الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سَمَكَتَيْنِ.
وَلَمْ أَصِدْ بَعْدُ شَيْئًا.
وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَخَافُوا غَائِلَةَ هَذَا الْأَمْرِ، وَنَدِمَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ وَخَلْعِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ، وَمَا وَقَعَ مِنَ الأمر الفظيع.
وكان رجوع الخبر إليه في شوال من هذه السنة.
ثم جهز عبد الرحمن بن جبلة الأنباري (1) فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِيُقَاتِلُوا طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهُمْ تَوَاجَهُوا فتقاتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى بينهم، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ فلجأوا إِلَى هَمَذَانَ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا طَاهِرٌ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى أَنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُمْ وَأَمَّنَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَانْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ على أن يكون راجعاً إلى بغداد، ثُمَّ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ طَاهِرٍ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ (2) وَهُمْ غافلون فقتلوا منهم خلقاً وصبر لهم أصحاب طاهر ثم نهضوا إليهم وحملوا عليهم فهزموهم وقتل أَمِيرَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ خائبين.
فلما رجعوا إلى بغداد اضطربت الْأُمُورُ وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَطَرَدَ طَاهِرٌ عُمَّالَ الْأَمِينِ عَنْ قَزْوِينَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَقَوِيَ أَمْرُ الْمَأْمُونِ جِدًّا بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ السُّفْيَانِيِّ بِالشَّامِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، فعزل نائب الشام (2) عنها وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ جَيْشًا فلم يقدموا عليه بل أقاموا بالرقة، ثم كان من أمره ما سنذكره.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عيسى.
وَ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمْ: إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
روى عنه أحمد وغيره.
ومنهم: بكار بن عبد الله ابن مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير، كان نائب المدينة للرشيد ثنتي عشرة سنة وشهراً، وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّشِيدُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَهْلِهَا أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ شَرِيفًا جواداً معظماً.
وفيها
توفي:
(1) في الطبري 1 / 153: الا بناوي.
وفي غيره الانباوي.
(2)
وذلك بناحية أسد اباذ وهي مدينة بهمذان من ناحية العراق - (الطبري 10 / 156 والاخبار الطوال ص 398) .
(3)
وهو سليمان بن أبي جعفر.
(*)
أبو نُوَاسٍ الشَّاعِرُ وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئِ (1) بْنِ صَبَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ هنب بن داود بن غنم بن سليم، ونسبه عبد الله بن سعد إلى الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ الْبَصْرِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثمَّ صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جلبان (2) ، فولدت له أبا نواس وابنا آخر يقال له أبا مُعَاذٍ، ثُمَّ صَارَ أَبُو نُوَاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ فَتَأَدَّبَ بِهَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَرَأَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَلَزِمَ خَلَفًا الْأَحْمَرَ، وَصَحِبَ يونس بن حبيب الجرمي النحوي.
وقد قال القاضي ابن خلكان: صحب أبا أسامة وابن الحباب الكوفي، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وعنه محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي.
وحدَّث عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وغندر ومشاهير العلماء ومن مشاهير حديثه ما روا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوفي، عَنْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يموتنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ ثَمَنُ الْجَنَّةِ)(3) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ: يَا أَبَا عَلِيٍّ! أَنْتَ الْيَوْمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ الله هنات، فتب إلى الله من عملك.
فقال: إياي تخوف؟ بالله أسندوني.
قال: فأسندناه فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةً وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(4) .
ثُمَّ قَالَ: أفلا تراني مِنْهُمْ.
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: مَا قُلْتُ الشِّعْرَ حتى رويت عن ستين امرأة منهن خنساء وليلى، فما الظن بِالرِّجَالِ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ:
إِذَا رَوَيْتَ الشِّعْرَ عَنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالْأَعْشَى مِنْ أَهْلِ الجاهلية، ومن الإسلاميين جرير وَالْفَرَزْدَقِ، وَمِنَ الْمُحْدَثِينَ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ فَحَسْبُكَ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ والجاحظ والنظام.
قال أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَوْلَا أنَّ أَبَا نُوَاسٍ أفسد شعره بما وضع فيه من الأقذار لاحتججنا به - يعني شعره الذي قاله في الخمريات والمردان، وقد كان يميل إليهم - ونحو ذلك مما هو معروف في شعره.
واجتمع طائفة من الشعراء عند المأمون فقيل لَهُمْ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ: فَلَمَّا تحسَّاها وَقَفْنَا كَأَنَّنَا * نرى قمراً في الأرض يبلغ كوكبا
(1) في وفيات الاعيان 2 / 95: هو الْحَسَنُ بْنُ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ الأوَّل بْنِ صباح.
(2)
من الوفيات، وفي الاصل خلبان.
(جلبان معناها: وردة على غصن) وانظر خزانة الاداب 1 / 347.
(3)
أخرجه مسلم في الجنة ح (81 - 82) وأبو داود في الجنائز (13) وابن ماجة في الزهد (14) وأحمد في المسند 3 / 293، 315، 325، 330، 334، 390.
(4)
أخرجه الترمذي في القيامة (11) وابن ماجة في الزهد (37) وأحمد في المسند 3 / 213.
(*)
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ.
قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ: إِذَا نزلت دون اللهاة من الفتى * دعى همه عن قلبه بِرَحِيلِ قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ.
قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ: فتمشَّت فِي مَفَاصِلِهِمْ * كَتَمَشِّي البُرْءِ فِي السَّقَمِ قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ.
قَالَ: فَهُوَ أَشْعَرُكُمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِابْنِ مُنَاذِرٍ: مَا أَشْعَرَ ظَرِيفُكُمْ أَبَا نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ * يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارِهًا * بِرَغْمِ ذِي بَابٍ وحجاب يبكي فيذري الدرّ من عينه * وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ لَا زَالَ مَوْتًا دَأْبُ أحبابه * ولم تزل رؤيته دابي
قال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ أَشْعَرُ النَّاسِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قوله: تسترت من دهري بكل جَنَاحِهِ * فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي وَلَيْسَ يَرَانِي فَلَوْ تسأل الأيام عني ما دَرَتْ * وَأَيْنَ مَكَانِي مَا عَرَفْنَ مَكَانِي وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْتُ فِي الزُّهْدِ عِشْرِينَ أَلْفَ بيت، وددت أَنَّ لِي مَكَانَهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا أَبُو نُوَاسٍ وَهِيَ هَذِهِ، وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى قبره: يا نواسي توقّر * أو تغيَّر أو تصبَّر (1) إِنْ يَكُنْ سَاءَكَ دَهْرٌ * فَلَمَا سرَّك أَكْثَرْ يا كثير الذنب * عفو الله مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ يَمْدَحُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ: أَوْجَدَهُ اللَّهُ فَمَا مِثْلُهُ * بطالب ذاك ولا ناشد ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد وأنشد سفيان بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَ أَبِي نُوَاسٍ: مَا هَوًى إِلَّا لَهُ سَبَبُ * يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ فَتَنَتْ قلبي محجبة * وجهها بالحسن منتقب
(1) في ابن خلكان 2 / 102: وتعز وتصبر.
(*)
خلته (1) وَالْحُسْنُ تَأْخُذُهُ * تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طرائفه * واستردت بَعْضَ مَا تَهَبُ فَهِيَ لَوْ صَيَّرْتَ فِيهِ لَهَا * عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ صَارَ جِدًّا مَا مَزَحْتَ بِهِ * ربَّ جِدٍّ جرَّه اللَّعِبُ فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَهَا.
وَقَالَ ابن دريد قال أبو حاتم: لو أن العامة بدلت هذين البيتين كتبتهما بماء الذهب:
وَلَوْ أَنِّي اسْتَزَدْتُكَ فَوْقَ مَا بِي * مِنَ الْبَلْوَى لَأَعْوَزَكَ الْمَزِيدُ وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمَوْتَى حَيَاتِي * بِعَيْشٍ مِثْلَ عَيْشِي لَمْ يُرِيدُوا وَقَدْ سَمِعَ أَبُو نُوَاسٍ حَدِيثَ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) .
فَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فقال: إنَّ الْقُلُوبَ لَأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ * لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ بالأهواء تعترف فما تناكر منها مختلف * وما تعارف منها فهو مؤتلف ودخل يوماً أبو نواس مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ لِيَخْتَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أُحَدِّثُهُ بِهَا، فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةً إِلَّا أَبَا نُوَاسٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تَخْتَارُ كَمَا اخْتَارُوا؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: وَلَقَدْ كُنَّا رَوَيْنَا * عَنْ سعيد عن قتاده وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْ * بِيُّ شَيْخٌ ذُو جَلَادَهْ عن سعيد بن المسي * يب ثم سعد بن عبادة وَعَنِ الْأَخْيَارِ نَحْكِي * هِـ وَعَنْ أَهْلِ الْإِفَادَهْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا * فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَهْ فقال له عبد الواحد: قم عني يا فاجر، لا حدثتك ولا حدثت أحد مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِكَ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى فَقَالَا: كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَهُ لعلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو نُوَاسٍ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فكتم فمات مات شهيداً ".
ومعناه أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعِشْقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَصَبَرَ وَعَفَّ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يُفْشِ ذَلِكَ فَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ كثير.
فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ نَوْعُ شهادة والله أعلم.
(1) ويروى: تركت (*)
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنَّ شُعْبَةَ لَقِيَ أَبَا نُوَاسٍ فَقَالَ لَهُ: حَدِّثْنَا مِنْ طُرَفِكَ، فَقَالَ مُرْتَجِلًا: حَدَّثَنَا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ جَابِرِ وَمِسْعَرٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلَى عَامِرِ قَالُوا جَمِيعًا: أَيُّمَا طِفْلَةٍ عُلِّقَهَا ذُو خُلُقٍ طَاهِرِ فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ عَلَى وِصَالِ الْحَافِظِ الذَّاكِرِ، كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً يَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ، وَأَيُّ معشوق جفا عاشقاً بعد وصال دائم ناصر! ففي عذاب الله بعداً له نعم وسحقاً دائم ذاخر.
فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: إِنَّكَ لَجَمِيلُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَكَ.
وَأَنْشَدَ أَبُو نُوَاسٍ أَيْضًا: يَا سَاحِرَ الْمُقْلَتَيْنِ وَالْجِيدِ * وَقَاتِلِي مِنْكَ بِالْمَوَاعِيدِ تُوعِدُنِي الوصل ثم تخلفني * ويلاي من خلفك موعودي حدثني الأزرق المحدِّث عن * شهر وَعَوْفٍ (1) عَنْ ابْنِ مَسْعُودِ مَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ غَيْرُ كَافِرَةٍ (2) * وَكَافِرٍ فِي الْجَحِيمِ مَصْفُودِ فَبَلَغَ ذَلِكَ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ عليَّ وَعَلَى التَّابِعِينِ وَعَلَى أَصْحَابِ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وَعَنْ سُلَيْمِ بن منصور بن عمار قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لا يعذبك الله بعد هذا البكاء فَأَنْشَأَ يَقُولُ: لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ * شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ وَلَا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ * وَلَا مِنَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ وَلَا مِنَ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا * وَلَا مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْجُورِ لكن بكائي لكا شَادِنٍ * تَقِيهِ نَفْسِي كلَّ مَحْذُورِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا بَكَيْتُ لِبُكَاءِ هَذَا الْأَمْرَدِ الَّذِي إِلَى جَانِبِ أَبِيكَ - وَكَانَ صَبِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ يَسْمَعُ الْوَعْظَ فَيَبْكِي خَوْفًا مِنَ اللَّهِ عز وجل.
قَالَ: أَبُو نُوَاسٍ: دَعَانِي يَوْمًا بَعْضُ الْحَاكَةِ وَأَلَحَّ عليَّ لِيُضِيفَنِي فِي مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِي حتَّى أَجَبْتُهُ فَسَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَسِرْتُ مَعَهُ فَإِذَا مَنْزِلٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدِ احتفل الحائل في الطعام وجمع جمعاً من الحياك، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قَالَ: يَا سَيِّدِي أَشْتَهِي أَنْ تَقُولَ فِي جَارِيَتِي شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ - وكان مغرماً بجارية له -
قال فَقُلْتُ أَرِنِيهَا حَتَّى أَنْظِمَ عَلَى شَكْلِهَا وَحُسْنِهَا، فكشف عنها فإذا هي أسمج خلق الله واوحشهم،
(1) في عيون الاخبار 2 / 140: عن
…
* عمرو بن شمر
…
(2) في عيون الاخبار: غير كافره.
أي جاحده ولعلها خافره وهو ما يتفق مع السياق بمعنى نقض العهد والغدر به.
والابيات ليست في ديوانه المطبوع بمصر سنة 1898 م.
(*)
سوداء شمطاء ديدانية يَسِيلُ لُعَابُهَا عَلَى صَدْرِهَا.
فَقُلْتُ لِسَيِّدِهَا: مَا اسْمُهَا؟ فَقَالَ تَسْنِيمُ، فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ: أَسْهَرَ لَيْلِي حبَّ تَسْنِيمِ * جَارِيَةٍ فِي الْحُسْنِ كَالْبُومِ كَأَنَّمَا نَكْهَتُهَا كامخٌ * أَوْ حُزْمَةٌ مِنْ حُزَمِ الثُّومِ ضَرَطْتُ مِنْ حُبِّي لَهَا ضَرْطَةً * أَفْزَعْتُ مِنْهَا مَلِكَ الرُّومِ قَالَ فَقَامَ الْحَائِكُ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ سائر يومه ويفرح ويقول: إنه شبهها والله بملك الروم.
ومن شعره أيضاً: أبر مني الناس يقولون * بزعمهم كثرت أو زارية (1) إن كنت في النار أم في جَنَّةٍ * مَاذَا عَلَيْكُمْ يَا بَنِي الزَّانِيَهْ وَبِالْجُمْلَةِ فقد ذكروا له أموراً كثيرةً، ومجوناً وأشعاراً منكرة، وَلَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالتَّشَبُّبِ بِالْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَشْيَاءُ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّقُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهِ بِالزَّنْدَقَةِ، وَمِنْهُمْ من يقول: كان إنما يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، لِمَا فِي أَشْعَارِهِ.
فَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَخَلَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ عَزَوْا إِلَيْهِ في صغره وكبره أشياء منكرة اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا، وَالْعَامَّةُ تَنْقُلُ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا.
وَفِي صَحْنِ جَامِعِ دمشق قبة يفور منها الماء يَقُولُ الدَّمَاشِقَةُ قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فما أدري لاي شئ نسبت إليه فالله أعلم بهذا.
وقال محمد بن أبي عمر: سَمِعْتُ أَبَا نُوَاسٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا فَتَحْتُ سراويلي لحرام قط.
وقال له محمد الأمين بن الرشيد: أنت زنديق.
فقال: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وَأَنَا أَقُولُ: أُصَلِّي الصَّلَاةَ الْخَمْسَ فِي حِينِ وقتها * وأشهد بالتوحيد لله خاضعا وأحسن غسلي إِنْ رَكِبْتُ جَنَابَةً * وَإِنْ جَاءَنِي الْمِسْكِينُ لَمْ أَكُ مَانِعَا وَإِنِّي وَإِنْ حَانَتْ مِنَ الكاسِ دعوة * إلى بيعة الساقي أجبت مسارعا وأشربها صرفاً على جنب ما عز * وَجَدْيٍ كَثِيرِ الشَّحْمِ أَصْبَحَ رَاضِعَا وَجُوذَابَ حُوَّارَى ولوز وسكر * وما زال للخمار ذلك نافعا وأجعل تخليط الروافض كلهم * لنفخة بختيشوع في النار طائعا فَقَالَ لَهُ الْأَمِينُ: وَيْحَكَ! وَمَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إلى نفخة بختيشوع؟ فقال: به تمت القافية.
فأمر له
(1) البيت فيه تحريف، وفي تاريخ دمشق: يلومني الناس يقولون تب * غرهم كثرة أو زاريه (*)
بجائزة.
وبختيشوع الذي ذكره هو طبيب الخلفاء.
وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا أَعْرِفُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ أرق ولا أحسن من قول أبي نواس حيث يقول: أَيَّةُ نارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ * وَأَيُّ جِدٍّ بَلَغَ الْمَازِحُ لِلَّهِ دَرُّ الشَيبِ مِنْ واعِظٍ * وَناصِحٍ لَو خُطِئَ (1) الناصِحُ يَأَبْى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى * وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ واضِحُ فَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلى نِسْوَةٍ * مُهُورُهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ لَا يَجْتَلِي الحوراء (2) في خِدْرِهَا * إِلَّا امْرُؤٌ مِيْزَانُهُ رَاجِحُ مَنِ اتَّقى الله فذاك الذي * سبق إِلَيهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ فاغدُ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ * وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائِحُ وَقَدِ استنشده أبو عفان قصيدته التي في أولها: لا تنس ليلى ولا تنظر إِلَى هِنْدٍ.
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا
سَجَدَ لَهُ أبو عفان، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ مُدَّةً.
قَالَ: فَغَمَّنِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِانْصِرَافَ قَالَ: مَتَى أَرَاكَ؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تُقْسِمْ؟ فَقَالَ: الدَّهْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يكونَ مَعَهُ هَجْرٌ.
ومن مستجاد شعره قوله: ألا رُبَّ وَجْهٍ فِي التُّرَابِ عَتِيقِ * وَيا رُبَّ حُسْنٍ فِي التُّرَابِ رَقِيقِ وَيَا رُبَّ حَزْمٍ فِي التُّرَابِ وَنَجْدَةٍ * وَيَا رُبَّ رَأيٍ فِي التراب وثيق فَقُلْ لِقَرِيبِ الدَّارِ إِنَّكَ ظَاعِنٌ * إِلَى سَفَرٍ نائي المحل سحيق أَرَى كُلَّ حَيٍّ هَالِكاً وَابْنَ هَالِكٍ * وَذَا نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ عَرِيقُ إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ * لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لباس صَدِيقِ وَقَوْلُهُ: لَا تشرهنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ * وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي الطَّيْشِ والسَّفه وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيْهِ مِنْ حُمَقٍ * لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي التِّيهِ لَمْ تَتُهِ التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ * لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ للعرض فانتبه وجلس أبو العتاهية القاسم بن إسماعيل على دكان وراق فكتب على ظهر دفتر هذه الأبيات: أَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَ * هُـ أَمْ كيف يجحده الجاحد وفي كل شئ له آية * تدل على أنه الواحد
(1) في البيان والتبيين 3 / 165: حظي.
(2)
في البيان والتبيين: الحسناء.
(*)
ثم جاء أبو نواس فقرأها فقال: أحسن قائله والله.
والله لوددت أنها لي بجميع شئ قلته، لمن هذه؟ قيل له: لأبي العتاهية، فأخذ فكتب في جَانِبِهَا: سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْ * قَ مِنْ ضعف مَهِينِ يَسوقُهُ مِنْ قَرَارٍ * إِلى قَرارٍ مَكِينِ
يخلق شَيئًا فَشَيئًا * فِي الْحُجُبِ دُونَ الْعُيُونِ حَتَّى بدت حركات * مخلوقة في سكون ومن شعره المستجاد قوله: انقطعت شدتي فَعِفْتُ الْمَلَاهِي إِذْ * رَمَى الشَّيب مَفْرِقِي بِالدَّوَاهِي ونهتني النُّهى فملت إلى العدل * وأشفقت من مقالة ناهي أيها الغافل المقرُّ على السهو * ولا عذر في المعاد لساهي لا بأعمالنا نطيق خلاصاً * يوم تبدو السماء فوق الجباه على أنَّا عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالتَّفْ * رِيطِ نَرْجُو مِنْ حُسْنِ عَفْوِ الْإِلَهِ وَقَوْلُهُ: نَمُوتُ وَنَبْلَى غَيْرَ أن ذنبوبنا * إِذَا نَحْنُ مِتْنَا لَا تَمُوتُ وَلَا تَبْلَى ألا ربَّ ذي عينين لا تنفعانه * وما تَنْفَعُ الْعَيْنَانِ مَنْ قَلْبُهُ أَعْمَى وَقَوْلُهُ: لَوْ أن عيناً أوهمتها نَفْسُهَا * يَوْمَ الْحِسَابِ مُمَثَّلًا لَمْ تَطْرَفِ سُبْحَانَ ذي الملكوت أية ليلة * محقت صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى الْبَرِيَّةِ ربها * فالناس بين مقدم ومخلف وذكر أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قال: يا مالكاً مَا أَعْدَلَكْ مَلِيكَ كُلِّ مَنْ مَلَكْ * لَبَّيْكَ إن الحمد لك والملك لا شريك لك عبدك قد أهلَّ لَكَ أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكَ * لَوْلَاكَ يَا رب هَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَاللَّيْلُ لَمَّا أَنْ حَلَكْ * وَالسَّابِحَاتُ في الفلك على مجاري تنسلك كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ وَكُلُّ مَنْ أهلَّ لَكْ * سَبَّحَ أَوْ صَلَّى فَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ يَا مُخْطِئًا ما أجهلك * عصيت رباً عدلك وأقدرك وأمهلك عجِّل وَبَادِرْ أَمَلَكْ وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ عَمَلَكْ * لَبَّيْكَ إن الحمد لك والملك لا شريك لك
وقال المعافى بن زكريا الحريري: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ العبَّاس بْنِ الْوَلِيدِ سَمِعْتُ أحمد بن يحيى بن ثعلب يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَرَأَيْتُ رجلاً تهمه نفسه لا يجب أَنْ يُكْثَرَ عَلَيْهِ كَأَنَّ النِّيرَانَ قَدْ سُعِّرَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا زِلْتُ أَتَرَفَّقُ بِهِ وَتَوَسَّلْتُ إليه أني من موالي شيبان حتى كلمني، فقال: في أي شئ نظرت من العلوم؟ فقلت: في اللغة والشعر.
قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، قيل لِي هَذَا أَبُو نُوَاسٍ.
فَتَخَلَّلْتُ النَّاسَ وَرَائِي فلما جلست إليه أَمْلَى عَلَيْنَا: إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فلا تقل * خلوت ولكن في الخلاء رَقِيبُ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً * وَلَا آثماً يخفى عليه يغيب لهونا عن الآثام حَتَّى تَتَابَعَتْ * ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ فَيَا لَيْتَ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى * وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: أَقُولُ إذا ضاقت عليَّ مذاهبي * وحلت بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نُدُوبُ لِطُولِ جِنَايَاتِي وَعِظَمِ خَطِيئَتِي * هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ نَصِيبُ وَأَغْرَقُ فِي بَحْرِ الْمَخَافَةِ آيِسًا * وَتَرْجِعُ نَفْسِي تَارَةً فتتوب وتذكرني عفو الكريم عن الورى * فأحيا وأرجو عفوه فأنيب وأخضع فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلًا * عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عليَّ يتوب قال ابن طراز الْجَرِيرِيُّ: وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَنْ؟ قِيلَ لِأَبِي نُوَاسٍ وَهِيَ فِي زُهْدِيَّاتِهِ.
وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا النُّحَاةُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وقال حسن بن الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ وَهُوَ فِي مرض الموت فقلت: عظني.
فأنشأ يقول: فكثِّر (1) ما استطعت من الخطايا * فإنك لاقياً رباً غفورا ستبصر إن وردت عليه عفوا * وتلقى سيدا ملكا قديرا (2) تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا * تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ الشرورا (3)
فقلت: ويحك! بمثل هذا الْحَالِ تَعِظُنِي بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ؟ فَقَالَ: اسْكُتْ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: " ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي ".
وَقَدْ تقدم بهذا الإسناد عنه " لَا يموتنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله ".
وقال الربيع وغيره عن الشافعي قال: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي نُوَاسٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقُلْنَا: مَا أعددت لهذا اليوم؟ فأنشأ يقول:
(1) في وفيان الاعيان 2 / 98: تكثر
…
فإنك بالغا (2) في الوفيات: كبيرا.
(3)
في الوفيات: السرورا.
والابيات في باب الزهد من ديوانه.
(*)
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ * بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عفوك أعظما وما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ * تجود وتعفو منَّة وتكرُّما ولولاك لم يقدر لإبليس عابد * وكيف وقد أغوى صفيك آدما رواه ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ رُقْعَةً مَكْتُوبًا فِيهَا بِخَطِّهِ: يَا رَبِّ إنَّ عظمت ذنوبي كثرة * فلقد علمت بأن عفوك أعظم أدعوك ربي كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا * فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذا يرحم إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ (1) إِلَّا مُحْسِنٌ * فَمَنِ الذي يرجو المسئ المجرم مالي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا * وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أني مسلم وقال يوسف بن الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: دَبَّ فِيَّ الْفَنَاءُ سُفْلًا وَعُلْوًا * وَأُرَانِي أموت عضواً فعضواً ليس يمضي من لحظة بي إلا * نقصتني مبرها فِيَّ جَزْوَا ذَهَبَتْ جِدَّتِي بِلَذَّةِ عَيْشِي * وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللَّهِ نِضْوَا
قَدْ أَسْأْنَا كُلَّ الْإِسَاءَةِ فالل * هم صَفْحًا عنَّا وَغَفْرًا وَعَفْوَا ثُمَّ مَاتَ مِنْ ساعته سامحنا الله وإياه آمين.
وَقَدْ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا، فَأَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي فَمِهِ إِذَا غَسَّلُوهُ فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ لم يجدوا له من المال سوى ثلثمائة دِرْهَمٍ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هذه السنة ببغداد ودفن في مقابر الشونيزي فِي تَلِّ الْيَهُودِ.
وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَةً.
وَقِيلَ سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بأبيات قلتها في النرجس: تفكر فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ * إِلَى آثَارِ مَا صنع المليك عيون من لجين شاخصات * بأبصار هي الذهب السبيك على قضب الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ * بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: غَفَرَ لِي بأبيات قلتها وهي تحت وسادتي فجاؤوا فوجدوها برقعة في خطه: يا رب إنَّ عظمت ذنوبي كثرة * فلقد علمت أن عفوك أعظم
(1) في الوفيات 2 / 103: يدعوك
…
فمن الذي يرجو ويدعو المجرم (*)
الْأَبْيَاتِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، قُلْتُ: بِمَاذَا وَقَدْ كُنْتَ مُخَلِّطًا عَلَى نَفْسِكَ؟ فَقَالَ: جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَجُلٌ صَالِحٌ إِلَى الْمَقَابِرِ فَبَسَطَ رداءه وصلى ركعتين قرأ فيهما ألفي قل هو الله أحد ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ فَدَخَلْتُ أَنَا فِي جُمْلَتِهِمْ، فَغَفَرَ اللَّهُ لِي.
وقال ابن خلكان: أول شعر قاله أبو نواس لَمَّا صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ الْحُبَابِ: حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ * إِنْ بَكَى يَحِقُّ لَهُ (1) لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ تَضْحَكِينَ لَاهِيَةً وَالْمُحِبُّ يَنْتَحِبُ * تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ وَقَالَ الْمَأْمُونُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ (2) وَابْنُ هَالِكٍ * وَذُو نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ عَرِيقُ إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ * لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لباس (3) صَدِيقِ قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمَا أَشَدَّ رَجَاءَهُ بربه حيث يقول: تحمل ما استطعت من الخطايا * فإنك لاقياً رباً غفورا ستبصر إن قدمت عليه عفواً * وتلقى سيداً ملكاً كبيرا تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا * تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ الشرورا ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فِيهَا توفي أبو معاوية (4) الضرير أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ.
وَالْوَلِيدُ بْنُ مسلم الدمشقي تلميذ الأوزاعي.
وفيها حبس الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَمَ عَلَى الْأَمِينِ لَعِبَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وارتكابه للصيد وغيره في هذا الوقت.
وفيها وجه الأمين أحمد بن يزيد وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ فِي أربعين أَلْفًا إِلَى حُلْوَانَ لِقِتَالِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ حُلْوَانَ خَنْدَقَ طَاهِرٌ عَلَى جَيْشِهِ خَنْدَقًا وَجَعَلَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فَرَجَعَا وَلَمْ يُقَاتِلَاهُ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ إِلَى حُلْوَانَ وَجَاءَهُ كِتَابُ الْمَأْمُونِ بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَأَنْ يَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ.
فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا رفع المأمون وزيره الفضل بن سهل وولاه أَعْمَالًا كِبَارًا وَسَمَّاهُ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَفِيهَا وَلَّى الْأَمِينُ نِيَابَةَ الشَّامِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ بن علي
(1) في الديوان 366: فحق له.
(2)
في الديوان 192: أرى كل حي هالكا، وفي ابن خلكان 2 / 97: ألا كل حي هالك.
(3)
في الوفيات: ثياب.
(4)
وهو محمد بن خازم، قال ابن الأثير مات سنة خمس وتسعين ومائة.
(*)
- وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ سِجْنِ الرَّشِيدِ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ لَهُ رِجَالًا وَجُنُودًا لِقِتَالِ طَاهِرٍ وهرثمة، فلما وصل إِلَى الرَّقَّةِ أَقَامَ بِهَا وَكَتَبَ إِلَى رُؤَسَاءِ الشَّامِ يَتَأَلَّفُهُمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
ثُمَّ وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَانَ مَبْدَؤُهَا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ هُنَالِكَ فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الحسين بن علي بن ماهان، فتلقاه أهل بغداد بالإكرام، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
فلما وصل جاء رَسُولُ الْأَمِينِ يَطْلُبُهُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِمُسَامِرٍ وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا ولا جبى على يدي مالاً، فلماذا يطلبني في هذه الليلة؟.
سبب خلع الْأَمِينِ وَكَيْفَ أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ لما أصبح الحسين بن علي بْنِ مَاهَانَ وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى الْأَمِينِ لَمَّا طلبه، وذلك بعد مقدمه بالجيش من الشام، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وألَّبهم عَلَى الْأَمِينِ، وَذَكَرَ لَعِبَهُ وَمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْخِلَافَةُ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ، وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْبَأْسَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالنُّهُوضِ إِلَيْهِ، وَنَدَبَهُمْ لِذَلِكَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَيْهِ خَيْلًا فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الحسين أصحابه بالترجل إلى الأرض وأن يقاتلوا بالسيف والرماح، فانهزم جيش الأمين وخلعه وأخذ البيعة لعبد الله المأمون، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رجب من هذه السنة، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ الْأَمِينَ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَسَطَ بَغْدَادَ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَاضْطَهَدَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ عيسى بن موسى أمه زبيدة أن تنتقل إلى هناك فامتنعت فضربها بِالسَّوْطِ وَقَهَرَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ فَانْتَقَلَتْ مَعَ أَوْلَادِهَا، فلمَّا أَصْبَحَ النَّاس يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ طَلَبُوا مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُعْطِيَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَصَارَ أهل بغداد فرقتين، فرقة مع الأمين وَفِرْقَةً عَلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَغَلَبَ حِزْبُ الْخَلِيفَةِ أُولَئِكَ، وَأَسَرُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَقَيَّدُوهُ وَدَخَلُوا بِهِ عَلَى الخليفة ففكوا عنه قيوده وأجلسوه على سريره، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنْ يُعْطَى سِلَاحًا من الخزائن، فانتهب الناس الخزائن التي فيها السلاح بسبب ذلك، وأمر الأمين فأتي بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى فَلَامَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّ عَفْوَ الْخَلِيفَةِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ.
فَعَفَا عَنْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَوْزَرَهُ وَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَوَلَّاهُ الْحَرْبَ وسيَّره إِلَى حُلْوَانَ، فَلَمَّا وصل إلى الجسر هرب في حاشيته وخدمه فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَرَكِبَتِ الْخُيُولُ وَرَاءَهُ فَأَدْرَكُوهُ فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ لِمُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وجاؤوا برأسه إلى الأمين، وجدد الناس البيعة
للأمين يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ واستحوذ طاهر بن الحسين على أكثر البلاد للمأمون، واستناب بها النواب، وخلع أكثر أهل الأقاليم الأمين وبايعوا المأمون، ودنا طَاهِرٌ إِلَى الْمَدَائِنِ فَأَخَذَهَا مَعَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَنَابَ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْأَمِينِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا عقد الْأَمِينُ أَرْبَعَمِائَةِ لِوَاءٍ مَعَ كُلِّ لِوَاءٍ أَمِيرٌ، وبعثم لقتال هرثمة، فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَسَرَهُمْ هَرْثَمَةُ