دون الخليقة بضروب وفنون وجعل له إلى العلم طرقا لم تجعل لغيره فيكون المراد بالمنامات قسمتها بما حصلت له وميزته جزء من ستة وأربعين جزءا قال فلا يبقى على هذا أن يقول بينوا هذه الأجزاء ولا يلزم العالم أن يبين كل شيء جملة وتفصيلا وقد جعل الله سبحانه للعالم حدا يقف عنده فمن ما لا يعمله أصلا ومنها ما يعلمه جملة وتفصيلا ومنها طريق السمع ولا مدخل للعقل فيه فإنما يعرف منه قدر ما يعرف به السمع.
قال: وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثاني وقدح في الأول بأنه لم يثبت أن أمد رؤيا صلى الله عليه وسلم قبل النبوة كان ستة أشهر قال ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر وهو أن ثمرة المنامات الإخبار بالغيب لا أكثر وإن كان يتبع ذلك إنذار وتنبيه.
والإخبار بالغيب أحد ثمارت النبوة وفوائدها وهي في جنب النبوة وفوائدها يسير لأنه يصح أن يبعث بشرع الشرائع، وتبيين الأحكام ولا يخبر بغيب أبدا ولا يكون ذلك قادحا في نبوته ولا مبطلا للمقصود منها.
وهذا الجزء من النبوة والإخبار بالغيب إذا وقع فلا يكون إلا صدقا ولا يقع إلا حقا والرؤيا إذا دلت على شيء ولم يقع ما دلت عليه إما لكونها من الشيطان أو حديث النفس أو غير ذلك مما يقصد للعائن في أصل العبارة إلى غير ذلك من الضروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة المنام فقد صار اخلبر بالغيب أحد ثمرات النبوة وهو غير مقصود بها لكنه لا يقع إلا حقا وثمرة المنام الإخبار بالغيب ولكنه قد لا يقع صدقا فتقدر النسبة بهذه بقدر ما قدره الشارع بهذا العدد بحسب ما أطلعه الله عليه ولأنه يعلم من حقائق نبوته ما لا نعلم وانظر بقية كلامه.
وقوله: (إذا رأى أحدكم ما يكره) يعني في صورة منامه ويحتمل في معناه وكل صحيح " فليتفل" وفي رواية " فلينفث" وفي رواية " فليبصق" والبصاق إلقاء الريق من الفم بكثرة والتفل دون والنفث مثله مع ريح والنفخ لا ريح فيه وقيل غير ذلك وفي رواية إنه: "يتحول عن جنبه الذي رأى ذلك عليه ولا يتحدث بها فإنها لا تضره وإذا رأى ما يجب" فلا يحدث به إلا من يجب الحديث.
(ومن تثاوب فليضع يده على فيه).
يعني يده اليسرى مقلوبا ظهرها لفيه وبطنها لخارجه ليلاقي بها الشيطان ويكظم ما استطاع وقد قال عليه السلام " إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب فإذا تثائب أحدكم فليرده ما استطاع ولا يقل هاه" يعني يفتح فاه مسترسلا فإن ذلك من الشيطان.
قال ابن العربي وقد فعل ذلك بعض الناس فانفكت أحناكه وبقي فمه مفتوحا كذلك قال علماؤنا وإنما يضحك منه لأنه تشويه لخلقته ولأنه يمكنه من دخوله في جوفه وهل حقيقة أو أن ذلك يزيد في كسله ولما كان إنما ينشأ عن الكسل ويثمره عصم الله منه أنبياءه عليهم الصلاة والسلام وقال ابن عباس رضي الله عنه ما تثاءب نبي قط ولا احتلم نبي قط ولا زنت امرأة نبي قط ذكره الزركشي في شرح البخاري.
(ومن عطس فليقل الحمد لله وعلى من سمعه يحمد الله أن يقول له يرحمك الله ويرد العاطس عليه يغفر الله لنا ولكم أو يقول يهديكم الله ويصلح بالكم).
قد تقدم في الحديث قبل أن العطاس من الله ومعناه أنه من حيز الخير قالوا لأنه يخفف الدماغ ويسهل بعض العبادات في الحديث أنه يقطع عرق الفالج والسعار يقطع عرق البرص والزكام يقطع عرق الجذام والرمد يقطع عرق العمى وما ذكره الشيخ يسمى تشميت العاطس ويقال بالشين المعجمة قبلها تاء بعدها ميم بياء ساكنة وتاء فوقية ويروى بالمهملة أيضا.
قال القاضي أبو بكر بن العربي والشمائت الأعضاء وإنها تتزلزل بالعطاس وإذا رجعت إلى مقرها حمد الله عليها فيرجى له بالرحمة على ذلك ويقابل هو من دعا له بدعاء آخر وقيل بل لما كان حال العطاس محل شهوة الخلقة حمدا لله على زوال ما يشمت به من أجله وأما بالمهملة فهو من السمت لأن العطاس يزول سمته الذي حسن هيئته ثم يعود إليه فيحمد الله على ذلك.
وفي حديث علي كرم الله وجهه: " إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وليقل له أخوه يرحمك الله فإذا قالي رحمك الله فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم" أخرجه
البخاري والنسائي: "فليقل يغفر الله لنا ولكم" وفي الحديث الأمر بتخمير وجهه وكظم صوته عند العطاس وأنه لا يلزم التشيمت فيما فوق الثلاث وقيل فوق الاثنين وليقل إنك مزكوم أبو عمر يعذر له بذلك على تشميته فيما بعد.
وقال الباجي ظاهر المدونة أن التشميت من سنن الكفاية يجزئ الواحد عن الجماعة وقيل لا لأن الدعاء مطلوب تعدده من كل أحد فليس كالسلام في ذلك وثالثها استحبابه من الأعيان وقيل مالك وربما كانت الحلقة كثيرة الأهل فلا تسمع تحميد العاطس فقال إذا سمعت الذين يلونه يشمتونه فشمته.
ويروى أن من سمع عاطسا فسبقه بالحمد كان أمانا من الشوصة ورأيت في جدار زمزم حجرا أخضر مكتوب فيه بخط ضعيف جدا من قرأ الفاتحة عند عطاسه أمن من قلع أضراسه فذكر لي بعض سكان مكة المدنيين أنه وجد في بئر زمزم كذلك. وفي الحديث: " أن الدعاء عند العطاس مستجاب" والحديث صادق وقد شرد عني محل نقله فابحث عنه.
(ولا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج ولا بأس بالسلام على من يلعب بها ويكره الجلوس إلى من يلعب بها والنظر إليهم).
النرد والنردشير لعب بأعواد ونحوها على كيفية مخصوصة يقع بها القهر في القلب والتضييع للعبادات بالاسترسال غالبا وغالب الأمر لعبها بالقمار وكان ذلك حراما فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه" رواه مسلم.
وفي الموطأ: " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله" وقاس مالك علهي الشطرنج بطريق الأحروية إذا قال الشرطنج ألهي وألهي منه وجه القياس كونهما شاغلين عما يفيد في الدين والدنيا وداعيين للتشاجر الحادث فيهما عند التغالب مع كونهما غير مفيدين في الدين ولا في الدنيا قال المازري وينهى عن القليل والكثير منهما لأن القليل يوقع في الكثير واللاعب وإن كان قد ترك القمار قد يقع في القمار ولا خلاف في تحريم الشطرنج بالقمار إن أدى إلى الفواحش أو ترك الصلاة أو تأخيرها عن وقتها المختار
وإنما الخلاف مع السلامة من ذلك والمذهب رد الشهادة بعلبه.
وفيه اختلاف وتفصيل يطول ذكره وقد بالغ الطرطوشي في ذمه والرد على من يلعب به في كتاب له في البدع وإنما يسلم على من يلعب به لاختلاف العلماء فيه ولا ينظر إليهم ولا يجلس لهم لئلا يدعوه إلى مثل فعلهم والله أعلم.
(ولا بأس بالسبق بالخيل والإبل وبالسهام بالرمي وإن أخرجا شيئا جعل بينهما محللا يأخذ ذلك المحلل إن سبق هو وإن سبق غيره لم يكن عليه شيء هذا قوله ابن المسيب وقال مالك إنما يجوز أن يخرج الرجل سبقا فإن سبق غيره أخذه وإن سبق هوكان للذي يليه من المتسابقين وإن لم يكن غير جاعل السبق وآخر فسبق جاعل السبق أكله من حضر ذلك).
أما أن السبق جائز بما ذكر فهو المذهب وسواء في ذلك بجعل أو بغير جعل ويجوز أيضا بالرجل لكن بغير جعل وقول الشيخ (وإن أخرجا شيئا) يفهم منه أنه يجوز بشيء وبلا شيء وقد ذكر الشيخ صورا ثلاثا وأنهاها غيره إلى خمسة.
أولها: مسألة المحلل وأضافها إلى ابن المسيب وحكي عن مالك مثل قول عياض ومشهور المذهب فيها المنع.
الثانية: أن يخرج سبقا فإن سبق غيره أخذه وإلا كان للذي يليه من السابقين.
الثالثة: إذا لم يكن غير جاعل السبق وآخر يسبق الجاعل يأكله من حضر ذلك وهما اللذان في قول مالك.
الرابع: أن يكون المخرج للسبق غير المتسابقين وهذه لا خلاف في جوازها.
الخامس: أن يخرج أحد المتسابقين على أنه إن سبق غيره أخذه وإن سبق هوكان له وهذه منعها ابن القاسم في روايته وهو أحد قولي مالك وأجازها في أحد قوليه مع أصبغ وابن وهب وثالثها الكراهة لأصبغ.
السادسة: ممنوعة باتفاق فيما حكى ابن رشد وهي أن يخرج كل واحد شيئا على أن سبقه أخذ الجميع وأحكام هذا الباب كثيرة ومحله آخر الجهاد في غير هذا الكتاب وانظر الجواهر وبالله التوفيق.
(وجاء فيما ظهر من الحيات بالمدينة أن تؤذن ثلاثا وإن فعل ذلك في غيرها
فذلك حسن ولا تؤذن في الصحراء ويقتل ما ظهر منها).
المراد بالمدينة طيبة المشرفة وأشار بذلك لما في الصحيح من أن شابا تزوج امرأة فخرج لبعض حاجته يوم إعراسه فلما رجع وجد زوجته بالب فانتهرها فقالت ادخل لترى فدخل فوجد حية عظيمة فقتلها فلم يدر أيهما أسبق روحه أم روح الحية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن المدينة جنا قد أسلموا فإن رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثا أيام فإن بدأ لكم فاقتلوه فإنما هو شيطان" روه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإنما يستحسن ذلك في غير المدينة لاحتمال عزم الأمر فيه ولا تؤذن في الصحراء لئلا تعاجل بالضرر وقال مالك يكفي في الاستئذان أن يقول أحرج عليكن بالله واليوم الآخر أن لا تبدو لنا ولا تؤذونا عياض ولعل مالكا أخذ التحريج مما وقع في صحيح مسلم: " ما حرجوا عليها ثلاثا".
وروى ابن حبي أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان بن داود عليه السلام أ، لا تؤذونا أو تظهروا لنا وفي كون الثلاث معتبرة بالوقت أو بالأيام أو بالخرجات أقوال والصحيح ثلاثة أيام لأنه نص الحديث والله أعلم.
(ويكره قتل القمل والبراغيث بالنار ولا بأس إن شاء الله بقتل النمل إذا آذت ولم يقدر على تركها ولو لم تقتل كان أحب إلينا إن كان يقدر على تركها).
قتل القمل والبراغيث بالعقص والفرك جائز وإنما المكروه قتلها بالنار وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأسحنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" ولمسلم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه ويحكى أن بعض الصالحين خرج للفحص مع أصحاب له فرجع من الطريق وقال إن في المرقعة قملا أخشى إن تركتهم أن يموتوا جوعا فيكون مخالفا لقوله عليه الصلاة والسلام:" إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" فأنا آتيها لأفليها أو ألبسها فيأكلوا مني قلت وغايته الشفقة على خلق الله والامتثال لأمر الله وأما النمل فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها قال الخطابي والنهي خاص بالنمل المجنح الكبير الأرجل لأنه لا يضر.
وفي الصحيح: " أن نبيا من الأنبياء قرصته نملة فحرق قرية النمل فأوحى الله إليه أفي إن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح هلا نملة واحدة" فأخذ منه العلماء جواز حرق النمل إذا آذت وأن تركها أحسن وسئل مالك عن قتل النمل فقال إن قدرتم على أن تمسكوا عنها فافعلوا وإن أضرتكم أرجو أن تكونوا من قتلها في سعة.
وذكر الشيخ أبو طالب المكي في كتابه أن طرح القمل حيا يورث النسيان وذكر غيره أنه تصير عقربا بمخالطة التراب فلا تلدغ أحدا إلا مات أو كاد وعلى هذه فيحرم ما يفعله عامة مصر من فلي الثوب بالأسنان خساسة وربما حرم لما يجري من دم القمل ونحوه في أفواههم والله أعلم.
(ويقتل الوزغ ويكره قتل الضفادع).
أما الوزغ فقد جاء الحديث بالتغريب في قتله حتى قال عليه السلام: " من قتلها بضربة فله مائة حسنة ومن قتلها بضربتين فله بدون ذلك".
رواه مسلم وفي رواية " في الثانية بخمسين" ثم كذلك وفي الحديث أيضا " إنها كانت تنفخ النار على إبراهميم عليه السلام" قالوا والوزغ أنواع منه سام أبرص وغيره.
وأما الضفادع فقد سأل طبيب النبي صلى الله عليه وسلم عن جعلها في دواء فنهى عن قتلها أخرجه أحمد من حديث عبد الرحمن بن عثمان القرشي وكذا النسائي وصححه الحاكم وفي أبي داود نهى عليه السلام عن قتل أربع من الدواب النملة والنحلة والهدهد والصرد وقال عليه السلام " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والعقرب والفارة والكلب العقور" واختلف في قتل من لم يبلغ حد الأذى من الحيات والعقارب قال ابن العربي والصحيح الجواز لأن مالها إلى الأذى قطعا والله أعلم.
(وقال عليه السلام إن الله أذهب عنكم الغيبة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم من التراب وقال عليه السلام في رجل تعلم أنساب الدين علم لا ينفع وجهالة لا تضر وقال عمر رضي الله عنه عنه تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم قال مالك ويكره أن يرفع في النسبة فيما فوق
الإسلام من الآباء).
كل ما ذكر في هذه الجمل واضح لا يحتاج إلى تقرير وحاصله النهي عن المفاخرة والكبر بالأنساب ونوع من النهي عن الاشتغال بالفضول ومنه عبية الجاهلية يروي بالمعجمة والمهملة مع الضم أو الكسر وتشديد الموحدة وهي بالمعجمة من الغباوة أي الجهل البالغ وبالمهملة نخوة النفس وكبرها وفي الحديث: " نسب المرء دينه وحسبه خلقه وكرمه تقواه" ولا خلاف أن الكبر حرام ومن افتخر بشرف آبائه كمن ادعى الشبع بأكلهم ويحكى أن الحسن البصري رضي الله عنه مر به المهلب بن أبي ضفرة فلم يلتفت إليه فقال له المهلب أما تعرفني قال نعم أنا أعرف بك منك قال وكيف قال أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت فيما بينهما تحمل العذرة ويرحم الله من قال:
كيف يزهو من رجيعه
…
أبد الدهر ضجيعه
فهو منه وإليه
…
وأخوه ورضيعه
وإنما يكون علم الأنساب علما لا ينفع وجهالة لا تضر إذا كان تقيا وإلا فعلمه يضر وجهالته تنفع ومما ينسب لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
الناس من جهة التمثيل أكفاء
…
أبوهم آدم والأم حواء
فإن أتيت بفخر من ذوي حسب
…
فإن حسبهما الطين والماء
ووزن كل امرئ ماكان يحسنه
…
والجاهلون لأهل العلم أعداء
ووقع لبعض الفقراء أنه نظر إلى التراب فقال لبعض من حضره من كان وجوده من هذا ومصيره لهذا وقوامه من هذا تكبره بماذا انتهى وهو موعظة عجيبة وبالله التوفيق.
(والرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ومن رأى في منامه ما يكره فليتفل عن يساره وليتعوذ من شر ما رأى ولا ينبغي أن يفسر الرؤيا من لا علم له بها ولا يعبرها علىالخير وهي عنده على المكروه).
إنما كرر الحديث في الرؤيا ليركب عليه المسألتين وفي البخاري بعد ذكر الحديث متصلا به وما من النبوة لا يكذب عبد الوهاب في تعبير من لا علم له بها لأنه
يكون كذبا وإفتاء بغير علم قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].
قال غيره وشرط معبر الرؤيا أن يكون عارفا بمواد التعبير ومحله وله قدرة زائدة وإدراك صحيح وإذا فسرها من لا علم له بها فهو كذلك وكذلك إذا عبرها على الخير وهي عنده على المكروه وإذا قال للسائل خير فلا شيء عليه قال لمالك أيعبر الرؤيا من لا علم له بها فقال أبا لنبوة يعلب يشير بذلك كله للحديث المذكور أولا وبالله التوفيق.
(ولا بأس بإنشاد الشعر وما خف من الشعر أحسن ولا ينبغي أن يكثر منه ومن الشغل به).
أجمع ما قيل في ذلك الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وكان جدتي رحمة الله عليها من الصالحات ولها نصيب من العلم فكانت تقول لي وأنا صغير يا ولدي لا تؤثر الشعر على العلم فإنه كمن يبدل القمح بالشعير والكلام فيه طويل فلنقتصر دون وبالله التوفيق.
(وأولى العلوم وأفضلها وأقربها إلى الله تعالى علم دينه وشرائعه مما أمر به ونهى عنه ودعا إليه وحض عليه في كتابه وعلى لسان نبيه والفقيه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعايته والعمل به).
أولى أي الحق العلوم بالتهمم والتقديم علم دين الله الذي هو أحكام الإسلام والإيمان والإحسان وهي الأصول والفقه ومعاملات التصوف لقوله في حديث جبريل عليه السلام لما فرغ من ذكر الإيمان والإسلام: " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" قال البخاري جعل كل ذلك من الدين وقال بعضهم علم لا عمل وسيلة بلا غاية وعمل بلا علم جناية وهما بلا إخلاص كلفة بلا أجر وقد يريد بعلم دينه العقائدالتي بها يثبت الدين وبالشرائع ما وراء ذلك من العبادات والأحكام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده وإنما أنا قاسم والله يعطي"
وسئل الجنيد رحمه الله عن العلم النافع فقال هو أن تعرف ربك ولا تعدو قدرك وذكر ابن عطاء الله في لطائف المنن حديثا نصه إن الله لا يسأل الخلق عن ذاته وصفاته وعن قضائه وقدره وإنما يسألهم عن أمره ونهيه فاطلب ربك من حيث يطلبك والنقل
وفي هذا الباب أكثر من أن يحصى وأوسع من أن يحاط به.
ومرجع ذلك إلى أن العلوم ثلاثة علم كالغذاء لا يستغنى عنه بحال وهو فرض العين قال الغزالي وهو ما لا يؤمن الهلاك مع جهله وعلم كالدواء يستغنى عنه في حال دون حال وهو ما وراء ذلكم ن فروض الكفاية وما ندب إلى تعلمه وتلعيمه كالتوسع في الأحكام ونحوه وعلم كالداء وهوما يؤدي إلى ضرر في الدنيا والدين وتختلف أحوال الناس فيه وتفترق أحوالهم عليه وعن جماعة منه علم الجدل والكلام والمنطق والتحقيق أن في ذلك تفصيلا يطول ذكره فانظر وبالله التوفيق.
(والعلم أفضل الأعمال وأقرب العلماء إلى الله أكثرهم له خشية وفيما عنده رغبة).
لما كان الشيء يشرف بشرف متعلقه كان متعلق العلم أشرف المتعلقات وهو العلم بالله والعلم بما به أمر اله كان العلم أفضل الأعمال وقد جاء في فضل العلم ما لا مزيد عليه وفي البخاري: " من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " وفي الحديث: " العلماء ورثة الأنبياء وأمناء الرسل ما لم يميلوا إلى الدنيا ويداخلوا السلاطين فإذا مالوا إلى الدنيا وداخلوا السلاطين فاخشوهم في دينكم" وكون أقرب العلماء إلى الله أكثرهم خشية هو الذي شهدت به شواهد السنة قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} .
وقال ابن عطاء الله في الحكم خير العلم ما كانت الخشية معه العلم إن قارنته الخشية فلك وإلا فعليك.
قال في لطائف المنن فشاهد العلم الذي هو مطلوب لله تعالى الخشية لله وشاهد الخشية موافقة الأمر أما علم تكون معه الرغبة في الدنيا والتملق لأربابها والجمع والادخار والمباهاة والاستكثار وإيثار الدنيا ونسيان الآخرة فما أبعد من هذا علمه أن يكون من ورثة الأنبياء.
وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان عليها عند الموروث عنه قال ومثل من هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كمثل الشمعة تضيء على غيرها وتحرق نفسها جعل الله الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه وسببا في تكثير العقوبات.
لديه قال ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر.
فقد قال عليه السلام: " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" قال ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا والرفعة كمثل من يرفع العذرة بالملعقة من الياقوت فما أشرف الوسيلة وما أخس التمتوسل إلهي ومثل من قطع الأوقات في طلب العلم فمكث أربعين أو خمسين سنة يتعلم العلم ويعلمه ولا يعمل به كمثل من قطع هذه المدة يتطهر ولا يصلي صلاة واحدة إذ مقصود العلم العمل كما أن مقصود الطهارة الصلاة انتهى على شك في بعض ألفاظه نفعنا الله بمنه وكرمه.
(والعلم دليل إلى الخيرات وقائد إليها).
قال الرسول عليه السلام" العلم إمام العمل والعمل تابعه" وق قالوا طلبنا العلم لغيرا لله فأبى أن يكون إلا لله قيل يعني امتنع حصوله إلا أن يطلب لله وقييل بل طلبه لغير الله لا يصيره لغيره لأنه لا يمكن أن يكون لغيره حتى إن الشيطان يحض العبد على طلب العلم لتقوم عليه الحجة ويقع في ذنوب الطلبة والعلماء خرج له بذلك بيان الحلال والحرام الذي يصرفه عن تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فعند ذلك بود أن يرده عنه لما يرى من مصلحته فيجيبه بقوله طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا الله فتأمل ذلك فإنه مليح وبالله التوفيق.
(واللجأ إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم واتباع سبيل المؤمنين وخبر القرون من خير أمة أخرجت للناس نجاة ففي المفزع إلى ذلك العصمة).
ذكر في هذه الجملة أصول الأحكام التي هي الكتاب والسنة يعني متواترها وآحداها والسنة هنا ما جاء من فعل عليه السلام وقوله وتقريره وسبيل المؤمنين هو الإجماع واتباعه واجب قال الله تعالى {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم} [النساء: 115].
وقوله: (وخير القرون) يحتمل الخبرية فيكون تكرارا مع ما في العقيدة ويحتمل عطفة على اتباع السلف أي واتباع خير القرون من خير أمة وخير الكل نجاة وكأنه يشير بذلك إلى الاقتداء بالقرون الثلاثة الأول بعد الكتاب والسنة والإجماع وبيان ذلك أنه لا مقلد إلا المعصوم لامتناع الخطأ عليه أو من شهد له المعصوم حيث يتعذر الاقتداء
به لأن مزكي العدل عدل وقد شهد عليه السلام لقرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فوجب اعتبارهم في الاقتداء على مراتبهم.
لكن القرن الأول حفظوا عن الشارع ولم يجمعو ولم يعرف عام من خاص ولا ناسخ من منسوخ وذلك يتحصل بالجمع فجاء القرن الثاني فحفظوا ما جمعوا وذلك لا يكفي دون التفقه فيه وقد تفقهوا فيه ولكنهم لم يستوبعوه فجاء القرن الثالث فحفظ ما جمع على جمع واستوفى ما جمعه بفقه فكمل علم الدين في القول الثالث حفظا وجمعا وتفقها في كل فن شرعي فأخذ ذلك عن علمائه الذين صح ورعهم وهم اثنا عشر رجلا فكان لكل منهم اتباع ثم لم تزل اتباعهم تنقرض وينقرض علمها بها حتى لم يبق إلا جملة الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد فاقتصر الناس عليهم واتبعوا مذاهبهم مع أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لقوله عليه السلام " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق".
ففي كل عصر سادة وفي كل قطر قادة لكن القرون الثلاثة الأصل فيهم الخير والشر عارض وما بعدهم من القرون ليس كذلك فهم معتبرون بأوصافهم وبالله التوفيق.
(وفي اتباع السلف الصالح النجاة وهم القدوة في تأويل ما تأولوه واستخراج ما استنبطوه).
السلف هو السابق والصالح هو الذي جرت أقواله وأفعاله على وفق الحق والصواب في الغالب والمراد بهم هنا أهل القرون الثلاثة الأول من العلماء العاملين ومن اتصف بأوصافهم من المتأخرين القدوة الذي يتبعون ويقتدى بهم.
والتأويل إخراج اللفظ عن ظاهره بدليل يعضدة والاستنباط استخراج الحكم من أصله الذي يحتوي عليه وإنما كان السلف قدوة فيما ذكر لأنهم جمعوا ثلاثة أشياء العلم الكامل والورع الحاصل والنظر السديد وغلبت عليهم الأمانة ولولا هذه الشروط ما صح الاقتداء بهم وقد قال ابن المبارك إن هذا لحديث دين فانظروا عن من تأخذون دينكم وبالله التوفيق.
(وإذا اختلفوا في الفروع والحوادث لم يخرج عن جماعتهم).
بل يتعين أن يقتدى بهم على مراتبهم فإن العلماء كلهم طرق إلى الجنة البلالي ويجب مذهب معين وله رجوع عنه وعن بعض مسائله لا تتبع الرخص قلت أما تتبع الرخص فحرام إجماعا لأنه تلاعب بالدين وأما تقليد الرخصة يوما ما للضرورة أو الأخذ بالاحتياط والورع فلا عتب على صاحبه هكذا نصوا عليه واختلفوا في جواز الانتقال على أقوال محلها أصول الفقه وبالله التوفيق.
(والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
ش: هذا اعتراف بمنة الله وشكر له على ما هداه من التعليم والإلقاء بعد تحصيل العلم والتقى وعلى مثل هذا يتعين الشكر ثم هذا الحمد هو حمد أهل الجنة في الجنة وهو من نسبة قول الصحابة رضي الله عنهم والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فشهود المنة من تعظيم المنعم وهو أصل كل بر وخير وبالله التوفيق.
(قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد قد أتينا على ما شرطنا أن نأتي به في كتابنا هذا مما ينتفع به إن شاء الله من رغب في تعليمه ذلك من الصغار ومن احتاج إليه من الكبار وفيه ما يؤدي الجاهل إلى علم ما يعتقده من دينه ويعمل به من فروضه ويفهم كثيرا من أصول الفقه وفنونه ومن السنن والرغائب والآداب).
قوله (قال أبو محمد) إلى آخره ثابت في هذا الموضع باتفاق واختلف فيه أن وهو هنا على بابه من القول بلا نية وأبو محمد هو كنية عبد الله وإنما كنى نفسه لأن معرفته بذلك وإلا فهو أشد تواضعا وتأدبا من ذلك وكان رضي الله عنه من أورع أهل زمانه وأعظمهم ديانة حسبما ذكره عياض وغيره في التعريف.
وسمعنا عن شيخ أبي عبد الله القوري رحمه الله قال ألف هذا الكتاب وهو ابن سبع وعشرين سنة وبذلك بينه وبين كلامه في النوادر كثير وسمعته يقول كتب الفقه من النوادر مثل الحوض تجري منه من السواقي.
وكان مولد الشيخ رحمه الله سنة عشر وثلاثمائة وتوفي سنة ست وثمانين من المائة المذكورة فعمره سعبون سنة وكان يعرف بمالك الصغير وقيل كان ينكر الكرامات ثم رجع عن ذلك لسر اتفق له وقيل لم ينكر منكرا ولكن حسما للذريعة وهو الظاهر والله أعلم.
وما ذكر في ترجمة كتابه لأنه هو الذي شرطه أول الكتاب وقد مدح الناس الرسالة واعتنوا بشرحها حتى أنه ليقال منذ وضعت ما خلت سنة عن ظهرو شرح جديد لها وقد ظهرت بركتها على العامل بها والملتزم لها.
وسمعت عن الشيخ الصالح سيدي أبي عبد الله بن عباد رحمه الله أنه قال طلبوا الفقه في غير الرسالة فأضلوه وطلبوا التصوف في غير الحكم فأضلوه وقد جرب بالمشاهدة أن من قرأ كتب الفقه دونها لم ينتفع بنفسه غالبا ما ذاك إلا لصدق صاحبها وطالبها ونيتهما فالأعمال بالنيات والخواتم وبالله التوفيق.
(وأن أسأل الله أن ينفعنا وإياك بما علمنا ويعيننا وإياك على القيام بحقه فيما كلفنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العليم العظيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).
هذا سؤال موافق لما قال أول الكتاب أما بعد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه ومدارهما على الاهتمام بأمر الدين واللجأ إليه تعالى في قيام ذلك والقيام به ومعنى (لا حول ولا قوة) لا حركة ولا ثبوت إلا بالله وروى لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بإعانة الله.
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الكتاب جاء به حديث ضعيف النهي عنه ذكره أبو نعيم في ترجمة عمر بن عبد العزيز من الحلية ولم يعده العلماء في المواضع المنهي عن الصلاة فيها وهي سبعة عند العثرة وعند البيع وعند الذبح وفي الحمام وفي الخلاء وعند الجماع وفي المواضع القذرة ونحوها فاعرف ذلك وبالله التوفيق.
قال مؤلف هذه العجالة العبد الفقير إلى الله سبحانه أقل عبيده وأفقرهم إلى رحمته أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنوسي ثم الفاسي عرف بزروق أصلح الله حاله وبلغ فيما لديه آماله وعافاه من بليته وشافه من علته ورزقه في كل حال شرك نعمته قد كتبت هذا الكتاب وجمعته من أصول معتمدة جلها كتب المتأخرين والعمدة مختصر الشيخ الفقيه الصالح سيدي أبي عبد الله بن عرفة التونسي وربما لفقت كلامه أو بسطته أو أتيت به على وجهه فليراجعه من أشكل عليه شيء من نقله وليقف على حد الإنصاف متقيا الله سبحانه
والله أسأل أن يجعله رحمة لعباده وبركة في أرضه وبلاده وأن ينفع به الخاص والعام ويجعله تذكرة وتبصرة لا مخملا ولا مخمرا ولا مخمدا ولا ملموسا بيد إذاية من جاهل يتحامل أو حاسد يعرف الحق ويتجاهل فإنه ولي ذلك والقادري عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل وكان الفراغ منه في أوائل سنة ست وتسعين وثمانمائة عرفنا الله خبيره وخير ما بعده إلا الأبد بمنه وفضله وكرمه وكتب مؤلفه بخط يده الفانية مبيضة غير مصححة ولا مهذبة والله المسئول في ذلك بمنه وكرمه.
متن الرسالة
للإمام أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني
المتوفى سنة 386هـ
صفحة خالية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته وصوروه في الأرحام بحكمته وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيما ونبهه بآثار صنعته وأعذر إليه على ألنسة المرسلين الخيرة من خلقه فهدى من وفقه بفضهل وأضل من خذله بعدله ويسر المؤمنين لليسرى وشرح صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين وبما أتتهم به رسله وكتبه عالمين، وتعملوا ما علمهم ووقفوا عند ما حد لهم واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم.
أما بعد:
أعاننا الله وإياك على رعياية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصر من واجب أمور الديانات مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب، وتعمله الجوارح وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ونوافلها ورغائبا وشيء من الآداب منها وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى وطريقته مع ما سهل سبي ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين لما رغبت فيه من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرأن ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه، ما ترجى لهم بركته وتحمد لهم عاقبته فأجبتك إلى ذلك لما رجوته لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه.
واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه وأولى ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها وتنبيههم على معالى الديانة وحدود الشريعة ليراضوا عليها وما عليهم أن تعتقده من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم.
فإنه روى أن تعليم الصغر لكتاب الله يطفئ غضب الله وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش على الحجر وقد مثلت لك من ذلك ما ينتفعون إن شاء الله بحفظه ويشرفون بعلمه ويسعدون باعتقاده والعمل به.