الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ أَبُو زُرْعَةَ الْمَقْدِسِيُّ الْأَصْلُ، الرَّازِيُّ الْمَوْلِدُ، الْهَمْدَانِيُّ الدَّارُ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَأَسْمَعَهُ وَالِدُهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْكَثِيرَ، وَمِمَّا كَانَ يَرْوِيهِ مسند الشافعي، توفي بهمدان
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
يُوسُفُ الْقَاضِي أَبُو الْحَجَّاجِ بْنُ الْخَلَّالِ صاحب ديوان الإنشاء بمصر، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي هَذَا الْفَنِّ، اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِيهِ فَبَرَعَ حَتَّى قُدِّرَ أَنَّهُ صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَقُومُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ حتَّى مَاتَ، ثم كان بعد موته كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهِ رحمهم الله.
يُوسُفُ بْنُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُقْتَفِي بْنِ المستظهر، تقدم ذكر وفاته وترجمته، وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ عَمُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِأَشْهُرٍ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سنة سبع وستين وخمسمائة
فِيهَا كَانَتْ
وَفَاةُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ
فِي أول جمعة منها، فأمر صَلَاحُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ نور الدين أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، مَعَ ابْنِ أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَعُمِلَتِ الْقِبَابُ وَفَرِحَ المسلمون فرحاً شديداً، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس مِنْ دِيَارِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي خِلَافَةِ الْمُطِيعِ الْعَبَّاسِيِّ، حِينَ تَغَلَّبَ الْفَاطِمِيُّونَ على مصر أَيَّامَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، بَانِي الْقَاهِرَةِ، إِلَى هَذَا الآن، وَذَلِكَ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانِ سِنِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ أَلَّفْتُ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مِصْرَ.
مَوْتُ الْعَاضِدِ آخِرِ خُلَفَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ وَالْعَاضِدُ فِي اللُّغَةِ الْقَاطِعُ، " لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا " لَا يُقْطَعُ، وَبِهِ قُطِعَتْ دَوْلَتُهُمْ، وَاسْمُهُ عبد
اللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْحَافِظِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم، كَانَ مَوْلِدُ الْعَاضِدِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَعَاشَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَذْمُومَةً، وَكَانَ شِيعِيًّا خَبِيثًا، لَوْ أَمْكَنَهُ قَتَلَ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ رَسَمَ بِالْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ مَرْسُومِ الْمَلِكِ نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ إِذْ ذَاكَ مُدْنِفًا مَرِيضًا، فَلَمَّا مَاتَ تَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ، فَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِمِصْرَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاضِدَ مَرِضَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَحَضَرَ الْمَلِكُ صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف، وظهر منه حزن كثير عليه، وَقَدْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وكان العاضد كريماً جواداً سامحه الله.
وَلَمَّا مَاتَ اسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقَصْرِ بِمَا فِيهِ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَهْلَ الْعَاضِدِ إِلَى دَارٍ أَفْرَدَهَا لَهُمْ (1) ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالنَّفَقَاتِ الْهَنِيَّةَ، وَالْعِيشَةَ الرَّضِيَّةَ، عِوَضًا عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الخلافة، وكان صلاح يَتَنَدَّمُ عَلَى إِقَامَةِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدراً مقدوراً.
وَمِمَّا نَظَمَهُ الْعِمَادُ فِي ذَلِكَ: تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ الدَّعِيُّ فَمَا * يَفْتَحُ ذُو بِدْعَةٍ بِمِصْرَ فَمَا وَعَصْرُ فِرْعَوْنِهَا انْقَضَى وَغَدَا * يُوسُفُهَا فِي الْأُمُورِ محتكما قد طفئت جمرة الغواة وقد * داخ مِنَ الشِّرْكِ كُلُّ مَا اضْطَرَمَا وَصَارَ شَمْلُ الصَّلَاحِ مُلْتَئِمًا * بِهَا، وَعِقْدُ السَّدَادِ مُنْتَظِمَا لَمَّا غدا مشعراً (2) شِعَارُ بَنِي الْ * عَبَّاسِ حَقًّا وَالْبَاطِلُ اكْتَتَمَا وبات داعي التوحيد منتظراً (3) * وَمِنْ دُعَاةِ الْإِشْرَاكِ مُنْتَقِمَا وَظَلَّ أَهْلُ الضَّلَالِ في ظلل * داجية من غبائة وعمى وارتكس الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَمٍ * لَمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا وعاد بالمستضئ معتلياً (4) * بناء حق بعد ما كان منهدماً أعيدت الدَّوْلَةُ الَّتِي اضْطُهِدَتْ * وَانْتَصَرَ الدِّينُ بَعْدَمَا اهْتُضِمَا
واهتز عطف الإسلام من جلل * وافتر ثغر الاسلام وابتسما
(1) قال أبو شامة في الروضتين: جعلهم في دار برجوان في الحارة المنسوبة إليه في القاهرة، وهي دار كبيرة واسعة ثم؟ قلوا بعد الدولة الصلاحية منها وأبعدوا عنها - وبرجوان وزير الحاكم بأمر الله الفاطمي قتل سنة 390 - (انظر 1 / 2 / 494) .
(2)
في الروضتين 1 / 2 / 496: معلنا.
(3)
في الروضتين: منتصرا.
(4)
في الروضتين: مجتهدا.
(*)
وَاسْتَبْشَرَتْ أَوْجُهُ الْهُدَى فَرَحًا * فَلْيَقْرَعِ الْكُفْرُ سِنَّهُ ندما عاد حريم الأعداء منتهك الحمى وفي الطغاة منقسما (1) قُصُورُ أَهْلِ الْقُصُورِ أَخْرَبَهَا * عَامِرُ بَيْتٍ مِنَ الكمال سما أزعج بعد السكوت سَاكِنَهَا * وَمَاتَ ذُلًّا وَأَنْفُهُ رَغِمَا وَمِمَّا قِيلَ من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضئ بالخطبة له بمصر وأعمالها: ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت * إليك به خوض الرَّكَائِبِ تُوجَفُ أَخَذْتَ بِهِ مِصْرًا وَقَدْ حَالَ دونها * من الشرك يأس في لها الْحَقِّ يُقْذَفُ (2) فَعَادَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ بِاسْمِ إِمَامِنَا * تَتِيهُ عَلَى كُلِّ الْبِلَادِ وَتَشْرُفُ وَلَا غَرْوَ أَنْ ذُلَّتْ لِيُوسُفَ مِصْرُهُ * وَكَانَتْ إِلَى عَلْيَائِهِ تتشوف فشابهه خَلْقًا وَخُلْقًا وَعِفَّةً * وَكُلٌّ عَنِ الرَّحْمَنِ فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُ كَشَفْتَ بِهَا عَنْ آلِ هَاشِمِ سُبَّةً * وَعَارًا أَبَى إِلَّا بِسَيْفِكَ يُكْشَفُ وَقَدْ ذكر ذلك أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ، وَهَيَ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا الْفَضَائِلِ الْحُسَيْنَ بْنَ محمد بن بركات (3) الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد، وهكذا ذكر ابن الجوزي: أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضئ، فَجَرَى
الْمَقَالُ بِاسْمِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وَكَذَلِكَ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهَا أَعْلَامٌ سُودٌ وَلِوَاءٌ مَعْقُودٌ، فَفُرِّقَتْ عَلَى الجوامع بالشام وبمصر.
قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ فِي كِتَابِهِ: وَلَمَّا تفرغ صلاح الدين من توطيد الملكة وإقامة الخطبة والتعزية، اسْتَعْرَضَ حَوَاصِلَ الْقَصْرَيْنِ فَوَجَدَ فِيهِمَا مِنَ الْحَوَاصِلِ والأمتعة والآلات وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ شَيْئًا بَاهِرًا، وَأَمْرًا هَائِلًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ يَتِيمَةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَقَضِيبُ زُمُرُّدٍ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ شِبْرٍ وَسُمْكُهُ نَحْوُ الْإِبْهَامِ، وحبل من ياقوت، وإبريق عَظِيمٌ مِنَ الْحَجَرِ الْمَانِعِ، وَطَبْلٌ لِلْقُولَنْجِ (4) إِذَا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقُولَنْجِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ أَخَذَهُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يدر ما شأنه، فضرب عليه فحبق - أي ضرط - فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَهُ فَبَطَلَ أمره.
وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كَسَرَهُ ثَلَاثَ فِلَقٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَقَسَّمَ بين الأمراء شيئاً كثيرا
(1) في الروضتين مقتسما.
(2)
في الروضتين: من الشرك ناس في لهى الحق تقذف.
(3)
في الروضتين 1 / 2 / 500: تركان، قال وكان حاجب ابن هبيرة.
(4)
القولنج: مرض معوي يعسر معه خروج الثقل والريح (القاموس المحيط) .
(*)
من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وَكَذَلِكَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ من ذلك جانباً كثيراً صالحاً، ولم يدخر لنفسه شيئاً مما حصل لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، بَلْ كَانَ يُعْطِي ذَلِكَ من حوله من الأمراء وغيرهم، فكان مِمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ ثَلَاثُ قِطَعٍ بلخش زنة الواحدة إحدى وَثَلَاثُونَ مِثْقَالًا، وَالْأُخْرَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا، وَالثَّالِثَةُ عشرة مثاقيل، وقيل أكثر مَعَ لَآلِئَ كَثِيرَةٍ، وَسِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعِطْرٌ لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وَفِيلٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَأُرْسِلَتِ الْحِمَارَةُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ في جملة هدايا.
قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ: وَوَجَدَ خِزَانَةَ كُتُبٍ ليس لها في مدائن الإسلام نَظِيرٌ، تَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ مُجَلَّدٍ (1) ، قَالَ وَمِنْ عَجَائِبِ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِهَا أَلْفٌ ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري، وكذا قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: كَانْتِ الْكُتُبُ قَرِيبَةً مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ فِيهَا مِنَ الْكُتُبِ بِالْخُطُوطِ الْمَنْسُوبَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، وَقَدْ تَسَلَّمَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا اخْتَارَهُ وَانْتَخَبَهُ، قَالَ وَقَسَمَ الْقَصْرَ الشَّمَالِيَّ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ فَسَكَنُوهُ، وَأَسْكَنَ أَبَاهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ فِي قَصْرٍ عَظِيمٍ عَلَى الْخَلِيجِ، يُقَالُ لَهُ اللُّؤْلُؤَةُ (2) ، الَّذِي فِيهِ بستان الكافوري وأسكن أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ فِي دُورِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى الْفَاطِمِيِّينَ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ أحداً من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثِيَابَهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ، حَتَّى تَمَزَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ في البلاد، وتفرقوا شذر مذر وصاروا أيدي سَبَا.
وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ مِائَتَيْنِ وثمانين سنة وكسراً (3) ، فصاروا كأمس الذاهب كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا.
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَلَمْيَةَ حَدَّادًا اسْمُهُ عبيد، وَكَانَ يَهُودِيًّا، فَدَخَلَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ وَتَسَمَّى بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ، وَقَالَ عن نفسه أنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الدَّعِيَّ الْكَذَّابَ رَاجَ لَهُ مَا افْتَرَاهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَازَرَهُ جماعة من الجهلة، وَصَارَتْ لَهُ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ، ثُمَّ تَمَكَّنَ إِلَى أَنْ بَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَصَارَ مَلِكًا مُطَاعًا، يُظْهِرُ الرَّفْضَ وَيَنْطَوِي عَلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ.
ثُمَّ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْهُمْ، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد،
(1) في الروضتين 1 / 2 / 507: ألفي ألف وستمائة ألف كتاب.
(2)
اللؤلؤة أو قصر اللؤلؤة من قصور الفاطميين يطل من شرقيه على البستان الكافوري الذي أنشأه محمد بن طغج الاخشيد واهتم به من بعده ولداه ثم عبده كافور.
(3)
في الكامل 11 / 370: مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريبا.
(*)
ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وَهُوَ آخِرُهُمْ، فَجُمْلَتُهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا، وَمُدَّتَهُمْ مِائَتَانِ وَنَيِّفٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنَى أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَيْضًا، وَلَكِنْ كَانَتْ مدتهم نيفاً وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوز تَابِعَةٍ لِأُرْجُوزَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ عِنْدَ انْقِضَاءِ دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وستَّمائة، كَمَا سيأتي.
وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الْخُلَفَاءِ وَأَجْبَرِهِمْ وَأَظْلِمِهِمْ، وَأَنْجَسِ الْمُلُوكِ سِيرَةً، وَأَخْبَثِهِمْ سَرِيرَةً، ظَهَرَتْ فِي دَوْلَتِهِمُ الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ وَكَثُرَ أَهْلُ الْفَسَادِ وَقَلَّ عِنْدَهُمُ الصَّالِحُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية وَالدَّرْزِيَّةُ وَالْحُشَيْشِيَّةُ، وَتَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ بِكَمَالِهِ، حَتَّى أَخَذُوا الْقُدْسَ وَنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ وَالْغُورَ وَبِلَادَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَكَرَكَ الشَّوْبَكِ وَطَبَرِيَّةَ وَبَانِيَاسَ وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد طرابلس وَأَنْطَاكِيَةَ وَجَمِيعَ مَا وَالَى ذَلِكَ، إِلَى بِلَادِ آيَاسَ وَسِيسَ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى بِلَادِ آمِدَ وَالرُّهَا وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَبِلَادٍ شَتَّى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلُوا من المسلمين خلقاً وأمماً لا يحصيهم إِلَّا اللَّهُ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النِّسَاءِ والولدان مما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَكَادُوا أَنْ يتغلبوا على دمشق وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَحِينَ زَالَتْ أَيَّامُهُمْ وَانْتَقَضَ إِبْرَامُهُمْ أَعَادَ اللَّهُ عزوجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة: أَصْبَحَ الْمُلْكُ بَعْدَ آلِ عَلِيٍّ * مُشْرِقًا بِالْمُلُوكِ من آل شادي وغدا الشرق يحسد الغر * ب للقوم فمصر تزهو على بغداد ما حووها إلا بعزم وحزم * وصليل الفولاذ في الأكباد لا كفرعون والعزيز ومن * كان بها كالخطيب والأستاد (1) قال أبو شامة: يعني بالأستاد كأنه نور الأخشيدي، وقوله آل علي يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كانوا يُنْسَبُونَ إِلَى عُبَيْدٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَكَانَ يَهُودِيًّا حَدَّادًا بِسَلَمْيَةَ،
ثمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ فِيهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ.
قال: وقد استقصيت الكلام فِي مُخْتَصَرِ تَارِيخِ دِمَشْقَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الرحمن بْنِ إِلْيَاسَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ (2) فِي هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَجْهَرُونَ بِهِ فِي بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شئ كثير في تراجمهم، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ " كَشْفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو عُبَيْدٍ مِنَ
(1) الابيات في الروضتين 1 / 2 / 509 وقافيتها بالذال.
وانظر الخريدة قسم شعراء الشام 1 / 302.
وفي الروضتين الخصيب بدل الخطيب، والخصيب هو الخصيب بن عبد الحميد والي خراج مصر زمن الرشيد وإليه تنسب منية ابن خصيب.
(2)
انظر الروضتين 1 / 2 / 510 وما بعدها.
(*)
الكفر والكذب والكر وَالْكَيْدِ " (1) وَكَذَا صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْ أَجَلِ مَا وُضِعَ فِي ذلك كتاب القاضي أبو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، الَّذِي سَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ " وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعراء فِي بَنِي أَيُّوبَ يَمْدَحُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوهُ بديار مصر: أبدتم من بلى (2) دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ * بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ هَذَا هُوَ الْفَضْلُ زَنَادِقَةٌ، شِيعِيَّةٌ، بَاطِنِيَّةٌ * مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ أَصْلُ يُسَرُّونَ كُفْرًا، يظهرون تشيعاً * ليستروا سابور عمهم الجهل وفيها أَسْقَطَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ صَفَرٍ.
وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَا فِي هذه السنة بلاد الفرنج في سواحل فَأَحَلَّ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَرَّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْهُ نِقْمَةً وَوَعِيدًا، ثمَّ عَزَمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ وَكَتَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَلْتَقِيهِ بِالْعَسَاكِرِ المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صَلَاحُ الدِّينِ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ غَائِلَةٌ يَزُولُ بِهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التمكن من بلاد مصر، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ مِنَ مصر لأجل امْتِثَالَ الْمَرْسُومِ، فَسَارَ أَيَّامًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا
مُعْتَلًّا بِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَالْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأُمُورِ إِذَا بَعُدَ عَنْ مِصْرَ وَاشْتَغَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ يعتذر إلى نُورِ الدِّينِ.
فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غَيْرِهِ، وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْخَبَرُ صَلَاحَ الدِّينِ ضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، فَبَادَرَ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَرُ وقال: والله لو قصدنا نور الدين لنقاتله، فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وَأَسْكَتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: اسْمَعْ مَا أَقُولُ لك، والله ما ههنا أَحَدٌ أَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنِّي وَمِنْ خَالِكَ هَذَا - يَعْنِي شِهَابَ الدِّينِ الْحَارِمِيَّ - وَلَوْ رَأَيْنَا نُورَ الدِّينِ لَبَادَرْنَا إِلَيْهِ وَلَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وكذلك بقية الأمراء والجيش، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ مَعَ نَجَّابٍ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ هُنَالِكَ بِالِانْصِرَافِ والذهاب، فلما خلى بِابْنِهِ قَالَ لَهُ: أَمَا لَكَ عَقْلٌ؟ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا بِحَضْرَةِ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ عُمْرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَتُقِرُّهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى عِنْدَ نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِ وَتَرَفَّقْ لَهُ وَتَوَاضَعْ عِنْدَهُ، وقل له: وأي حاجة إلى مجئ مولانا السلطان إلى قتالي؟ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجئ مَعَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْكَ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَانَ قَلْبُهُ لَهُ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بغيره، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قدراً مقدوراً.
(1) لم أعثر فيما بين أيدينا من مراجع لهذا الكتاب من أثر.
(2)
في الروضتين: ألستم مزيلي.. (*)